الخميس، 7 أكتوبر 2010

قوة الرأسمالية فى مواجهة أزماتها


قوة الرأسمالية فى مواجهة أزماتها
سامح سعيد عبود

تبدلت مظاهر الأزمة الاقتصادية في النظام الرأسمالي مع مرور الزمن، وهذا يرجع إلى المحاولات المستمرة من جانب الرأسمالية للتكيف مع الظروف المعيقة لاستمرارها، و مع متطلبات الثورة التقنية والعلمية التى تهدد وجودها ذاته، فقد أمكن التخفيف من الحدة التي كانت تتسم بها الأزمات سابقاً، وانخفضت مراحل استمرار الركود والكساد والانتعاش والرواج في الوقت الحاضر، حيث أصبح الركود الاقتصادي ظاهرة عادية وغير مقلقة، فكما تنقسم الإمراض إلى مزمنة غير حادة عادة بحيث يمكن أن يتعايش معها المريض مع علاج النوبات المرضية كلما حدثت فى بعضها، أو الخضوع للعلاج الأبدى الذى يجعل المريض يتعايش مع المرض باخفاء أعراضه، وأمراض غير مزمنة، حادة غالبا، يمكن أو لا يمكن علاجها، فإن الرأسمالية أصبحت مريضة مزمنة، ولكنها مازالت تحيا برغم تقارب الفترات بين النوبات غير الحادة التى تصيبها من الكساد، والنوبات القصيرة من الرواج التى تنعشها، و هى فى ذلك خاضعة باستمرار لأنواع من العلاج يبقيها على قيد الحياة، وبالاستعارة من المصطلحات الفيزيائية، فإن طول موجة الدورة الاقتصادية(الفترة الزمنية بين ركودين فى الدورة) قد قصر عما سبق، وازداد بالتالى ترددها.
اصبحت الأزمات الاقتصادية تتزامن غالباً مع أزمات وسيطة فى بعض القطاعات و بعض الفروع دون أخرى، وتباينت مراحل انفجار الأزمة من بلد إلى آخر، فأصبحت لا تقع متزامنة فيها جميعاً، أى أن الأزمات لم تعد وبائية كما كانت فى الماضى، مما ساعد على سهولة مواجهتها، كذلك تقلص مدى الانخفاض في معدلات الإنتاج الصناعي، فلم يصبح حادا كما كان يحدث فى الدورات السابقة، وهذا يجعله محتملا، وكانت الدورات الاقتصادية سابقاً تستغرق في العادة عشر سنوات، حتى يستعيد الاقتصاد مرحلة الانتعاش من جديد، وكان الأمر يتوقف في الواقع على قدرة الاقتصاد الرأسمالي على التجديد وتوسيع رأس المال الثابت (وسائل الإنتاج) في أصوله الإنتاجية، وكانت كل أزمة هي نقطة البدء للقيام بتجديد شامل، وتوسيع في رأس المال الثابت، بهدف أساسي هو تخفيض نفقات الإنتاج، والتغلب على ميل الربح للهبوط، لكن الوضع في الأزمات الأخيرة تغير، فكل تجديد لرأس المال الثابت وتوسيعه عملية لابد لها من نهاية، وغالباً ما يتوقف الرأسماليون في لحظة معينة عن شراء السلع والآلات التي كانوا يحتاجون إليها، لأن الطاقة الإنتاجية الجديدة التى توفرت لديهم، تكفي للبدء في تزويد السوق بكمية إضافية من السلع.
تغير الطابع التقليدي لنشاط الأعمال، بالزيادة المضطردة للاستثمار فى الاقتصاد الرمزى أو المضارب أوالمالى، وبالتقلص المضطرد للاستثمار فى الاقتصاد الحقيقى أو المنتج، بسبب أن معدل الأرباح فى الاستثمار الإنتاجى أقل بكثير من معدل الأرباح فى نشاط المضاربات والائتمان، و لذلك فإن حوالى 90% من الرأسالمال العالمى يتم استثماره فى المضاربات، ومن شأن هذا الاستثمار خلق نقود غير مرتبطة بالإنتاج الحقيقى للسلع والخدمات، و لا معبرة عنه، و من شأن هذه النقود أن تزيد من الطلب الفعال على العرض من السلع و الخدمات الراكدة، إما بهدف استهلاكها أو المضاربة عليها، وهذا يساعد على تخفيف حدة الركود من جانب، إلا أنه فى نفس الوقت يسبب التضخم و زيادة الأسعار وهبوط الأجور الحقيقية من جانب آخر، وبناء على ذلك أصبحت أزمات البورصة المالية منفصلة عما يحدث فى الاقتصاد الحقيقى، على عكس الأزمات السابقة ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولذلك لابد من التفرقة بين الأزمة المالية فى البورصة، والأزمات الاقتصادية فى الاقتصاد الحقيقى، فالانتعاش والركود فى البورصات وأسعار الأسهم أصبح منفصلا عن الانتعاش والركود فى الاقتصاد الحقيقى.
أهم مظاهر الوضع المأزوم للرأسمالية الآن، هو انخفاض معدلات النمو الاقتصادي فى معظم البلدان، وانخفاض معدل نمو الصادرات، وانخفاض العمالة، وانتشار البطالة، والتضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، واتجاه منحنى الربح نحو الانخفاض، وتفاقم أزمة النقد الدولية، وارتفاع أسعار الذهب. وقد تجمعت هذه المظاهر جميعاً في الأزمة الاقتصادية الشاملة التي شهدتها البلدان الرأسمالية في سبعينات القرن العشرين، إذ كانت كل الاقتصاديات الرأسمالية تقريباً تواجه معدلات بطالة مرتفعة، وفي الوقت نفسه كان أغلبها يتبع سياسات مضادة للتضخم المتفجر، ولما كانت سياسة مكافحة التضخم سياسة انكماشية، تقلل من الانفاق العام على عكس ما تذهب إليه الكينزية، فإنها ضاعفت من حدة البطالة، وهذا يزيد من حدة الركود، وما تزال الرأسمالية عاجزة عن التغلب على أزماتها، ومازالت تعاني من أزمات عميقة (أزمات دورية وهيكلية)، وصارت أزمتها الاقتصادية أزمة متصلة وممتدة بما تشتمل عليه من نمو بطيء وبطالة.. ومع كل الأزمات التي تعانيها الدول الرأسمالية فإنّ نظامَها الاقتصادي مازال قادراً على التكيف والبقاء، ومازال قادراً على مواصلة الاستغلال.
نظرا لحيوية الرأسمالية الفائقة بعكس الركود المميز للأنظمة ما قبل الرأسمالية، فقد تلازمت منذ بدايتها و عبر تطورها مع دورات من الأزمات و التكيف معها والخروج منها، وكأن هذه الدورة المزمنة أحد خصائصها الجوهرية، ذلك التأزم الذى طالما دفعها دوما وفق قاعدة التحدى والاستجابة لتغير من أشكالها باستمرار بغرض التكيف معها وحلها، إلا أن كل الأزمات السابقة التى واجهتها حتى الآن كان لها حلول لم تعصف بجوهرها، و إن كانت قد بدلت فى أشكالها، ويلاحظ أن هذا الطابع المأزوم دائما للرأسمالية كان هو الأساس الموضوعى للتنبؤات المتواترة بنهايتها الوشيكة خلال القرنيين الماضيين التى سارع للتبشير بها الاشتراكيين والشيوعيين و اللاسلطويين، والتى لم تحقق حتى الآن برغم كل هذا التاريخ الطويل من مناهضة الرأسمالية، و نقدها، وتهديد وجودها، و التنبوء بنهايتها الوشيكة.
هذا الظاهرة الملازمة للرأسمالية، ناتجة عن ميل معدل الربح الرأسمالى للهبوط، ذلك لأن الرأسماليون يواجهون بعد فترة من استخدام وسائل إنتاج ذات مستوى معين من التطور، تقلص ما يمكن أن ينتزعوه من فائض قيمة من العمل الحى(العمل المأجور) بالنسبة لقيمة العمل الميت(وسائل الإنتاج)، المملوكة لهم، مما يدفعهم بشكل مستمر لتقليص الاعتماد على العمل الحى فى الإنتاج بإحلال الآلات محله، لكى ترتفع الأرباح مؤقتا فى فترة رواج قبل أن تنخفض مجددا فى فترة ركود .
عبر تاريخها واجهت الرأسمالية خطر ضيق سوق الاستهلاك لمنتجاتها، فجاهدت من أجل توسيع و احتكار الأسواق لسلعها الراكدة، و فى لحظة ما تكررت كثيرا هذه العملية المستمرة منذ أكثر من خمسة قرون، إذ وجدت الرأسمالية نفسها أمام وضع كان لابد و أن تحطم فيه وسائل الإنتاج القديمة، وأن تتخلص من فائض السكان غير المنتج الذى طردته خارج عملية الإنتاج، بعد أن حولته على غير مصلحتها لجيوش من المستهلكين غير المنتجين مما شكل عبأ عليها، كونه أصبح منذرا بخطر الانفجار فى وجهها، و قد واجهت الرأسمالية قديما مثل تلك الأزمات بالحروب العالمية و غير العالمية.
