الأحد، 27 يوليو 2008

العالم فى عصر تحلل الرأسمالية

العالم فى عصر تحلل الرأسمالية
سامح سعيد عبود
مازلنا نشاهد منذ فترة طويلة العديد من الأعمال الفنية فى المسرح والسينما والتليفزيون ،والتى تختلف فى جودتها ما بين العمق والسطحية ، والتى تتناول بالوصف والمعالجة ،ما وصلت إليه البشرية من انهيار معنوى شامل ، وما يشهده المجتمع البشرى شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ،من مظاهر التعفن والتحلل فيما يتعلق بالقيم الإنسانية ، بل يمتد هذا الانحدار إلى الفنون والعلوم الاجتماعية والإنسانية والفلسفة والممارسة والفكر السياسيين وباستثناء يشذ عن ما يحدث نجد تقدما مذهلا فى العلوم الطبيعية والتكنولوجيا ، و باختصار أنها أزمة الوعى البشرى فى زمن التحلل الرأسمالى ، الذى يذكرنا باللحظات الطويلة للانهيار التى شهدتها كل الحضارات و المجتمعات ما قبل الرأسمالية .
كما يؤيد هذا ما نطالعه فى الصحف كل صباح من أخبار محلية وعالمية ، تؤكد ما هبطت إليه القيم والمثل عبر العالم ، و أن كان هذا الهبوط بدرجات متفاوتة وبتنوعات مختلفة باختلاف المجتمعات ، وإن كان لم يسلم منها أى مجتمع ، و هذا لا يعنى عدم هبوطها فى العهود الأسبق بالطبع ، وإن كانت لم تصل إلى هذا المستوى من التردى المرصود فى كل مكان ، فأخبار العنف المجنون وغير المبرر جماعيا كان أو فرديا ، والذى ينفجر أحيانا لأسباب تافه أو عبثية تشغل كل وسائل الإعلام المقروء والمرئى والمسموع ، كما أن أنباء الفساد و الغش والرشوة و التربح من العمل العام أصبحت من المقررات اليومية فى أجهزة الإعلام ، وتوحشت الجريمة المنظمة عبر العالم فى مجالات الدعارة والمخدرات والنصب والاتجار فى البشر من الرقيق الجديد والمهاجرين ، وقد وصلت الدعارة لصفوف الأطفال مثلما وصلت لنوعيات من الفتيات لم يكن يتصور منذ بضع عقود أن تصل لهم هذه المهنة ، ويقمع المتظاهرون ضد العولمة والحرب فى الشمال المتقدم مثلما يقمعون فى الجنوب المتخلف .
ولعل ما ينفى على الإطلاق أنها مجرد حالات شاذة مرضية بل يشير فقط إنها حالات تتجسد فيها أزمة البشرية الاجتماعية فى مرحلة التحلل والتفكك الرأسمالى ، وهى فى قمة نقاءها وتبلورها ، ويبرهن على ذلك ما نلاحظه فى حياتنا اليومية من خلال مختلف علاقتنا الإنسانية والاجتماعية فى العمل والمنزل ودور العلم والشارع ودواوين الحكومة وعلى صفحات الأنترنت والبريد الإلكترونى ، وهو الشىْْ الذى يشعل المزيد من احساسنا كأفراد بالغربة والوحدة ،وتصاعد الأحاسيس ومن ثم الممارسات اللامنتمية إلا للمصلحة الفردية الضيقة ،حتى صار الفرد لا يعنيه إلا نفسه و إرضاء رغباته ، وقد تحول إما إلى ذئب أو حمل ، فتفككت الروابط الاجتماعية من الأسرة إلى النقابات إلى الجمعيات وصولا للأحزاب السياسية ، فنحن فى عصر الفلسفة التفكيكية التى هى تعبير عن ما وصل إليه المجتمع البشرى من تفكك كل الروابط الإنسانية إلا روابط السوق . عصر انحصار الحلم بتجاوز الحاضر لما هو أفضل على نحو جماعى . فنحن فى زمن الإنسان المدمن المتقوقع حول ذاته والمتمركز حول مصالحه الأنانية ، زمن المخدرات والهوس الدينى والتعصب القومى واللامبالاة والبلاهة والأمراض النفسية .
فوفقا لمنطق التفكيك السائد ، ووفقا لمنطق الاحتفاء بالشكل دون المضمون كعلامة فارقة على الانهيار والتدهور ، تدنت الفنون والآداب إلى مستويات من القبح والتحلل والتفكك، الأمر الذى حطم كل المقاييس التى تميز الفنون والآداب عن ما سواها ، وأصبح السائد منها لا يخاطب إلا الغرائز وسواقط الأفكار ، والتى تقدم الهلوسة التى لا تخرج إلا من المرضى عقليا والمخدرين والبلهاء ..ففى إطار التسليع الشامل لكل الأشياء معنوية كانت أو مادية ، الذى تفرضه الرأسمالية تدريجيا عبر تطورها ، فأنها تفرض على كل القيم والأنشطة البشرية منطق السوق ، وفى إطار منطق السوق الذى تغمر فيه الرأسمالية الجميع بلا استثناء ، أصبحت الفنون والآداب بل والكثير من ابداعات العلوم الإنسانية والاجتماعية بما فيها الفلسفة ، سلعا أقرب ما تكون للمخدرات ، تبحث عن من يدفع أكثر لمبدعيها ومتصنعيها ..،ففى إطار تعبيرها عن كل ما هو شكلى وذاتى وسطحى وتافه ، بل وإعلاءها لكل هذا عن كل ماهو موضوعى وعميق و مهم ، أصبح كل ما ينتجه العقل سواء لديها ، الخرافة والعلم ، القبح والجمال ، الشر والخير ،فالمهم والأهم حتى من الإنسان هو الربح والمنفعة ، وهى فى سياق انحدارها لأسفل تمتص الغضب أحيانا ، وتغيب العقول وتغسلها وتقولبها لمصلحة من يمولون نشاطها . فقد أعلن مفكروا البورجوازية موت الحداثة التى كانت تعبر عن فترة الصعود الرأسمالى فى الفن والأدب والعلم والفلسفة و الأيديولوجيات السياسية ، وأصبحنا فى عهد ما بعد الحداثة التى تعبر عن مرحلة الانهيار الرأسمالى ، فقد انطفىء دور الفن والأدب والفكر فى التنوير البورجوازى الذى بدأ مع عصر الأنوار الفرنسى تدشينا لصعود طبقة جديدة هى الرأسمالية و صعود نمط جديد للإنتاج هو الرأسمالى و حضارة جديدة هى الرأسمالية ، وانتهى الدور الذى كان يلعبه المبدعون والمفكرون فى قيادة البشرية لأفاق تحررها و تقدمها الذي كانوا يدعونه لأنفسهم أبان فترة الصعود والحداثة بعد أن تحولوا لبروليتاريا تنتج ما يطلبه منها سادتها البورجوازيين ، وذلك لتأخير شمسهم عن المغيب وذلك فى عصر الهبوط و ما بعد الحداثة .
و ها نحن نرى سيادة منظومات متنوعة من الأفكار المتخلفة والرجعية والمحافظة واللاعقلانية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، فإذا سقطت المعايير ما بين الحق والباطل يمكن لأاكاديمى أمريكى مثلا أن يبرر الجرائم الصهيونية و أن يتعاطف مع إسرائيل ويصف المقاومتين الفلسطينية واللبنانية بالإرهاب ، ونراه مرة أخرى فى نفس الوقت الذى يندد فيه بفاشية البعث العراقى وحكومة الملالى الفاشية فى إيران ، فأنه يغض الطرف عن فظائع موبوتو وشارون ، حيث أن مصلحة الدوائر الرأسمالية الأمريكية التى يعمل فى خدمتها تتطلب منه ذلك ، وإلا لن يجد من يمول أبحاثه ، ويضمن له مستوى المعيشة والشهرة والبريق الاجتماعى المتوفرون له بفضل هؤلاء السادة ، و لن يعجز أن يجد فى جعبته من الحذلقة و السفسطة ما يساعده على أداء وظيفته الاجتماعية فى خدمة النظام.
و إذا كان العلم بعد معاركه الطويلة الذى نجح فيها فى أن ينفصل عن كل العقائد و الأساطير ، فى مرحلة الصعود الرأسمالى الأمر الذى كان يميز فلسفات وفكر الحداثة ، فقد أصبح العلم فى مرحلة الانهيار الرأسمالى ، يخدم العقائد الدينية والأساطير السياسية وغير السياسية والأيديولوجيات المختلفة ، فيكون الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه للمستفيدين من تلك الخدمة . أما حين يعارض أى منها فهو رجس من عمل الشيطان يجب علينا اجتنابه وفق للمتضررين من تلك المعارضة ، فوفقا للمنطق الأدائى والنفعى أصبح على العلم أن يخدم مصالح الشركات الرأسمالية فى جنى الأرباح ، والنخب السياسية والعسكرية والبيروقراطية فى التسلط .
وتنتشر التيارات السلفية عبر العالم مسيحية كانت أو يهودية أو إسلامية وهلم جرا ، ولديها ينقسم البشر إما لحزب المؤمنين أو حزب الكفار .فكل منها يظن أنه الفرقة الناجية الوحيدة من الطوفان القادم جزاءا لهم لالتزامهم الطريق المستقيم فى الوقت الذى ستغرق البشرية كلها فى مستنقع بلا قرار من العذاب بسبب ما ارتكبته من الخطايا. و لاشك أن تعبير السلفيين عن قرب الطوفان و النهاية ، ما هو إلا تعبير عن واقع صحيح هو قرب الانهيار الرأسمالى الذى ليس مجرد انهيار نمط للإنتاج وإنما انهيار الحضارة الإنسانية السائدة .وإن كان هذا التعبير لا يعنى صحة رد فعل السلفيين بالطبع و لا يوضح الفهم الصحيح لأسباب الانهيار الوشيك من لدن السلفيين على اختلافاتهم .
وقد أصبح نموذج الحل الفردى هو السائد بعيدا عن الحلول الجماعية ، فالمهم أن تحل مشكلتك وتتقوقع على ذاتك ، وأن يتحول الآخرون إما إلى جحيم يجب عليك اجتنابه أو فرائس لرغباتك أو وسائل لخدمة مشروع نجاحك الفردى . حتى ولو كان مآل هذا الحل أن تفقد الكثير من كرامتك واحترامك لنفسك وحريتك ، وأن تسعى فى طاحونة العمل ليل نهار ، تلهب ظهرك حمى الاستهلاك المجنون أو فى الحد الأدنى أن تكفل لنفسك ضروريات الحياة.أو تنسحب لعالم المخدرات و الهوس واللامبالاة و الهلوسة .
و انسحبت النظرة النفعية على كل أنشطة البشر ، أو كما يقول المثل الدارج "الذى تكسب به إلعب به" ، مما أدى لازدواجية مرعبة فى المعايير التى تتجلى فى التناقض بين الموقف المتشدد من الولايات المتحدة تجاه كل من نظامى الحكم الفاشيين فى العراق والصرب من ناحية و والموقف المتواطىء مع إسرائيل من ناحية أخرى ، والخلل الواضح فى الأولويات التى تجعل البعض يستنفرون أنفسهم والآخرين من أجل حقوق الحيوانات مثلا ، فى حين يتعرض ملايين البشر للجوع والحرب والتعذيب والرق دون ولى و لا نصير .
أما العملية السياسية فى كل المجتمعات التى تدعى الديمقراطية فقد سارت مسرحية لا تنطلى إلا على السذج ، فالنجاح فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية لا يجرى وفق البرامج السياسية للمرشحين و لكن وفق القدرة على تسويق المرشح لدى الناخبين، و ذلك إما بجذب أصوات العصبيات العائلية والقبلية والطائفية فى بعض البلدان خاصة المتخلفة ، أو جذب أصوات جماعات الضغط المختلفة فى بلاد أخرى خاصة المتقدمة منها ، ومن ثم فقدت الديمقراطية البرلمانية مصداقيتها ،مادام الجميع ليبراليين ومحافظيين وإصلاحيين يخضعون لديكتاتورية أسواق المال العالمية من جانب ، وجماعات المصالح وجماعات الضغط من جانب ثانى ، والروابط الطائفية من جانب ثالث .
الرأسمالية هى أكثر النظم الاجتماعية التى عرفتها البشرية من حيث قدرتها العاتية على التطور والتغير والامتداد السريع عبر العالم فقد صعدت فقط منذ بضعة قرون من بعض المدن الحرة فى غرب أوربا لتحقق امتدادها السريع والمذهل عبر العالم ،ولتثبت دائما أنها أكثر قدرة على تجاوز أزماتها بتطوير نفسها من شكل لآخر من أشكال انتزاع فائض القيمة ، وقد وحدت الكوكب بأسره فى حضارة واحدة تقوم على وحدة نفس نمط الإنتاج السائد الأكثر أهمية والأقوى بالرغم من التفاوتات الثقافية بين الشعوب التى لا يمكن انكارها كما لا يمكن المبالغة فى تأثيرها ، فالرأسمال أقوى قوة اجتماعية عرفتها البشرية فى التأثير .
إلا أن الرأسمالية برغم من كل هذا شأنها شأن كل نمط إنتاج وشأنها شأن أى حضارة مآلها الانهيار بعد الصعود ،و لاشك أن ما تم رصده من مظاهر الانهيار على مستوى الوعى الاجتماعى و السلطة السياسية ،لابد وأن تجد جذوره العميقة فى ما طرأ على قوة الإنتاج الرأسمالي من تطور ، فالهروب من ميل معدل الربح من الهبوط كان يستلزم تطوير وسائل الإنتاج ليتم الاستغناء عن المزيد من العمل الحى ، مصدر الربح نفسه ، فكأنما هرب الرأسمال من الرمضاء للنار ، طاردا المزيد إلى عالم البطالة والتهميش ومن ثم مضيقا لسوق المستهلكين ، وهذا يفسر التطور التكنولوجى والعلمى المطرد فى حين ينهار ما دون ذلك ويتدهور من جانب آخر ، ولكن لما كانت الرأسمالية لا بد و أن تنتج لسوق من المشترين يزداد ضيقا بفعل البطالة والتهميش فأن هذا التطور التكنولوجى نفسه سيفرض فى لحظة ما تغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية ، فما المعنى أن تنتج الآلات سلعا لا تجد من يشتريها .
من ناحية أخرى فأن اللاعقلانية السائدة على مستوى الوعى الاجتماعى هى تعبير عن لا عقلانية نمط إنتاج أصبح يدمر الموارد الطبيعية والبشرية على هذا النحو المجنون بالتلوث و الحروب و الانفاق العسكرى ، فلأن جوهر الإنتاج الرأسمالى يدفع إلى إلانتاج بلا توقف للسلع ،وخلق احتياجات غير ضرورية للمستهلكين لاستهلاك هذه السلع ، و لأن الموارد الطبيعية ليست بلا نهاية على المستوى الاقتصادى للاستغلال على الأقل ، ولأن سوق المستهلكين والمنتجين ليست بلا نهاية ، فهى بئر ذو قرار يحدده القدرة الشرائية للمستهلكين ، فأن أفق هذا النزوع للانتاج بلا نهاية يعنى إهدار البيئة مما يهدد الكوكب الوحيد المأهول بنا ، بأن يصبح غير صالح للحياة لهؤلاء المستهلكين والمنتجين ، ومن ثم سيصبح لا مفر أمامنا إلا أن ننتج وفق الاحتياجات الاستعمالية للمستهلكين، وليس وفقا لاحتياجات التبادل السلعى كما تفترض الرأسمالية ، حفاظا على الموارد و البيئة .
فى النهاية أقول أن الأسوء لم يأتى بعد ،والانهيار الرأسمالى مرحلة بدأت منذ عدة عقود و لاشك ستأخذ بضعة عقود أخرى حتى تكتمل ،فنحن لم نصل للمستوى المأساوى للتهميش والبطالة التى ستدفع للمذابح والحروب والمجاعات و الإبادة على مستوى العالم ، وإن كان كل هذا قد لاحت مؤشراته فى أفريقيا جنوب الصحراء و افغانستان على سبيل المثال ، وسيمتد للعالم بأسره ما لم تتوقف الرأسمالية نفسها عن الحياة ، ولكم أن تتخيلوا طوفان الغالبية المهمشة عندما ينفجر باحثا عن فرص للحياة فى عالم لم يعد فى حاجة إليه ، عالم حكم عليه بالموت أو البربرية .بالطبع ستزداد الحروب الأهلية العرقية والطائفية مادامت الحروب على النطاق الدولى أصبحت محفوفة بالمخاطر والعقبات ،ستزداد المجاعات والأوبئة سواء المصطنعة أو الناتجة عن الفقر وتدهور الرعاية الصحية ، لا شك أن أمراض كالأيدز والأبيولا ستنتشر حاصدة أرواح البشر الزائدون عن الحاجة، ستزداد معدلات الجريمة والعنف إلى معدلات غير مسبوقة ، ستزداد مؤثرات تلوث البيئة فى تدهور الحياة البشرية ، ستزداد الحروب التجارية و ربما نشهد صعود لأشكال مختلفة من الفاشية والعنصرية على مستوى العالم . هذه ليست تكهنات متشائمة ، و إنما نتائج تطور ما يحدث فعليا فى الواقع وما يتفق مع توقعات العلماء والمختصين فى شتى فروع العلم ،و لا أمل إلا فى ثورة لاسلطوية على مستوى العالم إلا أن هذا الأمل مرهون بوعى المقهورين وانتظامهم من أجلها .

