الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

كيف نحول الانتفاضة إلى ثورة اجتماعية

كيف نحول الانتفاضة إلى ثورة اجتماعية

سامح سعيد عبود

أن الانتفاضة الثورية تظل جزءا من النظام، وعملية من عمليات تطوره، ولا تتجاوز حدوده الأساسية، عندما تستند على مجرد مطالب تصلح بعض اعوجاجات النظام، وتسقط بعض رموزه مبقية على بعضهم، وتنهى بعض مظاهره محافظة على جوهره، ولكنها تتحول إلى ثورة اجتماعية حقيقية عندما تستطيع تدمير النظام القديم بأكمله مقيمة على أنقاضه نظاما مختلفا، وهذا لا يعنى سوى احلال طبقة جديدة ثائرة فى السلطة محل الطبقة القديمة التى قامت بالثورة عليها، وإحلال علاقات إنتاج جديدة بدلا من العلاقات القديمة، وهذا يستدعى تصفية كامل السلطة القائمة بكل أفرادها و مؤسساتها وإطارها القانونى، وتصفية الطبقات الاجتماعية التى تعبر عنها تلك السلطة،الأمر الذى لا يتأتى إلا بسلطة بديلة تملك من القوة المادية ما يمكنها من إزاحة السلطة القديمة.

و لأن الرأسماليون والبيروقراطيون مازالوا فى السلطة، فإن ما حدث أننا نجحنا عبر انتفاضتنا الثورية فى إزاحة رأس النظام القديم وبعض رموزه، إلا أن النظام مازال حيا، ويستعيد عافيته مجددا، ولذلك ما إن أفاق من صدمته الأولى التى جعلته يسلم ببعض المكاسب الثورية للثوار ، فسرعان ما تراجع لنفس مواقعه القديمة، والمطلوب الآن لإزاحته كليا هو ثورة حقيقية تطرح بديلا جوهريا عن النظام القائم، ثورة تستهدف إزالة السلطة القائمة مقدمة سلطة بديلة تزيحها من مكانها، سلطة تأمر و لا تطلب، تبادر و لا تكن مجرد ردا للفعل، تفعل و لا يفعل بها، لا تنتظر الفعل وإنما ينتظر فعلها.

لكل مجتمع أساس مادى، يتمثل فى بنيته الاقتصادية الاجتماعية، وما لم يمس هذا الأساس المادى أى تغيير، فإن النظام يظل حيا، حتى ولو تحسن نسبيا ببعض الإصلاحات، وهذا ما لم تقترب منه الانتفاضة الثورية على الإطلاق فى مطالبها الرئيسية، التى انحصرت فى هذا الصدد فى مقاومة الفساد الحكومى باقامة دولة القانون، وتحقيق العدالة الاجتماعية التى تحددت معانيها فى فرض حد أدنى للأجور، وحد أقصى للأجور، دون ربطه فى نفس الوقت بارتفاع الأسعار، وهو المطلب الذى لن يستفيد منه لو طبق سوى ثلث الأجراء فى مصر من العاملين بالحكومة والقطاع العام والقطاع الرأسمالى الكبير الرسمى، دون ثلثى الأجراء من العاملين فى القطاع الرأسمالى الصغير، الرسمى وغير الرسمى، والعاملين المستقلين، فضلا عن المهمشين، ومن نافل القول أنه لن يكون له أى معنى مع موجات ارتفاع الأسعار.

من ناحية أخرى يروج اليسار السلطوى لإعادة تأميم المنشئات التى تمت خصخصتها وعودتها إلى حضن الدولة البيروقراطية، مما سوف يزيد من قوتها ونفوذها مع تناقص حريات الأفراد ومؤسساتهم المدنية فى المقابل، واستمرار نظام العمل المأجور، وهو جوهر الرأسمالية ذاته، أى ما كان شكل الملكية، خاصة أم عامة، ولاشك أنه لن يتم تجاوز الرأسمالية إلا بالقضاء علي عبودية العمل المأجور، وهذا اليسار تحديدا لا يتجاوز حدود النظام الرأسمالى نفسه على عكس ما يدعى، باستبداله بيروقراطية الدولة بالرأسماليين، ويروج هذا اليسار أيضا لدولة الرعاية الاجتماعية القوية التى توفر الخدمات المجانية للمواطنين فتضخم بذلك من حجم بيروقراطيتها وموظفيها وامتيازاتهم وفسادهم، وتضخم من حجم نفوذهم الاجتماعى فى مقابل الخدمات التى يوفروها للمواطنين فيصبحوا عبيد احسانات الدولة، كما يروج أيضا أنصار الرأسماليين للدور الاجتماعى لرأسالمال ليظل الفقراء بدورهم عبيد صدقات الرأسماليين.