فى مرحلة تاريخية معينة حلت الرأسمالية أزمات البطالة والفائض السكانى بتوطين المهمشين والعاطلين الذين لفظتهم الثورة الصناعية فى غرب أوروبا فى قارات العالم الجديد، وذلك بإحلالهم محل السكان الأصليين بعد إبادتهم، وهى الآن تواجه نفس الأخطار القديمة دون إمكانية عملية لإشعال حرب عالمية شاملة بين الدول الرأسمالية الكبرى بسبب الردع النووى، وتشابك المصالح الاقتصادية بينها، ودون أدنى إمكانية فى التخلص من فائض السكان بالاستيطان فى عوالم جديدة، فاستيطان كواكب أخرى صالحة للحياة عملية تبدو مستحيلة حتى الآن.
واجهت الرأسمالية أزماتها الأولى المتمثلة فى محدودية السوق المحلى أمام ضرورة زيادة الإنتاج السلعى للمحافظة على الأرباح و زيادتها ، بتحطيم العلاقات الإقطاعية بما فيها تحرير الأقنان ليتحولوا لعمال لديها، و السيطرة على السوق القومى بالوحدة القومية، و مع مزيد من التوسع فى الإنتاج السلعى ظهرت أزمات الكساد الدورية الناتجة عن فيض الإنتاج، فوجدت الرأسمالية ضالتها فى حل تلك الأزمات فى حفز دولها القومية و جيوشها لاستعمار البلدان الأخرى من أجل إيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها، و مصادر المواد الخام التى احتاجتها من أجل التوسع فى الإنتاج، و الأيدى العاملة الرخيصة ومناطق الاستيطان .
مع أزمات عجز البورجوازيات المحلية عن النمو بسبب ضعف سوقها المحلى أو ضيقه، تلك المشكلة التى واجهت بلدان العالم فيما عدا الدول الرأسمالية الأولى، فقد سلكت الرأسمالية طريق تدخل الدولة بشكل مباشر فى عملية الإنتاج، بتنويعات مختلفة عبر القرنين الماضيين فى ألمانيا واليابان وإيطاليا وروسيا و شرق أوروبا و بلدان العالم النامى سواء من خلال رأسمالية الدولة، أو نمط الإنتاج البيروقراطى فى الدول التى دعيت بالاشتراكية.
واجهت الرأسمالية أزمات الكساد الكبرى التى هددت وجودها فى الثلاثينات بسياسات زيادة الإنفاق الاجتماعى العام فى غرب أوروبا و أمريكا الشمالية فيما عرف بدولة الرفاهية، و واجهت الجوع للمستعمرات لتصريف المنتجات لدى الطبقات الرأسمالية فى ألمانيا و إيطاليا واليابان بالنزعات العدوانية القومية التوسعية، والحروب والغزو، وعلى وجه العموم فقد واجهت خطر البروليتاريا الصناعية التى هددت وجودها فعليا فى المراكز الصناعية، بالفاشية أو الإصلاحية أو البيرقراطية الشمولية، و فى الأطراف بالقومية الشعبوية على السواء.
إزاء كل هذه الأزمات تنوعت الرأسمالية فى العديد من الأشكال محافظة على مضمونها فى انتزاع فائض القيمة من العمل المأجور، فعرفت الرأسمالية أشكال الرأسمالية التنافسية و الرأسمالية الاحتكارية و رأسمالية الدولة و الرأسمالية الكوكبية عبر القرنين الماضيين فى كل بلدان العالم، و قد تجاورت هذه الأشكال فى بعض البلاد جنبا إلى جنب، و بأحجام متفاوتة من بلد لآخر، إلا أن البلاد التى سميت بالاشتراكية حتى التسعينات من القرن الماضى لم تكن تعرف سوى نمط الإنتاج البيروقراطى و اختفت فيها الرأسمالية على مدى خمسة وسبعين عاما حتى سقط هذا الشكل، مع سقوط أشكال تدخل الدولة فى الإنتاج و انحسارها فى العالم كل، و ذلك على أثر سيادة الشكل الكوكبى من نمط الإنتاج الرأسمالى فى العالم بأسره مع نهايات القرن العشرين .
مع السبعينات من القرن العشرين، بدأت مرحلة جديدة من مراحل التطور الرأسمالى، فقد انتهى ربع القرن المجيد التالى للحرب العالمية الثانية ، الذى عرف التشغيل شبه الكامل للعمالة، وترويض البروليتاريا التى تمتعت فى هذا العصر بالكثير من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليبدأ عصر جديد من البطالة الهيكلية المتزايدة باطراد، والتهميش الواسع النطاق لقطاعات تتزايد باطراد فى كل مجتمع، بل وتهميش مجتمعات بكاملها فيما يعرف الآن بالعالم الرابع، والتهديد بإخراجها من نطاق الحضارة الحديثة، ربما تمهيدا لإبادتها فى المستقبل القريب بالأمراض الوبائية كالأيدز و الحروب الأهلية والعنصرية والدينية والقومية والعرقية والمجاعات.
ويشكل المهمشون والمتعطلون جيوش متزايدة من غير المنتجين ترغب فى الاستهلاك، ومستعدة للقبول حتى بوضع العبودية الكاملة لو كان له أن ينقذها مما هى فيه من ضياع، و أما عن العاملون بأجر فمستعدون للقبول بشروط أسوء للعمل للحفاظ على وضعهم المتميز بالنسبة للمهمشين و المتعطلين، و الرأسماليون فى إطار سعيهم المحموم للربح ينتجون سلعا لا تجد من يشتريها برغم الأسواق العالمية التى فتحت أمامهم، و التى وضعتهم تحت ضغط منافسة أشد عبر العالم، مما يضطرهم لخفض نفقات الإنتاج، وعلى رأسها الأجور، مما يزيد من معدل الاستغلال، و يضيق سوق الاستهلاك، وفى إطار الهروب من ميل معدل للهبوط، فعليهم التطوير المتسارع لوسائل الإنتاج، فيتم الاستغناء عن المزيد من العمل الحى، مصدر الربح نفسه مما يدفع معدل الربح للهبوط فتتسارع ترددات الدورة، و تتلاحق الأزمات حتى تصل لمستوى لا يمكن تجاوزه، و كأنما يهرب الرأسمال من الرمضاء للنار، طاردا المزيد إلى عالم البطالة والتهميش ومن ثم مضيقا لسوق المستهلكين، ولكن لما كانت الرأسمالية لا بد و أن تنتج لسوق من المشترين يزداد ضيقا بفعل البطالة والتهميش فأن التطور التكنولوجى نفسه سوف يفرض فى لحظة ما انحسار علاقات الإنتاج الرأسمالية أو تغييرها، حيث لا يوجد معنى أن تنتج الآلات سلعا لا تجد من يشتريها، ومن هذه اللحظة تقاوم الرأسمالية تطوير وسائل الإنتاج لتتحول لطبقة رجعية، وقد فقدت دورها الثورى فى التاريخ.
أن اللاعقلانية السائدة على مستوى الوعى الاجتماعى هى تعبير عن لا عقلانية نمط إنتاج أصبح يدمر الموارد الطبيعية والبشرية على هذا النحو المجنون بالتلوث البيئى و الحروب والانفاق العسكرى، واستهلاك الموارد المتاحة، و تبديد الإنتاج السلعى، والأخطر من ذلك إهلاك قوة العمل المنتجة الفعلية للثروات سواء بالبطالة والتهميش أو الحروب، وفضلا عن عرقلة التقدم الإنسانى لصالح المصالح الضيقة للبورجوازية.
جوهر الإنتاج الرأسمالى يدفع بطبيعته الباحثة عن الربح إلى الإنتاج بلا توقف للسلع، إلى درجة خلق احتياجات غير ضرورية للمستهلكين لاستهلاك هذه السلع عبر آليات الإعلانات وثقافة الاستهلاك، و لأن الموارد الطبيعية ليست بلا نهاية على المستوى الاقتصادى للاستغلال على الأقل، ولأن سوق المستهلكين والمنتجين ليست بلا نهاية، فهى بئر ذو قرار هو القدرة الشرائية للمستهلكين، فأن أفق هذا النزوع للإنتاج بلا نهاية يعنى إهدار البيئة ومواردها مما يهدد الكوكب الوحيد المأهول بنا، بأن يصبح غير صالح للحياة لهؤلاء المستهلكين والمنتجين على السواء، ومن ثم سوف يصبح لا مفر أمامنا إلا أن ننتج وفق الاحتياجات الاستعمالية للمستهلكين، وليس وفقا لاحتياجات التبادل السلعى كما تفترض الرأسمالية بطبيعتها، وذلك من أجل الحفاظ على الموارد و البيئة، مما ينسف دافع الربح الناتج عن الإنتاج بهدف التبادل، وهو جوهر الإنتاج الرأسمالى .
فى نفس الوقت يلاحظ ظاهرة ديكتاتورية أسواق المال العالمية حيث تستطيع الشركات المتعدية الجنسية نقل استثماراتها، والرأسماليون الماليون فى نقل الأموال، عبر العالم بلا قيود، مما يؤثر على الاقتصاديات فى الدول القومية المختلفة انكماشا وتوسعا، وبطالة وتوظفا، بعيدا عن إرادة المواطنين، مما يرغم الحكومات على التسابق على إرضاء المستثمرين بالإعفاءات الضريبية والجمركية، وتخفيض الإنفاق الاجتماعى بعكس رغبة الناخبين، مما يضعف الإصلاحية الكينزية.
