الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

حول ما أثير مؤخرا عن اسقاط الدولة المصرية

حول ما أثير مؤخرا عن اسقاط الدولة المصرية

سامح سعيد عبود

الدولة مفهوم يحدده التعريف القانونى ، وحسبما أذكر فقد اشترى بريطانى أحد الجزر الصغيرة، وأعلن فيها دولته التى كان مواطنها الوحيد. وهو لم يخالف فى ذلك التحديد القانونى للدولة الذى يحدد عناصرها فى ثلاثة هى الإقليم الجغرافى والشعب والسلطة الحكومية، ولأن الدولة ليست كيان ثابت ونهائى وخالد، فالدول تنشأ وتسقط بتغير أحد عناصرها الثلاث، فالأقاليم الجغرافية تندمج وتتجزأ ، والشعوب تتحد وتنفصل، والسلطات الحكومية وطبيعتها تتغير وهكذا. و من ثم فسقوط الدولة يمكن أن يعنى اسقاط النظام لا إبادة الشعب أو تفتته، ولا انقسام الإقليم الجغرافى أو محوه، و من يطالبون بالوحدة العربية أو الإسلامية أو انفصال النوبة يدعون لسقوط الدولة المصرية، لتتشكل دولا أخرى على أنقاضها، برغم أن هذا لن يعنى مطلقا اختفاء الشعب المصرى والإقليم المصرى من الوجود، شأنهم فى هذا شأن المطالبين بعودة الملكية إلى مصر، ومن ينادون بالدولة العمالية على أنقاض الدولة المافيوية البيروقراطية القائمة، وحتى الليبراليون الحالمون بدولة البرجوازية الليبرالية.

المقصود بالنظام فى الدولة هو السلطة الحاكمة لا الإقليم الجغرافى و لا الشعب، وانطلاقا من هذا الفهم فإن دولة جديدة قد تكونت على نفس الإقليم الجغرافى وبنفس الشعب فى يونيو 1953 بعد أن أسقطت سلطة الإنقلاب الدولة الملكية السابقة، و أعلنت الجمهورية، وهى الدولة التى مازلت قائمة حتى الآن، والذى أصبح من الملح اسقاطها الآن وليس غدا، إذا ما أردنا شفاءنا كشعب من الغرغرينا التى أصابتنا بها تلك الدولة المتهالكة، وإلا لما سامحتنا الأجيال القادمة على تهاوننا فى حقهم، بتهاوننا فى التصدى لها و إسقاطها، و ذلك لما سببته للشعب المصرى من تدهور أعاده عمليا لما قبل الحملة الفرنسية على مصر، فبدلا من عصابات المماليك أصبحت تحكمنا فى ظلها عصابات مافياوية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهم لا يختلفون كثيرا عن المماليك فى أساليب نهبهم وقمعهم لنا وإدارتهم للبلاد.

حسب توقعات علمية مؤكدة و وفق دراسات مدققة، المصريون مهددون فعليا بالانقراض فى العقود القليلة المقبلة، بسبب ضياع الأرض الزراعية للأبد، و خطر نفاذ البترول والغاز، والانفجار السكانى، وتضخم الديون، والتهديد البيئى بغرق الدلتا والساحل الشمالى، والفقر المائى، والاقتصاد الريعى والخدمى الهش، والانحدار الحضارى والثقافى والتعليمى والأخلاقى، وهذا ليس بحديث انشاءى، بل واقع ملموس لا تخطئه عين، وهى أسباب تسببت فيها سوء إدارة المافيا الحاكمة، و تفضيلها تلبية مصالحها الأنانية على حساب مصالح الشعب، و لا يهدد هذا البلد بضع مئات من الأناركيين والاشتركيين الثوريين لاحول لهم ولا قوة إلا كلمات ينشرونها بين الناس، فأفيقوا لعلكم تنقذون ما يمكن انقاذه إذا كنتم حقا تحبون هذا البلد كما تدعون، وحريصون على مستقبل أبناءكم كما تظنون.

وعلى مستوى آخر فمن المفهوم أن سلطة الدولة وطبيعتها ووظائفها تتغير مع تغير طبيعة نمط الإنتاج السائد، فالدولة ما قبل الحداثة الرأسمالية غير الدولة الرأسمالية. و الدولة القومية البرجوازية الحديثة كما نعرفها الآن نشأت مع بداية الرأسمالية، وهى مرتبطة بالرأسمالية وجودا وعدما، و لا يمكن اسقاط تلك الدولة إلا باسقاط الرأسمالية نفسها، و لا يمكن اسقاط الرأسمالية إلا باسقاط تلك الدولة، ولما كانت الرأسمالية نمط إنتاج عالمى فهو لا يمكن اسقاطه أو تجاوزه إلا على نطاق عالمى، لسبب جوهرى هو أنه لا يمكن تحقيق أى اكتفاء ذاتى لأى بلد فى ظل هذا المستوى الحالى من التكنولوجيا الذى لا يمكن تغييره فى يوم وليلة وإلا سقطنا فى اليوتوبيا أو انزلقنا للمجاعة والاستبداد ككوريا الشمالية، ومن ثم فاسقاط الدولة التى أسستها الرأسمالية لن تنتهى إلا بسقوط كل تلك الدول البرجوازية على نطاق عالمى، أما سقوطها فى بلد واحد فلن يؤدى إلا لدولة برجوازية جديدة على نفس الطراز، فطالما هناك دول برجوازية أخرى فلابد من بقاء الدولة على الأقل فى حدود الدولة الحارسة، أى مجرد جهاز جبائى وأمنى تنحصر وظائفه فى التمثيل الخارجى والدفاع الخارجى والأمن الداخلى والعدل وجباية الضرائب مضافا إليه إدارة المرافق العامة.