يتحدث الجميع عن تحقيق حلم النهضة الاقتصادية المحصورة عند البعض منهم فى تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادى، التى كانت تتباهى بها حكومة الحزب الوطنى علينا، دون تحديد لمصلحة من كان يحدث هذا النمو، الذى انتهى بالانتفاض الشعبى على نتائجه الوخيمة، هل هو لصالح كائنات اجتماعية مجردة كالأمة والدولة والوطن والشعب كما يدعى ذلك الشعبويون عموما، أم لتحقيق مصالح طبقات وشرائح اجتماعية بعينها مضادة بطبيعتها لمصالح طبقات وشرائح اجتماعية أخرى، داخل نفس الكيان الواحد، هل نريد تحقيق مصالح الرأسماليين كما يريد الليبراليون أم مصالح البيروقراطيين كما يريد الفاشيون والإصلاحيون من أنصار الدولة القوية، أم تحقيق مصالح البروليتاريا فى الجانب الآخر المضاد كما يريد اللاسلطويون.

هذه هى حدود مطالب الانتفاضة الثورية فى حدود إصلاح نفس النظام، التى طالبت باسقاطه، وهى تظن لسذاجتها أن النظام هو حسنى مبارك وحزبه الوطنى الحاكم، ولأنها مطالب اصلاحية فلابد وأن تكون مختلفة تماما عن الأهداف الثورية لتجاوز النظام على صعيد بنيته الاقتصادية الاجتماعية التى تحدد جوهر التغيرات الأخرى السياسية والثقافية والقانونية، وطبيعتها وحدودها.

علينا أن نعرف المعالم الرئيسية للنظام الحالى الذى لم يسقط بعد والذى هو جزء لا يتجزأ من النظام العالمى، والذى لا يمكنا فهمه والتعامل معه بمعزل عنه، فمنذ أربع عقود من الزمن حدث تحول هام فى البنية الاقتصادية الاجتماعية فى العالم، مفادها تقلص حجم الاستثمارات والعمالة فى الاقتصاد الحقيقي فى الزراعة والصناعة حيث تنتج فيه كل الثروات المادية، لصالح تضخم نوع آخر من الاقتصاد الرمزي الذى يمتص معظم الثروات المنتجة فى الاقتصاد الحقيقى، بالتجارة والخدمات والمضاربات والائتمان، و هى أنشطة تتطفل فى حقيقتها على الاقتصاد الحقيقي، وتحقق أرباحا خيالية سهلة، فيتضخم حجم الاستثمارات والعمالة فيها، فى حين تتقلص ربحية الاقتصاد الحقيقى الصعبة فتهرب منه الاستثمارات وتتقلص فيه العمالة، أو تنزلق لهاوية التهميش، و الحقيقة أن الكثير من أنشطة الاقتصاد الرمزي تتميز بامكانية الاستغناء عنها على عكس أنشطة الاقتصاد الحقيقي، وإن بدت ضرورية أحيانا، وهى فى معظم ممارستها و وسائل تحقيق أرباحها، أقرب للجريمة منظمة أو فردية منها لنظام إنتاجى حقيقى.

من أشد خصائص هذا التحول الاقتصادى الاجتماعى، هو تزايد حجم المهمشين العاملين فى الاقتصاد غير الرسمى مقارنة بتقلص العاملين فى الاقتصاد الرسمى عموما، ذلك لأن الأرباح فى الاقتصاد غير الرسمى تكون خيالية، ومن ثم فإن الاستثمارات تتوجه إليها بكثافة أكثر جاذبة إليها المزيد من العمالة المهمشة، فى حين يفتقر الاقتصاد الحقيقى بربحيته المنخفضة للاستثمارات والعمالة، و من خصائص هذا التحول أيضا، وهو أيضا ظاهرة عالمية، الانخراط المتزايد لبيروقراطية الدولة وموظفيها فى الفساد الحكومى، الذى هو وللمفارقة، منبع للاقتصاد غير الرسمى، فيتحول مشرعوا القوانين وحماته ومنفذيه لكبار خارقيه ومخالفيه ومعطليه، وتتحول الوظيفة العامة لنوع من الاستثمار والتربح، والتطفل على المنتجين الحقيقيين للثروة، بل وتحول الفساد الحكومى من ظاهره فردية إلى مستوى الجريمة المؤسسية المنظمة، ومثالها الواضح والجلى فى الواقع المصرى جهاز الشرطة نفسه الذى من المفترض أن تكون وظيفته الأولى مقاومة الفساد.