فى نفس الوقت فإن كل من رأسمالية الدولة ونمط الإنتاج البيروقراطى أصبحت أشكال إنتاج رجعية، فقدت قدرتها على تحقيق التنمية باعتبارها الضرورة التى دفعت إليها طوال القرن العشرين، فقد أصبحت رأسمالية الدولة مع التدويل الكامل للإنتاج السلعى ذات إنتاجية أقل من الرأسمالية الكوكبية التنافسية المتعدية الجنسية، وفى نفس الوقت فذلك الشكل الكوكبى من الرأسمالية أصبح أكثر قدرة على مواجهة العجز عن النمو التى تواجهه الرأسماليات المحلية، إلا إذا تخيلنا أن العالم قد توحد سياسيا فى دولة واحدة .

طبيعة الأزمات الاقتصادية ودوريتها

طبيعة الأزمات الاقتصادية ودوريتها
سامح سعيد عبود

منذ سبعينات القرن العشرين شهد العالم اندلاع عدد من الأزمات الهيكلية على نطاق عالمى، ومن هذه الأزمات، النظام النقدي الدولي، و الطاقة، و المواد الخام، و الدين الخارجي، و الغذاء، و البيئة، و قد تفاعلت هذه الأزمات الهيكلية لتتضايف مع أزمة فيض الإنتاج لتزيدها تعقيداً، و من ثم فقد أصبح الخروج منها أصعب بكثير من ذي قبل، ومن أبرز الأزمات الهيكلية بشكل خاص: البطالة الهيكلية، و العجز الهيكلي في الموازنات العامة، و الركود التضخمى، ولكى نفهم الأزمة الممتدة منذ السبعينات لا بد أن نضع فى اعتبارنا التغيرات الهيكلية الجارية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ذلك لأن هناك تشابك واضح بين الأزمة الدورية و الأزمات الهيكلية، ومن ثم تشابكت الظواهر ذات الطابع الدوري مع الأزمات الهيكلية طويلة الأمد، في الفروع الأساسية للاقتصاد الرأسمالي.
هناك ثلاثة أنواع من الأزمات الاقتصادية التي يتعرض لها الاقتصاد الرأسمالي، من الضرورى التفريق بينها، وفق حتمية أو عدم حتمية ظهورها في سياق الدورة الاقتصادية، وكذلك مدى عمق الأزمة وأثرها في الاقتصاد القومى أو العالمى، ثم تضمنها أو عدم تضمنها فى كل قطاعات الاقتصاد القومى أو العالمى ، مع التأكيد على إن كل أنواع الأزمات تأتى من تناقضات و من اختلال التوازن في عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي، ولكن بأشكال مختلفة، وأن لكل منها آثارها المختلفة في الاقتصاد العالمي أو القومى.
الأزمة الدورية، التي تدعى أحياناً «الأزمة العامة» والتى سبق تناولها، هى (أزمة فيض الإنتاج)، و هى تصيب عمليات إعادة الإنتاج، وتشمل كل عمليات إعادة للإنتاج، وهى الإنتاج والتداول والاستهلاك والتراكم، باعتبارها الجوانب الرئيسة فيها، وهذا هو السبب الذى يجعل تأثيرات هذه الأزمة أكثر اتساعاً وشمولاً وعمقا إذا ما قورنت بغيرها من الأزمات، ففى هذه الأزمات تبرز كل الاختلالات فى التوازن، والعلاقات المتناقضة فى الدولة والاقتصاد الرأسمالي، وذلك على عكس الأزمة الوسيطة، التى تتميز بكونها أقل اتساعاً وشمولاً وعمقا، ولكنها مع ذلك تمس جوانب وفروع متعددة في الاقتصاد، وتحدث هذه الأزمات نتيجة لاختلالات وتناقضات جزئية في عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي، ومن ثم فالأزمات الوسيطة لا يمكن أن تحمل طابعاً عالمياً على النحو الذي يميز الأزمات الدورية العالمية لفيض الإنتاج، حيث يمكن أن تنقل إلى خارج الدولة التى اندلعت فيها الأزمة متفرقة و منعزلةً، أما الأزمة الهيكلية، فتصيب غالبا مجالات معينة أو قطاعات كبيرة من الاقتصاد العالمي، أى أنها أزمة عالمية كالأزمة الدورية، منها على سبيل المثال، أزمات الغذاء، و الطاقة، و المواد الخام، وغيرها. وإذا كانت الأزمة الهيكلية تقتصر على قطاع واحد من قطاعات الاقتصاد فإنه لابد أن يكون قطاعاً مهماً وأساسياً كمصادر الطاقة، أو صناعة الحديد والصلب، أو أزمة الغذاء وما إلى ذلك. فالأزمات في الفروع الصغيرة، ولو انها استمرت مدة طويلة، لا يمكن أن تصبح أزمات دورية، لأنها لا تمس جميع جوانب الاقتصاد الأخرى وقطاعاتها، وتشغل الأزمات الاقتصادية الهيكلية مكانة متميزة بين الأزمات الاقتصادية الملازمة للاقتصاد الرأسمالي، وقد تعرض الاقتصاد الرأسمالي إلى أزمات هيكلية خطيرة في مجال الطاقة والخامات، وعانى نقصاً في إنتاج الغذاء، وكان لأزمة الطاقة في العامين 1974 - 1975 تأثير كبير في الأزمة العالمية العامة التي حدثت خلال هذه الحقبة، والتي أعلنت عن قيام دورة جديدة من تراكم رأس المال، وبشرت بشكل جديد من أشكال الرأسمالية.
الأزمة الدورية هى نتيجة مباشرة لخلل فى التوازن والتناسب بين العرض والطلب، وبين الإنتاج والاستهلاك، و بين إنتاج وسائل الإنتاج وإنتاج سلع الاستهلاك، و بين مختلف فروع الاقتصاد الوطني، وتدفع مخاطر تلك الأزمات الرأسماليين إلى محاولة الوصول لإيجاد وسائل تساعدهم في زيادة إنتاجية العمل، وخفض نفقات الإنتاج، و بمعنى آخر رفع معدلات الأرباح، وانقاذها من التدهور والهبوط، وإصلاح التوازنات المختلة التى أدت لبروز الأزمة، وتتم هذه العملية بالبحث المكثف عن أنواع جديدة من المنتجات، وعن تقنيات حديثة تستخدمها في الإنتاج، وعن أسواق جديدة ومستهلكين جدد، ففى منتصف القرن التاسع عشر، كانت السلع الرأسمالية والاستهلاكية محدودة الأنواع، والرأسمالية المتطورة نفسها كنمط إنتاج كانت محصورة فى بعض قطاعات الإنتاج، وفى بعض البلدان، ولك أن تفكر فى تاريخ تطور تليفون "جراهام بل" إلى التليفون المحمول الآن، أو أن تفكر فى عالم بلا حاسوبات وتليفزيونات وبوتاجازات و سيارات الخ، إلى عالم أصبح يعج بمثل هذه المنتوجات، وكيف تطورت المصانع و وسائل النقل التى تدار آلاتها بالبخار والفحم، إلى مصانع ووسائل نقل تدار آلاتها بالكهرباء أو البترول ومشتقاته، أو الغاز أو المفاعلات النووية، فقد تنوعت السلع إلى مئات الألوف، معمرة وغير معمرة، و فى طرازات تتجاوز الملايين، وغطى نمط الإنتاج الرأسمالى كل قطاعات الإنتاج تقريبا، وهيمن فى كل بلاد العالم فيما عدا بعض الجيوب، وكل هذا خلال قرن و نصف من الزمان، و لا شك أن كل هذا التنوع المذهل كان نتيجة للوقوع فى الأزمات والخروج منها، وتعد الحلول المؤقتة أو الجذرية التي تتوصل إليها المنشئات الرأسمالية، هى الأساس لتجديد رأس المال الثابت، و رفع إنتاجية العمل، و توسيع الإنتاج، وتوسيع سوق الاستهلاك، و في هذا المعنى نفسه تعد الأزمة نفسها مرحلة تأسيسية للدورة الاقتصادية، أي المرحلة التي تحدد، إلى درجة كبيرة، مسار التطور اللاحق، والملامح الرئيسة للدورة التالية، وطبيعة تجديد رأس المال الثابت.