مشروع لإنشاء شركات مدنية على أساس المبادىء التعاونية(معدل

مشروع لإنشاء شركات مدنية على أساس المبادىء التعاونية(معدل
سامح سعيد عبود
مشروع لإنشاء شركات مدنية على أساس المبادىء التعاونية(معدل)التحرر الذاتى، هو بناء مجتمع المستقبل ، من قلب و هامش المجتمع الحالى، وذلك ببناء أساسه الاقتصادى الاجتماعى تدريجيا ، و ذلك بتكوين شبكة تعاونيات متكاملة تتحد من أسفل لأعلى، ومن ثم انتزاع مساحات تتسع باستمرار من الحرية والمساواة الفعليتين لأعداد من المجردين من السلطة تتزايد على نحو متصاعد ، و التعاونيات أحد أهم أدوات التحرر االذاتى للعمال من عبودية العمل المأجور، و من استغلال وهيمنة كل من الرأسماليين والبيروقراطيين لكل من العمال وصغار و متوسطى المهنيين والحرفيين والفلاحيين، ومن استغلال التجار للمستهلكين والمنتجين، ومن استغلال المقرضين للمقترضين.بعد دراسة كل من قوانين التعاون والقانون المدنى، و نظرا للقيود الهائلة المحيطة بالتعاونيات، فأنه يصح أن نصنع نموذجا قابل للنجاح فى الواقع، يمزج بين ما هو وجوبى فى القانون المدنى فيما يتعلق بالشركات المدنية، وبما يمكن الاتفاق عليه بين الشركاء من مبادىء التعاون، و لا يمنعه القانون المدنى فى نفس الوقت. مع ملاحظة أن الشركات المدنية هى أكثر المؤسسات التى تحكمها قواعد اختيارية يمكن أن يتفق عليها أعضاءها، و من ثم فهى أقل المؤسسات تعرضا لتدخل الدولة،وهذا يعطى مؤسسوا تلك الشركات فرصة لإضافة مبادىء أخرى عند صياغة عقودها تدعم نجاح الشركات التعاونية فى مواجهة السوق الرأسمالى . وهو ما تحاول تلك الورقة تقديمه.قواعد عامة لصياغة عقد الشركة** كل الشركاء فى الشركة مساهمون فيها اقتصاديا بحصص فى رأسالمال ، وعاملون فيها، و مشاركون متساوون فى إداراتها، وفى المسئولية عن أعمالها ونشاطها، فى نفس الوقت .** تمارس الشركة أنشطة إنتاجية وخدمية توجه لغير الشركاء عبر السوق، وتمارس أنشطة خدمية واستهلاكية وإئتمانية وتضامنية لصالح دعم نشاط الشركة ،وتوجه للشركاء فقط .** تلتزم الشركة بعدم استخدام أى عمل مأجور دائم فى أى عمل من أعمال الشركة، وعلى من يريد العمل فيها على نحو دائم، تقوم الشركة بمساعدته على أن يضم كشريك فى الشركة بعمله و بحصة يشارك بها فى رأسالمال يمكن تحصيل قيمتها منه بالتقسيط لزيادة رأسمال الشركة ودعم نشاطها.** تلتزم الشركة بعدم بيع ما تشتريه من سلع أو ما تقدمه من خدمات لصالح الشركاء فيما يتعلق بنشاطها الخدمى و الاستهلاكى والائتمانى والتضامنى المقصور على الشركاء، لغير الشركاء بالشركة، وعلى من يريد الاستفادة من خدماتها الاستهلاكية والائتمانية والتضامنية تقوم الشركة بمساعدته على أن يضم كشريك فى الشركة بعمله و بحصة يشارك بها فى رأسالمال يمكن تحصيل قيمتها منه بالتقسيط لزيادة رأسمال الشركة ودعم نشاطها.** يضع الشركاء مدخراتهم فى صندوق الإئتمان الخاص بالشركة،ويحصلون بناء على ذلك على قروض حسنة منه وفق قواعد التعاون، فى مقابل أن يوفر الصندوق تمويل أنشطة الشركة المختلفة.** يسدد الشركاء اشتراكات فى صندوق الضمان الاجتماعى الخاص بالشركاء بالشركة ليحصلوا على احتياجاتهم التأمينية المختلفة وفق قواعد التعاون.** يحق لكل شريك أن ينسحب من الشركة فى أى وقت، على أن يأخذ حصته التى دفعها فقط من رأسالمال ومدخراته ومستحقاته التأمينية مع استمرار الشركة فى عملها.** لكل شريك صوت واحد عند اتخاذ القرارات التى تتخذها الشركة بصرف النظر عن حصته فى رأسالمال.** تحدد سياسة الشركة وكل قرارتها الاجتماعات الدورية والاستثنائية لجميع الشركاء فى الشركة وذلك بالأغلبية المطلقة لأصوات الشركاء.**تفوض الاجتماعات الدورية والاستثنائية للشركاء من تراه الأكفأ من بين الشركاء لأداء مهام إدارية محددة وفق التخصص المهنى والمهمة المطلوب إنجازها، فى فترات عدم انعقاد تلك الاجتماعات العمومية الدورية والاستثنائية.**على الشركاء سحب التفويض من المفوضين بالإدارة أو إعادة تفويضهم ، و رفض التصديق على قراراتهم، أو الاقرار بها، ومحاسبتهم على ما أدوه خلال الفترة ما بين الاجتماعات، خلال اجتماعاتهم الدورية والاستثنائية.** يحصل المفوضون بالإدارة على مكافئات مالية تحددها الاجتماعات الدورية للشركاء لقاء عملهم الذى أدوه. ** يتم منح الشركاء مكافئات شهرية أو أسبوعية وفق معدلات الإنتاج التى يمكن أن تقاس بعدد ساعات العمل الفعلية التى عملوها أو القطع المنتجة خلال الشهر أو الأسبوع لصالح الشركة.** يوزع الربح الناتج عن نشاط الشركة بعد استنزال جميع المصروفات والأعباء خلال السنة المالية على الترتيب التالى* نسبة محدودة يتفق عليها الشركاء لتكوين الاحتياطى* نسبة محدودة يتفق عليها الشركاء مكافأة لرأسالمال بما لا يجاوز نسبة محدودة يتفق عليها الشركاء من قيمة الحصة المالية للشريك ، والحصة المالية التى يتمتع أصحابها بهذا الحق هى التى مضى على المشاركة بها سنة مالية كاملة فى نهاية السنة المالية* نسبة محدودة يتفق عليها الشركاء لحساب الخدمات الاجتماعية التى تقدمها الشركة للمجتمع المحلى.* نسبة محدودة يتفق عليها الشركاء تضاف لصندوق الضمان الاجتماعى بالشركة لصالح الشركاء وأسرهم، والذى يوزع عائده عليهم وفق احتياجاتهم التأمينية المختلفة .** يوزع الباقى من أرباح الشركة الناتج عن نشاطها الإنتاجى على الشركاء باعتباره عائدا على إنتاجهم كل وفق عدد ساعات العمل الفعلية التى أدوها أو القطع التى انتجوها خلال العام .** يوزع الباقى من أرباح الشركة الناتج عن نشاطها الإستهلاكى والائتمانى على الشركاء باعتباره عائدا على إستهلاكهم وائتمانهم وفق ما تم التعامل به من الشركاء مع هذا النشاط .** تقوم الشركة بالتعليم المستمر للشركاء والارتقاء بمهاراتهم المختلفة وتزويدهم بالمعلومات عبر نشاط تعليمى وثقافى واجتماعى لأعضاءها.** تضع الشركة فى أولوياتها عند التعامل مع الغير، التعاون مع التعاونيات والشركات الشبيهه والجمعيات الأهلية والنقابات و إعطاءها الأولوية فى التعامل قبل مؤسسات الدولة والمؤسسات الحكومية و المؤسسات التجارية، التى يتم التعامل معها عند الضرورة، وفى أضيق الحدود، و يفضل عدم التعامل مع أى منها كلما أمكن.

الديمقراطية التى نريدها

الديمقراطية التى نريدها
سامح سعيد عبود
(3)
المعضلة الحقيقية أما م أى ديمقراطية هى تحقيق الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية فما يعوق التحقق الفعلى لحقوق و حريات الإنسان كاملة غير منقوصة هى سيطرة الأقلية فى كل مجتمع دون الأغلبية سواء على نحو فردي رأسمالي أو حكومي بيروقراطي على أيا من مصادر السلطة المادية وهى وسائل الإنتاج و وسائل العنف المسلح و وسائل إنتاج وتوزيع وتبادل المعرفة. إلا إن تجاوز الرأسمالية التى تتسبب فى الانتقاص من هذه الحقوق والحريات إلى مجتمع تتحقق فيه أعلى درجات الحرية الفردية والمساواة بين البشر، وتتحقق فيه علاقات اجتماعية أكثر عدالة وتقدما، لن يحدث فورا ذات صباح ثورى جميل وبالضربة القاضية كما يظن البعض ،وإنما سيتم تجاوز الرأسمالية عبر عملية طويلة من التغيرات التى ستحدث فى المجتمع الرأسمالى على نطاق عالمى، لأن الرأسمالية نمط إنتاج عالمى، إلا أن مجتمع المستقبل يمكن أن يبنى من داخل المجتمع الحالى، و أن ينمو على حساب القديم الذى سيتلاشى تدريجيا ليحل محله الجديد تدريجيا أيضا، ولأن الظروف الموضوعية والذاتية الحالية لا تسمح بطرح برنامج لتجاوز الرأسمالية نهائيا إلا كلون من ألوان التبشير والرؤية المستقبلية، فأن بناء حركة سياسية فعالة فى الواقع يجب أن تتحرك فى إطار ما هو ممكن ومتاح، وهو ما لا يمكن أن يقوم سوى على أساس برنامج ذو طابع إصلاحى عملى، يهدف إلى الاقتراب التدريجى من الهدف النهائى ، والذى ربما سوف يتحقق كاملا على يد الأجيال القادمة.
* أنه لا تطوير حقيقى للمجتمع دون كفالة حقيقية لأقصى ما يمكن من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لكل المواطنين على قدم المساواة. كما أن كفالة هذه الحقوق شرط جوهرى لتحقيق الحرية الحقيقية ، فبدونها تصبح الحرية السياسية مجرد لعبة لا يشارك فيها إلا الطبقات الرأسمالية والبيروقراطية القادرة ماديا وسلطويا . و إن كفالة تلك الحقوق تعنى تقدما حقيقيا للمجتمع فى طريق التحديث، وذلك يعنى التقدم المستمر نحو مجتمع من المتعلمين الأصحاء الآمنين المتحررين من العوز والفقر ، و الذين يمكن أن تتوفر لهم كل سبل العيش الكريم ، و تعنى إمكانية فعلية للتقدم على طريق تحسين ظروف ونوعية الحياة كمعيار حقيقى للتقدم .
* لتحقيق تلك الحقوق واقعيا وعمليا لا يمكن أن نستند على تدخل الأجهزة الحكومية على نحو تقليدى و الارتكان لدورها الأبوى بزيادة الإنفاق العام إلا فى أطر محددة لا تتجاوز المراقبة والسياسات المالية والتحكيم. فهناك ضرورة لتقليص الجهاز البيروقراطى لأقصى حد ممكن لا تضخيمه، و ذلك على عكس ما تستدعى كل سياسات تدخل الدولة مباشرة فى المجالات غير السيادية فى الإنتاج والخدمات، و ذلك كشرط جوهرى لتمتع المواطنين بالحرية فى مواجهة جهاز الدولة، و استقلالهم عن السلطات العامة، فتصفية دولة الرعاية الاجتماعية شرط جوهرى للحرية الحقيقية للناس وضمان أساسى لمساواتهم الفعلية .
* أن تدخل الأجهزة الحكومية المباشر فى المجالات غير السيادية ومن ضمنها كفالة هذه حقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية يعنى تضخم الجهاز البيروقراطى و ترهله وفساده و الذى لا ينتج فى النهاية وكما شهدت التجربة عالميا ومحليا سوى إهدار الموارد على جيوش الموظفين المعرقلين للأداء والتطور و سوء الخدمة المقدمة للجماهير فى ظل ضعف الموارد و البقرطة المتزايدة لجهاز الدولة ، و أخيرا فإن السياسات التدخلية تعنى تقوية جهاز الدولة و بيروقراطيتها فى مواجهة الجماهير الذين يصبحون فى حالة إذعان دائم لهذا الجهاز الذى تزداد قدراته على التحكم فيهم بزيادة كل ما يمكن أن يمنحه لهم ، و بزيادة كل ما يمكن أن يمنعه عنهم، مما يفرخ مناخ الفساد و المحسوبية و الاستبداد و إهمال مصالح الجماهير . وبناء على ذلك يمكن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على القواعد التالية:
أولا التعاونية:_
* إذا كانت معظم الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية هى فى معظمها و جوهرها خدمات تقدمها قطاعات الخدمات المختلفة فى مجالات التعليم و الصحة و الإسكان و المرافق والمواصلات العامة والإعلام و الثقافة و البحث العلمى و التى من الممكن أن تكون مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص أو مؤسسات المجتمع المدنى أو التعاونيات ، فأننا نرى تحويل المؤسسات التى تقدم تلك الخدمات المختلفة سواء العامة منها أو الخاصة للنظام التعاونى لصالح المساهمين فيها على أساس مساهمتهم المالية فضلا عن العاملين فيها على أساس قواعد حق الانتفاع الجماعى غير القابل للتوريث أو المنتفعين بتلك المؤسسات الخدمية ، حيث تنظم السلطات العامة حقوق الانتفاع للجماعات التعاونية المختلفة . ذلك إن ترك الخدمات للرأسمال الخاص و قواعد حرية الاستثمار و مبادئ السوق ومنطق الربح يعنى استمرار حرمان غير القادرين من الفرص المتساوية مع القادرين فى التمتع بهذه الحقوق ، مادام منطق السوق والربح سيكون هو السائد للاستفادة من الخدمات التى يستثمر فيها الرأسماليون.
* عضوية الجمعية التعاونية طوعية ومفتوحة، وإدارتها ديمقراطية ، ومستقلة عن كل من الدولة و رأسالمال، وكل عضو فيها مشارك اقتصادياً بشرط أن تكون الفائدة محدودة على رأسالمال المساهم به، وأن يوزع العائد على معدلات الإنتاج أو الاستهلاك، والتعاونيات متعاونة فيما بينها، وتمارس التعليم والتدريب المستمرين للأعضاء المتمتعين بحرية الحصول على المعلومات.
* إطلاق حرية تنظيم المستهلكين والمنتفعين من تلك الخدمات فى أشكال جماعات تعاونية لاستهلاك أو إنتاج تلك الخدمات أو الانتفاع بها لحماية مصالح العاملين بأجر و الفلاحين والمهنيين والحرفيين.
* تتحدد أسعار تلك الخدمات والسلع وفقا لقواعد التفاوض الحر بين مقدمى الخدمة و مستهلكيها من خلال تنظيماتهم التعاونية والمدنية المختلفة.
* تتدخل السلطات العامة كمحكم فقط بين الأطراف المتفاوضة فى حالة عدم القدرة على الوصول لاتفاق بين الأطراف المقدمة للخدمة و الأطراف المستهلكة والمنتفعة بها بناء على طلب أحد الطرفين.
* التزام تلك المؤسسات بالقواعد العامة والخاصة للتعاونيات و ضمان استقلالها الفعلى عن كل من الدولة و رأسالمال و البيروقراطية والمؤسسات العسكرية و الدينية ، و ضمان تحديد جمعياتها العمومية لقواعد و لوائح و سياسات عملها.
* ضمان ديمقراطية إدارة هذه المؤسسات و تعدديتها و استقلاليتها ، و قيامها على المبادرة الجماعية للمواطنين بالاستقلال عن الأجهزة الحكومية ، دون انتظار ما قد تمنحه لهم الحكومات المختلفة من مكاسب يسهل على حكومات أخرى أن تنتزعها منهم عندما تتغير الظروف و الأحوال .
ثانيا الديمقراطية الإنتاجية:_
يقوم هذا المبدأ على أساس مد الديمقراطية إلى كافة المؤسسات والعلاقات الاجتماعية بما فيها المؤسسات الرأسمالية، وبناء عليه لا بد من تنظيم كافة المؤسسات الإنتاجية والخدمية والائتمانية سواء الحكومية أو العامة أو الخاصة على أساس أن السلطة العليا فى المؤسسة تكون للجمعية العمومية المكونة من جميع العاملين و المساهمين فى رأسمال المؤسسة. مع المساواة فى التصويت بين جميع العاملين والمساهمين.و المساواة فى الحق فى الترشيح والانتخاب لعضوية مجلس إدارة المؤسسة لجميع العاملين والمساهمين. وأن يتم توزيع الأرباح على المساهمين والعاملين وفق لوائح تحددها الجمعيات العمومية لتلك لمؤسسات.
ثالثا المساواة:_
من أجل ضمان ممارسة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لابد من القضاء على التمييز من أى نوع بين المواطنين سواء كان ذلك بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو العقيدة أو الرأى السياسى أو غيره أو الأصل القومى أو الاجتماعى أو بسبب الملكية أو صفة الولادة أو غيرها فى التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية.و يجب أن يفهم على نحو لا يحتمل اللبس أو الاستثناء أن هذا المبدأ يعنى ضرورة تمتع كافة المواطنين و المواطنات بكل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على قدم المساواة وتمتعهم بفرص متساوية دون أى فوارق من أى نوع أو دون أى معوقات تعيق تمتعهم الكامل بتلك الحقوق بسبب القدرات المالية المتفاوتة أو الفوارق الاجتماعية أو الجنسية و غيرها من المعوقات .
رابعا المشاركة الاجتماعية:_
المقصود بالمشاركة الاجتماعية أن كفالة الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية والثقافية تعتمد على مشاركة كاملة من كافة مؤسسات المجتمع الحكومية والمدنية و التعاونية و الرأسمالية فى تلك العملية كل فى حدود دوره و اختصاصه المنوط به بلا أى تعدى من طرف على دور طرف آخر و وظيفته. فالسلطات العامة يتحدد دورها فى إحكام المراقبة من أجل الصالح العام ، و اتخاذ السياسات المالية و وضع التشريعات والخطط اللازمة لضمان توفير تلك الحقوق للمواطنين ، وعلى المواطنين تنظيم أنفسهم سواء كمقدمين للخدمات أو منتجين للسلع أو كمستفيدين منها ومستهلكين لها عبر النظام التعاونى ، وعلى النقابات و الجمعيات الأهلية أن تشارك فى حدود وظيفتها الاجتماعية فى توفير تلك الحقوق و الدفاع عنها ضد أى انتهاك ، و يبقى دور المؤسسات الرأسمالية عبر تشجيعها بالسياسات المالية المختلفة ومنها الإعفاءات الضريبية المختلفة من أجل تقديم الدعم المادى للتعاونيات الخدمية فى إطار تلك العملية.. ، ذلك لأننا نرى أيضا أنه فى ظل الظروف الاقتصادية العالمية الراهنة مما تستتبعه من ضرورة تقليص الإنفاق الحكومى لن تستطيع السلطات العامة كفالة هذه الحقوق على الوجه الأكمل دون تدخل فعال من قبل المجتمع المدنى و دون أداء المؤسسات الرأسمالية لدورها الاجتماعى فى إطار مشاركة فعالة لهذه المؤسسات فى عملية التحديث والنمو والتقدم اتساقا مع مصالحها فى إنجاح تلك العملية عبر دعم و توفير تلك الحقوق .
خامسا التأمين الاجتماعى الشامل:_
لأن لكل شخص بصفته عضوا في المجتمع الحق في الضمانة الاجتماعية التي لا غنى عنها لكرامته وللنمو الحر لشخصيته. فيجب مد مظلة التأمين الاجتماعي الشامل لكل المواطنين منذ ميلادهم و حتى وفاتهم ، ضد كل من العجز و الإعاقة و المرض و التقاعد و الحوادث و الكوارث البيئية والطبيعية و البطالة و الفصل التعسفى من العمل و الإفلاس و اليتم والفقر والجوع والتشرد فضلا عن ضمان مظلة التأمين الاجتماعى الشامل احتياجات كل من الأمومة والطفولة و الشيخوخة وضمان حقوق التعليم و المأوى والعلاج للمؤمن عليهم.عبر مؤسسات وصناديق التأمين الاجتماعي التعاونية التى تهدف لضمان حق كل فرد فى التأمين الاجتماعي الشامل.
* الاستقلال الكامل لكل مؤسسات وصناديق التأمين الاجتماعي الشامل عن كافة الأجهزة التشريعية والتنفيذية والإدارية ومن ثم تحويل كل هذه المؤسسات والصناديق العامة والخاصة منها للنظام التعاونى لصالح المشتركين فيها على أساس قواعد حق الانتفاع الجماعى.
* حفز كل المواطنين على الاشتراك فى مؤسسات وصناديق التأمين الاجتماعي، و التى ستكون مهمتها فى ظل إطارها الجديد توفير التأمين الاجتماعى الشامل لأعضائها وللمشمولين برعايتهم فى كل أحوال احتياجاتهم سالفة الذكر على الأسس التعاونية سابق الإشارة إليها .و التى تضمن إدارة دافعى اشتراكات التأمينات والمنتفعين بها لصناديق ومؤسسات التأمينات التعاونية التى يشاركون فى عضويتها و يسددون اشتراكاتها أو يسددها عنهم آخرون.
* تسدد كامل الاشتراكات التأمينية المستحقة وفق لوائح تلك المؤسسات والصناديق التأمينية التى يضعها أعضاءها . بناء على ذلك يستفيد المؤمن عليه والمشمولين برعايته من كل خدمات التأمين النقدية و العينية بمجرد البدء فى سداد اشتراكاته وفق اللوائح الى تضعها الجمعيات العمومية لتلك المؤسسات والصناديق التأمينية.
* تسدد الاشتراكات التأمينية من قبل الهيئات العامة والخاصة والأفراد عن الأفراد العاجزين عن تسديد تلك الاشتراكات، وعلى السلطات العامة تشجيع التبرعات من الأفراد أو الهيئات عبر السياسات المالية المختلفة، كما يمكن أن تسدد السلطات العامة جزءا من هذه الاشتراكات بالنيابة عن الأفراد العاجزين عن تسديدها.
عبر كل هذه القواعد سالفة الذكر يمكن كفالة الحقوق و الحريات الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وهى:
حقوق العمل تتضمن ضمان الأجور المتساوية عن الأعمال المتساوية و عن نفس الإنتاجية فى كل القطاعات دون التمييز من أى نوع بين العاملين و العاملات ،حيث لا ينبغى أن تخرج مقاييس تحديد الأجر عن معايير الإنتاجية الفعلية والكفاءة دون أى تمييز بين العاملين على أساس الجنس أو أى أسس أخرى .كما يجب توفير فرص متساوية لكل فرد بالنسبة لترقيته فى عمله إلى مستوى أعلى مناسب دون خضوع فى ذلك لأى اعتبار سوى اعتبارات الترقية والكفاءة.فلكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية كما أن له حق الحماية من البطالة. و لكل فرد دون أي تمييز الحق في أجر متساو للعمل. و لكل فرد يقوم بعمل الحق في أجر عادل مرض يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان تضاف إليه، عند اللزوم، وسائل أخرى للحماية الاجتماعية. ولكل شخص الحق في أن ينشأ وينضم إلى نقابات حماية لمصلحته. ولكل شخص الحق في الراحة، أو في أوقات الفراغ، ولا سيما في تحديد معقول لساعات العمل وفي عطلات دورية بأجر.
حقوق مستوى المعيشة تتضمن حق كل فرد فى مستوى معيشى لائق لنفسه وللمشمولين برعايته، بما فى ذلك الغذاء الصحى والملبس الملائم والمسكن الصحى وملحقاته من خدمات ومرافق أساسية و حق كل فرد فى تيسير وسائل النقل والمواصلات له وللمشمولين برعايته. وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته.
حقوق الصحة تتضمن تأمين البيئة الصحية و الخدمات الطبية والعناية الطبية اللازمة فى حالة المرض لكل المواطنين بأعلى مستوى من الخدمة العلاجية بصرف النظر عن قدراتهم المادية ، مما يعنى توحيد نظام الخدمة الصحية بالنسبة لكل المواطنين.
حقوق الأطفال والنساء والمسنين فى المساعدة و الرعاية الخاصتين و الحماية شاملة والمساعدة الفعالة لجميع الأطفال و الأشخاص الصغار دون أى تمييز لأسباب أبوية أو غيرها والنساء والمسنين. من الاستغلال الاقتصادى و الاجتماعى والتفكك الأسرى وسوء العناية وانتهاك حقوقهم . والمعاملة القاسية أو الحاطة بكرامتهم و المدمرة لشخصيتهم ، و حماية الأطفال وصغار السن من أى انتهاك لحقوقهم الإنسانية فى التربية الصحية و التعليم المناسب واللعب و تنمية شخصيتهم المتكاملة بدنيا ونفسيا وعقليا.والتكفل برعاية الأطفال والنساء والمسنين الذين حرمتهم الأقدار من الرعاية السليمة فى أسرهم الطبيعية ، من أجل القضاء التام على ظواهر التشرد وعمالة الأطفال وأطفال الشوارع وضحايا التفكك الأسرى وسوء العناية . و الحق فى أن ينعم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية سواء أكانت ولادتهم ناتجة عن رباط شرعي أم بطريقة غير شرعية.
حقوق التعليم وتعنى ضمان حق كل فرد فى التعليم دون أى معوقات سوى الكفاءة الشخصية والاستعداد العقلى للفرد مما يعنى إزالة كل المعوقات الأخرى التى تحول بين الفرد وتمتعه بهذا الحق.و ضمان إلزامية التعليم العام ما قبل الجامعى لجميع من هم فى سن التعليم، مع ضمان المساواة الكاملة بين الطلاب فى نفس مستوى التعليم الذى يتلقوه بصرف النظر عن القدرات المالية لذويهم من خلال نظام التأمين التعليمى الشامل.و ضمان نفس الحق للمتعثرين فى استكمال تعليمهم حتى سن 18 عاما و لذوى الظروف الخاصة التى تعوقهم ظروفهم الجسدية أو العقلية عن الاستمرار فى المدارس العامة بتلقى القدر من التعليم الذى يتناسب و تلك الظروف أو ذاك التعثر و يساعدهم على الاعتماد على أنفسهم فى المستقبل .و ضمان جعل التعليم العالى الجامعى ميسورا للجميع بشرط الكفاءة وحدها بكل الوسائل المناسبة .و إلغاء كل من التعليم الدينى و التعليم العسكرى ما قبل الجامعى ،وتوحيد التعليم لكل الطلاب والطالبات فى سنوات التعليم العام ما قبل الجامعى .و ضمان توفر دراسات مهنية وفنية و نوعية متخصصة لكل الطلاب والطالبات حسب استعدادهم وقدراتهم ورغباتهم فى سنوات التعليم العام ما قبل الجامعى تعدهم للعمل فى حالة عدم التحاقهم بالجامعات.و قصر التعليم العسكرى على الكليات والمعاهد العسكرية التى تعد المتخصصين فى هذه المجالات و قصر التعليم الدينى على المعاهد التعليمية الدينية التابعة للجماعات الدينية والعقائدية .
الهدف من العملية التعليمية يجب أن يكون التنمية الشاملة للشخصية الإنسانية وللإحساس بكرامتها وخلق العقلية الإنسانية التى تحترم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والقدرة على الاشتراك بفاعلية فى مجتمع حر وتعزيز قيم التفاهم والتسامح والسلام والحرية والمساواة والإخاء بين كافة البشر و تقدير قيم العلم و العمل و الإبداع وسائر المثل الإنسانية العليا ، فضلا عن التمتع بالعقلية العلمية والأخلاق الغيرية والسلوكيات العملية . إزالة كل ما يرسخ أى أفكار عنصرية أو متعصبة ضد المختلفين و الآخرين فى المناهج ذات الصلة. إحداث تغيرات جذرية فى مناهج الدراسة و طرق التدريس و طرق قياس الكفاءة و المهارة للطلاب والإعداد المناسب لمؤسسات التعليم و القائمين بالعملية التعليمية وبما يتناسب مع ظروف محدودية الموارد و الثورة التكنولوجية و العلمية المطردة بما تقدمه من فرص هائلة للتعلم وعلى نحو رخيص فى نفس الوقت
ضمان حق كل فرد فى المشاركة فى الحياة الثقافية والتمتع بمنافع التقدم العلمى وتطبيقاته . وتسهيل إطلاع كل مواطن على الإنتاج الثقافى والعلمى والفنى عبر العالم. و ضمان حق كل مواطن فى استخدام وسائل الإعلام والثقافة المختلفة فى ممارسة حقه فى التعبير عن آرائه ومعتقداته بالكتابة والحديث والتعبير الفنى على قدم المساواة مع كل المواطنين. و حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني.