برغم كل عمليات الخصخصة التى قلصت رأسمالية الدولة البيروقراطية، فى الاقتصاد المصرى، إلا أنها لم تحجم من نفوذها، ذلك لأن تلك البيوقراطية مازالت تحكم قبضتها على الرأسمالية التقليدية حتى الآن،
و العاملين بجهاز الدولة والقطاع العام مازالو يشكلون ربع حجم القوى العاملة، وينقسمون إلى ثلاث طبقات، الأولى البيرقراطيون، وهم الذين يملكون سلطة اتخاذ القرار الحكومى، والتأثير فيه وفى تنفيذه، والثانية الموظفون العاديون الذين يستثمرون الوظيفة العامة لتحقيق مصالحهم الخاصة، والذين لا يؤدون أعمالا حقيقية، ويعتبرون امتداد للطبقة البيروقراطية ينتظرون الترقى لمصافها، وهم أدواتها فى تحقيق مصالحها، و بسط نفوذها، وتلك الطبقتين تحديدا فى السلطة بالفعل، وجزأ لا يتجزأ من النظام، برغم ما لحق بهما من هزيمة بالانتفاضة، ولا شك أنهم من المنتفعين بفساده وتضخمه ونفوذه، و من ثم فهم فى معسكر الثورة المضادة، ويشكلون أنصار النظام القديم، ومن ثم فنجاح الثورة لا يكون إلا بتصفيتهما، والتخلص منهما، أو تحجيمهما فى الحد الأدنى الضرورى، وهذا يستلزم العديد من الإجراءات الثورية، التى لا مجال لسردها كاملة ولكن فى العموم فإن تقليص البيروقراطية الحكومية، وهؤلاء الموظفين ونفوذهم وفسادهم، هدف ثورى لا بديل عنه، يمكن تحقيقه فى الحد الأدنى الممكن بتقليص مهام الدولة فى حدود مهامها السيادية التقليدية الضرورية من أمن خارجى وداخلى وتمثيل خارجى وعدل ومالية عامة، لا توسع هذه المهام، كما يبشر بذلك أنصار الدولة القوية المتدخلة فى كل شئون الحياة، يسارا كانوا أو يمينا، ويمكن ذلك أيضا عبر خلق مؤسسات عامة مدنية مستقلة و شعبية بديلة عن مؤسسات الدولة، لتأدية بعض المهام فى الأمن المحلى و إدارة المرافق العمومية على سبيل المثال، وتطبيق أقصى ما يمكن من اللامركزية الإدارية، والرقابة الشعبية الواسعة النطاق والاختصاصات، وتطبيق الديمقراطية المباشرة، وشبه المباشرة.

أما الطبقة الثالثة فهم العاملون العاديون فى قطاعات الإنتاج والخدمات الحكومية و العامة، فى التعليم والصحة والنقل والمواصلات، والصناعة والزراعة، وهؤلاء من أجل تحررهم من عبوديتهم المأجورة للدولة، ومن أجل تحرير سائر المواطنين من نفوذ وفساد بيروقراطية الدولة، فإنه يستلزم تحقيق الإدارة الذاتية فى كل وحدات الإنتاج والخدمات من قبل العاملين بتلك المؤسسات، واستقلالها عن الدولة و رأسالمال، وفق قواعد التعاون فى الإدارة الديمقراطية المباشرة وتوزيع الأرباح، مع ضمان عدم استخدام العمل المأجور فى تلك المنشئات، وهو ما يحقق مصالح هؤلاء العاملين الجوهرية باعتبارهم جزء طليعى فى معسكر الثورة، لا مجرد تحسين شروط عبوديتهم برفع الحد الأدنى للأجور، وبالطبع فاليسار السلطوى، الثورى منه والإصلاحى، لن يطرح مثل هذا الشعار فى الانتخابات القادمة، وهو ما قد يضمن له أصوات هؤلاء بدلا من ذهابها للأحزاب الليبرالية أو الإسلامية، مفضلا أن يغرس نفسه فى صراع برجوازى\ برجوازى مثل الصراع الليبرالى \ الإسلامى، كما كان يغرس نفسه قديما فى صراع مفتعل بين الرأسمالية الوطنية والرأسمالية التابعة، أو الرأسمالية المنتجة والرأسمالية الطفيلية، فدائما ما كان هذا اليسار يفضل اللعب لصالح قوى برجوازية يسلمها قيادة نفسه، بدلا من أن يطرح نفسه كقيادة.