يمر التطور الاقتصادي بمراحل من النهوض ومن الكساد، تسمى بالدورات الاقتصادية. وهي ظاهرة ملازمة للنشاط الاقتصادي عموما، ولكن مظاهر الدورات الاقتصادية أصبحت أكثر تعقيداً منذ ظهور الثورة الصناعية في انجلترا، وأصبحت ظاهرة تلازم النظام الرأسمالى باعتباره إنتاج سلعى من أجل التبادل بوجه عام، و هى العلامة المميزة التي تميز تطور الاقتصاد الرأسمالي بحسب مراحل الدورة الاقتصادية، فالكساد و محاولة تجاوزه، هو الدافع وراء التطور الرأسمالى، فالاقتصاد يصيبه الجمود لأعوام طويلة، فتتعطل القوى المنتجة، ويتم تبديد كميات كبيرة من السلع بسبب الكساد، وانخفاض الأسعار، وعدم القدرة على التصريف، ثم تنشط حركة الإنتاج وتبادل السلع شيئاً فشيئاً، وتتسارع تدريجياً، ثم تتحول إلى قفزات تشمل الصناعة، والتجارة، والإقراض، والمضاربة، وتبدأ بعدها بالتباطؤ والانحدار إلى هاوية الركود مجددا. والدورة الاقتصادية الرأسمالية هي مرحلة من الزمن تبدأ مع بداية أزمة وتنتهي مع بداية أزمة أخرى، مروراً بأربع مراحل أساسية هي: كساد ثم انتعاش ثم نهوض، يعقبه ركود، وهكذا تتوالى الحركة الدورية لترسم طريق التطور الرأسمالي. والمرحلة الرئيسة فيها هي أزمة فيض الإنتاج، فكل أزمة تكمل الدورة السابقة لها، وتؤدي التناقضات المتراكمة في مسيرة تلك الدورة السابقة إلى الانفجار، معبدة الطريق لتوسع الإنتاج في دورة جديدة تنتهي إلى أزمة تالية. وعلى هذا فالدورة تبلغ ذروتها عندما تبدأ الأزمة التالية في دورة جديدة، وهي ما يسمى أزمة فيض الإنتاج.
تبدأ الأزمة الدورية في الاقتصاد الرأسمالي عندما تظهر فجوة بين إنتاج السلع واستهلاكها. التى تحدث نتيجة عملية التداول السلعي البسيط، وانفصال البيع عن الشراء نتيجة لظهور النقود. وقد أدت سيطرة رأس المال، والطابع الاجتماعي للإنتاج، في ظل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إلى إمكان حدوث تباعد حقيقي بين شراء السلعة و بيعها كان من نتائجه فيض الإنتاج الذي ترافقه عادة إفلاسات كبيرة في المنشئات الصناعية والتجارية. فالمنشئات عندما تفقد القدرة على تحويل مخزونها من السلع إلى نقد، تتوقف عن دفع ديونها، ويصاب أصحابها وأصحاب المصارف والمضاربون بالرعب، ويبدأ سباق محموم وراء النقد، فيطالب الدائنون بوفاء ديونهم أو خدمتها. ويتسابق المودعون إلى سحب أموالهم من المصارف وصناديق الضمان والإقراض، فتضطر بعض المصارف إلى التوقف عن الدفع، وقد تعلن إفلاسها، ويتقلص عرض رأس المال الإقراضي، ويرتفع معدل الفائدة على القروض، وكلما ازداد فائض الإنتاج الخفي وضوحاً، حدث تقلص في الإنتاج فيعمد من أفلس من الرأسماليين إلى إغلاق منشئاتهم، وتلجأ بعض المنشئات إلى تقليص أعمالها وخفض إنتاجها، وإلغاء الورديات الإضافية، أو تقليص أيام العمل الأسبوعية أو ساعات العمل، وإلغاء العقود أوالتباطوء فى تنفيذها، وقد تغلق بعض فروعها وتقلل من أنواع المنتجات التي تنتجها.
ولاشك في أن درجة تقلص الإنتاج تتباين في مختلف فروعه، فيكون هبوطه كبيراً عادةً في الفروع التي تصنع وسائل الإنتاج، عنه فى الفروع التى تنتج سلع الاستهلاك. ومع تراجع الإنتاج وانخفاض كمياته، يقل حجم النقل وتتراجع الأعمال التجارية، وتنكمش التجارة الخارجية، و تنحفض أسعار السلع، وتكون عواقب ذلك وخيمة جداً في المنشئات الصغيرة والمتوسطة، فتقف عاجزة أمام المنشئات الكبيرة التي تملك إمكانات أفضل لمواجهة الأزمة، وقد تنتشر البطالة التامة والبطالة الجزئية انتشاراً واسعاً وسريعاً، مع هبوط في مستوى الأجور، فيزداد بؤس الطبقة العاملة ومعاناتها، في حين تتعرض كميات كبيرة من السلع والقدرات إلى التلف والإبادة.
وعند بدء الانتقال من مرحلة الكساد إلى المرحلة التي تليها، يتوقف الإنتاج عن التراجع، ولكنه يترجح حول مستوى الأزمة المنخفض، ويتسارع امتصاص الاحتياطات السلعية، ويتوقف هبوط الأسعار، فتستقر عند المستوى الذي بلغته في نهاية مرحلة الأزمة، ولا تحدث انهيارات جديدة ذات شأن في الأسواق، ولكن التجارة تبقى ضعيفة، بطيئة الحركة. ويؤدي تقليص الإنتاج وتراجعه في هذه الأثناء إلى انخفاض مخزون السلع فتبدأ الأسواق بالتحسن شيئاً فشيئاً وينشط تصريف السلع فيها، وتتحسن أوضاع المؤسسات المالية فيقل طلبها على القروض، وتتحسن درجة الثقة بالوضع الاقتصادي فيستأنف المدخرون إيداع أموالهم في البنوك، ويقود ذلك إلى انخفاض معدلات الفائدة على القروض في السوق. وهذا يعني أن مرحلة الركود هي مرحلة تكيف الاقتصاد القومى مع ظروف الأزمة واستعداده للانتعاش الاقتصادي. بعد ذلك يبدأ الانتقال تدريجياً، من مرحلة الكساد والركود إلى المرحلة التالية من الدورة وهي مرحلة الانتعاش، ففي هذه المرحلة يبدأ خط الإنتاج والتجارة بالصعود ويقترب الإنتاج حجماً وكميّةً من المستوى الذي كان عليه عشية الأزمة، ثم يتجاوزه، وهذا يعني بدء الانتقال إلى المرحلة التالية من الدورة وهي النهوض، ولهذه المرحلة سمات معاكسة تماماً لسمات مرحلة الأزمة ومنها: تزايد الإنتاج لمواجهة تزايد الطلب الفعال، وارتفاع أسعار السلع لزيادة الطلب عليها، وتزايد الطلب على قوة العمل، وانخفاض عدد العاطلين عن العمل مع ارتفاع في معدلات الأجور.
تندلع الأزمات بناء على أسباب عميقة وجوهرية، ولكن طابع حركتها وأنماطها ترتبط كذلك بأسباب سطحية وثانوية منها: الهلع الذي يصيب رجال الأعمال وأخطاؤهم في تقويم أحوال السوق، والعوامل المؤثرة في النقد وسياسات الحكومات، وغير ذلك. مما قد يحدث تغيراً كبيراً في ظروف العمل والإنتاج، ويساعد على إدخال تغييرات معينة على مسار الدورة، وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، فالاقتصاد الرأسمالي يكرر، دورياً «إنتاج الفجوة» بين العرض والطلب الفعالين، وكلما كانت الفجوة كبيرة، كانت الأزمة أشد، وهي تخرج عن إرادة الأفراد المنعزلين، ولكن الدراسة المتأنية لأحوال السوق تفسح المجال لاتخاذ إجراءات وقائية منها إيقاف نمو الإنتاج في وقت مبكر بالاستناد إلى دلائل معينة، مما يقلص حجم هبوط الإنتاج في أثناء الأزمة. فيغدو منحنى الدورة أكثر سلاسة، ويبدو أن هذا ما تفعله الشركات الرأسمالية الكبرى بما لديها من إمكانيات عالية فى الإدارة والموارد، فالتحكم بهبوط الإنتاج أو التخفيف من آثاره واستمراره لا يتم بلا ثمن، وهو خفض معدلات النمو في مرحلة الانتعاش.