وهذا لاينفى أنه من الممكن حتى فى هذا السياق أن يوفر الشعب لنفسه الأمن الخارجى و الداخلى والعدل وإدارة المرافق العامة بمؤسسات حكومية أو مدنية أقل مركزية،و أقل بيروقراطية، وأكثر ديمقراطية، و أكثر خضوعا للرقابة الشعبية.

الدولة الرأسمالية الحديثة على عكس الدولة ما قبل الرأسمالية قد زاد فيها تدخل الدولة فى شئون مواطنيها المدنية لتجور على المساحات التى كان يشغلها المجتمع المدنى من قبل، وكان الهدف من هذا التدخل المتزايد من قبل السلطة فى شئون المواطنين لخدمة البرجوازية القومية والدفاع عن مصالحها، سواء فى توحيد السوق القومى أو مقتضيات تحقيق التراكم الرأسمالى والنمو و ما نتج عن ذلك من إجراءات جارت على حرية الأفراد، وهو السبب الجوهرى فى عداء الأناركيين لتلك لدولة وهجومهم عليها ونضالهم لسقوطها، وهم يعارضون أيضا الدولة العمالية التى يطرحها الماركسيون، لأنها فى رأيهم سوف تعيد انقسام المجتمع لطبقات حاكمة وطبقات محكومة، إلا أن هذا مؤجل طرحه لحين اندلاع ثورة عالمية ضد الرأسمالية لا تلوح فى الأفق القريب على الأقل رغم الموجة الثورية العالمية الحالية.

ومن زاوية أخرى فقد طالبت القوى الثورية وما زلت تطالب باسقاط النظام، أى باسقاط السلطة الحاكمة، أحد عناصر الدولة، و لم تكن غاية تلك القوى الثورية مجرد إزاحة حسنى مبارك ورجالة من دائرة الحكم، و لا مجرد إفشال مشروع توريث الحكم، وكان الهتاف الموحد هو الشعب يريد اسقاط النظام، والشعار الآخر حرية كرامة إنسانية عدالة اجتماعية، و هو ما لم نقترب من أى منهم على أى نحو، ولذلك فمازالت الثورة مستمرة ما لم تستسلم قوى الثورة والشعب وتكتفى بالفتات الذى رمته لها العصابة الحاكمة.

نظام الحكم هو إطار تشريعى قائم على قيم وفلسفة محددة،يعبر عن مصالح الطبقة الحاكمة،وهى فى حالتنا مزيج من الرأسماليين والبيروقراطيين، وهذا الإطار هو الذى يحكم مؤسسات النظام أو الدولة الذى يتولى إدارتها فى النهاية أشخاص زائلون، ومن المفهوم أن كلا من الإطار القانونى ومؤسسات النظام يحددان سلطة الدولة ليتبقى العنصران الآخران للدولة وهما الشعب والإقليم وهو ما لم يطالب أحد بالمساس بهما على أن نحو فالعنصر صاحب السيادة وهو الشعب طالب باسقاط العنصر الثالث فقط ليعيد بناءه وفق إرادته الحرة، وهو الأمر الذى مازالت تطالب به القوى الثورية، وهذا يعنى اسقاط الشرعية على كل الإطار التشريعى للنظام وتصفية مؤسساته السيادية وغير السيادية ليعاد بناءها على أساس الشرعية الثورية التى تعيد تأسيس إطار قانونى جديد يؤطر مؤسسات النظام الجديد.

الدولة التى طالبنا باسقاطها دولة تتركز فيها كل السلطات التنفيذية والتشريعية بيد رئيس الجمهورية، زعيم المافيا الحاكمة، المكونة من كبار رجال الدولة والإدارة البيروقراطين، مدنين وعسكرين، ملحق بهم كبار الرأسماليين المرتبطين بتلك العصابة المملوكية فضلا عن من يتم الرضاء عنهم من قبل تلك العصابة من إعلاميين ومثقفين ورجال دين وتعليم وفنانين وما إلى ذلك، ليصبح رأس العصابه وأهواءه الشخصية محور الدولة والمجتمع ليدور تابعيه فى فلكة ، أما الشعب فلاشىء له إلا الخضوع والاستسلام، ولذلك ثار من أجل أن يسترد حقه فى تقرير مصيره مطالبا باسقاط تلك الدولة تحديدا، وهذا لايعنى سوى شيئا واحدا هو تصفية تلك العصابة وتنحيتها عن مواقعها ومحاكمتها على ما اقترفته من جرائم بحق هذا الشعب، ومصادرة أموالها لصالح الشعب، وتصفية مؤسساتها الحكومية ليعيد الشعب بناءها وفق مصالحه، مرسيا لدولة جديدة على أنقاضها. ونحن حتى الآن لم نستطع سوى إزاحة رأس العصابه ، وبعض كبار مساعدية من على مشهد الأحداث لكن العصابة مازالت تحكمنا وتضطهدنا وتسرقنا، وتهدد مستقبل أبناءنا وأحفادنا.