أيما كان الرأسماليون فى مصر، سواء أكانوا من محاسيب الدولة المرتبطين ببيروقراطيتها، أو من المغضوب عليهم، فهم جزء لا يتجزأ من النظام القائم حتى ولو كان المضطهدين منهم، لأنهم فقط لا ينتمون للشلل المتنفذة فى النظام، وحتى ولو كان البعض منهم يناضلون من أجل نظام ديمقراطى يسمح بتداول السلطة، وحتى ولو كانوا من دعاة إطلاق الحريات الإنسانية كالليبراليين أو دعاة تقييدها كالإسلاميين أو القوميين أو المحافظين، و لا مجال هنا لتقسيمهم لمنتجين وطفيلين كما يذهب البعض، فتجار المخدرات والسلاح والآثار والجنس، يغسلون أموالهم بشراء المصانع والمزارع وبناء العقارات والمنتجعات السياحية، والمضاربة على أسهم البورصة، ولا مجال هنا لتقسيمهم لكبار وصغار، فالحزب الوطنى لم يكن حزبا للكبار من أمثال لأحمد عز ومن هم على شاكلته فقط ، بل كان حزبا لعشرات الألوف من أصحاب المشاريع والاستثمارات المتوسطة فى كل مجال من الصناعة والزراعة إلى التجارة إلى المضاربات، من كل الأنشطة الاقتصادية رسمية كانت أو غير رسمية، مشروعة كانت أم غير مشروعة، وهم جميعا أعضاء فى شبكات مصالح واسعة تضم معهم البيروقراطين و موظفى الدولة الإداريين والنقابين الصفر وغيرهم، وحتى الخارجين عن القانون، وما الصراعات بينهم سوى صراعات مصالح فردية، لا تنفى توحدهم فى المصالح الجوهرية، ومن ثم لا مجال للمساومة فى ضرورة مصادرة ثروات هؤلاء، منقولة أو عقارية، نقدية أو عينية، وإدارتها إدارة ذاتية وفق قواعد التعاون لصالح العاملين فى تلك المشاريع شأنها شأن المؤسسات الإنتاجية والخدمية التابعة للدولة.

على الناحية الثانية من المتاريس فى معسكر الثورة الاجتماعية، يتواجد المهنيون والحرفيون والمزارعون والفنيون المستقلون من أصحاب المشاريع والاستثمارات الصغيرة، والذين لا يستخدمون فى نفس الوقت العمل المأجور، أى جماهير البرجوازية الصغيرة، وهناك العمال الذين يعملون بأجر لدى الرأسماليين، على نحو دائم ومستقر أى غير المهمشين منهم ، وعلى نحو مؤقت غير مستقر أى المهمشين منهم، و بصرف النظر عن مستوى معيشتهم وتعليمهم، هذا المعسكر من مصالحة المؤكدة التحرر من عبودية العمل المأجور، ومن فساد البيروقراطية وتحكمها وبلطجتها ونفوذها، ومن سيطرة الرأسماليين على السوق، وهذا لا يمكن تحققه إلا بنظام تعاونى لا يمكن أن يتعايش أو يزدهر فى ظل الدولة القمعية المركزية التدخلية، ولا فى ظل السيطرة الرأسمالية.

مازال معسكر الثورة المضادة يملك ويسيطر على الثروة ويحتكر دون غيره العنف المسلح وغير المسلح ويسيطر ويملك كافة وسائل الإعلام ومؤسسات تشكيل الوعى، تاركا الأنترنت ساحة حرة للجميع، و لا يملك معسكر الثورة أى وسائل مادية فى يده لتحقيق أهدافه، فكيف يمكنه تحقيقها، هذا هو السؤال الذى يجب أن نركز فى الإجابه عليه الآن .

بداية أن مصدر قوة البروليتاريا المادية يكمن فى انها خالقة الثروة التى يتم سلبها منها طالما كانت مفتتة، ومتكيفة مع استعبادها، ومستسلمة لقهرها واستغلالها، لكن وحدتها التنظيمية، وكفها عن قبول وضع الخضوع، ورفضها للعبودية والاستغلال، يمكنها من الدفاع عن مصالحها وتهديد النظام القائم، ما تحتاجه البروليتاريا هو الاتحاد الثورى الذى ينظم كفاحها المشترك، اتحاد لايقتصر على الدفاع عن الحقوق والحريات السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفى هذا يختلف عن أى نقابة إصلاحية، بل اتحاد يضع على قمة جدول أعماله التحرر من عبودية العمل المأجور، وتصفية كل من الرأسمالية والبيروقراطية، وفى هذا الصدد يمكن الإطلاه على المقال المترجم النقابية الثورية، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=259288.

كانت الانتفاضات الثورية التى اجتاحت العالم العربى فيما سمى بربيعه، نتيجة تحريض واسع النطاق ضد الاستبداد وتوريث الحكم وفساده وقهره، وتبشير طويل الأمد قامت به النخبة، بالنموذج الديمقراطى كما تجسد فى الدول الرأسمالية المتقدمة، وهو ما وضع سقفا للطموح الشعبى، ولمطالب الانتفاضات، ولا شك أن تحريضا آخر ضد الرأسمالية والبيروقراطية، وتبشير ببديل آخر يتجاوز الرأسمالية ودولتها الديمقراطية البرلمانية،سوف يؤدى فى النهاية لانتفاضات من نوع مختلف تتطور بسهولة لثورة اجتماعية، فهل يمكن أن نبدأ.