حوار الأنباء الثقافية العالمية مع سامح سعيد عبود

حوار الأنباء الثقافية العالمية مع سامح سعيد عبود
** فى البداية وطالما أن الحوار بصدد الحديث عن اليسار أن نحدد ما هو اليسار؟
لكى ندرك مدى يسارية خطاب سياسى أو يمينيته أو وسطيته، فأن تقييم ذلك يتم عبر ثلاث معايير
أولا:ـ معرفة مدى تبنى الخطاب السياسى لتحقيق حرية الفرد من حيث كونه فرد فكلما زادت درجة الحرية الفردية التى يتبناها الخطاب السياسى، كلما اقترب الخطاب السياسى من أقصى قطب اليسار، والعكس كلما قيد الخطاب السياسى هذه الحرية كلما اقترب أكثر من قطب أقصى اليمين، وليس المقصود بالحرية الفردية هى تلك الحدود من الحرية التى يتبناها الليبراليين البرجوازيين وتضعهم فى خانة الوسط، وإنما المقصود بالحرية تحرر الفرد من كل أشكال الاغتراب والتشيوء والتسلط المنفصل عنه والمتعالى عليه، كما يتبنى ذلك اللاسلطويون وهو ما يضعهم فى قطب أقصى اليسار .
ثانيا:ـ مقدار المساواة الفعلية بين هؤلاء الأفراد من حيث كونهم أفراد فكلما كان الخطاب أكثر تحقيقا للمساواة بين البشر من حيث كونهم بشر كلما اقترب أكثر من قطب أقصى اليسار والعكس كلما كان الخطاب أقل تحقيقا للمساواة بين البشر كلما اقترب أكثر من قطب أقصى اليمين، وليس المقصود بالمساواة هو ما يقتصر عليها الليبراليين البرجوازيين ويضعهم فى خانة الوسط من مساواة قانونية وشكلية بين المواطنين تسمح لبعضهم بقهر واستغلال بعضهم وإنما المطلوب مساواتهم الفعلية فى تمتعهم بالحرية الفعلية وتحملهم للمسئولية الاجتماعية الأمر الذى لا يتحقق إلا بسيطرتهم الجماعية على قدم المساواة على كل مصادر السلطة المادية من ثروة وعنف ومعرفة، كما يتبنى ذلك اللاسلطويون وهو ما يضعهم فى قطب أقصى اليسار.
ثالثا:ـ كلما كانت العلاقات الاجتماعية التى يتبناها الخطاب السياسى أكثر تحقيقا لدرجة أعلى من التقدم الاجتماعى كلما اقترب الخطاب السياسى أكثر من قطب أقصى اليسار ،والعكس كلما كانت العلاقات الاجتماعية أقل تحقيقا لدرجة أكثر من التقدم الاجتماعى كلما اقترب أكثر من قطب أقصى اليمين .
بناء على تطبيق المعايير سالفة الذكر، فسيتضح لدينا أن ما كنا نظنه يسارا ما هو فى حقيقته إلا يمين مغلف برطانة يسارية، و العكس صحيح فما كنا نظنه يمينا قد يكون أقرب لليسارية .
**في رأيك لماذا يوجد هناك انقسام دائم بين فرق اليسار وهل هذا الانقسام له مبرراته الايديولوجيه أم انه انقسام حول خلافات ذاتية متعلقة بمعارك حول المناصب والمهام وهل يرجع ذلك لعدم وجود ديمقراطية وسط اليساريين أنفسهم ؟
لا أدرى لماذا كل هذا الحديث الممل عن انقسام فرق اليسار، وهى ظاهرة إنسانية عالمية لا تختص بها فحسب الحركات اليسارية بل كل الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية، فهناك تنوع فى منظمات اليسار التقليدى والراديكالى والإصلاحى و هناك تشرذم لمئات المنظمات أحيانا ما بين كبيرة ومتوسطة وصغيرة وهامشية وسواء أكانت جماهيرية أم نخبوية ، فى بلاد تتميز بقوة كافة الحركات اليسارية بكل تنوعاتها كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، لكن العقلية الفاشية المتأصلة في مجتمعاتنا التى ترى فى الرأى الواحد والزعيم الواحد وانسحاق الفرد فى الجماعة الواحدة شروطا للقوة والنجاح، هى التى تعطي لهذه الظاهرة وزنا كبيرا من الاهتمام، كما لو كانت السبب الجوهرى فى ضعف اليسار فى بلادنا مبتعدة بذلك عن التفسير الصحيح لهذا الضعف، وهو ابتعاد هذا اليسار عن الصراعات الاجتماعية وعدم نجاحه فى الارتباط الجذرى بالطبقة العاملة المصرية، ومن ثم تأخذ ظاهرة الانقسام طابعها المأساوى فى بلادنا فحسب نظرا لهذا الضعف، فمن ينقسمون هنا ليسوا كمن ينقسمون هناك، فهم هنا ليسوا قوى سياسية مرتبطة بقواعد اجتماعية، و لا هم ينقسمون غالبا حول قضايا اجتماعية ملموسة وملحة، بل هم مجرد طوائف وشلل هامشية من المتعلمين تعليما حديثا والمعزولين عن التيارات الاجتماعية الفعلية فى الواقع، ولا شك أن العقلية والممارسة الدينية لدى اليساريين المتمثلة فى تقديس النصوص اليسارية وتقديس الأشخاص والرموز اليسارية، لعبت دورا فى حدوث انقسامات كوميدية فيما بينهم، وهناك طبعا انقسامات بسبب الخلافات الشخصية وانقسامات فجرتها الطموحات الذاتية والأمراض السلوكية والنفسية لبعض القادة والكوادر اليسارية، و لاشك عندى أن طبيعة العقلية والممارسة الفاشية السائدة فى أوساط اليساريين و التى لا تقبل ولا ترضى بالتنوع والتعدد فى الأفكار والرؤى حتى فى الجزئيات و الفرعيات هى سبب جوهرى من أسباب الانقسام المزمن لديهم.
** هل لليساريين دور في الشارع المصري الآن وكيف يتبدى هذا الدور ؟
طالما وجد اضطهاد وقهر واستغلال وتخلف فلابد أن يكون لليسار دورا بالانخراط فى الصراعات الاجتماعية إلى جانب المضطهدين و المقهورين والمستغلين ومن أجل التقدم الاجتماعى، واليسار لا يلعب الآن دوره الطبيعى لأسباب تتعلق بأزمته الذاتية الفكرية والتنظيمية، وأسباب أخرى تتعلق بالمزاج العام المحافظ السائد فى المجتمع، وسيادة الفردية والسلبية والقيم الاستهلاكية والغيبية، و جمود الصراعات الاجتماعية وقمعها، وعدم وجود حركات اجتماعية عمالية وغير عمالية يستند عليها اليسار فى حركته، ومن ثم سيظل اليسار محتفظا بطابعه النخبوى والهامشى، وذلك للضعف الشديد فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكونه يوجد فى مجتمع يشهد تدهورا وانحطاطا لا مثيل له منذ عدة عقود على كل الأصعدة، لا ترصده النخب فحسب بل حتى العامة من الناس، واليسار باعتباره قوة تقدم لا ينمو فى عصور الانحطاط والتدهور التى تنمو فيها الفاشية .
**يتردد أن اليساريين منعزلون عن المعارك الصغيرة بمعاركهم الخاصة ما رأيك ؟
الصحيح أنه برغم من الصعوبات الواقعية فى خوض معارك الصراع الاجتماعية، التى لا ننكرها، إلا أن اليسار عموما يهدر معظم طاقته فى معارك تافهة يستنزف بها جل طاقة كوادره وأعضائه، ويبدو أن غالبيتهم أصبحوا يفضلون جلسات النميمة و تبادل التشهير والسباب والثرثرة الفارغة والسفسطة النظرية والمهاترات التى لا معنى لها كونها رخيصة لا تتطلب منهم إلا طق الحنك، و من ثم لا يسعون جديا لخوض غمار معارك اجتماعية حقيقية يغيرون بها الواقع، و حتى دورهم كمثقفين لا يؤدوه كما ينبغى فهم فى غالبيتهم لا يقرأون جيدا ولا ينتجون إنتاجا فكريا وثقافيا يتناسب وقدراتهم الفعلية أو المفترضة سواء أكان ذلك كما أو نوعا .
**إلى أي مدى سوف تظل الحركة اليسارية في سبات عميق؟
عندما يتخلص اليسار من أزمته الفكرية، و يصوغ خطابا يساريا مختلفا فعلا عما أعتاد إعلانه سياسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا، وعندما تتصاعد حدة الصراعات الاجتماعية شرط ارتباطه بها سيفيق اليسار من سباته العميق.
** إلا تلاحظ عدم قدرة اليساريين في التأثير في المجتمع المصري بكل طوائفه؟
هم بلا شك يؤثرون وإن كان تأثيرا ضعيفا جدا ، ومحصورا فى بعض النخب المهتمة فأنت لن تجبر الناس فى الأوقات العادية أن يهتموا بالقضايا العامة ولن تخوض صراعاتهم بدلا منهم وتتبنى قضاياهم وتدافع عن مصالحهم بالنيابة عنهم، فضلا عن أن المزاج العام المحافظ والرجعى السائد يضع حاجزا يحول دون انتشار الخطاب اليسارى فى المجتمع .
**الكثير من المثقفين يعتبرون أن اليسار يلعب خارج الخط نظرا لوجود لاعب أساسي هو التجمع الذي شوه التجربة والحركة اليسارية 0ما رأيك ؟
أنه وفق المعايير التى تم تحديدها فى إجابة السؤال الأول فإن التجمع ليس حزبا يساريا بل هو حزبا شعبويا أقرب ما يكون للوسط ومن ثم فهو لا يعبر عن رؤى معظم اليساريين، ومن ثم فهو عاجز أن ينظم نضالاتهم المشتركة إلا أن هذا ليس سببا فى هامشية هؤلاء اليساريين و أزمتهم، فالتجمعين لن يمنعوا أحدا من العمل والنضال إلا أن من حقهم أن يمنعوا كل من لا يتفق معهم فى الرؤى من أن يستغل إمكانياتهم الذاتية المتاحة لهم لتحقيق أهدافه المتناقضة مع رؤيتهم التجمعية، وهو ما حاولته قوى كثيرة من خلال دخولها التجمع وفشلت فى تحقيق أهدافها من دخوله، لأنها لم تعرف طبيعته وتركيبته.
** هل يجوز الجمع بين الشامي والمغربي وبينهم ما صنع الحداد ما رأيك في أطروحة الجبهة مع التيارات السياسية المختلفة ( إخوان مسلمين – ناصريين – وغيرهم )؟
وفق المعايير التى تم تحديدها سابقا فإن تأمل الخطاب السياسى لكل من جماعات الإسلام السياسى معتدلين أو متطرفين، والماركسيين القوميين بفرقهم الستالينية و الماوية ومن لف لفها و القوميين من أنصار العروبة أو الفرعونية، و التجمعيين، وأنصار الوطنية الليبرالية المحافظة كالوفديين، باعتبارهم جميعا حاملى أيديولوجيات البرجوازية المحلية، سيجد أن خطاباتهم السياسية فى حقيقتها تركيبات معقدة وغير متجانسة و لا متسقة مما يصعب عملية تصنفيها، إلا أنها فى التحليل الأخير أقرب ما تكون فى كثير من عناصرها لليمين الفاشى وشبه الفاشى و الشعبوى ، ومن ثم فأنهم يجدون انسجاما فيما بينهم رغم العديد من الخلافات فيما بينهم مما يجعلهم ينادون دائما بالجبهة فيما بينهم جميعا أحيانا، وباستثناء بعضهم أحيانا، وفى اعتبارى أنه ليس فى الأمر جمعا بين الشامى و المغربى إلا ظاهريا فحسب حيث يجمعهم جذر اجتماعى مشترك و هو الدفاع عن مصالح فئات البرجوازية القومية و البرجوازية البيروقراطية والبرجوازية الصغيرة، وما تهدف إليه هذه الفئات من خلق الدولة القوية التى تلبى وتدافع عن مصالحهم، فى مواجهة كل من التخلف والرأسمالية العالمية.
أما اليسار اللاسلطوى والعمالى فهو يجد أقرب القوى السياسية إليه تتمثل فى الماركسيين غير الستالينيين و الاجتماعيين الديمقراطيين و الليبراليين الاجتماعيين بصرف النظر عن رؤيته لضرورة جود جبهة فيما بينهم، سواء أكانت تكتيكية أم استراتيجية من عدمه.
**هل القضية الوطنية أصبحت محور عمل اليسار في الشارع ؟
القضية الوطنية و لاحقا القومية هى محور عمل اليسار التقليدى القومى البرجوازى واهتمامه منذ موجته الثانية فى الأربعينات وحتى الآن، وهذا سر من أسرار ضعفه وعدم تجذره فى أوساط البروليتاريا، كما أن هذه المحورية التى اكسبها هذا اليسار للقضية الوطنية المصرية تصبح عند استقرار القضية الوطنية المصرية كما هو الحال الآن، قومية عربية فى مواجهة الصهيونية والإمبريالية، و عالمثالثية فى مواجهة عالمى التقدم، و جنوبية فى مواجهة الشمال، وطرفية فى مواجهة المركز، وهذه المحورية تثبت زيف يساريته، وتكرس عزلته الاجتماعية بعيدا عن الصراع الطبقى باعتباره الصراع الاجتماعى الجوهرى، و الذى يتم طمسه وتشويهه بصراعات الهوية القومية والثقافية وغيرها التى تعبر عن مصالح برجوازية وبيروقراطية محلية فى مواجهة برجوازيات أخرى لا مصالح البروليتاريا.
** أين الطبقة العاملة من برنامج اليسار ؟
ضعيفة التواجد سواء على ساحة الاهتمام بالتواصل معها على مستوى الممارسة، أو التعبير عن مصالحها وقضاياها الفعلية، وهى ليست ممثلة بقوة وفعالية فى تنظيمات ومجموعات اليسار المختلفة الموجودة بالساحة الآن.
**هل مواقع الانترنت أو الجمعيات الثقافية والاجتماعية هي جسر الوصول للطبقات الفقيرة أم هي فذلكة مثقفين ؟
هى وسائل جيدة ومطلوبة وضرورية لنشر الأفكار والتنسيق بين المناضلين والتواصل فيما بينهم، ولكنها بالطبع ليست كافية وحدها فى مجتمعات فقيرة تنتشر فيها الأمية بشتى أنواعها، لكن لاحظ أن الانترنت فى سبيلها لتصبح الوسيلة الإعلامية و الثقافية الأكثر ديمقراطية وشعبية وانتشارا خلال السنوات القليلة القادمة، وذلك مع تحقق بعض التطور التكنولوجى، والمزيد من تعريبها وتسهيل التعامل معها، وهى وليست وسيلة للمثقفين الآن فحسب بل لقطاعات واسعة من الجماهير أيضا حتى ولو استخدمتها غالبية تلك الجماهير فى الكلام الفارغ، فهم يمكن أن ينجذبوا لما هو أكثر جدية، مثلها مثل الوسائل المطبوعة سواء بسواء.
**بعد 83 عاما من النضال الشيوعي هل آن الأوان لصياغة نظرية جديدة لفكر شيوعي مصري خالص أم أن حالة الاستغراب والرحيل داخل دائرة الغرب أبعدت المثقف الماركسي عن جذوره المصرية ؟
الشيوعية أيديولوجية إنسانية تستند على تحقيق مصالح البروليتاريا باعتبارها طبقة عالمية، فى مواجهة البرجوازية باعتبارها أيضا طبقة عالمية، وهى أيديولوجية أممية بطبيعتها لا علاقة لها بالخصوصية أو الهوية الجماعية القائمة على القومية واللغة والثقافة والدين والطائفة والجنس والعرق واللون، والشيوعية لا علاقة لها بعقليات القطيع القبلية والعنصرية السائدة فى أوساط اليسار التقليدى، لاحظ أن الثورية الحقيقية لا تكمن إطلاقا فى تذيل تخلف الغالبية وجهلها وعنصريتها، بل إجلاء الطابع الإنسانى والتقدمى الكامن فيها، بطرحه بقوة وإصرار كبديل يحقق مصالحها الحقيقية لا ما توهمها به البرجوازية من مصالح.
أن البديل الوحيد المقبول هو الطرح الثورى لأممية إنسانية جديدة كمفهوم مناقض للهيمنة الرأسمالية العالمية، والذى يستوعب كل البشر بصفتهم البشرية وفقط فى حضارة عالمية جديدة أكثر عقلانية وحرية وعدالة اجتماعية وكفاءة اقتصادية، والتى تكفل لهم كل الحقوق الإنسانية باعتبارهم بشر بصرف النظر عن كل ما يميز بعضهم عن غيرهم من البشر. فقد آن الأوان أن يدفن البشر الدولة القومية والدينية كما دفنوا فيما مضى وكشرط لبنائهم حضارات أكثر تقدما العشائرية والقبلية والطائفية والإقليمية.