يتهمون الأناركيون بالتأمر لإسقاط الدولة، إلا أن الأناركيون فى غالبيتهم موقنين أن الأناركية الكاملة إى انهاء الرأسمالية واسقاط دولتها وحضاراتها، مشروع مؤجل للمدى البعيد لأنها لا يمكن أن تتحقق إلا على نطاق عالمى لأسباب موضوعية مرتبطة بالتطور اللامتكافىء بين دول العالم المتقدمة والمتخلفة، وطبيعة الجيوش المركزية، وحقيقة عدم قدرة أى بلد على الإكتفاء الذاتى، والطبيعة العالمية للنظام الرأسمالى، وارتباطه بنموذج الدولة البرجوازية لحديثة، ولا يمكن تجاوز كل هذا على نطاق محلى، إلا بالوصول لمستوى معين من التطور التكنولوجى والثقافى، فالعالم لايتغير بالأحلام والخطب والشعارات والمؤامرات كما يتوهم المختلين عقليا بل يتغير بتوافر الشروط الموضوعية لتغيره، والتغير الاجتماعى لا يتم بدعوات تقبل أو ترفض بل بإرادة الجماهير الجماعية الواعية ، وعوامل واقعية أخرى منفصلة عن إرادتها.

وفى نفس الوقت يرون أن الاقتراب من الأناركية وليس تحققها بشكل كامل محليا ممكنا بطريقين أولهما بناء نماذج أناركية تعاونية تحررية على هامش المجتمع ، وثانيهما بتقليص مهام الدولة المركزية إلى حدود الدولة الحارسة السابق ذكرها مع توسيع اللامركزية الإدارية و تطبيق الديمقراطية شبة المباشرة والمباشرة على مستوى الدولة والمحليات، و فى مواقع العمل والسكن والتعليم، و توسيع التعاونيات التحررية فى مقابل تقليص الرأسمالية وقطاع الدولة العام فى الخدمات والإنتاج وهكذا، فما يطرحه الأناركيون ممكن وموجود بالفعل، يؤكده الواقع والتاريخ لنتأكد سويا أنهم أكثر واقعية مما يتخيل البعض فالتعاونيات التحررية، و تجارب الإدارة الذاتية لمنشئات العمل ومواقع السكن محليا وعالميا، و اعتصام التحرير الأول، و حماية المواطنين لمساكنهم، وتنظيم المرور بعد الانفلات الأمنى، و النظام السياسى السويسرى القريب إلى حد كبير مما يدعون إليه يؤكد أنهم ليسوا دعاة فوضى بل نظام.

سويسرا بلد لايتجاوز سكانه سبعة ملايين نسمة و لا تتجاوز مساحته مساحة الدلتا، وهى دولة فيدرالية ديمقراطية برجوازية تمثيلية لكنها تطبق الفيدرالية، و لامركزية الإدارة، و تطبق الديمقراطية التوافقية فى تشكيل السلطة التنفيذية لأنها لا تقوم فى تشكيلها على أساس مبدأ الغالبية الحاكمة،و ليس لها رئيس حكومة تنفيذية دائم، فالرئاسة دورية بين أعضاء المجلس التنفيذى المنتخب من البرلمان محدود المدة، وتطبق سويسرا الكثير من قواعد الديمقراطية شبة مباشرة، كحقوق الاستفتاء والاقتراح والاعتراض الشعبين، والحق فى إقالة النائب وانتخاب وإقالة المسئولين التنفيذين، والملفت للنظر أن كل سكان سويسرا مسلحون ومدربون على حمل السلاح، ولذلك لم يجرؤ هتلر على غزوهم رغم غالبية المتحدثين بالألمانية هناك، وسويسرا هنا مجرد مثال تقريبى فقط لكنها طبعا لا تمثل لأناركية التى سبق وأشرنا أنها مستحيلة إلا على نطاق عالمى،ولذلك يوجد أناركيون فى سويسر يقاطعون تلك الديمقراطية البرجوازية ويرفضونها، فسويسرا بلد رأسمالية و مازلت ديمقراطيتها تمثيلية، وبالمناسبة الديمقراطية السويسرية مستقرة لأكثر من ثمانى قرون مما يثبت أن لا مركزية الدولة و لا أحاديتها ولا تجانسها القومى والدينى ولاجيوشها المحترفة هى ما تضمن الاستقرار والإزدهار والأمن كما يروج الفاشيون والمحافظون عندنا الذين يروجون للنموذج التركى الفاشى ولا يلتفتوا للنموذج السويسرى.