السبت، 3 سبتمبر 2011

حدثت الانتفاضة ونحن فى انتظار الكارثة أو الثورة

سامح سعيد عبود

كتبت منذ أكثر من سبع سنوات مقال بعنوان "ما قد يحدث من انتفاضة وما قد يعقبها من كارثة"، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=14176 ، وحدثت الانتفاضة بالفعل، ولكن ما لم اتوقعه أنها جاءت فى سياق موجة ثورية اجتاحت العديد من بلاد العالم عامة، والبلاد العربية خصوصا، وهو ما سوف ينعكس بالضرورة على التطورات المحتملة لوضع الانتفاضة الثورية المصرية، كما أن ما سوف تؤول إليه الانتفاضة سوف ينعكس بدوره على تطورات الأوضاع فى الانتفاضات الثورية الأخرى، التى لا يمكن فصلها أو عزلها عن بعضها البعض فى انتصاراتها أو فى اخفاقاتها، ومن ثم فضمان انتصار الانتفاضة المصرية وغيرها من الانتفاضات فى البلاد الأخرى، وتحولها لثورات تحرر اجتماعى حقيقى، مرهون بوحدة القوى الاجتماعية الثورية المتشابه فى مصالحها فى البلاد التى نشبت فيها الانتفاضات الثورية، والبلاد التى مازالت تنتظر دورها فى الانتفاض، تلك الوحدة لابد و أن تكون شيئا أكبر من مجرد التضامن الأممى، إذ لابد وأن تتجاوزه لتوحد تنظيمى واستراتيجى، ذلك أنه فى حالة انعدام هذه الوحدة، فإن انهيار كل أو بعض تلك الانتفاضات وانكسارها سوف يكون هو الأكثر احتمالا من احتمالات انتصاراتها، وتحولها من انتفاضة ثورية محدودة الأفق إلى ثورة تحرر اجتماعى.

فتلك الانتفاضات الثورية خاصة فى البلاد العربية تواجه أربع احتمالات للتطور، إما نجاح النظام فى إعادة إنتاج نفسه مجملا نفسه ببعض الإصلاحات الشكلية فى الأشخاص فبدلا من حسنى مبارك يأتى عمر سليمان أو شفيق أو عمرو موسى، وإما نظام أكثر ديمقراطية وتحرر، وأقل فسادا وحداثة، مع الحفاظ على الجوهر الرأسمالى للنظام، أو السقوط فى الفاشية أيما كانت ايديولوجيتها دينية أو قومية، سواء أكانت تميل يسارا أو يمينا، أما الاحتمال الأخير فهو تحول تلك الانتفاضات لثورات اجتماعية تتجاوز الرأسمالية والدولة المركزية القمعية وبيروقراطيتها، وأبواب كل تلك الاحتمالات مفتوحة، تزداد أو تنقص فرصها فى الحدوث، بتفاعل العديد من العوامل المحلية والدولية.

تلك الزاوية الأممية للرؤية تتناقض بالطبع مع الزوايا المحلية السائدة، و غلبة التيارات السياسية التى تصدر الخطابات القومية والدينية والشعبوية والإصلاحية على الساحة السياسية، وهو ما يشكل خطرا على التطور المأمول لتلك الانتفاضات، وانخفاض السقف المتاح لتطورها، فتلك الزوايا المحلية ضيقة الأفق تتجاهل أن نجاح الثورة الديمقراطية فى بلد كإيران سوف يشكل دافع كبير لنجاح الانتفاضات الديمقراطية التى تجتاح العالم العربى بدلا من سقوط ثورات تلك البلاد فى هوة الدولة الدينية الاستبدادية بطبيعتها، و أن سقوط ولاية الفقية سوف يشكل هزيمة للإسلام السياسى باعتباره العقبة الكبرى فى طريق التحول الديمقراطي الجذرى فى المنطقة العربية، وتتجاهل أن توازنات القوى الدولية، والجذور العالمية للأزمة، وما أدت إليه من انتفاضات، يمكن أن تشكل حائط الصد أمام القوى الشعبوية دينية كانت أو قومية لتولى سدة السلطة، وتحقيق كامل رؤيتها الأيديولوجية، حتى ولو كانت تحظى على شعبية ظاهرة مقارنة بانحسار الشعبية عن القوى الليبرالية والعلمانية، وأنه لا سبيل للقوى الشعبوية الدينية والقومية، إلا أن تقدم الكثير من التنازلات المتناقضة مع ايديولوجيتها الأصلية، لو أرادت الحكم، والاحتفاظ به على المدى الطويل.