الديمقراطية التى نريدها

الديمقراطية التى نريدها
سامج سعيد عبود
(2)

يتفق باعة الديمقراطية المغشوشة والتالفة ومنتهية الصلاحية لدينا على ما هو معلوم بالضرورة من الحريات والحقوق الإنسانية، إلا أنهم ينهون إعلانهم دائما بتحفظات تخل بتلك الحريات والحقوق الإنسانية وتفقدها معناها، إذ يضعون عشرات القيود على تلك الحريات والحقوق ويضيقون من مجال ممارستها. وغالبا ما تأتى هذه التحفظات تحت شتى الدعاوى التى أبرزها حماية الخصوصية الثقافية أو الدينية أو القومية وغيرها، وتحت دعاوى أن ما تم التعارف عليه عالميا من هذه الحقوق والحريات الإنسانية هو صناعة غربية بالأساس لا تخصنا نحن العرب والمصريين، وكأن قهر الإنسان هو من صفاتنا الأصيلة التى يجب الحفاظ عليها، إلا ان الحقيقة هى أن شوق الإنسان للحرية هو شوق عالمى، و نضاله من أجلها، لا علاقة له بالحضارات والثقافات والأديان والقوميات.
إن مثل هذا الحديث يتضمن إهانة شخصية لكل فرد منا بما فى ذلك المهووسون الذين يرددونه كالببغاوات التى لا تعقل ما تقول، لأن هذا الحديث و إن كان يأتى على سبيل مدح الذات القومية والدينية، والتعالى بالجهل والتخلف على علم وتقدم الآخرين لا يعنى سوى شىء واحد ، أننا أدنى طبيعيا من المواطن الغربى الذى يستمتع بتلك الحقوق والحريات، و مثل هذا الحديث تماما هو ما رد به المعتمد البريطانى على الوفد المصرى الذى ذهب إليه مطالبا بالاستقلال عام 1919، وهو نفس الحديث الذى يردده العنصريون الغربيين هناك بأننا أقل شأنا من أن نستمتع بالحريات والحقوق الإنسانية، وما حجة الخصوصية المرفوعة خفاقة أمام حرية الفرد باعتباره فرد فى بلادنا، إلا حجة كل الطغاة لتبرير طغيانهم، و ما هى سوى حجة الاستعماريين الذى قال عميدهم فى الهند كبلنج أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.
فى مواجهة هوية الفرد وحريته وحقوقه ينصب الفاشيون والشعبويون رايات الدولة والوطن والثقافة والدين والقومية وغيرها ليمسخوا هوية الفرد و يسحقوها، و يقيدوا حقوق الإنسان وحرياته، و ما لم يكن هذا الفرد مخدوعا أو مخدرا أو مغسول العقل، فسيكتشف أن الدولة الحرة هى دولة مستبدة بمواطنيها بطبيعتها، و أن الدولة القوية تعنى مواطنين ضعفاء إزاءها، وأن حرية الوطن و استقلاله لا معنى لهما طالما كان المواطن نفسه غير حر و غير مستقل، و أن تقييد حقوق المواطن باسم الثقافة والدين و الحضارة والعادات والتقاليد يعنى تقييد حريته فى اختيار ما يشاء من عقائد وأديان، واختيار ما يلتزم به من ثقافات وعادات وتقاليد.
أن تلك الحقوق والحريات الإنسانية أهم للإنسان من ممارسته للسيادة الشعبية فى النظام الديمقراطى للحكم، ذلك لأنها هى الأكثر التصاقا بسيادة الفرد على ذاته، فالفرد يمكنه ببعض الترتيبات الخاصة فى حياته الشخصية أن يقلل من علاقته بالسلطات العامة و بالمجتمع الذى يحيا فيه، لأدنى مستوى ممكن، حتى يمكنه أن يعيش دون أن يشعر بثقل السلطات العامة فى حياته، ويمكنه حتى أن يختفى عن أنظار السلطات العامة، و يتفادى التعامل معها بقدر ما يستطيع، فلا تشعر بوجوده إلا فى الاحصائيات الرسمية، ومن هنا تصبح ممارسة الفرد للسيادة الشعبية أقل أهمية بالنسبة له، أما ما هو مستحيل بالنسبة لهذا الفرد فهو انعزاله عن ذاته كفرد، ومن ثم يصبح أى تقييد لتلك الحقوق والحريات الإنسانية فضلا عن عدم اتساقه مع الديمقراطية أساسا، هو إفراغ لتلك الديمقراطية ذاتها من مضمونها، إذ كيف لمقيدى الحقوق والحريات الإنسانية ممارسة سيادتهم كمواطنين، و هم فاقدين لحريتهم كأفراد.
من هذه الزاوية قد يطالب بعض الفاشيون والشعبويون بشكل من أشكال تنظيم السلطات العامة يقترب من الديمقراطية شكليا، ذلك لأنهم يعلمون أنهم قادرين على الانفراد بالسلطة معتمدين فى ذلك على غوغائيتهم، وعلى سيطرتهم على مصادر الثروة و العنف والإعلام، وهم قادرين على الفوز على الخطابات السياسية العقلانية بتصدير خطاب سياسى لا عقلانى يحرك عاطفية الجماهير الدينية أو القومية مما قد يضمن لهم الغالبية فى أى انتخابات، إلا أنهم لن يتسامحوا فى فك القيود على بعض الحريات والحقوق الإنسانية،وربما تكون الديمقراطية ذاتها هى طريقهم الذهبى لفرض ما يشاءون من قيود على تلك الحريات والحقوق.
الديمقراطية لا تكتمل إذن إلا بضمان الحقوق والحريات الإنسانية والتى يجب أن لا توضع أى قيود على ممارستها سوى حظر أى انتهاك للنظام العام و السكينة العامة والصحة العامة و الأمن العام ، مما يكون ضروريا فى مجتمع ديمقراطى من أجل حماية حقوق الآخرين و حرياتهم فقط من كل من الانتهاك والتضرر والاعتداء، ذلك أن أهم ما يفهم من هذه المصطلحات القانونية أن الحرية والحق الإنسانى للفرد ينتهيان دائما عندما تبدأ حقوق وحريات الأفراد الآخرين فى النظام و السكينة والصحة والأمن.
أن أخطر انتهاكات الحقوق و الحريات الإنسانية هى تلك التى تمارس من خلال الأعراف و العادات و التقاليد، على أى نحو ماديا أو معنويا، و من ثم يجب تجريم مثل هذا النوع من الانتهاكات و أى دعايات أو أفعال تدعو أو تدافع عن تلك الانتهاكات فى الأعراف و العادات و التقاليد، و تغليظ العقوبات على ممارسى تلك الانتهاكات على نحو رادع، وتشديدها فى حالتى العود و الاعتياد، و سريان قواعد المسئولية التعاقدية و التقصيرية على مرتكبيها و إطالة أمد سقوط العقوبات المقررة بشأنها بالتقادم.
الديمقراطية تفترض لسلامة ممارستها ضرورة تحقيق الحد الأقصى الممكن من الحقوق والحريات الإنسانية السياسية والمدنية والاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، ومن ثم يستلزم تحققها القضاء على أقصى ما يمكن من بقايا التراث الاستبدادى العريق فى بلادنا عرفا وقانونا وسلوكا وقيما، وذلك فى كل العلاقات الاجتماعية القائمة فى مجتمعنا بقدر الإمكان ، وهذا يستلزم تغيير جذرى فى بنية النظام تشريعيا و سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا وثقافيا، بالقضاء على كل معوقات ممارسة تلك الحقوق والحريات لكل إنسان بصفته إنسان، و من ثم إلغاء كافة القوانين والقرارات بقانون واللوائح التى تنتهك أو تقيد على نحو متعسف ممارسة أى من الحقوق والحريات الإنسانية مما يفقدها مضمونها، وذلك فى مجمل البنية التشريعية من دستور و قوانين ولوائح.
أن ما يعوق التحقق الفعلى لحقوق وحريات الإنسان كاملة غير منقوصة لكل فرد فى مجتمعنا ، ليس عدم تضمن بعض هذه الحقوق والحريات فى التشريعات الأساسية، والتى قد تتضمن بعضها بالفعل إلا أنه ليس بكاف أن يقرر التشريع المبدأ ثم يحيل تطبيقه على قوانين ولوائح أخرى تصدر لكى تهدر المبدأ نفسه، فيجب أن ينص فى كل تشريع على تنظيم كامل للحقوق والحريات الإنسانية يكفل لحدودها المشروعة ألا تتحول إلى قيود غير مشروعة ، ويكفل ضمانات ممارستها حتى لا تظل مجرد شعار لا يجد طريقه للتطبيق.
ويمكن بيان الحقوق والحريات الإنسانية السياسية والمدنية على النحو التالى:
* حق الفرد في أن يعترف بشخصيته القانونية. و حقه فى الأمان على شخصه وحياته وحريته الشخصية وحرمة حياته الخاصة، و حرية الفرد فى السفر من و إلى أى بلد ،و التنقل والإقامة فى أى ناحية من أنحاء البلاد، وحقه فى الهجرة منها والتوطن فى أى بلد يشاء، والعودة إلى بلاده الأصلية متى يشاء. و لكل فرد الحق أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء إليها هربا من الاضطهاد. و لكل فرد حق التمتع بجنسية ما. كما لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفا أو إنكار حقه في تغييرها.
* حق الفرد فى الحماية من التعذيب و الإيذاء البدنى ويشمل ذلك حمايته من العقوبات الجسدية التى تلحق الألم بالجسد أو تشوهه، وغير ذلك من ضروب المعاملة أو العقوبات القاسية أو الوحشية أو المهينة و الحاطة بالكرامة البشرية.
* حق الفرد من الحماية من القبض عليه أو حجزه أو نفيه تعسفاً. والحماية من التدخل التعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو حمايته من التعرض لحملات على شرفه وسمعته.
* حماية الفرد من كل من العمل الجبرى و العمل المجانى وأعمال السخرة المختلفة، وهذا يستلزم بالضرورة إلغاء علاقة الإذعان فى عقود العمل، مما يعنى تحديد جميع حقوق العاملين بأجر بما فيها الأجور النقدية والعينية و كافة شروط وظروف العمل على أساس المساومة الجماعية بين العاملين بأجر و ممثليهم النقابيين وبين الجهات التى يعملون لحسابها فى كافة القطاعات الحكومية وغير الحكومية. فضلا عن ضمان الحق فى الإضراب عن العمل و تحرير ممارسته من أى قيود تعيقه باعتباره السلاح الأساسى فى يد العاملين بأجر فى إطار المساومة الجماعية لتحسين شروط عملهم وحياتهم.
* كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية قانونية متكافئة دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز وضد أي تحريض على تمييز كهذا. و لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه له. كما أن لكل إنسان الحق فى مقاضاة رجال السلطة والإدارة، و لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه عن أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون.
* حرية الرأى والتعبير والفكر والوجدان والدين والمعتقد بلا قيد أو شرط، وتشمل هذه الحقوق ، حرية تغيير الفرد لديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة. و حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية. وضمان حق كل مواطن فى استخدام وسائل الإعلام والثقافة المختلفة فى ممارسة حقه فى التعبير عن آرائه ومعتقداته بالكتابة والحديث والتعبير الفنى على قدم المساواة مع كل المواطنين.و ضمان الحرية الكاملة للبحث العلمى و النشاط الإبداعي .
* قيام وتنظيم علاقات الزواج وإنهائها وكل ما يترتب عليها من آثار على أساس التعاقد الحر للأطراف المقبلة عليه دون وصاية أو تدخل من طرف آخر طالما بلغ الطرفين سن الزواج. فلا يبرم عقد الزواج إلا برضى الطرفين الراغبين في الزواج رضى كاملا لا إكراه فيه. و للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين. مع ضمان المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات فى العلاقة الزوجية فى إبرامها و فى أثناء قيامها و فى حالة إنهاءها وكل ما يترتب علي كل هذا من آثار .و إنهاء الوصاية والولاية والقيامة والحضانة الأبوية على أبناء و بنات الأسرة بمجرد بلوغهم سن الرشد .
* لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية. كما لا يجوز إرغام أحد على الانضمام إلى جمعية ما.و يحق لكل المواطنين تنظيم أنفسهم فى شتى الجماعات المدنية التى تلبى احتياجاتهم المشتركة، وتنظم انشطتهم المدنية المختلفة، وتدافع عن حقوقهم المشتركة، و حقهم فى الانضمام إلى ما يختاروا منها طوعا، من أجل تعزيز و حماية مصالحهم الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية والعقائدية وممارسة أنشطتهم المدنية المختلفة. والمقصود بالجماعات المدنية كل التجمعات المستقلة عن هيئات السلطة العامة التشريعية والتنفيذية والقضائية والمؤسسات الإنتاجية والخدمية، و من ثم تشمل الجماعات المدنية كل من الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والنقابات العمالية والنقابات المهنية والأندية الاجتماعية والرياضية والثقافية والغرف التجارية والصناعية والجماعات الثقافية والجماعات الدينية والعقائدية.
* ينبغى تحرير كل الجماعات المدنية من الارتباط بالأجهزة التشريعية والتنفيذية والإدارية، وذلك بإسقاط كافة القوانين و القيود التى تعيق حرية تكوينها وعملها ، و بإسقاط حق الأجهزة التشريعية والتنفيذية والإدارية تماما فى وضع القواعد والقوانين المنظمة لتلك الجماعات المدنية ، و ليصبح حقا مطلقا لأعضائها، حيث تكفل الأحكام العامة للقانون الحد الأدنى اللازم لمراقبة أداء الجماعات المدنية سواء من خلال جمعيات عمومية تملك صلاحيات فعالة فى محاسبة مجالس إداراتها المنتخبة ، أو من خلال الرقابة القضائية التى تتيح الفرصة لأعضاء الجماعات المدنية أو لكل ذى مصلحة فى الطعن على القرارات المتخذة من جانب الجماعة المدنية إذا ما تعارضت مع القانون أو إذا ما خرجت مجالس إدارتها عن قواعد الشفافية المحاسبية .
* حق الجماعات المدنية المختلفة فى تشكيل اتحادات وطنية أو تعاهدات و حق هذه الأخيرة بتكوين منظمات دولية أو الانضمام إليها. و حقها فى التدخل أمام القضاء الجنائى بالادعاء مدنيا عن جريمة وقعت على أعضاءها على أساس المساس بالمصلحة الجماعية التى تمثلها.وإطلاق حرية تكوينها بلا قيد أو شرط فيما عدا القائمة منها على أساس عسكرى أو عنصرى .و حقها فى أن تعتبر قائمة قانونا بمجرد إخطار الجهة الإدارية بتشكيلها . كما تشمل حقوق الجماعات المدنية حق كل طائفة أو جماعة دينية أو عقائدية أو ثقافية أو قومية قائمة على أساس من عقيدة مشتركة أو ثقافة مشتركة بين أفرادها فى أن تنظم أعضاءها فى شكل جماعة مدنية ينضم لها طوعيا المنتمين لتلك العقيدة أو الثقافة أو القومية .
* لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرا. و لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد. فإرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.
يتحدد وضع حقوق وحريات الإنسان فى النظام التشريعى المصرى بأربع مصادر رئيسية لا تتساوى فيما بينها من حيث حجيتها، حيث يعلو الدستور فى حجيته على القوانين العادية على سبيل المثال ، و من ثم يجب أن تعدل القوانين في بعض الأحيان لتتوافق مع أحكام الدستور أو تلغى إن لم تكن متوافقة معه وفق الإجراءات التى حددها الدستور لذلك، وهو ما يحدث بالفعل فى حالة الحكم بعدم دستورية بعض القوانين العادية، ، والشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع شأنها فى ذلك شأن الإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان و هو ما ينص عليه الدستور، ومن ناحية أخرى يلاحظ أن هذه المصادر تتناقض وتتعارض فيما بينها منطقا ونصا فى بعض الأحكام والقواعد، كما هو الحال بين بعض أحكام المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وبين بعض أحكام الفقه الإسلامى السائد، أو بين الإعلانات وأحكام الفقه وبين أحكام القانون، و لا يقتصر هذا التناقض فقط على المصادر المختلفة للتشريع، بل أن نصوص الدستور نفسها متناقضة إذ تحتوى بعض نصوصه وأحكامه على ما يتفق والحقوق والحريات الإنسانية سالفة الذكر، إلا أن بعضها الآخر ينقض تلك الأحكام والنصوص فى نفس الوقت. و من ثم فالمعركة من أجل الديمقراطية لا تعنى إلغاء هذه المادة أو تلك من مواد الدستور، كما يحاول أن يوهمنا باعة الديمقراطية الزائفة، بل المطلوب هو دستور جديد يقضى على حالة الفصام التشريعى لدينا.