ترتبط كل مرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية ارتباطاً عضوياً بالمراحل الأخرى، ويعدّ الانتقال من الكساد و الركود ثم إلى الانتعاش فالنهوض حركة صاعدة ترتبط بتغير هيكل الإنتاج الاقتصادي لمواجهة الكساد من جهة، وبردود الفعل التي تبديها القوى الاقتصادية المختلفة من جهة ثانية. ففي مرحلتي الكساد والركود تنخفض أسعار السلع فيزداد الطلب عليها، وينخفض الإنتاج فيقل العرض، ويتكيف مع حجم الطلب، وهكذا يتم امتصاص فائض السلع في السوق، ومن جهة ثانية، تنخفض أسعار عناصر رأس المال الأساسي وأجور العمل فيزداد الحافز عند الرأسماليين لزيادة الاستثمارات، فيتجه التطور نحو الأعلى، ويزداد الطلب على السلع، وتميل الأسعار نحو الارتفاع، فيزداد المردود، وتنخفض أسعار عوامل الإنتاج، مما يؤدي إلى انخفاض التكاليف، ويميل الرأسماليون إلى زيادة نشاطهم فيتبدل اتجاه الحركة الهابط نحو الصعود، ويبدأ التحول من الكساد والركود إلى الانتعاش والنهوض. أما الانتقال من الانتعاش والنهوض إلى الكساد والركود فيتم باتجاه معاكس تماماً. ففي مرحلة النهوض الاقتصادي يزداد الإنتاج، ويفيض عن حاجة السوق فيصبح العرض أكبر من الطلب، وعندما يبلغ الفارق بينهما حداً معيناً تتجه الأسعار نحو الانخفاض، فيقل مردود المؤسسات، في حين يزداد الطلب على عوامل الإنتاج، فترتفع أسعارها في السوق، ويؤدي ذلك إلى ارتفاع التكاليف، وتدني الطلب الفعال مما يقود إلى كساد السلع، ويندفع أصحاب رأس المال إلى تقليص إنتاجهم من جديد فيدخل الاقتصاد الوطني في مرحلة جديدة من الركود والأزمة. وهكذا تتناوب مراحل الدورات الاقتصادية. وتختلف مدة كل مرحلة من المراحل تبعاً لاختلاف شروطها بين بلد وآخر أو من وقت إلى آخر. ولكن هناك سمة عامة ملازمة لتطور الدورة هي أن مرحلة الأزمة والركود أطول من مرحلة الانتعاش والنهوض عادة، ولما كان طول الدورة قد قصر، وازداد معدل ترددها، فإن الشعور بالأزمة أصبح هو السمة السائدة فى العقود الثلاثة الأخيرة، فنحن نخرج من أزمة لندخل فى أزمة أخرى، دون أن يسمح لنا بالتقاط الأنفاس، وربما يكون هذا هو السبب فى تداخل وتزامن الأعراض المتناقضة لمراحل الدورةالمختلفة، مثلما هو حادث فى أزمة الركود التضخمى.
"لم يتمكن آدم سميث وديفيد ريكاردو من كشف تناقضات الاقتصاد الرأسمالي العميقة وفهمها التي تظهر في أوضح صورها بالأزمات الاقتصادية الدورية العامة. فقد أكد ريكاردو أن الإنتاج الرأسمالي يتمتع بمقدرة على التوسع لا حد لها، مادامت زيادة الإنتاج تؤدي آلياً إلى زيادة الاستهلاك، ولهذا فلا مكان لفيض الإنتاج العام. وبناء على هذه النظرية لا يمكن حدوث غير توقف عفوي في تصريف بعض السلع ناشئ عن عدم تناسق جزئي في توزيع العمل الاجتماعي بين فروع الإنتاج، وإن القضاء على عدم التناسق هذا حتمي بفعل ميكانيكية المزاحمة. ولكن سيسموندي توصل إلى كشف بعض التناقضات التي تعترض الاقتصاد الرأسمالي، وإن لم يتمكن من تقويم طبيعتها تقويماً دقيقاً. وضع سيسموندي نظرية حول الأزمات الاقتصادية أضحت فيما بعد أساساً قامت عليه مجموعة من النظريات الأخرى. فهو يُرجع الأزمة إلى الاستهلاك الضعيف، أو إلى عدم إشباعه. وقد استند سيسموندي إلى بعض أفكار آدم سميث الأساسية، واستنتج، أن على الإنتاج أن يتوافق مع الاستهلاك، وأن الإنتاج يتحدد بالدخل، ورأى أن الأزمة نتيجة لاختلال هذا التناسب، أي نتيجة للإفراط في الإنتاج الذي يسبق الاستهلاك، وأن أساس الأزمة يكمن خارج الإنتاج، وخاصة عندما يتجلى في التناقض بين الإنتاج والاستهلاك. وأوضح سيسموندي أن الإنتاج يتحدد بالدخل، وأنه هو الهدف الوحيد لتراكم الإنتاج، لذلك يجب على الإنتاج أن يلائم الاستهلاك. وأكد أن تطور الرأسمالية يؤدي إلى إفلاس المنتج الصغير، وإلى تفاقم أوضاع العمال المأجورين، وقد أكد أيضاً أن توسيع الإنتاج، يصطدم بحدود لا يستطيع التغلب عليها، لأن تضاؤل استهلاك الجماهير، سيقلل من إمكان تصريف الإنتاج، ويقلل من إمكان تحقيق أرباح أصحاب رأس المال، وقد حاولت هذه النظرية فيما يبدو أن تعطي تفسيراً ظاهرياً صحيحاً للأزمة، ولكنها لم تبحث في أسباب تدني الأجور ولا في أسباب سوء توزيع الدخل الذي يقود إلى نقص الاستهلاك الذي يؤدي بدوره إلى حدوث الأزمة. و يفسر ماركس الأزمات الاقتصادية بالتناقضات الرئيسة في الاقتصاد الرأسمالي التي تتسبب في حدوث الأزمات الدورية العامة. وأكدت الماركسية على أن السبب الرئيس في حدوث الأزمة هو وجود تناقض في الإنتاج الرأسمالي، أي التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج"[1]. "ولم تنفِ النظرية الماركسية وجود تناقض بين الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد الرأسمالي، بل حاولت أن تضع هذا التناقض في موقعه المناسب في تفسير الأزمة الدورية، وترى النظرية الماركسية أن تحليل التناقضات العميقة الملازمة لجوهر أسلوب الإنتاج الرأسمالي، يظهر كيف يتم الانتقال الجدلى من إمكان حدوث الأزمات إلى واقعها، إلى حتمية الأزمات في ظل الرأسمالية، ويفسر كينز الأزمات الاقتصادية بعدم كفاية الطلب، ويؤكد على أن سبب الأزمة يكمن في القوانين النفسية التي لا تتبدل ومنها «قانون ميل الناس إلى التوفير». وهكذا يربط كينز السبب الرئيس للأزمة بخصائص طبيعة الإنسان التي لا تتبدل، وفوضى الروح الإنسانية، بدلاً من ربطها بخصائص الاقتصاد الرأسمالي النوعية. ويوضح كينز أن مجموع استهلاك المجتمع يتأخر دائماً عن نمو مجموع الدخل الحقيقي، نتيجة خصائص الأفراد النفسية، ويطالب الدولة بالتدخل لحل قضية استخدام أكبر عدد ممكن من اليد العاملة (نظرية الاستخدام الكامل)، حتى ولو بجعلهم يحفرون الخنادق ليردموها مرة أخرى، لأن ما سوف يحصلون عليه مقابل ذلك العمل الخالى من الفائدة، من أجور سوف يدفعهم لشراء السلع الراكدة، وهو يعتقد أن معالجة الأزمات الاقتصادية لا يتم إلا بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية تدخلاً فعالاً، عن طريق تنظيم مقدار الاستهلاك العام والتوظيفات، باستعمال عدد من الأدوات من بينها السياسة الضريبية ورفع معدل الحسم، وغير ذلك"[2].
ظهرت نظريات أخرى لتفسير الأزمات الرأسمالية مثل "نظرية عجز الاستهلاك" و الفكرة الجوهرية الكامنة في قلب النظرية هي أن الرأسمالية تفتقر إلى أي آلية داخلية لتوليد طلب كلي كاف لشراء العرض الكلي المتزايد من السلع. و ما تطرحه هذه النظرية في أبسط أشكالها هو التالي: لأن الأجر المدفوع للعمال أقل من قيمة ما ينتجونه، فإنه لهذا السبب تنشأ فجوة بين الطلب والعرض في نظام اقتصادي يتوسع. أما في أكثر أشكالها تعقيدا فإن النظرية تقول أن الندرة الدورية لفرص الاستثمار تؤدي إلى وجود فترات من الطلب الكلي غير المناسب.."[3]. أما نظرية "تقلص الأرباح" فتقول أن زيادة قوة العمال تؤدى إلى هبوط حاد وعام في الأرباح في كل المجتمعات الرأسمالية الصناعية، .. و أن زيادة أجور العمال تؤدى إلى هبوط الربحية الرأسمالية،.. و أن قدرة العمال على زيادة أجورهم وعلى كسب إصلاحات اجتماعية واسعة وعلى عرقلة محاولات الشركات الرأسمالية لإعادة تنظيم عملية العمل، كانوا أسبابا رئيسية وراء اندلاع أزمة السبعينيات. فمن وجهة نظرهم، أدت نضالات العمال إلى تناقص معدل نمو إنتاجية العمل، وإلى زيادة تكلفة السيطرة الرأسمالية على العمال، وكذلك إلى زيادة "الأجر الاجتماعي" (أي مدفوعات الرفاهية الاجتماعية)، وكل هذه أمور أدت إلى تقلص وانخفاض أرباح الشركات[4]. و تذهب نظرية المنافسة الزائدة إلى أن المنافسة الزائدة بين رؤوس الأموال الجديدة نسبيا والقديمة نسبيا تؤدى إلى انخفاض معمم وطويل الأجل في الربحية في مجمل العالم الرأسمالي الصناعي. فقد أجبر التنافس الرأسماليين على البحث بشكل دائم عن طرق جديدة وأكثر كفاءة للإنتاج. و رؤوس الأموال الأكثر جدة، في أفضل وضع لاتباع أحدث الطرق في الإنتاج، حيث أن الاستثمار الرأسمالي الثابت لديهم قليلا أو منعدما. من هنا، فهم قادرين على تخفيض التكاليف والأسعار وزيادة الأرباح بالمقارنة برؤوس الأموال الأقدم، التي ليست قادرة على التخلص من استثماراتها الثابتة القديمة إلى حين يتم استهلاكها اقتصاديا. و النظرية ترفض الفكرة القائلة أن ميكنة متزايدة للإنتاج تؤدي إلى تناقص الأرباح بالنسبة لكل رؤوس الأموال. مع التأكيد على أن الرأسماليين يختارون تقنيات جديدة من أجل أن يخفضوا تكلفة الوحدة ويزيدوا الأرباح في آن واحد، وإن رؤوس الأموال الأقدم، عندما تواجهها الأسعار المنخفضة التي تفرضها رؤوس الأموال الأحدث والأكثر كفاءة على السوق، تعاني من أرباح أقل وطاقة زائدة. وتصبح الأرباح المنخفضة والطاقة الزائدة ظاهرة عامة في مجمل الاقتصاد الرأسمالي العالمي في الفترات التي تحتدم فيها المنافسة العالمية وتنتج مرحلة طويلة من الركود الاقتصادي، و أنه أيّما كان معدل التزايد في الربحية ، كان قصير الأجل وهزيل لأنه لم يكن هناك، وفقا للنظرية إهلاك كاف لرأس المال الأقدم والأقل كفاءة من خلال إفلاسات واسعة النطاق.