على صعيد آخر، فإن تصاعد حركات الاحتجاج فى أسبانيا واليونان وايطاليا المطالبة بديمقراطية مشاركة مباشرة بديلا عن الديمقراطية البرلمانية، والمعادية للرأسمالية، إلى وضع الانتفاضة الثورية، سوف يساعد القوى اليسارية الجذرية الهامشية فى الانتفاضة المصرية التى تطالب بتلك الديمقراطية وذاك التجاوز للرأسمالية، فى أن تتحول من وضع الهامشية إلى أن تشكل قلب العملية الثورية، ومن هنا فإنه لا يجب أن نتغافل على أننا نعيش فى حالة ثورية عالمية، لا مجرد انتفاضة محلية، و الا نتغافل عن أن بعض الأجنحة الثورية الفاعلة، تتبنى رؤية ديمقراطية اجتماعية جذرية، تعتمد على نفس القوى الاجتماعية، والوسائل الثورية، فى حين تستخدم السلطات وقوى اجتماعية أخرى معادية لتلك الرؤية نفس الأساليب فى مقاومة الانتفاضات الثورية فى أن تتحول إلى ثورات تحرر اجتماعى، ليقتصر الأمر عند بعض اجنحتها على بعض الإصلاح فى النظام التى لا تمس جوهره.

بلا شك أن النخب الحاكمة فى العالم سواء أكانت فى الحكم أم فى المعارضة سوف تنسق وتتضامن فيما بينها، وتتحد فيما بينها لو شكلت تلك القوى الثورية الجذرية خطرا على مصالحها المشتركة، و هى تتصارع أو تتحالف فيما بينها هنا أو هناك، فى هذا الموقف أو ذاك، متفقة فى النهاية على قمع الثورة ذلك لو كانت فى السلطة أو ترويضها باحتضان بعض مطالبها الثانوية لو كانت فى المعارضة، فأى ما كانت تلك النخب السياسية فى تلوناتها المختلفة فهى برجوازية الجوهر ، سلطوية المضمون، حتى ولو تبنت الديمقراطية البرلمانية، حتى لو اختلفت فى الأيديولوجيات والبرامج والشعارات المعلنة، فهى فى النهاية تعبر عن مصالح البرجوازية والبيروقراطية كى تحتفظ بأكبر قدر من كعكعة الهيمنة الاجتماعية، وهى تتصارع وتتحالف من أجل هذا الهدف المشترك.

العامل الذى لم يجعل الانتفاضة الثورية المصرية مجرد حدث محلى كما توقعته فى المقال القديم أن هناك أحداثا عالمية تدخلت فى صنع الحدث الثورى فى مصر ليشتبك مع غيره من الأحداث الثورية فى البلدان الأخرى، هو الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، وهو ما يجعل هذا العامل الدولى جزءا هاما لا غنى عنه عند تحليل الوضع الحالى وتطوارته المحتملة، والتى يمكن أن نشير فى عجالة لبعض معالمه، وهى أزمة الرهون العقارية، وأزمة منطقة اليورو التى عصفت باقتصاديات اليونان وأسبانيا، وأخيرا أزمة الديون المحلية الأمريكية، و هو ما أغفلت انعكاساته على الوضع فى مصر الكثير من التحليلات، فشابها الكثير من القصور.

وما يؤكد هذا أنه على عكس ما تدعيه كذبا أجهزة الإعلام من أن هذه الانتفاضات هى انتفاضات شباب الطبقة الوسطى المرتبط باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، والمطالبة فقط بالإصلاح الديمقراطى، فإن هؤلاء الشباب وأن كانوا فجروا الشرارة، فإن الشرارة ماكان لها أن تتحول لسعير يقلب عروش أربع طغاة حتى الآن دون دعم شعبى واسع النطاق، و لكى نفهم المسألة فلابد أولا أن نتخلى عن مفاهيم مغلوطة مثل الطبقة الوسطى، ومصطلحات نسبية بطابعها مثل الغنى والفقر، والعلم والجهل، ولكى نصبح أكثر دقة علينا أن نتعامل مع مفاهيم أكثر دقة للتحليل الاجتماعى، مثل البلترة والبرجزة، فالبلترة لا تعنى بالضرورة الفقر والجهل، والبرجزة لا تعنى بالضرورة الغنى والعلم، فالبلترة والبرجزة وضعيتان طبقيتان، مرتبطتان بالوضع فى علاقات الإنتاج ـ تضع من يقع تحت مفهوم أحدهما فى صراع مع من يقع تحت المفهوم الآخر، بصرف النظر عن مستوى معيشتهما وتعليمهما.