الديمقراطية التى نريدها

الديمقراطية التى نريدها
سامح سعيد عبود

(1)
فجأة امتلأ السوق السياسى فى مصر وسائر بلاد المنطقة العربية بالضجيج، فبدلا من دعوات الخلافة الإسلامية وتحالف قوى الشعب العامل وديكتاتورية البروليتاريا، أصبح جميع السياسيين ينادون على نوع واحد من السلع بعد ما كانوا يختلفون سابقا فيما يبيعون، والبضاعة الجديدة التى ينادى عليها الجميع كما لا يخفى عليكم هى "الديمقراطية" لما تلاقيه من رواج تلك الأيام فيما يشبه الموضة، و قد دخل فى ضجيج البيع والشراء لا ديمقراطيون أصلاء بحكم انتمائهم الفكرى وتاريخهم السياسى المنافى للديمقراطية برغم أنهم لم يعتذروا عنه، وخصوصا بعد أن أصبح المستهلكون يعزفون عن شراء سلعهم القديمة.
البعض من هؤلاء الباعة يعلنون عن نوعيات مغشوشة من الديمقراطية، والبعض الآخر يحاولون بيع نوعيات تالفة منها، وآخرون يعرضون نوعيات غير صالحة، أو منتهية الصلاحية. و بجولة فى السوق السياسى نكتشف أن النوعيات المعروضة لدى معظم الدكاكين السياسية تبيع ديمقراطيات غير صالحة لاستخدام المواطن المجرد من وسائل الثروة والعنف المادى والمعنوى والمعرفة ، و من ثم فقد رأيت أنه من الواجب علي تحذير أمثال ذلك المواطن، وأول خطوة فى ذلك أن أحدد المواصفات القياسية للديمقراطية الصالحة لاستخدام هذا المواطن، بمعنى قدرتها على أن تشبع احتياجاته الملحة، فى أن يملك تحديد مصيره بنفسه.
لأن الديمقراطية بالتعريف هى حكم الشعب لنفسه، يفرق الفقه الدستورى بين الشعب صاحب السيادة فى النظام الديمقراطى، وبين الدولة برغم أنها نابعة من تلك السيادة على وجه الحصر فى ذلك النظام، فالدولة هى السلطة العامة التى يمكن أن نحلل عناصرها لمواطنين يمارسون السلطة العامة عمليا نيابة عن الشعب كالوزراء والقضاة و ونواب الشعب وغيرهم، وهيئات تضم هؤلاء المواطنين كالوزارات والمحاكم والبرلمانات، و الذين يمارسون وظائف السلطة العامة مثل التنفيذ والقضاء و التشريع.
الشعب باعتباره صاحب السيادة فى الدولة، والمتميز فى نفس الوقت عن السلطة العامة، قد يضم مواطنين مختلفين فى الدين أو الطائفة أو القومية أو العنصر أو الثقافة أو اللون أو الجنس أو العرق أو النوع أو اللغة الأم أو الأصل الاجتماعى، و ذلك يفترض بالضرورة إن سلمنا أن تكون السيادة للشعب، أن تكون كل السلطات العامة سواء كأفراد أو كهيئات أو كوظائف، منفصلة ومستقلة تماما عن كل ما يفرق بين هؤلاء المواطنين مثل الدين أو الطائفة أو القومية أو العنصر أو الثقافة أو اللون أو الجنس أو العرق أو النوع أو اللغة الأم أو الأصل الاجتماعى ، لتلتصق السلطات العامة بكل عناصرها الأولية سالفة الذكر، بالعنصر الوحيد المشترك فيما بين سائر المواطنين ، وهو المواطنة.
أى ديمقراطية تميز بين المواطنين على أساس الدين والطائفة والقومية والجنس وغيرها، هى ديمقراطية مغشوشة كونها تنزع إلى عدم المساواة بين المواطنين فى ممارستهم لحقهم فى السيادة، إذ تسلب بعضهم هذا الحق أو تقلص حدوده للبعض الآخر، أما المواطنة فهى مجرد وضع قانونى يكتسب بالجنسية، و هو يكسب المتجنس الاشتراك فى حقوق السيادة الكاملة على قدم المساواة مع المواطنين الآخرين الذين يحملون نفس الجنسية بمجرد الحصول عليها بصرف النظر عن أى اعتبارات أخرى.
وبتطبيق تلك الخاصية القياسية من خصائص الديمقراطية فلابد أن لا نلتفت لباعة الديمقراطية الجدد الذين يميزون بين المواطنين على أساس من الدين أو القومية أو الجنس وغيرها، و لا يمكنا حتى أن نعتبرهم حلفاء لنا فى المعركة الدائرة فى بلادنا الآن من أجل الديمقراطية ، إذ أن مثل هؤلاء يحرمون الأقليات الدينية أو القومية أو المرأة من ممارسة الانتخاب والترشيح لمناصب السلطات العامة، كما أنهم ينتقصون من السيادة الشعبية للمواطنين، لصالح سيادة أخرى باسم المرجعية الدينية أو الحضارية أو الثقافية، ومن ثم لا يمكن اعتبارهم ديمقراطيون على أى نحو، كما لا يمكن أن تعتبر الديمقراطية الطائفية القائمة فى لبنان والعراق والقائمة على نظام الحصص الطائفية ديمقراطية حقيقية لأنها تنتقص من حقوق المواطنة لحساب الانتماء الطائفى . كما لا يمكن اعتبار الديمقراطية الإيرانية المقيدة بولاية الفقيه ديموقراطية بدورها، كما لا يمكن اعتبار أن دستورا معينا ينص على أن دينا معينا هو الدين الرسمى للدولة أو أنه مصدر تشريعاتها كما ينص الدستور المصرى فى مادته الثانية دستورا ديمقراطيا، أو أن دستورا يستند على ثقافة بعينها أو قومية بذاتها هو دستورا ديمقراطيا على أى نحو.
يمارس الشعب سيادته عبر حقين ينبعان من تلك السيادة:
الحق الأول هو المشاركة الشعبية من كل المواطنين البالغين العاقلين على قدم المساواة فى السلطات العامة عبر شكلين من الممارسة الديمقراطية:
الديمقراطية المباشرة و هى المثل الأعلى للديمقراطية ذلك لأنها الوحيدة التى تتيح لكل المواطنين حقوق المشاركة فى السلطات العامة بشكل مباشر بعيدا عن أن يمثلهم أحد ما فى ممارسة السلطة العامة، الذى فى حقيقته انتقاص من حرية المواطنين وسيادتهم، إلا أن الديمقراطية المباشرة يعيبها أنها لا تتناسب سوى مع المجتمعات قليلة السكان عمليا برغم تميزها نظريا، إلا أننا نلاحظ أنه مع التطور التكنولوجى الهائل فى ثورة الاتصالات أصبحت ممارسة الديمقراطية المباشرة على نطاق أوسع فى المجتمعات كثيرة السكان أكثر يسرا وسهولة، ولكن هذه الممارسة مشروطة بإتاحة استخدام هذه الإمكانيات لجميع المواطنين فضلا عن ضرورة وضع ضوابط لعدم إساءة استخدامها.
عندما تتعذر ممارسة الديمقراطية المباشرة فى الجماعات الكثيرة السكان تمارس الديمقراطية شبه المباشرة التى تتيح لكل المواطنين حقوق المشاركة المباشرة فى السلطات العامة بالطرق التالية:
* الاستفتاء الشعبى على القوانين والقرارات.
* الاقتراح الشعبى بمشاريع لقوانين أو لقرارات و الذى تقدمه نسبة معينة من مجموع المواطنين و فى هذه الحالة يعرض الاقتراح على الاستفتاء الشعبى.
* التحقيق الشعبى مع النواب والمسئولين التنفيذيين المنتخبين عبر لجان شعبية مستقلة.
* تكليف نائب الدائرة ومحاسبته ومراقبته و إقالته قبل انتهاء مدة عضويته بالمجلس النيابى.من قبل المواطنين بالدائرة الانتخابية التى ينوب عنها.
* محاسبة و مراقبة المسئولين التنفيذيين و إقالتهم قبل انتهاء فترة توليهم المسئولية التنفيذية.
* وجوب موافقة غالبية المواطنين على ما يتلقاه المسئولين التنفيذيين و أعضاء المجالس النيابية والقضاة من أجور نقدية وعينية و امتيازات مقابل تفرغهم لأداء أعمالهم.
* علنية كل المحاكمات، واعتماد نظام المحلفين فى المحاكم، الذين يتم اختيارهم من بين قوائم من المواطنين ليراقبوا أداء القضاء ويساعدوهم فى اتخاذ القرار.
إلا أننا نلاحظ فى معظم الديمقراطيات السائدة فى العالم، أنه يتم اهمال ممارسة حقوق المشاركة الشعبية فى السلطة العامة، و الذى بدونه تصبح الديمقراطية مجرد أعطاء الناس الحق الدورى فى اختيار من يحكمونهم كل عدة سنوات من ممثلى النخب السياسية الحاكمة، و فى هذا إهدار للسيادة الشعبية واغتصاب لحق الناس الأصيل فى إدارة شئونهم بأنفسهم، ومن ثم تصبح ممارسة حقوق المشاركة الشعبية سواء بالديمقراطية المباشرة أو غير المباشرة هى ما يعطى للديمقراطية معناها الأصيل ، فبغير المشاركة الشعبية تصبح الديمقراطية بلا معنى، و مجرد ثرثرة برلمانية فارغة، ولعبة انتخابات يمارسها محترفو الانتخابات والدعاية والسياسة، و يسيطر علي نتائجها القلة من ملاك الثروة والبيروقراطيين ورجال الإعلام، دون الغالبية من المجردين من وسائل الثروة والعنف والمعرفة.
الحق الثانى النابع من السيادة الشعبية هو أن الشعب هو صاحب الحق الوحيد فى اختيار من ينوبون عنه فى ممارسة وظائف السلطات العامة بانتخابهم انتخابا حرا مباشرا. فهو من يمنحهم شرعية ممارسة السيادة بالنيابة عنه وهو من يسلبهم هذه الشرعية، و يلاحظ أن بعض الديمقراطيات تقصر هذا الحق على الانتخاب المباشر لأعضاء الهيئات التشريعية فقط كما فى كل النظم البرلمانية، وبعضها قد يضيف إلى ذلك الحق فى الانتخاب المباشر لأعضاء الهيئات التنفيذية كرؤساء الدول والمحافظين والعمد كما فى النظم الرئاسية، والقليل جدا من يتوسع فى استخدام هذا الحق ليشمل الانتخاب المباشر أو غير المباشر لكل أعضاء هيئات السلطات العامة بما فيها القضاء. و الحالة الأخيرة معناها ممارسة كاملة لهذا الحق بعكس الحالتين الأوليتين البرلمانية والرئاسية التى تنتقص من ممارسته.
تفترض الممارسة الديمقراطية الفصل بين السلطات العامة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) كى لا تجور سلطة عامة على اختصاصات سلطة عامة أخرى، وكلما كان الفصل بين السلطات أكثر اكتمالا كلما ضمنا توازنا بين السلطات،و منعا أكثر للطغيان ، ودرجة أعلى من الديمقراطية.
تتفاوت الديمقراطيات فيما بينها فى درجة الفصل بين السلطات، فبعضها يفصل فصلا مرنا يسمح باشتراك هيئة من هيئات السلطة العامة فى ممارسة وظائف سلطة عامة أخرى ، فيشارك بعض رؤساء الدول فى تشريع القوانين، وبعض هذه النظم يفصل فصلا جامدا بين تلك الهيئات فى أداءها لوظائفها فلا يسمح بأن تمارس السلطة التنفيذية سوى تنفيذ تشريعات السلطة التشريعية.
بعض الأنظمة تضع السلطة التشريعية فى مكانة أعلى من السلطة التنفيذية باعتبارها هى الأكثر تعبيرا عن السيادة الشعبية لكونها الوحيدة المنتخبة من الشعب ، كما فى النظم البرلمانية، و بعض النظم تساوى فى المكانة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كما فى النظم الرئاسية لكون كلتا السلطتين منتخبتين شعبيا.
أما الديمقراطيات المغشوشة السائدة فى منطقتنا فهى التى تعطى السلطة التنفيذية مكانة أعلى فوق السلطة التشريعية برغم أنها غالبا غير منتخبة شعبيا، فضلا عن أن السلطة التنفيذية فى بلادنا تحتكر لنفسها معظم اختصاصات السلطة التشريعية أصلا فى التشريع والمراقبة،كما يمكنها حل هيئات السلطة التشريعية والتحكم فى سير عملها فهى التى تدعوها للانعقاد وهى التى تفض دوراتها، كما أنها تسيطر أيضا على السلطة القضائية حيث أنها هى التى تعين القضاة وتحدد لوائح عمل السلطة القضائية وموازنتها، بمعنى أن ما يميز هذه الأنظمة الاستبدادية هو غياب أى فصل بين السلطات مرنا كان أو جامدا، و فى هذه الأنظمة تتوحد السلطات العامة عمليا فى شخص رئيس الدولة الذى تتركز فى يديه كل السلطات، و مؤسسة واحدة هى مؤسسة الرئاسة، ومن ثم تصبح عملية انتخابه من عدمها عملية غير ذات أهمية، فما الفرق بين ديكتاتور يفرضه انقلاب عسكرى، وديكتاتور يأتى بالاستفتاء الشعبى على مرشح وحيد ، و ديكتاتور يأتى بالانتخاب من بين أكثر من مرشح.
فبدون إرساء مبدأ الفصل الكامل بين هيئات السلطة العامة ووظائفها والأشخاص الذين ينوبون عن الشعب فيها لا يمكن أن توجد الديمقراطية.
بناء على ذلك يمكن تحديد مواصفات قياسية للديمقراطية التى نريدها فيما يتعلق بالسلطات العامة كالتالى:
السلطة التشريعية تمارسها المجالس النيابية التى تتكون من نواب منتخبين بالاقتراع الحر السرى المباشر .و يحق لهؤلاء سن التشريعات المختلفة و محاسبة و مراقبة المسئولين التنفيذيين و ممارسة التحقيق معهم والتوصية بإقالتهم وسحب الثقة منهم . كما يجب التصديق من قبل المجلس النيابى على كل قرارات المسئولين التنفيذيين حتى تصبح واجبة النفاذ .
السلطة التنفيذية يمارسها المسئولون التنفيذيون الذين يتم انتخابهم بالاقتراع الحر السرى المباشر،على أن لا يتولى المسئولون التنفيذيون أى مهام تشريعية أو قضائية فى الأحوال العادية، أما فى أحوال الضرورة كالحرب والكوارث الطبيعية فقط، وعلى سبيل الاستثناء فيمكن أن يتولى المسئولين التنفيذيين بعض السلطات التشريعية التى يجب أن تخضع لتصديق المجلس النيابى عند زوال حالة الضرورة ، و لا يجب أن يمارس المسئولون التنفيذيون أى سلطات على السلطتين التشريعية والقضائية.
السلطة القضائية:- يتم انتخاب القضاء بكافة درجاته بالاقتراع السرى المباشر بواسطة هيئة شعبية ناخبة و منتخبة شعبيا، على أن يكون المرشحين من بين الحاصلين على شهادات دراسية قانونية عليا باعتبارهم مختصين بتطبيق القانون على المنازعات نظرا للخصوصية المطلوبة فى ممارسى تلك السلطة. و الهيئة القضائية بكاملها يجب أن تكون مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. كما أنها مستقلة بالكامل بوضع موازنتها ولوائح عملها.
تنقسم نظم الحكم إلى نظم أحادية ونظم اتحادية، كما تنقسم أيضا لنظم مركزية الإدارة ونظم لامركزية الإدارة، والنظم الاتحادية و النظم اللامركزية الإدارة تضمن عدم تركز السلطات العامة فى يد قلة من الأشخاص فى مركز الدولة وانفرادهم بها كما فى النظم المركزية، بل يتم توزيع السلطات العامة بين المركز والمحليات لتصبح ممارسة السلطات العامة فى يد عدد أوسع الناس، و من ثم تضمن كل من الاتحادية و اللامركزية الإدارية المشاركة الشعبية فى السلطة العامة على نحو أكثر اتساعا ، ومن هنا فاللامركزية الإدارية أكثر تحقيقا للديمقراطية وتجسيدا للسيادة الأصلية للشعب عن الأنظمة مركزية الإدارة ، وفي اللامركزية الإدارية تتولى الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية المحلية كل مسئوليات التشريع والتنفيذ و القضاء فى حدودها الإقليمية والجغرافية.فى حين تقتصر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية فى المركز على المجالات السيادية كالدفاع و الخارجية و الشرطة و الأحوال المدنية و المالية والقضاء الأعلى ( محكمتى النقض والدستورية) ، فضلا عن المجالات ذات الطابع المركزى مثل المرافق العامة المركزية والخدمات المركزية.
لتصبح ممارسة السيادة الشعبية بعيدة عن الفساد والعنف ومنزهه عن تزوير إرادة الناخبين وتضليلهم و شراء أصواتهم، وحتى لا يصبح كل من الترشيح وتولى مناصب السلطات العامة مقصورين عمليا على القلة المسيطرة على وسائل الثروة والعنف والمعرفة، فلا بد للعملية السياسية من ضوابط فى الانتخاب و الترشيح لعضوية هيئات السلطة العامة النيابية والتنفيذية و القضائية منها.
*الإشراف الكامل على مباشرة كل حقوق السيادة الشعبية من قبل هيئة شعبية مستقلة تماما فى تكوينها و تمويلها و نشاطها عن الأجهزة التنفيذية و الإدارية،و مكونة من ممثلى منظمات حقوق الإنسان، و ممثلى منظمات المجتمع المدنى المختلفة، و ممثلى الأحزاب السياسية، و الشخصيات المدنية العامة و المتطوعين . بحيث تتم كل وقائع العملية الانتخابية بدءا من فتح باب الترشيح وحتى إعلان نتيجة الانتخابات تحت إشرافها الكامل وبالاستقلال الكامل عن السلطة التنفيذية وموظفيها لمنع تأثير النفوذ الإدارى على الناخبين.
* توحيد ميزانية الحملة الانتخابية لكل المرشحين، و ضمان شفافية موارد تلك الحملات ومصروفاتها و ضبط طرق إنفاقها و توجيهها تحت إشراف الهيئة الشعبية المستقلة للممارسة السياسية بهدف شرح البرنامج الانتخابى لكل مرشح على قدم المساواة مع باقى المرشحين لضمان عدم تأثير المال و محترفى الانتخابات ووسائل الإعلام على اختيارات الناخبين وفرص المرشحين فى النجاح.
* لأن الجيش والشرطة هما أخطر جهازين من أجهزة السلطة العامة التنفيذية على سلامة ممارسة السيادة الشعبية، ذلك لأنهما يحتكران وسائل العنف المادى، فلابد من خضوعهما للقواعد التالية :الحياد السياسى التام للمؤسسات العسكرية ومنع العاملين فيها من الممارسة السياسية طالما كانوا فى الخدمة. و قصر الأمن السياسى الداخلى فى حدود مكافحة الجاسوسية والإرهاب. و خضوع كبار قادة الجيش أو الشرطة ككل المسئولين التنفيذيين والإداريين للمراقبة الشعبية. و منع استخدام المجندين فى الجيش فى أعمال الشرطة. كما يحظر على الجيش أداء أى عمل من أعمال الشرطة. و إلغاء أى امتيازات لكل من رجال الجيش والشرطة تميزهم عن باقى المواطنين إلا ما تفرضه ممارستهم لوظائفهم.
هذه هى المواصفات القياسية للديمقراطية كى تكون صالحة لاستخدامنا، و لذلك لا يمكن لنا أن نقبل بديمقراطية مغشوشة غير مطابقة لتلك المواصفات، فالديمقراطية التى نريدها الآن وليس غدا لا تحتمل مجرد تغير الدستور القائم قطعة قطعة، فهلهته لا تحتمل المزيد من الترقيع، فإلغاء هذا الدستور نهائيا وليس مجرد تعديله ووضع دستور جديد مطابق للمواصفات القياسية للديمقراطية هو المطلب الذى يجب أن تصر عليه القوى الديمقراطية،.وإصرار القوى الديمقراطية على هذه المواصفات سيحدث انقسام فى معسكر المطالبين بالديمقراطية ،فالبعض سيكون مع ديمقراطية غير مطابقة للمواصفات،والبعض مع ديمقراطية مطابقة للمواصفات،وهذا الانقسام مفيد لتحقيق الديمقراطية ،لأنه سيفضح الغشاشين والانتهازيين والدجالين،و يكفينا تماما هذا القدر من الديمقراطية الزائفة التى عشنا فى ظلالها طوال القرن الماضى.

