الأربعاء، 8 أبريل 2009

هيباتيا تسحل من جديد

هيباتيا تسحل من جديد
سامح سعيد عبود

هيباتيا أو هيباشيا هى أول شهيدة للعلم يعرفها التاريخ ، ولدت في الإسكندرية (مصر) حوالي عام 380 ، واغتيلت في مارس 415. وهى عالمة رياضيات ومنطق وفلك وفيلسوفة تنتمى للمدرسة الأفلاطونية الجديدة. و كانت ابنة ثيون آخر زملاء متحف الإسكندرية الملحق بمكتبتها التى احترقت. و قد قام بطريرك الإسكندرية كيرلس الرابع المشهور بعمود الدين بتحريض جماهير من المسيحين المتطرفين على اغتيال هيباتيا حتى هاجت الجماهير وهبت عليها فلحقوا بها خلف عربتها و ألقوها أرضا، و قاموا بتعريتها تماما، وسحلها فى شوارع الأسكندرية حتى أنفصل لحمها عن العظم ثم مثلوا بالجثة وحرقوها. متناسين تسامح موعظة الجبل متذكرين فقط ما ورد على لسان يسوع فى الإنجيل بأنه ما أتى ليلقى سلاما على الأرض بل ليلقى سيفا، وبما جرى على لسان كيرلس بشأنها بأنه باسم الرب عليهم أن يطهروا أرض الرب. فدائما ما كان هناك مثقف كاره للعلم و الحرية معا، و طامع فى التسلط على الناس باسم الدين، مثل سيد قطب أو كيرلس يقتصر دوره على التحريض، تاركا الركن المادى فى جريمته لجماهير الغوغاء من المؤمنين.
كانت جريمة هيباتيا أنها لم ترضخ لسلطة الكنيسة وأساطيرها وكهنتها، و تمسكت بحقها فى العلم، وحريتها فى التفكير والاعتقاد، وإصرارها على عدم مسايرة التيار الظلامى الصاعد بامتداد الإمبراطورية الرومانية، والذى عجزت هى وأمثالها عن مقاومته، مما أدى لسقوط السلطة في سائر الإمبراطورية فى يد الكنيسة المسيحية بعد صراعها الدامى معها، و الكنيسة كأى سلطة على الأرض ما كانت لترضى إلا مضطرة أحيانا، بوجود أى منافس لها فى توجيه عقول الناس، وإن كانت ارتضت أن تتقاسم السلطة السياسية مع الإمبراطور فى النهاية بشرطين أن يخضع لها كى تعطية شرعية الحكم، و أن يساعدها على الانفراد بعقول الجماهير لتخضعهم هى بدورها للإمبراطور، وأن يتقاسما فى النهاية ما تنتجه تلك الجماهير من ثروات كما يتقاسما دماءهم فى الحروب ضد أعداءهم.
كان مصرع هيباتيا المأساوى على يد الكنيسة هو نهاية عصر العلم القديم الذى بدء من طاليس حوالى 700 قبل الميلاد وانتهى بقتلها ، و كان بداية عصر طويل من سيادة الدين المطلقة فى العالم المسيحى ، و الذى بدء انحساره التدريجى هناك بشهيد آخر للعلم هو جوردانو برونو الذى أحرقته حيا محاكم التفتيش الكنسية فى 17 فبراير عام 1600 في روما. حيث كان برونو يعتقد بأن الكون لا نهائي ، و يحتوى على الملايين من الكواكب و المجرات، و بان الأرض مجرد كوكب في الكون و ليست مركز الكون. وهو ما أكده العلم لاحقا. وخلال الأربع قرون التالية لذلك تضاعف عدد الذين لا يؤمنون إلا بالمعرفة العلمية المنضبطة القائمة على المنهج العلمى من بضعة أفراد قلائل فى غرب أوروبا من بين مئات الملايين إلى حوالى 10 % من البشر ، و بلغ اللادينيين الذين لا ينتمون لأى دين منظم حوالى خمس سكان العالم. وذلك وفق أحدث الإحصائيات.
من يطالع تاريخ الحضارة على امتداد الأرض المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، فى صعودها وهبوطها فى ظل الإمبراطورية الرومانية، ويتأمل الوضع العالمى الآن سوف يجد تشابها كبيرا، فنحن مازلنا فى عصر نجاح متصاعد حققه العلم الحديث، ولكنه يواجه خطر السحل مجددا كما واجهته هيباتيا قديما، وإن كان بشكل مختلف، ومن ثم فقد تشهد الإنسانية عصرا جديدا من الظلامية يشير إليه تصاعد الأصوليات الدينية فى العالم مجددا منذ عدة عقود.