وعلى عكس النظريات الأخرى للأزمة الرأسمالية، فإن نظرية هبوط معدل الربح لا ترى في العوامل العارضة أو الصدفية، مثل عدم التوازن بين العرض والطلب(عجز الاستهلاك)، أو زيادة الأجور/ انخفاض الجهود(تقلص الأرباح)، أو تزايد المنافسة، أسبابا لانخفاض الأرباح. على العكس، ينتج انخفاض الأرباح فى نظرية ميل معدل الربح للهبوط عن الآليات الأكثر أساسية وضرورية في الرأسمالية. لكن على الرغم من أن آليات الرأسمالية تخلق لا محالة أزمات الربحية والتراكم، فإن هذا لا يعني حدوث انهيار تلقائي في الرأسمالية. فالرأسمالية يمكنها أن تستعيد حيويتها وتعيش مراحل جديدة من النمو طويل الأجل إذا حدثت زيادة حادة في معدل الربح. وهذا يمكن أن يتحقق فقط إن حدثت زيادة هائلة في معدل الاستغلال، أو تدمير واسع النطاق للرأسماليين معدومي الكفاءة، أو كان هناك توسعا كبيرا في نطاق الاقتصاد الرأسمالي العالمي. والمعنى العملي لهذا هو: إما نجاح أصحاب الأعمال في تخفيض الأجور وإعادة تنظيم علاقات العمل لمصلحتهم، أو قيام الدولة بتخفيض إنفاق الرفاهة الاجتماعية، أو حدوث موجة من الإفلاسات والاندماجات والاستحواذات، أو حدوث توسع جغرافي في الإنتاج الرأسمالي. وكل هذا يعني أن مفهوم "الرأسمالية المنظمة" – حيث تؤدي سياسات الدولة إلى زيادة مستويات معيشة الطبقة العاملة وأرباح الرأسماليين في نفس الوقت – هو مفهوم طوباوي غير قابل للتحقيق. والحقيقة أن اجتماع العوامل الأربعة المذكورة سابقا أدى إلى انتعاش معدلات الأرباح في مجمل العالم الرأسمالي – وبالذات في الولايات المتحدة – منذ مطلع الثمانينيات. إذ أن تعميم "نظام الإنتاج الأكثر كفاءة" في كل من الصناعة والخدمات أدى إلى زيادة حادة في إنتاجية العمل، أي في معدل الاستغلال. ثم أن تتالي موجات من الإفلاسات والاندماجات والاستحواذات (المصدر الأساسي لنمو القطاع المالي) قد أدى إلى تخريد رؤوس الأموال الأكثر قدما والأقل كفاءة. وفي نفس الوقت تم تخفيض الطاقة الإنتاجية في بعض الصناعات، وتحول الاستثمار إلى فروع جديدة من الإنتاج. كذلك أدت عولمة عملية الإنتاج إلى زيادة حدود الاقتصاد العالمي، مما سمح بتحويل الصناعات كثيفة العمل إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة في الجنوب. وعلى مدى العقود القليلة الأخيرة، أدى صعود السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة إلى المضي قدما بشكل منهجي في عملية إعادة هيكلة رأس المال وفقا للاتجاهات المشروحة سابقا. فقد ضمن تحرير أسواق رأس المال والعمل، ممزوجا بسياسة مالية مكافحة للتضخم، أن المشروعات الرأسمالية استجابت لارتفاع الأرباح بمواصلة الاستثمار في بناء مصانع وشراء آلات جديدة (بالذات الحواسب الآلية والآلات الإلكترونية ونظم التخزين)، وبمواصلة إعادة تنظيم علاقات العمل وفقا لـ"نظام الإنتاج الأكثر كفاءة". وقد أدى تحرير رأس المال إلى تحفيز نمو عولمة الإنتاج العابر للقوميات، بينما أدى تحرير أسواق العمل (تخفيض إنفاق الرفاهة الاجتماعية، الخ) إلى زيادة التنافس بين العمال والمساهمة في ركود أو انخفاض الأجور الحقيقية."[5].

[1] http://www.arab المصدر السابق مصطفى العبد للة _ الموسوعة العربيةمصطفى العبد الله مصطفى العبد الله -ency.com/index.php?module=pnencyclopedia&func=display_term&id=635
[2] المصدر السابق
[3] شارلي بوستمارس 2009 قراءة في نظريات الأزمة الماركسية أوراق اشتراكية الناشر: مركز الدراسات الاشتراكية

[4] المصدر السابق
[5] المصدر نفسه

الجمعة، 1 أكتوبر 2010

أزمة فيض الإنتاج وصمود الرأسمالية

أزمة فيض الإنتاج وصمود الرأسمالية
سامح سعيد عبود
لاشك أن مجتمعات ما قبل الرأسمالية قد عانت من أزمات اقتصادية، ولكنها لم تكن أبدا مجتمعات تشكل الأزمات عنصرا من طبيعتها كالمجتمعات الرأسمالية، فأزمات هذه المجتمعات كانت بسبب كوارث طبيعية كالفياضانات والزلازل والجفاف والسيول والأوبئة والآفات المختلفة، ولا شك أن تلك المجتمعات عانت بسبب الحروب، و نهم الحكام والعسكر و الكهنة والتجار والمرابين الذى لا يقنع و لا يشبع، لفوائض الإنتاج التى ينتجها الحرفيون والمزراعون والمهنيون، وما تؤدى إليه هذه الأسباب من خراب لقوى الإنتاج، والمعاناة من الفاقة والبؤس والمجاعات والإبادة، و لاشك أن هذه الأزمات كانت أزمات ضعف الإنتاج الذى لا يكفى لسد احتياجات السكان، لا أزمات فيض الإنتاج الذى يزيد عن احتياجات السكان.
المنتجون الفرديون كانوا ينتجون من أجل الاستعمال الشخصى، أما الفائض مما ينتجون، فيبادلونه بمنتجات أخرى فى سوق محلى يعرفون ظروفه بدقة، و كان جزءا من فائض ما ينتجونه تستولى عليه الدولة أو الاقطاعيين أو الكهنة، أو يشتريه كبار التجار من أجل التجارة فى الأسواق البعيدة، فيتحملون هم المخاطر، أو يجنون المكاسب، بعيدا عن المنتجين، ولهذا فالمنتج الفردى يمكن فى ظل ظروف مواتية، أن يخطط لإنتاجه من أجل اشباع احتياجاته، فيحدد مسبقا ما يحتاجه لاستخدامه الشخصى، وما سوف يأخذه الحكام والتجار والكهنة، وما سوف يقايض به فى السوق القريب، ما لم تصيبه أزمة بسبب من الأسباب التى سلف ذكرها، و ذلك على عكس طبيعة الأزمات الناشئة عن العلاقات الرأسمالية ذاتها، حيث يتم الإنتاج أساسا من أجل التبادل بهدف الربح، ولسوق واسع لا يمكن الاطلاع على ظروفه، حيث تتلاعب بالمنتجين، تقلبات فى عروض لا يعرفوها من منتجين لا يعرفوهم، و تغيرات فى طلبات لا يعرفوها من مستهلكين لا يعرفوهم، و هم بالتالى عاجزين عن التخطيط لما ينتجوه، فلا يعرفون ماذا عليهم أن ينتجوا، ومتى عليهم أن يتوقفوا عن الإنتاج، هل يزيدوه أم يقللون منه، وذلك ما يسبب وقوعهم فى أزمات فيض الإنتاج التى تؤدى للكساد و الركود.