الخميس، 17 يوليو 2008

هل هناك حقا يسار عمالى عربى !! ؟

هل هناك حقا يسار عمالى عربى !! ؟
سامح سعيد عبود
بمناسبة عيد العمال العالمى، أردت أن أشترك فى الملف الشهرى الذى نظمته نشرة الحوار المتمدين بهذه المناسبة، فكتبت مقال "العمال يؤكدون أفضلية إداراتهم للمصانع"عن تجربة عمال مصنع المصابيح الكهربية بمدينة العاشر من رمضان مستندا فى معلوماتى على حضورى الندوة التى عرضوا فيها تجربتهم بمركز الدراسات الاشتراكية يوم الخميس 22 إبريل، فضلا عن تحقيق عن الموضوع نشر فى العدد الخامس من مجلة أوراق اشتراكية الصادرة عن نفس المركز، وتم نشر المقال فى عدة مواقع هى :
الموقع الخاص بى على الحوار المتمدين http://rezgar.com/m.asp?i=12
التحررية الجماعية http://www.geocities.com/sameh562001
المركز المصرى الاجتماعى الديمقراطى http://www.geocities.com/sdegc
التقدم الحوارية http://www.takadom.tk
شباب مصر http://www.shbabmisr.com
صوت بلادى http://www.voiceofbelady.com
والأخيرين موقعين لا يوجد لهما انتماء سياسى واضح و محدد " ، فضلا عن توزيع المقال عبر قائمتى البريدية الخاصة التى تتجاوز ال 400 عنوان بريدى من المهتمين بقضايا اليسار عموما، فضلا عن مسئولى العديد من المواقع المصرية اليسارية الأخرى التى لم يسبق لها النشر لى أو التفاعل معى على أى نحو برغم مراسلتى لهم دائما مثل كفاية http://www.kefaya.org
لام ألف http://www.lamalef.net
ولم يحظ المقال برغم كل هذا بأى تعليق واهتمام و لم تصلنى بشأنه أى ردود من أى نوع إلا من الزميل والصديق العزيز إلهامى الميرغنى الذى كتب:
"أخى العزيز سامح
تحية طيبة وبعد
الله ينور عليك مقال عمال المصابيح جميل جدا ولكن لم توضح كيف يمكن ان نتضامن معهم ونساعدهم والموضوع محتاج شوية تفكير والناس تحط رأسها فى رأس بعض لإيجاد مقترحات .
ثانيا انت مقلتش كيفية الاتصال بيهم هل ممكن تعملهم صفحة على الانترنت ، ام نضع بيان تضامن معهم على الحوار المتمدن لجمع توقيعات تأييد لهم .أم نتصل بهم هاتفيا.عموما اهو عيد العمال فرصة للتضامن مع عمال المصابيح وتجربتهم الرائعة . وتعيش وتكتب مقالات مهمة
الهامى"
وتورطت بناء على هذا الرد المشجع من الزميل إلهامى ، فأخبرت ممثلى هؤلاء العمال يوم احتفال عيد العمال بميدان التحرير، بأن هناك فرصة للتضامن معهم عبر الانترنت، ولكن للأسف كانت تلك الفرصة وهما كبيرا على عكس ما كنت أظن ، فيسارنا المصرى لديه قضايا كبرى أهم هى مواجهة الإمبريالية الأمريكية فى العراق والصهيونية فى فلسطين، محتفظا بلعناته المستمرة للزمن الرديء الذى عزله عن جماهيره، التى ليست الطبقة العاملة المصرية بالتأكيد ،و التى لها رب أسمه الكريم.
وبعد أيام كتب الزميل والقيادة العمالية حمدى حسين مقالا بعنوان "لجنة التنسيق للحقوق و الحريات النقابية .. هل يمكن أن تكون النواة لاتحاد عمالى حر و مستقل ؟ ) تم نشره فى المواقع التالية :الحوار المتمدين والمركز المصرى الاجتماعى الديمقراطى ومجموعة التقدم الحوارية،السابق الإشارة إليهم، فكتبت مقالا متضمنا اقتراحات عملية لتطوير فكرته ووضعها على طريق التنفيذ باسم "كيف نصنع نواة اتحاد عمالى حر و مستقل؟" وحاز أيضا على نفس فرص النشر والتوزيع كالمقال السابق تماما عدا موقعى شباب مصر وصوت بلادى لأسباب لا أعرفها.
مرة أخرى تكرر نفس رد الفعل المتمثل فى الصمت والتجاهل التام ، وكأنى أصرخ فى البرية، وهو أمر مثير للإحباط بلا شك، فقد كنت أبرر لنفسى عدم التفاعل مع مقالاتى النظرية السابقة بضيق وقت الزملاء وصعوبة ظروفهم المعيشية، ولكن لماذا لم يتفاعلوا مع مقالات ذات طابع عملى مثل تلك المقالات، حتى الزميل حمدى حسين نفسه الذى كتبت المقال الأخير تعقيبا على مقاله، ومرة أخرى لم يرد أو يعقب سوى الزميل إلهامى الميرغنى الذى كتب:
" أخى العزيز سامح
تحية طيبة وبعد
الله ينور عليك قريت مقالك بتاع الرد على حمدى حسين واعتبر مداخلتك فى غاية الأهمية وانا لسه امبارح باعت رسالة لخالد على مستغرب ان محدش اشتبك مع الفكرة رغم اهميتها ومش فاهم امال الناس مشغولة بايه .اجمل ما فى الموضوع انك لسه ماسك دماغك وبتبدع كلام جميل نحن محتاجين اليه رغم انف كل مناهضى النت . يوجد فى كلامك عدة افكار مهمة منها تشتيت الجهد فى عشرة الاف لجنة واستنزاف الناس والجهد فى اجتماعات بلاميطى وتخيل عامل زى حمدى حسين علشان يجى من المحلة يحضر اجتماع فى القاهرة يصرف 20 او 25 جنيه مواصلات كل مرة شوف بيجى القاهرة كام مرة فى الشهر وكيف يكون ذلك على حساب اسرته .تكوين انوية محلية وقطاعية ونقل الخبرات والوعى هو الخطوة الأولى على طريق توفير المقومات. مرة اخرى احييك واشكرك واقولك انى فخور بانك صاحبى
الهامى"
المشكلة بالتأكيد ليست فى ضيق وقت الزملاء وصعوبة ظروفهم المعيشية، بل تكمن فى حقيقة انتماءهم السياسى والطبقى برغم كل ما يدعونه عن أنفسهم ، وفى ما يشغلهم حقا من قضايا، وفى ما تعودوا على الانغماس فيه من مناقشات ونضالات ، وليس أدل على ذلك من أنه فى نفس وقت نشر مقالاتى أرسل الزميل والصديق العزيز منير مجاهد عبر قائمته البريدية المحدودة بالنسبة لقائمتى البريدية، ومجموعة التقدم الحوارية صور زائفة عن اغتصاب النساء فى العراق، ثم سرعان ما اعتذر عن إرسالها لشكوك حامت حول مصدرها نبهه إليها عدد من الزملاء والزميلات، وذلك لأنه و كما أعرفه جيدا يحترم نفسه ويحترم من يراسلهم ومن ثم يستحق منا كل احترام وتقدير، وهاج الكثير من أعضاء مجموعة التقدم الحوارية وقائمته البريدية الخاصة، وانقسموا لفريقين أحدهم معارض للاعتذار ومؤيد لنشر الصور بشدة على رغم ثبوت زيفها، و الثانى مؤيد للاعتذار عن النشر لأننا لسنا فى حاجة لتلك الصور لإثبات وحشية الاحتلال ، و أخذت تتوالى رسائلهم التى زادت عن الخمس عشر رسالة خلال أيام ،كاشفة عن حقيقة بعض من ينتمون لمعسكر اليسار المصري والعربى.
أعتقد أن هناك يسار عمالى عربى حقا إلا أنه محدود القوة والانتشار، فأنا أعتبر أن تيار الشيوعية العمالية فى العراق بمنظمتيه (الحزب الشيوعى العمالى العراقى وحركة انبثاق حزب العمال الشيوعيين العراقيين ) يقدم نموذج لنضال اليسار العمالى الحقيقى، فهو تيار لا يسمح لنفسه بالتورط فى الخيار السخيف، إما مع الرأسمالية العالمية التى يمثلها الاحتلال الأمريكى وحلفاءه أو مع بعض قطاعات البرجوازية المحلية العراقية المعادية لتلك الرأسمالية التى تمثلها ما تسمى بالمقاومة العراقية المسلحة، بكل ما فيها من قوى قومية ودينية وبكل ممارستها الفاشية والطائفية والإرهابية ضد المدنيين، و لا يسمح لخطابه الطبقى الواضح و المعبر عن البروليتاريا بأن يختلط بخطابات برجوازية سواء كانت قومية أو وطنية أو دينية أو طائفية ، ولا يسمح لنفسه بالانشغال عن الدفاع عن قضايا المضطهدين والمقهورين والمستغلين فى العراق فى مواجهة مضطهديهم وقاهريهم ومستغليهم أيما كانوا، وبرغم كل تلك الظروف الصعبة التى يسهل فيها ابتزازه باسم التناقض الرئيسى والتناقض الثانوى ، وباسم أولوية القضايا الوطنية والقومية على القضايا الطبقية والاجتماعية، نجده يطرح وبقوة وجراءة يحسد عليها البديل البروليتارى بأبعاده الإنسانية والأممية فى مواجهة البرجوازية ككل محلية كانت أو عالمية، ويعلى من الصراع الاجتماعى والطبقى فوق كل صراع، وتنعكس تلك الرؤية فى أشكال المقاومة الفعالة التى يمارسها هذا التيار الآن ضد النظام القائم فى العراق، و ضد العدو البرجوازى بكل معسكراته العالمية والمحلية المتصارعة التى لا يسمح لنفسه بالانحياز أو التعاطف أو التحالف مع بعضها ضد بعضها الآخر، برغم التعتيم على نشاطه وتجاهله.
ولكن ذلك النوع من المقاومة للأسف لا يحظى باهتمام اليسار البرجوازى وأجهزة الإعلام، فمنذ اللحظة الأولى بعد سقوط النظام البعثى الفاشى فى العراق ، قاد هذا التيار تشكيل اتحاد العاطلين العراقيين ، وتشكيل مجالس ونقابات عمالية فى العديد من المصانع والمدن العراقية ، وقاد تحركات جماهيرية سلمية من أجل تحقيق بعض المطالب الجماهيرية، وساهم فى حملة قانون الأحوال الشخصية والدفاع عن حقوق المرأة العراقية على سبيل المثال لا الحصر، وغيرها من قضايا الصراع الاجتماعى والطبقى الفعلية، ومازال هذا التيار يعارض وبقوة مجلس الحكم الانتقالى بتركيبته الطائفية، ويعارض الاحتلال كما يعارض المقاومة القومية والدينية سواء بسواء، وهو لهذه الأسباب وليس لغيرها حقق وجودا متميزا حتى ولو كان محدودا حتى الآن على الساحة السياسية العراقية الراهنة رغم كل الصعوبات الواقعية التى تواجهه .
فياليت يسارنا الذى يحصر اهتمامه فى القضايا العظمى فى فلسطين والعراق و التى لا يملك إزاءها إلا المظاهرات والهتافات والبيانات التى لا تقدم ولا تؤخر طالما ظل بعيدا عن ميدان المعركة، والذى يتماهى مع الوطنية والوطن والوطنيين، دون تفرد أو تميز، أن يتعلم من هذا النموذج.

ما هو الزائف ؟ و ما هو الحقيقى؟ فى"الإمبريالية"

ما هو الزائف ؟ و ما هو الحقيقى؟ فى"الإمبريالية"
سامح سعيد عبود
حتى نزيل الغموض من حول مصطلح الإمبريالية، علينا أن نترجمه إلى معناه باللغة العربية و هو "الإمبراطورية"، و من هنا يمكن أن نفهم الإمبراطورية " الإمبريالية " بأنها توسع فى هيمنة إحدى مؤسسات السلطة فى المجتمع البشرى، تلك المؤسسات التى تسيطر على إحدى أو كل مصادر السلطة المادية، وهى الثروة المادية والعنف المادى والعنف المعنوى ووسائل المعرفة، فمن يسيطر على مصادر واسعة للسلطة المادية يصبح إمبراطورية قد تكون عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية.
الإمبراطورية هى إمكانية قائمة و كامنة لدى كل مؤسسات السلطة المختلفة إلا أنها تصبح واقعا ماديا ملموسا عندما تستطيع بعض هذه المؤسسات أن توسع من سيطرتها على مصادر السلطة المادية سواء أكانت الثروة أو العنف أو المعرفة لتحقق تضخمها الذى يمنحها صفة الإمبراطورية تمييزا لها عن المؤسسات الأخرى التى فشلت فى تحقيق هذا التوسع، و عملية التحول لإمبراطورية غالبا ما تكون بالاستيلاء على ما تحوزه المؤسسات الأخرى المنافسة لها من مصادر للسلطة المادية، و التى تفترسها المؤسسات المنتصرة لتصبح جزءا من الإمبراطورية.
الإمبراطورية هى نتيجة لصراع بين متنافسين لديهم نفس الإمكانية فى التحول لإمبراطورية، و عبر الصراع فيما بينهم فأن بعضهم يحقق انتصارا ليصبح إمبراطورية، والآخر تلحق به الهزيمة، فيموت أو يتم ابتلاعه من المنتصر، و هذا يحتمل كافة أشكال الصراع من الحروب والمؤمرات والغزو ..الخ ، هكذا تحولت مؤسسة سلطة سياسية كانت مجرد دولة مدينة كروما لدولة إمبراطورية هائلة حول البحر المتوسط، وهكذا أسست جيوش المغول والعرب والترك إمبراطورياتها، وليست عملية التحول لإمبراطورية قاصرة على الدول باعتبارها مؤسسات السلطة السياسية العامة التى تحتكر العنف فى المجتمع البشرى، إلا أن المؤسسات الرأسمالية باعتبارها مؤسسات سلطة اقتصادية فيما يتعلق بالإنتاج المادى ، والمؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية أيضا فى مجال ممارسة سلطتها المعرفية عبر تشكيل الوعى الاجتماعى تتحول لإمبراطوريات ، فكما لدينا إمبراطوريات الكوكا كولا والماكروسوفت كأمبراطوريات اقتصادية، فلدينا إمبراطوريات الCNN و مردوخ كأمبراطوريات معرفية.
الإمبراطورية هى ميل غريزى لدى كل مؤسسات السلطة البشرية، و من ثم فهى ميل غريزى أيضا للمشروع الرأسمالى الذى لا يهدف سوى للربح على حساب قوة العمل، وعلى حساب المشاريع الرأسمالية المنافسة له، و هذا الميل الغريزى لا يمكن فصله عن المشروع الرأسمالى الذى يتصف به، كما لا يمكن فصل الجوع كغريزة عن الكائن الحى، ومن ثم فلا يمكن فصل الميل الغريزى نحو التحول لإمبراطورية عن أى مؤسسة رأسمالية سياسية أو اقتصادية، فمن هذا الفصل تحديدا ينبع الاستخدام الزائف لمصطلح الإمبريالية، و من ثم التحدث عن الإمبريالية كما لو كانت شيئا مختلفا عن الرأسمالية كنمط إنتاج و كحضارة، فنحن لا نقول جوع الأسد أكل الغزال، ولكن نقول الأسد أكل الغزال بسبب جوعه.
الفصل ما بين الإمبراطورية والرأسمالية يخلق سلسلة من الأوهام حول إمكانية وجود رأسمالية بدون إمبريالية، أو أن الإمبريالية ظاهرة مستقلة عن الرأسمالية، أو أن الإمبريالية هى مجرد مرحلة عليا فى التطور الرأسمالى كما افترض لينين، أو أن الإمبريالية هى مجرد غزو واحتلال عسكرى بهدف الهيمنة على المستعمرات ونهبها، والحقيقة أن الميل الإمبراطورى للرأسمالية كحضارة أدى لصراعات حادة بدءا من الحروب العسكرية إلى الحروب التجارية، داخل كل مجتمع محلى، وعلى النطاق العالمى أيضا،على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بين مؤسسات السلطة الرأسمالية المختلفة والمتنافسه،سواء أكانت دول أو جيوش أو مشاريع رأسمالية ، وعبر هذا الصراع بين المتنافسين تم ابتلاع المهزومين الضعفاء و الأكثر تخلفا، و تم توسيع مجال سيطرة المنتصرين الأقوياء و الأكثر تقدما، مشكلين فى النهاية إمبراطورياتهم ، وانتهى هذا الصراع فى لحظة منه إلى تحول الرأسمالية من مجرد نمط انتاج محصور فى بعض مدن غرب أوروبا إلى حضارة واحدة عالمية عبر الكوكب بأسره، و لأول مرة فى التاريخ اندمج كل البشر فى نظام عالمى واحد يتم فيه انتزاع فائض القيمة من قوة العمل على نطاق عالمى، وهذا هو أحد أهم انجازات الرأسمالية تقدما، والذى ما كان ليحدث لولا ميلها الإمبراطورى تحديدا.
الميل الإمبراطورى للمؤسسات الرأسمالية المختلفة يخلق صراعات ثانوية فيما بين مؤسسات السلطة، فيتنافس أصحاب مصانع النسيج فى انجلترا فيما بينهم كما يتنافسون مع أصحاب مصانع النسيج فى مصر من أجل الحصول على قسم أكبر من السوق،ويستخدم أصحاب مصانع النسيج دولهم لكى تدعمهم فى تلك المنافسة،فتمارس الغزو العسكرى والحماية الجمركية وغيرها من الأساليب، وينتهى الأمر بخروج بعض أصحاب مصانع النسيج من حلبة المنافسة، وفى نفس الوقت تتضخم ثروات البعض الآخر، ولو تأملنا النتيجة سنجد أن من يستمر وتضخم ثروته هو الأكثر استخداما لقوى أكثر تقدما فى الإنتاج..إلا أن الصراع الجوهرى القائم هو بين هؤلاء الرأسماليين وبين العمال فى كلا البلدين، ذلك أن أرباح كل هؤلاء الرأسماليين بصرف النظر عن جنسياتهم و بلدانهم تأتى من انتزاع فائض القيمة من العمال بصرف النظر عن جنسياتهم، وهذا هو جوهر الاستغلال الرأسمالى.وليس على العمال فى أى بلد الانحياز لطرف ضد طرف آخر فى هذه الصراعات الثانوية، فمصلحتهم المؤكدة هى فى التخلص منهم جميعا. والصراع الذى يجب أن يعنيهم بحق هو الصراع الأساسى فيما بينهم وبين مؤسسات السلطة التى تقهرهم وتستغلهم.
الفصل الزائف ما بين الإمبراطورية والرأسمالية هو الذى أدخل سلسلة من المفاهيم البرجوازية فى الحركة العمالية العالمية مثل مفاهيم التحرر الوطنى والتنمية المستقلة و أكذوبة البرجوازيات الوطنية المعادية للإمبريالية، تلك البرجوازيات المحلية التى يفترض أصحاب تلك المفاهيم أنه يجب أن تتحالف معها الطبقة العاملة المحلية كمرحلة أولى فى طريق تحررها، والخدعة الجلية فى تلك الترسانة من المفاهيم ، هو أن تلك البرجوازيات الوطنية المحلية والموصوفة أيضا لدى البعض بالتقدمية رغم تخلفها وضعفها غالبا، تريد الاستقواء بطبقتها العاملة المحلية فى مواجهة منافسيها من الرأسماليين الأجانب لا غير على أساس عشائرى، ومن ثم خلقت هذه المفاهيم وروجت لها كى تنفرد وحدها باستغلال وقهر الطبقة العاملة المحلية، فاستطاعت أن تخدع العمال باسم الوطنية والقومية وغيرها، ليكونوا مجرد وقود فى حروبها ضد منافسيها. و بالتالى تأجيل أو طمس أو تشوية الصراع الطبقى، ومن المؤكد أن من يحمل هذه المفاهيم و يروج لها بين العمال إنما يعبر عن مصالح البورجوازيات والبيروقراطيات المحلية لا مصلحة الطبقة العاملة.
مثل هذه المفاهيم تتجاهل أن أى مطعم صغير فى أى بلدة لديه نفس الميل الغريزى الإمبراطورى الذى لسلسلة مطاعم ماكدونالدز، إلا أن المطعم الصغير عاجز فقط عن إشباع غريزته فى التوسع على حساب أصحاب المطاعم الأخرى المنافسين. و عاجز بسبب تخلفه و صغره وضعفه عن منافسة سلسلة مطاعم ماكدونالدز، و هى مشكلة تخص صاحب المطعم فقط ، لا مشكلة العامل فى المطعم الذى قد يفضل العمل فى سلسلة مطاعم ماكدونالدز لو اتيحت له الفرصة لما قد يحصل عليه من شروط عمل أفضل لديها، فهو فى كل الأحوال يتم استغلاله وقهره، إلا أن شروط العمل تختلف من صاحب عمل لصاحب عمل آخر، وهذا هو محل تفضيلات العامل لو اتيحت له فرصة اختيار العمل الذى يرغبه، و هذا أيضا محل تفضيلات المستهلك الذى قد يفضل الأكل فى سلسلة مطاعم ماكدونالدز طالما كانت تبيع له بضائع أرخص وأفضل مما تبيعه المطاعم المحلية.
مثل هذه المفاهيم تتجاهل ما عانته الطبقات العاملة المحلية على يد برجوازيتها أو بيروقراطيتها المحلية فى عهد الاستقلال الوطنى ما بعد الحرب العالمية الثانية من نهب واستغلال وقهر فاق بمراحل ما عانته تلك الطبقات تحت سلطة الدول الاستعمارية المباشرة، فقد تحول ضباط الصف الوطنيين فى جيوش الاحتلال البلجيكى والأنجليزى والفرنسى على الترتيب "موبوتو وعيدى أمين وبوكاسا" إلى رموز للثراء الفاحش وسط مظاهر بؤس شعوبهم المدقع، بسبب توليهم للسلطة الوطنية المستقلة فى الكونغو وأوغندا وأفريقيا الوسطى، و قتل ونكل البعثيين بالملايين من العراقيين و السوريين أكثر بكثير مما قتل ونكل الانجليز والفرنسيين على الترتيب من العراقيين و السوريين فى العراق وسوريا فى فترة احتلالهما لتلك البلاد.
مثل هذه المفاهيم التى تبرز فحسب ما فعله الاستعماريين فقط من استرقاق للزنوج وإبادة للهنود الحمر وغيرها من الجرائم فى إطار عملية التوسع الرأسمالى ، تتجاهل أن ماعاناه هؤلاء عانته أيضا البروليتاريا البريطانية نفسها فى عهد الثورة الصناعية فى انجلترا حيث مارست الرأسمالية الانجليزية و دولتها وحتى قرب نهاية القرن التاسع عشر أبشع أشكال القهر والاستغلال فى مواجهة البروليتاريا البريطانية، ومنها إصدارها قوانين اعدام المشردين أو جمعهم وترحيلهم قسرا لبلاد العالم الجديد وحشدهم فى حروبها وتجنيدهم فى المستعمرات، ويذكر مورس دوب فى كتاب دراسات فى تطور الرأسمالية "إن هذه الفترة تعد من أسوء الفترات التى عانى منها العمال الذين كانوا لا يكادون يجدون ما يسترون به عوراتهم وكانوا يعيشون فى حالة بؤس مخيف" وهو ما وصفه أنجلز أيضا على نحو مفصل فى كتابه حالة الطبقة العاملة فى انجلترا حيث كان العمال وفقا لوصفه فى منتصف القرن التاسع عشر "لايرتدون سوى الملابس القديمة و لايأكلون سوى البطاطس ولا يعيشون سوى فى الأكواخ القذرة المزدحمة". و هو ما تحدث عنه ماركس على نحو أكثر تفصيلا فى رأس المال. ولا شك أن ما حققته الطبقة العاملة فى القرن العشرين وخصوصا فى أوروبا وأمريكا الشمالية من مكاسب و حقوق وحريات ما كان ليتم لولا النضال البطولى للطبقة العاملة هناك ضد رأسماليتها المحلية. فحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن للعمال حق الانتخاب والترشيح فى البلاد الرأسمالية، وفى القرن التاسع عشر كان يتم اعدام القادة النقابيين وقادة الاضرابات العمالية، وكان العمال و مازالوا يساقون فى الحروب بين الدول الرأسمالية المتنافسة على مناطق النفوذ، مخدوعين أحيانا إلا أنهم مضطرون غالبا. كما أن جيوش الاحتلال كانت تضم الكثير من المجندين من شعوب المستعمرات، الهنود فى الجيش الانجليزى ، المغاربة فى الجيش الفرنسي.وما حصل عليه العمال فى البلاد المتقدمة من بعض الترف فى فترة ربع القرن المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية لا يساوى سوى ثمن رخيص جدا فى مقابل ما قدموه من تضحيات هائلة لصالح رأسمالى بلادهم.
تصف نظرية النظام الرأسمالى العالمى التى اوضحنا معالمها فيما سبق الواقع العالمى فى القرون الخمسة الماضية، على نحو أكثر دقة مما تصفه نظريات التبعية المتأثرة بنظرية لينين حول الإمبريالية، فهى أكثر تمسكا بحقيقة الطابع العالمى لرأسالمال، وبأن العمال لاوطن لهم سوى حيث يعملون ويحصلون على معاشهم، فهى تنظر للعالم من وجهة نظر البروليتاريا المجردة من كل مصادر السلطة المادية،لا من وجهة نظر البرجوازيين الذين يحوزون على مصادر تلك السلطة.