إننا حقا امام شباب متعلم ميسور الحال قادر على استخدام وسائل الإتصال الحديثة، ولكنه فى الحقيقة يفتقد مهارات العمل والحياة، و لا علاقة غالبا بين ما يمتهنه من عمل وما حصل عليه من شهادات علمية، بعضه متعطل عن العمل يعيش على حساب أهله، أو مهمش يعيش من أعمال تافهة، وبعضه يعمل بأجور لا تكفيه ضرورات الحياة، وحتى المتميزين والمحظوظين منهم، وبرغم ما يحصلون عليه من أجور متميزة إلا انهم يعملون كالعبيد حتى يحافظوا على ما يحصلون عليه من مميزات، وهم غالبا لا يملكون كبعض صغار الموظفين والعمال فرص الانخراط فى أشكال الاقتصاد السرى، وقد سدت أمامهم أبواب الحل الفردى أو ما كانت تقدمه لهم دولة الرعاية الاجتماعية، التى توفرت لآبائهم من متوسطى العمر طوال العقود الماضية، لكل هذا كانوا لابد أن يبادروا هم بالثورة إلا أنهم لم ينجحوا فى مسعاهم إلا عندما استطاعوا جذب القطاعات الواسعة من البروليتاريا الأكثر فقر، والأقل تعليما، ولا شك أنه امتدادا لتلك الرؤية القاصرة بل والمغرضة يحاول البعض تصوير انتفاضة 25 يناير على إنها مجرد ثورة برجوازية تقليدية ذات مطالب ديمقراطية وتحررية محدودة، متناسين أن البرجوازية الكبيرة فى الحكم فعلا بجناحيها الرأـسمالى والبيروقراطى، و لا تحتاج لثورة كى تصل إليه، لتحقيق مصالحها، صحيح أن الرأسماليون كانوا منقسمين لرأسماليى دولة مستفيدين من النظام، وآخرين من المغضوب عليهم، إلا أن المغضوب عليهم يعنيهم رضى الدولة عنهم واستفادتهم منها لا تغيير جوهر النظام الرأسمالى، ولذلك دعموا الانتفاضة ليركبوها ويقمعوها حتى لا تتطور لما هو أخطر على مصالحهم الجوهرية.

أن الانتفاضة ما كانت لتنجح فى تحقيق أول انتصاراتها دون التدخل الفعال لفئات كانت العدالة الاجتماعية هى دافعها الأول للثورة، وأن الانتفاضة منذ أول لحظة رفعت شعارات العدالة الاجتماعية جنبا إلى جنب شعارات الحرية والكرامة الإنسانية، وأن ما يمكن أن يحمي الانتفاضة من الارتداد أو أن تستولى عليها قوى غير ديمقراطية أو قوى لا تحقق أى قدر من العدالة الاجتماعية، هو الحفاظ على جانبها الاجتماعى و الطبقى، مع التحفظ بالطبع على كلمة العدالة الاجتماعية الإنشائية التى لا تحمل أى معنى دقيق وملموس ومحدد.