في عام 1825 نشبت أول أزمة رأسمالية في إنجلترة، مبشرة بعهد الأزمات الرأسمالية الدورية، وكان من ملامحها، تقليص الإنتاج لأدنى مستوياته، وازدياد معدلات الإفلاسات، وانحسار القروض، و ضعف سيولة النقد، وتراجع التصدير، وانتشار البطالة والفقر. أما الأزمة الدورية التالية فقد انفجرت عام 1836، وشملت جميع فروع الصناعة في إنكلترة، حيث تم تخفيض الإنتاج الذى تسبب فى هبوط حاد في حجم التصدير، ثم دخل الاقتصاد مرحلة ركود طويلة امتدت حتى عام 1842، ثم نشبت أزمة اقتصادية جديدة في عام 1866، وانفجرت أزمة أخرى في عام 1882، التى أخذت بعدها الرأسمالية تتحول لرأسمالية دولة احتكارية، واندلعت أزمة تالية في عام 1890، ثم أزمة كبيرة عام 1900، تلتها أزمة عام 1907، وأزمة 1913 التى أدت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، أما أعنف أزمة حدثت في القرن العشرين فهي أزمة 1929 - 1933 التي كادت أن تعصف بالرأسمالية ذاتها، ومهدت لصعود كل من البيروقراطية والفاشية والكينزية، وكانت هذه الأزمة السبب المباشر فى نشوب الحرب العالمية الثانية، وتلتها أزمة 1974 – 1975، بعد فترة طويلة من الرواج، ولكنها تميزت بالركود التضخمى، الذى يجمع بين بعض سمات الكساد وبعض سمات الرواج فى نفس الوقت، وهو ما مهد للبعث الجديد لمدرسة عدم تدخل الدولة فى الاقتصاد، والعودة للأقتصاد الحر، وتعدّ أزمة 1981 - 1983 أشد عنفاً من أزمة السبعينات التى سبقتها، و التي كانت السبب فى ولادة الرأسمالية الكوكبية، كمرحلة جديدة من مراحل تطور الرأسمالية، وكان من نتائجها سقوط معظم النظم البيروقراطية والفاشية والكينزية فى العالم، وأخيرا أزمة 2008 الأخيرة، و تلك الأزمات كانت في جوهرها أزمات إفراط في الإنتاج، مع عدم قدرة السوق على استيعابه.
تأتي أزمة الكساد بعد عدة سنوات من الازدهار، و تندلع حين يحدث فيض فى الإنتاج و الخدمات أكثر من احتياجات الاستهلاك، فتزدحم الأسواق بالسلع التى تتراكم بكميات هائلة لا طريق لبيعها، ويصاحب ذلك ضعف السيولة النقدية، وانحسار الاقراض، وبعد ذلك تتوقف المنشئات عن إنتاج وتقديم الخدمات، و يتم طرد العمال جزئيا أو كليا من المنشئات الرأسمالية، فيفقدون قدرتهم الشرائية لشراء السلع و الخدمات التى تتراكم أكثر، فتتفاقم الأزمة، لمجرد أن العمال أنتجوا سلع و قدموا خدمات أكثر من الاحتياجات الاستعمالية للناس، بعد هذا تتكاثر الإفلاسات، وتتزايد عمليات البيع الجبرى، ويستمر الانسداد فى طرق تصريف السلع سنوات طويلة، فيتم تدمير القوى المنتجة سواء قوى العمل، أو وسائل الإنتاج، وتدمير المنتجات إجمالاً بشتى الطرق،وتوقف الخدمات الاستثمارية منها والاستهلاكية، حتى يحين الوقت الذي تمتص فيه السوق فائض السلع و الخدمات المتراكمة أي حتى الوقت الذي يستعيد فيه الإنتاج والتبادل مسيرتهما بالتدريج.
الأزمات الاقتصادية في ظل الرأسمالية تعود أحيانا إلى رفض تدخل الدولة للحد من نشاط الأفراد في الميدان الاقتصادي، بمعنى رفض تقييد حريتهم الاقتصادية، فى استثمار أموالهم، و فيما ينتجون كماً ونوعاً، وهذا ما يمكن أن نسميه الافتقاد إلى المراقبة والتوجيه والتخطيط فى الإنتاج والتوزيع والتبادل، فالدولة ورأسالمال يتركون الأمر لليد الخفية للسوق، متوكلين عليها، لتنظم بنفسها حرية المنافسة بين منتجي النوع الواحد من السلع، وبين المستهلكين، تلك اليد الخفية الأقرب للعناية الآلهية، ولما كانت الرأسمالية فى الإنتاج عموما قامت على التطور التكنولوجى الذى ساعد البشرية على رفع كفاءتها الإنتاجية لمستويات غير مسبوقة، وضاعف الإنتاج حتى فاض عن احتياجات السكان فى كثير من الأحيان، إلا أنه قلل من الاحتياج للأيدى العاملة صانعة كل تلك السلع، ومستهلكتها فى نفس الوقت، وما أنتجه من فائض إنتاج يحتاج إلى أسواق للتصريف، تقل قدرة المستهلكين فيها على الاستهلاك بمرور الوقت، و الميل للتطور التكنولوجى لزيادة الإنتاجية، يؤدى لتقليص حجم العمالة المنتجة، و إلى فيض الإنتاج الذى لا يمكن إيقافه فى ظل الرأسمالية.
عندما تختل العلاقة بين العرض والطلب، في ظل انعدام الرقابة والتحكم من الدولة، تحدث فوضى اقتصادية تكون نتيجتها الحتمية أزمة، إلا أن التاريخ الحديث أثبت إن كل أشكال تدخل الدولة فى الاقتصاد أيضا وقعت فى أزمات مزمنة انتهت إلى أزمة الركود التضخمى فى سبعينات القرن الماضى، مما ينم على أن الدولة بتدخلها أو بتركها الحبل على الغارب ليست السبب فى حدوث الإزمات غالبا، بل هى أداة يستخدمها البرجوازيون لحل الأزمات لصالحهم فى كل الأحوال.
لا يوجد أى تناسق بين فروع نمط الإنتاج الرأسمالى، إلا ما قد يحدث مؤقتا أو مصادفة، وهذا يجعل الإنتاج الرأسمالى يتصف بالفوضى، لأن الرأسمالية تقوم على سلسلة من التناقضات، التى تمنحها حركية وحيوية عالية، وقدرة عالية على خلق الأزمات والتكيف معها وتجاوزها، لكن هذا لا ينفى كونها مدمرة فى نفس الوقت للبشر كمنتجين ومستهلكين، ففي ظل سيطرة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فإن كل رأسمالي يسعى إلى زيادة أرباحه بإغراق السوق بمنتجاته، دون اعتبار للإمكانيات الحقيقية لاستهلاك منتجاته، و دون النظر لمستوى الطلب الفعال لما ينتجه من سلع، و لا شك أن دافع الربح والمنافسة فى السوق، يساعد على تطوير الإنتاج، ورفع الإنتاجية، وتحسين المنتجات، و يفجر طاقات الإبداع والابتكار عند البشر، و لكن لإن هذا الإنتاج تحديدا يتم عبر مؤسسات خاصة حرة، فإن تطوره لا يكون متجانسا بين الفروع والمنشئات المختلفة، فقد يتكدس البنزين فى محطات البنزين أو قد يشح، لأنه قد يزيد أو يقل عن احتياجات السيارات له، ومصانع السيارات ومحطات البنزين ومعامل تكرير البترول، تتصرف منفردة من أجل زيادة انتاجها وأرباحها دون أن ينظر أى منهما لنشاط الآخر، إذ تقفز بعض الأنشطة إلى الأمام فى الإنتاج ، ويبقى بعضها على حاله، أو يتدهور إنتاجه، يصيب بعضها النجاح وبعضها يصيبه الفشل، إى أن طبيعة الإنتاج الرأسمالى تعيد إنتاج الأزمات العشوائية التى طالما عانى منها البشر سابقا، و لكن ليس بسبب الطبيعة هذه المرة، ولكن فى مجال الإنتاج والتوزيع والتبادل نفسه، ومن هنا يحدث التطور اللامتكافئ بين فروع الإنتاج المختلفة، باعتباره قانون الرأسمالية المطلق.
يتطور الإنتاج الرأسمالي عن طريق المنافسة التي تنطوي على تناقضات و صراعات لا حصر لها و التى تهدر فى نفس الوقت الإمكانيات الهائلة التى يخلقها التطور التكنولوجى، فالمنافسة لابد من أن تولد عدم تناسق بين فروع الاقتصاد ومؤسساته المختلفة .
لما كان للإنتاج فرعين أساسيين، أولهما فرع (إنتاج وسائل الإنتاج) من آلات ومواد خام وخلافه. وثانيهما فرع (إنتاج السلع الاستهلاكية) من ملابس وأطعمة الخ، و بسبب أن تطور فروع الإنتاج المختلفة في ظل الرأسمالية تطوراً غير متسق وغير متوازن، فإن نمو الإنتاج الرأسمالي، وتكون السوق الداخلية، لا يحدثان بفعل زيادة إنتاج سلع الاستهلاك بقدر ما يحدثان بفعل زيادة إنتاج وسائل الإنتاج. أي أن الفرع الأول (إنتاج وسائل الإنتاج) ينمو بسرعة أكبر من سرعة نمو الفرع الثاني (إنتاج سلع الاستهلاك)، وتسبق زيادة إنتاج وسائل الإنتاج، زيادة إنتاج سلع الاستهلاك، وتحتل سلع الاستهلاك، في الكتلة العامة للإنتاج الرأسمالي، منزلة متضائلة الأهمية مع مرور الزمن، فالآلات تزداد تعقيدا، و من تزداد قيمتها، لتحل محل البشر المستهلكين لما تنتجه، فى حين تقل قيمة ما تنتجه هى نفسها من سلع كلما ازدادت تعقيدا وقيمة.