العمال يؤكدون أفضلية إدارتهم للمصانع

العمال يؤكدون أفضلية إدارتهم للمصانع
سامح سعيد عبود
التجربة العملية هى خير الوسائل لحسم الجدل النظرى، وفى الممارسة العملية البرهان الحاسم على صحة أو عدم صحة النظرية،و لاشك أن العمل أفضل من الثرثرة.
أما النظرية فهى أن هناك عالم أفضل يجب النضال من أجله، و أنه ليس ممكنا فحسب بل أنه من الضرورى جدا النضال من أجله أيضا، فبديله الماثل أمامنا هو نهاية البشرية والحضارة بالفناء ، العالم الذى نناضل من أجله عالم منظم دون سلطة منفصلة عن إرادة البشر، عالم بلا رأسماليين أو بيروقراطيين أو سادة، عالم يدير الناس فيه شئونهم الجماعية إدارة ذاتية، عالم قائم على التعاون الطوعى بين البشر وليس على التنافس فيما بينهم، عالم ينتج من أجل تلبية الحاجات الاستعمالية لا بغرض التبادل والربح، إلا أن المتطلعون والمناضلون من أجل هذا العالم متهمون بالخيالية والجنون وعدم الفهم ، ومعرضون للسخرية والإهمال والاستهجان ، قلة جدا من الناس هم من يستمعون بجدية لرؤيتهم للواقع ورؤيتهم لتغييره، وقلة نادرة هم من يناضلون من أجل هذا التغير.
و أما التجربة العملية فهى لعمال مصنع المصابيح الكهربية بمدينة العاشر من رمضان، لتثبت كل ما نحاول إثبات أنه ممكن، و تثبت واقعية كل ما نناضل من أجله، والحقيقة أنها ليست التجربة الوحيدة الآن فى مدينة العاشر من رمضان، فهناك تجربة أخرى لمصنع آخر فى نفس المدينة، لا تتوافر لدى معلومات كافية بشأنها حتى الآن، وهى تجربة تكررت عبر العالم كله طوال تاريخ الطبقة العاملة العالمية آلاف المرات، إلا أنه يتم طمسها وتشويهها ومحاربتها و إفشالها باستمرار بشتى الطرق من قبل الرأسماليين والبيروقراطيين، أصحاب المصلحة فى عدم تحقيقها للنجاح، وذلك لتبرير استمرار وجودهم و سيطرتهم، فهم يعلمون أنه بمجرد يقين العمال كطبقة أنه يمكنهم الاستغناء عن الرأسماليين والبيروقراطيين ، فإن هذا يشكل تهديدا لوجودهم، ولاشك أن نجاح العمال فى إدارة مصانعهم هو إثبات لطفيلية الرأسماليين والبيروقراطيين كطبقة، و لاعقلانية الرأسمالية بأشكالها المختلفة كنمط إنتاج.
عمال مصنع المصابيح الكهربية بمدينة العاشر من رمضان، ليسوا بأى حال من الأحوال أفضل أو أكثر كفاءة أو أعمق وعيا من العمال الروس الذين بادروا بإدارة مصانعهم ذاتيا خلال عامى 1917 و1918 كأحد أهداف ثورتهم عام 1917، ولكن تم قمعهم وتشويه تجربتهم بضراوة خلال السنوات التى تلت الثورة، بحجج شتى منها عدم كفاءتهم الإدارية ، وضرورة خضوعهم لسلطة المدير الواحد الخاضع بدوره لسلطة الدولة السوفيتية المركزية، و ضرورة الالتزام بخطط الدولة السوفيتية من أجل اللحاق بالغرب المتقدم ، وما كان وهم اللحاق بالغرب المتقدم الذى ثبت زيفه وخطورته بعد 75 عاما إلا لتبرير مصالح البيروقراطية الروسية فى نهب وقهر العمال الذين عجزوا على استمرار إدارتهم الذاتية لمصانعهم لأسباب عديدة ليس من بينها تحديدا عدم كفاءتهم فى إدارة مصانعهم ،تلك الكفاءة التى لم تعطى الفرصة كاملة لتختبر فى الأصل ، وما كان كل هذا الدجل الذى بيع للعالم كله باسم الاشتراكية الواقعية إلا استمرار لنفس الدجل البرجوازى المدعى لحكمة وواقعية وضرورة استمرار انقسام البشر لمن يأمرون ومن يخضعون للأوامر.
عمال مصنع المصابيح الكهربية فى العاشر من رمضان عمال بسطاء لا يتواجد فيما بينهم على ما اعتقد من يتجاوز وعيه، الوعى الطبقى الأولى إلى وعى طبقى أكثر عمقا وجذرية، إلا أنهم صنعوا دون أى إرشاد من أحد نموذجا عمليا لمجتمع المستقبل الذى نتطلع إليه، و ليؤكدون أننا لسنا مجرد حالمين، بعد أن قدموا البرهان العملى على صحة ما نحمله من رؤية لتغيير العالم دون قصد منهم، فكان بيانهم العملى خيرا من ألف برهان نظرى، ومن هنا تأتى أهمية ما فعلوه.
أنهم انتخبوا تلقائيا لجنة تشغيل من بينهم لإعادة العمل فى مصنعهم وإداراته على مدى العامين ونصف السابقين فى وسط ظروف بالغة الصعوبة، بعد أن قرر مالكه رامى لكح إغلاقه، وذلك بعد أن استولى على أموال البنوك التى بلغت 133مليون جنيه، و التى سبق وأقترضها بضمان المصنع وهرب بهذه الأموال إلى الخارج، تاركا 250 عامل للبطالة، إلا أن هؤلاء العمال أثبتوا أنهم على قدر عالى من الكفاءة والتنظيم مما مكنهم من تشغيل المصنع بل واستطاعوا خلال العامين والنصف السابقين حل الكثير من مشاكل الإنتاج فى المصنع، حتى تم تجاوز أزمته وخسائره وصولا لتحقيق أرباح، كل ذلك دون تدخل من الملياردير الهارب رامى لكح ولا من قبل إدارته التى عينها، و التى اتهمها أحد المهندسين العاملين فى المصنع بأنهم لا يفهمون أى حاجة فى صناعة اللمبات، وقد أجمع العمال على أن رامى لكح وإدارته المعينة من قبله، كانوا يتعمدون تخريب المصنع وخسارته، مؤكدين ذلك بعشرات الوقائع، حتى قام رامى لكح بإصدار قرار بفصل جميع العمال وإغلاق المصنع قبل هربه للخارج.
وجد أكثر من 250 عامل ما بين يدوى وذهنى أنفسهم وأسرهم بلا أى مورد رزق، هؤلاء هم من بقوا صامدين بعد التصفية التدريجية لأعمال المصنع من أصل 600 عامل بالمصنع، فقاموا بكل الإجراءات القانونية مثل تقديم الشكاوى لمكتب العمل التى لم تؤد لنتيجة، فقرروا الاعتصام فى قصر رامى لكح القريب من منزل الرئيس حسنى مبارك، مما وضع أجهزة الأمن فى ورطة محرجة كان يجب التخلص منها بأسرع ما يمكن، خصوصا بعد فشل التهديد بفض الاعتصام بالقوة فى أن يثنى العمال عن الاعتصام، فصرفوا للعمال مبلغ من صندوق الطوارىء، كما تم الضغط على رامى لكح فأعطى العمال ما قيمته ربع أجرهم الشهري، وهو مبلغ 55ألف جنيه، مقابل ترك القصر والذهاب للمصنع والبقاء داخله، وعدم مغادرة مدينة العاشر من رمضان للقاهرة، وقرر العمال جميعا عندما عادوا للمصنع إعادة تشغيل المصنع بهذا المبلغ بدلا من توزيعه كأجور فيما بينهم، وانتخبوا لجنة لتشغيل المصنع من ثلاث أشخاص رشحهم أعضاء اللجنة الإدارية النقابية بالمصنع، وفوض كل مختص بأداء مهام اختصاصه الفنية، و قرروا فى اجتماعهم شراء خامات للتشغيل بالمبلغ المتاح لديهم، كما قرروا بيع خردة ومهملات ومنتجات موجودة بمخازن المصنع بمبلغ 600000 ألف جنية ،وأعادوا تدوير المصنع مرة أخرى بعد توقفه لشهور طويلة حولته لخرابة أخذت ترتع فيها الفئران،وعلت آلاته الأتربة التى أخذ جميع العاملين فى إزالتها بملابسهم.
وفى سياق ذلك واجهوا العديد من المشاكل الضخمة التى هددت إمكانية تشغيلهم للمصنع والاستمرار فى تجربتهم ، وذلك بالكثير من الإبداع والتضحية والصلابة، وتحمل الجميع للمسئولية على قدم المساواة، كما أخبرنا بذلك ممثلو لجنة تشغيل المصنع فى الندوة التى عقدت لعرض تجربتهم ومناقشتها بمركز الدراسات الاشتراكية يوم الخميس 22 إبريل 2004.
على سبيل المثال أنه لا يوجد لأى أحد منهم الحق القانونى فى إدارة التشغيل، وبالتالى فليس لأحد منهم الحق فى الائتمان من البنوك سواء بالاقتراض أو الإيداع أو السحب ، فلم تعطى أى جهة رسمية لهم أى أوراق تثبت حقهم القانونى فى الإدارة، فأجهزة الأمن قد تركتهم وشأنهم فقط تفاديا لاضطرابات هى فى غنى عنها.
ولأنهم يستوردون 70% من مكونات الإنتاج من الخارج فأنهم يحاسبون على ما يتم استيراده على أنها سلع مستوردة للتجارة مما يحرمهم من ميزة الإعفاءات الجمركية على مستلزمات الإنتاج، وهو ما يزيد من تكلفة المنتج، ويقلل من الأرباح وبالتالى من المرتبات. فضلا عن أنهم ليس لديهم موارد مالية حتى يستطيعوا شراء ما يلزمهم بالجملة لمدة شهرين لتقليل التكلفة وعمل عمرة للمصنع.
بالإضافة للتهديد المستمر من قبل التأمينات والضرائب بالغلق لعدم سداد التزامات المصنع قبلهما، و كذلك هيئات المرافق المختلفة كالكهرباء والمياه والغاز بسبب عدم سداد فواتير الاستهلاك ، وقد واجهوا مشكلة زيادة استهلاك الكهرباء بابتكار وسائل للتبريد قام بها مهندسون و فنيون بالمصنع الأمر الذى وفر الكثير من استهلاك الكهرباء، و حفروا بئر ارتوازى لجلب المياه الضرورية لاستخدامات المصنع، وتغلبوا على مصاعب عدم توفر قطع الغيار وبعض مستلزمات الإنتاج داخل المعمل والورش بإنتاج قطع غيار ومواد بديلة حتى يوفروا ثمن استيرادها، كما واجهوا تسرب العمالة الفنية المدربة وقلتها، فكانوا يضعون كل فنى فى وسط مجموعة من العمال غير المدربين جيدا لكى يقوم بتدريبهم، ويقوم الآن بإدارة فرن الزجاج الخاص بالمصنع الذى كان يعمل به عشر مهندسين اثنان فقط من الكيميائيين ، واللذان قاما بتشغيله لإنتاج أحد مكونات مواد النظافة من نفس خامات صناعة الزجاج و بيعها لمصانع المنظفات.
اعترف أعضاء اللجنة بأن بداية التجربة شهدت درجة من الفوضى والتسيب من قبل العمال، ثم استجاب العمال للنظام والانتظام تدريجيا عندما تأكدوا أنهم يعملون لصالحهم، وأنهم لو لم يلتزموا بالعمل الجاد والنظام فأنهم لن يجدوا ما يقبضوه آخر الشهر، فأخذ العمال يستجيبون تلقائيا لتعليمات وتوجيهات المختصين والأكثر خبرة، ويتحملون تطوعا الكثير من الأعباء خارج اختصاصهم والمهام الملقاة على عاتقهم، و تطوعوا بالكثير من الأعمال كل وفق قدراته وإمكانياته، بدءا من أعمال نظافة المصنع وحراسته، وحتى البحث عن مشترين لمنتجات المصنع، وتوفير العملة الصعبة اللازمة لاستيراد مستلزمات الإنتاج، وأخذوا يتبادلون الخبرات والمعلومات المختلفة التى تخص عمليات إدارة المصنع وتشغيله فى عملية تعليم مستمر تنتقل فيها المعارف فيما بينهم، وهو ما ضاعف من إنتاجيتهم فى النهاية، وزادت مهارتهم و تنوعت خبراتهم، بأكثر مما كان عليه الحال وقت الإدارات السابقة والملاك السابقين للمصنع الشريف لتوظيف الأموال ثم علاء السيد و أخيرا رامى لكح مرورا بالنائب العام بين الثلاث ملاك السابقين.
فقد قرر كل العاملين بالمصنع من البداية، أن لا يوجد بينهم مدير وعامل، وذلك بدءا من المسئول المالى الحاصل على ماجستير فى المحاسبة، وحتى العمالة المعاونة، فالجميع متساوون فى تحمل المسئولية، والجميع يحصلون على أجور متساوية بناء على ذلك بما فى ذلك أعضاء لجنة التشغيل، أما لجنة التشغيل فهى ملزمة بتقديم تقرير شامل عن أحوال المصنع أمام الاجتماع العام للعمال الذى يعقد مرة كل شهر، والذى يتخذ القرارات الإدارية التى تخص المصنع ديمقراطيا، التى تلتزم بتنفيذها لجنة التشغيل، والجميع يعرفون ما هو ملقى علي عاتق كل منهم من مهام ومسئوليات سواء وفق اختصاصهم الفنى أو وفق مسئوليتهم الجماعية عن نجاح المصنع، وسعيهم المشترك من أجل تحقيقه للأرباح، مما قلل من استخدام لجنة التشغيل للائحة الجزاءات لأقصى حد تدريجيا، وذلك عندما اعتاد العمال على الأوضاع الجديدة التى تحرروا فيها من اغتراب العمل المأجور، فعندما علم كل عامل أنه يعمل لحسابه لا لحساب غيره، أصبح حريصا على توفير الفاقد من الوقت وتفادى إهدار الخامات ومستلزمات الإنتاج لصالح زيادة الإنتاج، و أصبح كل عامل حريص على بذل أقصى جهد ممكن لتحسين المنتج و زيادته.
فى بداية التجربة كان العمال يحصلون على 50% من الأجر الشهرى الذى قرروه لأنفسهم، حتى وصل ما تم قبضه الشهر الماضى لـ 91% من هذا الأجر، وهم يتمنون أن يصلوا ل 100% من قيمة الأجر هذا الشهر، أما ما يحدد ما يتم قبضه من قيمة الأجر فهو هامش الربح الذى يتم تحقيقه بعد تغطية تكاليف الإنتاج، أنهم بدءوا منذ سنتين ونصف بمبلغ 55ألف جنيه فضلا عن خامات فى مخزن المصنع بلغت قيمتها 75 ألف جنيه ، أما ما تم صرفه للعاملين من أجور فهو 3 مليون جنيه حتى الآن خلال عامين ونصف.
ويلخص فى النهاية العمال مطالبهم الحالية فى 1 ـ إعطاء لجنة التشغيل الصفة القانونية فى إدارة المصنع ،2 ـ إعطائهم قرض قيمته 5 مليون جنيه كى يستطيعوا شراء خامات تكفيهم لعمل العمرة اللازمة لفرن الزجاج و آلات المصنع ليعمل بكل طاقته و خطوط إنتاجه المعطلة التى يمكن أن تستوعب 600 عامل آخر، وهم على استعداد لسداد قيمة القرض، و أبدوا استعدادهم للاتفاق مع البنك الدائن أن يعطيهم القرض بأى ضمان حتى ولو تطلب الأمر أن يكون للبنك مراقب مالى فى المصنع لضمان حقه، 3 ـ وكبديل للقرض حل مشكلة تمويل المصنع من عائد مصانع رامى لكح الأخرى كمصنع "فل" المجاور لمصنعهم، طالما مازال مصنع المصابيح الكهربية ملكا له قانونا.
لاشك أن قدرة عمال مصنع المصابيح الكهربائية على تحقيق هذه المطالب، يستدعى وحدتهم الصلبة فى مواجهة كل من أجهزة الدولة والبنك الدائن ورامى لكح وإدارته، لانتزاع أقصى حد ممكن من المطالب، فى ظل توازنات القوى الحالية، التى ليست فى صالح العمال، مع ملاحظة أنه يمكن إنهاء إداراتهم الذاتية بالقوة فى أى وقت، خصوصا أن هناك أنباء قوية ترددت بقرب عودة رامى لكح لمصر بعد تصالحه مع البنك الدائن ومطالبته بتسلم المصنع، وهو ما يهدد استمرار هذه التجربة فى ضوء عدم قانونية وضعهم الحالى، ذلك أنه من المتوقع أن تلجأ إدارة رامى لكح لفرض نفسها لإدارة المصنع، و أن تقوم بحل لجنة التشغيل باعتبارها غير قانونية وفصل أعضاءها الذين يمكن توجيه عشرات الاتهامات الجنائية إليهم، و سيسهل علي رامى لكح الضغط على باقى العمال من أجل أن يتخلوا عن لجنة التشغيل، فى ظل ظروف اقتصادية قاسية يتعرض فيها العمال للبطالة بمعدلات مرتفعة.
أن العمال فى هذا المصنع عليهم أن يعلموا أنهم على وشك الدخول فى معركة شرسة تهون بالنسبة لها معركتهم خلال الثلاث أعوام الماضية، وأنهم لا يملكون إلا التضامن الصلب فيما بينهم كوحدة غير قابلة للتجزئة، وعدم التخلى تحت أى ظروف عن لجنة التشغيل ومطلب منحها الوضع القانونى، فلن يدافع أحد عن مصالحهم إلا هم أنفسهم، بوحدتهم التضامنية فى مواجهة من يهددها، و لن يحافظ أحد على حريتهم التى حصلوا عليها خلال تجربتهم تلك إلا هم أنفسهم بعدم قبول التخلى عنها ليعودوا مجددا لعبودية العمل المأجور.
وفى الختام لا يسعنى إلا الدعوة لحركة تضامن واسعة مع عمال مصنع المصابيح الكهربية، سواء فى مصر أو خارج مصر، ولعل أبسط وسائل التضامن مع عمال المصابيح الكهربية هو نشر قصة نضالهم ونجاحهم على أوسع نطاق ممكن بشتى الوسائل الممكنة، وإرسال رسائل تضامن لهم تشد على أياديهم طالبة منهم الصمود وانتزاع أقصى ما يمكن من المطالب فى مواجهة الدولة ورامى لكح والبنك الدائن، ربما يمكن للبعض أن يمارس أيضا أشكال أقوى من التضامن كالاضرابات و الاعتصامات التضامنية، كى يعلم هؤلاء العمال المتحررون حديثا أنهم ليسوا بمفردهم فى هذا العالم.