صحيح أن ما بلغه العلم من تأثير ونفوذ هائل على البشر لن يمكن أعداءه من القضاء عليه تماما كما حدث للعلم قديما، وخصوصا أن الظلاميون أنفسهم يستفيدون من انجازاته العملية فى التكنولوجيا والطب وخلافه، وإن كانوا لا يعترفون بأسسه النظرية والفكرية، وينكرون كل حقائقه التى تتعارض مع أفكارهم فى نفس الوقت، فنراهم يستفيدون مثلا من الأنترنت والاتصالات والإعلام لتمرير رسائلهم الظلامية للجماهير، فقد تغير تكتيكهم من الاضطهاد والرفض التام للعلم و التكنولوجيا إلى ترويض العلم واستخدامه لخدمة مصالحهم فى السيطرة على الناس و تضليلهم، وهم فى هذا يشوهون العلم ويسحلونه معنويا.
ويتم هذا الترويض و التشويه عبر حصر الثقافة العلمية المنضبطة والجادة فى دوائر العلماء فى إطار وظيفى ونفعى، و تحت ضرورة التخصص التى يسببها التوسع المذهل فى المعرفة العلمية، يتحول العالم لمجرد خبير فى اختصاصه الضيق ليحافظ على مكانته الوظيفية، مع احتفاظه بالجهل العميق خارج تخصصه، إلا من امتلك الإرادة للخروج من هذه الدائرة، أما الجماهير مما لا شأن لهم بالبحث العلمى والتطوير التكنولوجى، فيتم غسيل عقولهم، وإصابتهم بالبلاهة عبر كل من الثقافة الشعبية التى لا تهدف سوى للتسلية ، والتعليم الرسمى المنظم، الذى لا يهدف بدوره إلا لخلق كائنات وظيفية مبرمجة على إداء مهام محددة، ذكية فى أداء وظائفها المطلوبة منها، وغبية فيما هو غير ذلك، وليصبحوا مجرد مستهلكين لإنجازات العلم التكنولوجية كافرين بأصوله الفكرية والنظرية، مما يعنى انغماسهم فى الظلامية الفكرية فى نفس الوقت.
الثقافة الشعبية المبثوثة عبر الصحافة والتليفزيون والأنترنت والكتب المسلية، تمرر للناس عدم الثقة فى العلم ، باذاعتها أخبار متناقضة وغير مؤكدة، فمرة يقولون أن العلم أثبت خطورة البيض على القلب، وأنه وراء تكون الكوليسترول فى الشرايين، ومرة أخرى يحدثونك عن أنه قد ثبت أنه لا علاقة للبيض بالكوليسترول. وتقع فى حيص بيص وتتعامل باستهتار مع حقائق العلم.
يخصص الأثرياء من أنصار الكنيسة في الغرب جوائز مالية كبيرة تفوق في مقدارها جائزة نوبل، تمنح للعالم الذي ينشر أفضل مقال أو بحث يدعي فيه تأييد العلم للدين. وابتداع نظريات تخدم التصور الدينى كنظرية المصمم الذكى ، ولكن هؤلاء لا يتجاوزون حتى الآن حوالى 7 % من العلماء والباحثين، كما تضخ أموال النفط السعودية الهائلة فى جيوب أمثال حاملى درجات علمية مثل زغلول النجار ومصطفى محمود ليثبتوا للعامة من الناس الاعجاز العلمى فى القرآن والسنة. كما يتم تمويل نشر كتابات دجال مثل هارون يحى التى تفند نظريات التطور لتوزيعها مجانا فى طبعات فاخرة على المسلمين فى أوروبا.
مما تشيعه الثقافة الشعبية الظلامية بين الناس تحميل العلم والعلماء مشكلة تعرض الأرض للدمار نتيجة تلويث البيئة، وخطر الأسلحة النووية، وغيرها، فى حين أن تلك المخاطر هى نتيجة سيطرة البيروقراطيات الحاكمة والرأسماليين على العلماء بما يخدم مصالح تلك الطبقات، وإنه فى ظل تحرر العلماء من تلك السيطرة، فإنه يمكن توجيه العلم لتحقيق مصالح الغالبية من البشر، فتمنع صناعة الأسلحة ويتم القضاء على أسباب التلوث.
لكل هذه الأسباب قد ينجح مثقفون كارهون للعلم فى ظل تصاعد الظلامية مجددا فى تحريض المؤمنين بهم لسحل العلماء، ليغوص العالم مرة أخرى فى ظلام القرون الوسطى، ولكيلا يحدث ذلك فعلى العلماء أن يحرروا أنفسهم من سيطرة البيروقراطية والرأسمالية من أجل علم لصالح الإنسانية لا لصالح النخب الحاكمة .
http://www.ahewar.org/m.asp?i=12