إن زيادة إنتاج وسائل الإنتاج تؤثر في إنتاج وسائل الاستهلاك (أموال الاستهلاك)، ذلك لأن المؤسسات التي تزيد من استخدام وسائل الإنتاج (أموال الإنتاج) تدفع إلى السوق في نهاية المطاف بكميات متزايدة باستمرار من السلع المعدة للاستهلاك. وعلى هذا فهناك علاقة ارتباط واضحة ومباشرة بين إنتاج أموال الإنتاج، من جهة، وإنتاج أموال الاستهلاك من جهة ثانية. ولكن في الوقت الذي يتزايد فيه إنتاج أموال الإنتاج وأموال الاستهلاك يتراجع الطلب الفعال بسبب انخفاض نصيب قوة العمل من القيمة المضافة، فيتجه استهلاك الجماهير نحو الانخفاض في حين يتجه الإنتاج نحو الزيادة، فتصطدم زيادة الإنتاج بانخفاض الاستهلاك في المجتمع.
شرط إنتاج القيمة المضافة، ومن ثم الأرباح، هو شراء قوة العمل البشرى المأجورة لإنتاج السلع، و التى من أجل زيادة معدلات استغلالها لتوليد قيمة أكثر وأرباح أكثر، يتم تطويل يوم العمل مما يعنى مزيد من الإنتاج، أو تخفيض الأجور الحقيقية، بزيادة أسعار السلع، وهذا معناه تدنى ما يحصل عليه العمل المأجور لصالح تصاعد الأرباح، وفى النهاية تتراكم المنتجات التى لا تجد من يشتريها، لأن من انتجوها غير قادرين على شراءها بسبب تدنى أجورهم.
الرأسمالية هى الإنتاج السلعي في أعلى مرحلة من مراحل تطوره، حيث سبقها الإنتاج السلعى البسيط، الذى هو شكل بدائى للرأسمالية، و تتحول في الرأسمالية منتجات العمل كلها إلى سلع، و تتحول قوة العمل نفسها إلى سلعة يتحدد سعرها بالعرض والطلب. ويقوم الرأسماليين بانتزاع الفائض الاجتماعى من العمل المأجور، و تركيز وسائل الإنتاج في أيدي أصحاب رأس المال، وتحول هذه الوسائل إلى وسائل لاستثمار العمال المأجورين، ويحدث الانفصال بين وسائل الإنتاج المحصورة في أيدي القلة من الرأسماليين، وبين الغالبية من المنتجين المباشرين المحرومين من كل شيء ماعدا قوة عملهم، التي يضطرون إلي بيعها لمالكي وسائل الإنتاج.
لكل هذا يصبح ناتج عمل المجتمع كله في حوزة عدد قليل من مالكي وسائل الإنتاج، هدفهم الوحيد هو تحقيق الربح، وينشأ عن التسابق وراء الربح تعاظم استغلال العمال المنتجين، وانخفاض نصيبهم من القيمة المضافة، وهذا يؤدي إلى خفض الطلب الفعلي على السلع، ويتقلص تصريف السلع، فلابد من حدوث أزمات فيض الإنتاج ما دامت الرأسمالية قائمة.
لا شك أن أحد أسرار قوة الرأسمالية، وضعف من يناضل ضدها، أنها تستغل أسوء ما فى البشر من ميول ورغبات وغرائز و طرق تفكير، و أحد أسوء تلك الميول هو الميل للاستهلاك السفيه، و الحقيقة أن البشرية تملك الآن و بلا أدنى مبالغة من العلم والتكنولوجيا، ما يمكنها من اشباع الحاجات الاستعمالية الضرورية لكل البشر على الأرض، وبقوة عمل أقل بكثير مما تتطلبه طريقة الإنتاج والتوزيع والتبادل الرأسمالية، ولك تفكر فقط فى ما تتحمله السلعة من تكلفة الإعلان عنها وتغليفها، وهو ما يمكن الاستغناء عنه فى ظل نمط إنتاج آخر يقوم على إشباع الحاجات الاستعمالية، ولكن الإنتاج فى حدود إشباع الاحتياجات الاستعمالية، يعنى توقف آلة الإنتاج الرأسمالى، التى لا بد أن تستمر فى الدوران حتى يربح الرأسماليون، ولو على حساب سعادة البشر، واهدار مواردهم، وتلوث بيئتهم.
من هنا تعتنى الرأسمالية بخلق احتياجات غير ضرورية ولا طبيعية عند البشر، وجرهم من نزعتهم المريضة للاستعراض والتباهى أحيانا، إلى استهلاك سلع و خدمات ليسوا فى حاجة حقيقية إليها لتتوفر لهم السعادة الحقيقية، أو يمكنهم الاستغناء عنها، ومن أجل هذا النزوع الاستهلاكى، يتم إهدار الموارد الطبيعية فى سفه غير معقول، كما لو كانت هذه الموارد بلا نهاية، والحقيقة أن الموارد الطبيعية على كوكب الأرض ذات كميات محدودة، ولها سقف أكثر انخفاضا فى حالة استخدامها على نحو اقتصادى، و لاشك أنه مع استمرار استهلاكها، سوف تنتهى فى يوم من الأيام، فالحديد الذى ترتفع أسعاره يوميا، سوف يصبح فى ندرة الذهب، وسوف يصبح أغلى سعرا منه، طالما آلية الإنتاج الرأسمالى تستنزف الحديد فى صناعة السلاح الذى لا يستخدم إلا للموت والخراب أو يترك للصدأ، أو فى بناء عقارات لا تستخدم سوى للمضاربة، برغم أننا يمكن أن نوفر معظم المبانى التى تستخدم للسكن بتكنولوجيا مختلفة دون استخدام للحديد أو الاسمنت، سوف تكون ملائمة أكثر للظروف المناخية، فلا نحتاج للمكيفات لتكييفها، وما تستهلكه منطاقة، وما تحدثه من تلوث للمناخ.
يمكن أن يوفر البشر لأنفسهم مواصلات عامة مريحة عبر مد شبكة كافية من مواصلات عامة، تعتمد على الكهرباء، كالمترو أو الترام، وأتوبيسات تحمل عدد أكبر من البشر فى مساحة أقل، وتحتل فى نفس الوقت مساحة أقل من الطريق، الا أنه يتم عمدا اهمال هذا الحل، ويتم إغراء المستهلكين بحلم السيارة الخاصة، فيفاجىء المستهلكون أنها صارت عبء اقتصادى ومعنوى عليهم بدلا من أن تكون وسيلة للراحة، وبكثرة السيارات تزدحم الطرق، فالسيارة الخاصة تحمل عدد أقل بالنسبة لمساحتها، وتشغل مساحات أكبر من الطريق من الأتوبيس قياسا لما تحمله من ركاب، وعندما تحدث الأزمات المرورية باكتظاظها بالسيارات الخاصة، نبنى طرق علوية وكبارى نستنزف بهما الحديد والأسمنت، و نحرق المزيد من البترول دافعين للجو المزيد من الملوثات، ويصل سفه المستهلكين وجشع المنتجين للمنتهى، عندما تشح موارد الطاقة البترولية، فيحول المنتجون الطعام إلى وقود لتسيير كل تلك السيارات الخاصة، فى حين يتضور الملايين جوعا، حتى تعمل شركات السيارات الخاصة.
تحتاج الحذاء ليحمى قدمك أثناء السير، وفى حدود المعرفة والتكنولوجيا المتاحة للبشر، يمكن أن تنتج لك المصانع حذاء يستمر معك عقودا من الزمن، ولكن معنى هذا ببساطة، أن تتوقف مصانع الأحذية عن العمل بعد اشباع هذا الاحتياج لدى كل البشر، ومن هنا ابتكرت الرأسمالية فكرة الموضة حتى تدفع البشر لتغيير ما يستهلكونه من سلع حتى ولو كانت ماتزال صالحة للاستعمال، ويتم بيعها أكثر من مرة، أو تنتهى لمستودعات القمامة منتظرة إعادة التدوير، والطريقة الثانية هى استخدام مواد رديئة فى الصناعة، برغم إمكانية استخدام مواد أكثر تحملا، فيبقى الحذاء فى قدمك شهرين لتشترى ستة أحذية فى العام، أما الخامات الجيدة والتصنيع الدقيق فهو و التكنولوجيا المتطورة فهذا ما تدخره الرأسمالية لصناعات لا علاقة لها باحتياجات المستهلك العادى، كصناعة السلاح، وهو ما يجعل معظم السلع التى يستهلكها المستهلك العادى ، سريعة التلف مما يدفعه لاستبدالها بسلع جديدة، ويبدوا أن الجشع الذى لا ينتهى للرأسماليين دفعهم مؤخرا للتطرف فى هذا السلوك، والمثال على ذلك بعض السلع المنتجة فى الدول شبه المحيطية أو المصنعة حديثا، والتى هى أقرب ما تكون لإعادة التدوير.