العاملين بأجر فى القطاع الخاص والتغيير

العاملين بأجر فى القطاع الخاص والتغيير
سامح سعيد عبود
بلغ إجمالي قوة العمل فى مصر في أول يناير من العام الحالي ما يزيد عن‏20‏ مليونا‏,‏ و بلغ عدد المشتغلين في القطاع الحكومي نحو ‏5 ‏ ملايين، ونسبتهم من إجمالى عدد العاملين بأجر غير معرضة للزيادة فى ضوء سياسة تقليص التعينات بالحكومة،‏ وعدد المشتغلين في قطاع الأعمال العام يقرب من نصف مليون فرد، و هم يتقلصون باستمرار مع عمليات الخصخصة، وفي القطاع الخاص داخل المنشئات‏ يبلغ عدد العاملين المؤمن عليهم نحو‏5‏ ملايين وفق الاحصائيات الرسمية، و نسبتهم تتزايد مع تصاعد كل من عمليات الخصخصة والاستثمار الخاص، والحقيقة أن الكثير من العمالة المنظمة فى القطاع الخاص غير مؤمن عليها، ومن ثم لا يتضح حجمها الحقيقى من الاحصائيات الرسمية، أما عدد العاملين بالقطاع الخاص خارج المنشآت أى العمالة غير المنظمة، فقد بلغوا نحو ‏7‏ ملايين وفق الاحصائيات الرسمية، ولكن يمكن أن يكون العدد أكبر بكثير فى ضوء انتشار عمالة الأطفال، واتساع حجم الاقتصاد غير الرسمى، وينقسم العاملين بأجر حسب القطاعات التى يعملون بها إلى 50% يعملون فى التجارة والخدمات، و19% يعملون قى الصناعة، و31% يعملون فى الزراعة‏. وهذه الاحصائيات يمكن فهمها فى سياق تطور تكوين الطبقة العاملة فى مصر والعالم ،حيث تشهد المرحلة الحالية من التطور الرأسمالى عالميا ومحليا تزايد البطالة والتهميش عموما لمعدلات عالية جدا، كما تشهد تقلص كل من العمالة المستقرة و العمالة المنظمة بالنسبة للحجم الإجمالى للعاملين بأجر، و فى نفس الوقت اتساع حجم كل من العمالة غير المستقرة و غير المنظمة، وإذا كانت الفترة السابقة فى التطور الرأسمالى شهدت سيادة وحدات عمل كثيفة العمالة فإن التطورات الحديثة، تشهد سيادة وحدات عمل قليلة العمالة. وقد ترتب على ذلك أن أصبح عدد العمال فى معظم الوحدات أقل من خمسين عاملا درءا لوجود تنظيمات نقابية. أما بقية الأعمال المساعدة للإنتاج كالخدمات الإدارية، والتسويقية، والحراسة، والنقل فيتم اللجوء إليها بنظام "المهمة"، عبر شركات أو مقاولين ، و تشهد نفس المرحلة تصاعد نسبة من يعملون من منازلهم، وإذا كانت الفترة السابقة قد شهدت تضخم حجم العمالة الصناعية إلا أن الفترة الحالية تشهد تقلصها لصالح تضخم العمالة فى الخدمات والتجارة، مع ثبات نسبى فى عمال الزراعة، ففى مصر عام 86 كان عمال كل من الصناعة والزراعة يبلغ كل منهم 30% فى حين بلغ عمال التجارة والخدمات 40%، كل هذه الظروف الموضوعية أضرت بقدرة الطبقة العاملة عامة على تنظيم نفسها فى إطار النضال الاقتصادى، واضعفت تأثيرها السياسى.فى هذا المقال سيتم التركيز على العمالة المنظمة فى القطاع الخاص، وذلك لأنهم غالبا أكثر تعليما من العاملين بالقطاع غير المنظم، حيث يتركز النشاط المنظم فى قطاع الصناعة التى تحتاج لعمالة أكثر تعلما من عمالة القطاع غير المنظم فى الزراعة والخدمات، ويلاحظ من الاحصائيات نشوء جيل جديد من العمال فى القطاع الخاص الصناعى فى المدن الجديدة (يقدر البعض عددهم بما يقرب من ربع مليون عامل) أقرب إلى العمال ذوى الياقات البيضاء، غالبا من المهندسين، وخريجي الكليات والمعاهد التكنولوجية العالية والمتوسطة، وهم فى نفس الوقت أكثر شبابا فى الغالب من العاملين بقطاع الأعمال العام والحكومة التى توقفت بهما التعينات أو تقلصت إلى حد كبير، والسمة الأخرى الأكثر أهمية التى تميزهم عن عمال الحكومة و عمال قطاع الأعمال العام أنهم أكثر بلترة فهم مجردين أكثر من الملكية الخاصة الصغيرة على عكس العمالة القديمة فى القطاع العام ذات الأصول الريفية والمرتبطة بأنماط التملك البرجوازى الصغير فى الريف والمدن، والمرتبطين بعائلاتهم الريفية الممتدة، وامتدادا لهذا فأن أصول معظم هؤلاء ترجع للمدينة و لأسر عمالية بعكس العمالة القديمة فى القطاع العام التى كانت ترجع أصول معظمهم للريف و لأسر فلاحية، و العاملين بأجر فى القطاع الخاص فى إطار علاقات العمل يخضعون لعقود عمل يمكن أن تخضع شروطها للمساومة الجماعية مع أصحاب العمل،على عكس عمال قطاع الأعمال العام والحكومة الخاضعين لقواعد قانونية فى علاقات العمل التى تمنع المساومة الجماعية بين الدولة والعاملين لديها، هذه هى الجوانب الايجابية التى يتميزون بها عن العاملين بالحكومة وقطاع الأعمال العام إلا أن الجانب السلبى يتجلى فى أن خبراتهم النضالية محدودة وهم فى الغالب الأعم غير مؤطرين نقابيا وسياسيا، حيث يقول محمد عبد العظيم قائد نقابى من مصنع السامولى بالمحلة الكبرى "أنه لا توجد لجنة نقابية لأى مصنع قطاع خاص بالمحلة سوى فى مصنع واحد فقط هو مصنع السامولى، كما أن عدد عمال القطاع الخاص أكثر من 225000 عامل فى حين أن عدد العاملين فى قطاع الأعمال العام فى المحلة يبلغ نحو 27000"، وفى ضوء البطالة المستشرية يخضع العاملين فى القطاع الخاص لظروف عمل قاسية فالمرتبات منخفضة غالبا إلا فى بعض القطاعات و الوحدات القليلة، كفروع الشركات متعدية الجنسية، إلا أنهم فى كل الأحوال يعملون عدد ساعات عمل تتجاوز العشر ساعات يوميا غالبا ، فيقول محمد مصطفى عامل بأحد مصانع الغزل بالمحلة "إننا نعمل من 8 صباحا حتى ستة مساء ونحصل على راتب يومى 8 جنية "، أما محمد على منصور بتريكو الصياد بالمحلة "فيعمل من 8 صباحا إلى 6مساءا و أجره الشهرى 140 جنية والراتب الأساسى الذى ورد بالعقد 87 جنية، و يشير إلى أن هناك مصانع أخرى تعمل من 7 صباحا إلى 7 مساءا" ويشير محمد عبد العظيم أيضا إلى "أن معظم العمال فى المحلة خارج مظلة التأمينات ولكن كلهم أجورهم الفعلية أضعاف ما هو مثبت فى التأمينات".هناك بعض التشكيلات العمالية تحاول صياغة موقف سياسى للتغيير من وجهة نظر العمال مثل اللجنة التنسيقية للحقوق والحريات النقابية التى أصدر مؤتمرها الثانى (العمال والتغيير) فى 27/5 / 2005 بيانا بشأن رؤية العمال فى التغيير السياسى فى مصر، و كان أكثر البيانات جذرية التى صدرت فى مصر بهذا الخصوص حيث تضمن برنامجه مطالب الحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما طرح مطالب ديمقراطية المشاركة على جدول الإصلاح السياسى و التى تتجاوز كثيرا مطالب حركات التغيير الأخرى مثل كفاية والحملة و التحالف، وقد جاء فيه" يرى العمال أن الديموقراطية لن تكون سوى ثرثرات فارغة في أروقة البرلمان، أو أداة لتسوية الخلافات بين أجنحة الطبقة الحاكمة، ما لم تقترن بتوسيع حدودها، بالنضال من أجل المطالب الاجتماعية للعمال والكادحين الذين يمثلون الأغلبية الساحقة من الشعب "، إلا أنه على الجانب الآخر وبعيدا عن الطابع الطليعى للبيان الذى يعبر عن عمال مؤدلجين سياسيا، فإن كل التحركات الاحتجاجية فى وحدات العمل لا علاقة لها بالسياسة بالمعنى المباشر، وإنما لها علاقة بالأجر وتكاليف المعيشة وتعامل الإدارة المهين وظروف العمل العبودية كما أن فكرة التضامن العمالى بين عمال الوحدات المختلفة مازلت ضعيفة وجنينية بسبب عدم وجود نقابات فى معظم المصانع ، كما لا يوجد وعى نقابى كافى عند الكثير من العمال، إلا أنه وحتى تكتمل الصورة لدينا يجدر بنا أن نشير أن بعض المناطق العمالية شهدت بؤر احتجاج عمالى وتجارب نضالية تؤدى لاستنتاج مختلف عما سبق مثل تجربة عمال الاسبستوس وتجربة الإدارة الذاتية فى مصنع المصابيح الكهربائية بالعاشر من رمضان ، و هذا التباين قد يعد مؤشرا إلى اختلاف أوضاع العمال فى منطقة عمالية قديمة كالمحلة، والعمال فى منطقة جديدة كمدينة العاشر من رمضان. ولعله مما يلفت نظر المراقب للحالة العمالية فى مصر هى أن هناك دائما تصور سائد إعلاميا أن سائقى الميكروباصات مجموعة من الصيع والحشاشين، ولكن كفاح رابطة سائقى الميكروباص بالأسكندرية دليل كبير على تطور فى وعى ونوعية سائقى الميكروباصات بوضعهم كمجموعة ذات مصالح موحدة.باستطلاع أراء العديد من العاملين بأجر غير المؤدلجين سياسيا أتضح لنا أن العامل العادى غير مهتم بالنظام القائم إلا فى إطار قدرة هذا النظام على توفير احتياجاته الأولية، وهو لا يهتم كثيرا بطبيعة ملكية المؤسسة التى يعمل بها سواء أكانت عامة أم خاصة، ربما لأن لديه وعى طبقى فطرى بأنه فى الحالتين مستغل، ومن هنا فإن ما يهمه بالفعل هو تحسين شروط الاستغلال مادام لا يستطيع القضاء عليه، فالعامل الذى لم تلوث عقله أفكار دولة الرعاية الأبوية، يهتم بأوضاعه المعيشية وأوضاع العمل والمكاسب التى يمكن أن تتحقق فى أى نظام، وهو ما أكده مثلا سيد عبد الرحيم الذى يعمل حاليا بمصنع قطاع خاص فى السادس من أكتوبر بعد أن ترك شركة الكراكات و هى إحدى شركات قطاع الأعمال العام "أنه يفضل العمل فى القطاع العام للإمتيازات التى كان يحصل عليها من خلاله ولكن ليس لشكل الملكية".الاستنتاج الثانى أن العاملين بأجر كأى طبقة اجتماعية أخرى تتفاوت فيما بين أفرادها درجات الفهم والثقافة، و كما تتباين نوعيات الاهتمام، فالقليل من العاملين بأجر من يهتم بالسياسة بالمعنى المباشر،شأنهم شأن سائر طبقات المجتمع، والأقل بالطبع من هو على استعداد أن يتحول اهتمامه لممارسة سياسية عمليا، و السياسة تأتى عموما فى المرتبة الثانية بعد الاهتمام بمستوى الدخل عند معظمهم، وهم موضوعيا لا يمكن أن يتحركوا من أجل مجرد تغيرات محدودة فى إطار الديمقراطية السياسية، إلا إذا ضمنت لهم تلك الديمقراطية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن الحريات النقابية، وعلى رأسها حق الإضراب و المساومة الجماعية على شروط العمل، و ارتبط ذلك لديهم بتحسن مستوى المعيشة، و هذا ليس هذا مجرد كلام نظرى، فالعاملين بأجر فى إطار صراعهم الطبقى العفوى يمارسون الإضراب ويشكلون النقابات عفويا بصرف النظر عن الشرعية، و بصرف النظر عن وعيهم السياسى واهتمامهم بالسياسة، أو تبنيهم لأيديولوجيات مختلفة ، كما أنهم بالطبع مع عقود عمل تصاغ وفق المساومة الجماعية بينهم وبين أصحاب العمل لا عقود الإذعان الحالية. ومن ثم فاحتياجهم للاعتراف بتلك الحقوق قد يدفعهم للتحرك السياسى.الاستنتاج الثالث أن العاملين بأجر مع الديمقراطية السياسية بشكل عام، وهو ما عبر عنه معظم المستطلع رأيهم فقد تبين لنا أنهم مع الحريات والحقوق الإنسانية كاملة، و مع انتخاب رئيس الجمهورية، وقد اقترح أحدهم محمود الدسوقى عامل فنى بخدمات الستالايت "أن تكون فترة الرئاسة لمدة واحدة و لأقل فترة ممكنة" كما عبر محمد منصور عامل نسيج "أن الحاكم لا يجب أن يكون من الجيش لأنه سيحكم بالحديد والنار بل يجب أن يكون من عامة الشعب ليشعر بمشاعر الناس العاديين والشقيانين"، ولنا فى النهاية ملاحظة ذات صلة هى وإن كان الخبز يشكل محور الاهتمام الجوهرى لدى العمال باعتبارهم مجردين أساسا من الثروة، و خصوصا فى ضوء عدم توفره إلا إن الحرية والكرامة الإنسانية أيضا لها أهميتها لديهم حتى ولو اضطروا لقبول إهدارها إضطرارا، فالكثير من الاحتجاجات العمالية تتم بسبب سوء معاملة الإدارة للعمال، وهذا يشى فى النهاية أن فكرة المستبد العادل أخذت تتلاشى فى وعى الأجيال الشابة من العاملين بأجر.