الانتفاضة الثورية هى الخطوة الأولى فى أى ثورة، و هى تتحول لثورة فعلية عندما تستطيع إحداث تغيرات فى البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية للمجتمع، وقد تنكسر لتعيد إنتاج النظام القديم، أو لما هو أسوء من ذلك، ومن المؤكد أن الانتفاضة المصرية قد حلت الكثير من مؤسسات النظام السياسية كمجلسى الشعب والشورى والمجالس المحلية والحزب الحاكم ومؤسسة الرئاسة ووزراء الحكومة، إلا أن النظام القديم مازال ماثلا فى ما هو أهم من بعض مؤسساته وشخوصه ورموزه، وهو الإطار الأيديولوجى والدستورى والقانونى والقيمى الحاكم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا.
لا شك أن النظام مازال قائما فى أسسه الاقتصادية و هى الأكثر جوهرية فى بنية النظام، من حيث أن الطبقات الحاكمة مازلت هى نفسها التى تحكم وتهيمن وهى مكونة من قسمين، بيروقراطية جهاز الدولة العتيدة الفاسدة، وفى القلب منها القيادات العليا فى الجيش، و القسم الآخر كبار الرأسماليين المرتبطين عضويا بالبيروقراطية الحاكمة، أما القطاعات الأخرى من الرأسمالية غير المرتبطة بجهاز الدولة وبيروقراطييها، والمتضررة من الوضع السابق، فسوف يكفيها فى النهاية،من خوضها غمار الانتفاضة، إما ارتباطها بجهاز الدولة، استمرارا لنفس النظام القديم، أو مجرد تحول ديمقراطى يضمن لهم فسادا أقل، وتدخلا أقل للدولة فى أعمالهم، وفرصا أكثر للعمل، بعيدا عن قبضة الدولة الحديدية على رقابهم، أنهم فى النهاية لا يسعون سوى إلى مجرد إصلاح لنفس النظام وتحديثه.
لن يتحقق أى انتصار نهائى للانتفاضة وتحولها إلى ثورة إلا باسقاط كافة من كان لهم سلطة اتخاذ القرار فى جهاز الدولة، بل وحتى قطاع واسع من صغار موظفى هذا الجهاز الفاسدين، وإعادة هيكلة وتطهير كافة مؤسسات الدولة، وبناء مؤسسات بديلة عنها، وإزالة كل الهيكل القانونى للنظام، والمؤسسات المبنية علي أساسه، وتغيير القيم الحاكمة، من أجل تقليص مهام الدولة ومركزيتها، وتغيير آليات عملها المتوغلة فى كل شأن عام وخاص، و فى النهاية فإن الثورة سوف تفقد معناها دون قدرتها على مصادرة كل الأموال النقدية والمنقولة والعقارية التي يثبت أنها جاءت فى أصولها من الجرائم والفساد الإدارى والمضاربات والمراهنات المختلفة على الأموال والأسهم والعقارات والمنقولات، وكل الثروات المعدة للمراهنات والمضاربات بلا تعويض، ذلك لإن غالبية الرأسماليين فى مصر وأعوانهم من رجال الدولة والبيروقراطيين ليسوا كهؤلاء الذين طالما انتقدتهم الحركات الاشتراكية، وأثبت لصوصيتهم ماركس، لأن هؤلاء شرفاء بمنطقهم البرجوازى..المشكلة أن معظم الرأسماليين لدينا مجرد لصوص تقليديين ينطبق عليهم قانون العقوبات البرجوازى نفسه لا قانون الثورة ضدهم، ومن ثم فمصادرة أموالهم لصالح الشعب ليس اجراءا اشتراكيا ثوريا، وإنما هو إجراء قانونى لتحقيق العدالة وفق القانون البرجوازى نفسه، فتلك الأموال هى التى تدعم قوى الثورة المضادة الآن، وسوف تدعم إعادة إنتاج النظام القديم، وإعاقة اصلاحه لما هو أفضل.
الانتفاضة الثورية المصرية شأنها شأن كل انتفاضة ثورية انضمت إليها أجنحة وقوى طبقية من الحلف الطبقى الحاكم، فلا شك أن الجيش وقطاعات أخرى من بيروقراطية الدولة كانت معارضة لمشروع توريث الحكم، وشلة المحاسيب المرتبطة بمبارك وآله، ولذا شاركت فى الانتفاضة، حماية لمصالحها هى لا مصالح الثوار الذين ذبحوا على مرأى منها، ولكنها ما إن ضمنت تلك البقاء على تلك المصالح حتى انقلبت على الثوار، فأصدرت قانون تجريم الاضرابات، وشرعت فى تقديم الثوار للمحاكم العسكرية، وهذا شأن كل ثورة فى التاريخ، تقلبات للقوى السياسية والاجتماعية ما بين معسكرا الثورة والثورة المضادة، فحلفاء اليوم قد يصبحوا خصوم الغد وهكذا.
وكل هذا يستلزم نضال قد يستغرق جولات من انتفاضات ثورية أخرى تعتمد على استمرار روح الثورة لا انتصار نغمة الاستقرار، و من ثم فعلينا أن ننتزع مكاسب أخرى فى هذا الطريق، وإلا فإن الردة ستسلبنا أى مكاسب.
فمازلنا فى طور الانتفاضة الثورية حيث لم تنضج الثورة بعد و من أجل هذا نحتاج لمزيد من الزخم الثورى بعد أن فترت همة الناس بعد أن أوهموها أنها انتصرت فى حين أنها لم تسقط حتى النظام بعد أن اكتفت برأسه حيث
وقعت الإنتفاضة المصرية فى مأزقها الحالى لأنها ببساطة شخصنت الصراع مطالبة برحيل مبارك ورجاله لا سقوط النظام بكامله الذى يعد الجيش أحد أعمدته الأساسية، وتحت ادعاءات وطنية الجيش تم تسليمه السلطة، وها هو يعبث بالشعب من أجل تجديد النظام لا انهائه، ونحن أمام مشكلة أن من خرجوا يوم 11 فبراير خرجوا من أجل اسقاط مبارك لا الجيش فماذا نفعل الآن إلا التحريض والدعاية مجددا من أجل اسقاط النظام.ذلك النظام الذى لم ينشأ بتولى مبارك سدة الحكم بل من يوم أن تولى العسكر فى مصر الحكم.