السبت، 23 يوليو 2016

حكاية الإيجو الخاص بى

حكاية الإيجو الخاص بى
سامح سعيد عبود
الإيجو كلمة معناها الأنا، الذات، الهوية، الشخصية، فى مقابل أناوات و ذوات و هويات و شخصيات الآخرين، تريليونات البشر الذين وجدوا على الأرض من ملايين السنين دائما كان لديهم أوهام تتعلق بالإيجو سواء الخاص بهم أو الخاص بالآخرين.
معظم الناس تجدهم متمركزين حول الإيجو الخاص بهم، أفكاره و رغباته، ومشاعره، و تجاربه دون اهتمام بأفكار و رغبات الآخرين ومشاعر وتجارب الآخرين، تجد الكثير منهم حينما يفكرون و يتعاملون مع الآخرين يظنون انهم مركز الكون والوجود، وانه يمكن أن تبقى ذواتهم خالدة لا تفنى، أو ثابتة لا تتغير، أو يظنون أن صفاتهم مطلقة و ليست نسبية، أو انها منتج نهائى، أو جوهر ثابت أبدى، وجد هكذا مرة واحدة، لا يتطور و لا يتغير و لا يتحول، بدءا من نشوئه وأثناء نموه وتحولاته وتغيراته عبر رحلته، حيا ثم  ميتا، و ما بعد موته.
الحقيقة أن معظم آلام الناس النفسية وأسرار تعاستهم، وصراعاتهم، نابعة من أوهامهم حول الإيجو الخاص بهم، أو من محاولة تحقيقها، أو بسبب تمركزهم وتكلسهم حول ذواتهم و أنفسهم وهوياتهم. 
و هم خلود الإيجو  وثباته وجوهريته فى النهاية هو سر الألم المصاحب لحياة كل البشر مهما بلغت درجة رفاهيتهم، وتوفر أسباب السعادة لهم، الألم المصاحب للحرمان من رغبات الإيجو ومن محاولات اشباعها، و من اشباعها على السواء، الألم المصاحب للاختلاط بالآخرين أو بالبعد عنهم. ألم التعلق بالأشياء والرغبة فى حيازاتها والخوف من فقدها والصراع مع الآخرين عليها.
و لذلك سوف أحكى قصة الإيجو الخاص بى، من أين أتى؟ و إلى أين يذهب؟ و هى نفس قصة كل ايجو وجد على الأرض، و هذا بمناسبة خروجه بالهارد وير و برنامج التشغيل الأساسى ، من رحم أمى فى مثل هذا اليوم  من 60 سنة، ربما نفهم الأساطير و الأوهام المسيطرة على عقول البشر بخصوص الإيجو كى يتحرروا منها، مستندا فى ذلك طبعا على حقائق العلم المؤكدة و اليقينية والمبرهن عليها، و ليس على أى خرافات بخصوص ذواتهم يؤمن بها البشر بلا دليل.




المواد الخام للهارد وير أى الجسد وللسوفت وير أى الوعى بدء تشكليها منذ أن بدأت الحياة على الأرض من بلايين السنين، جزيئات الحمض النووى الديبوزى(الدى إن ايه) بما فيه من جينات محمولة على الكروموزومات والحمض النووى الريبوزى والبروتينات وجزيئات أخرى. بعيدا عن هذا التاريخ الطويل بتفاصيله الطويلة، نستطيع أن نبدء رحلة تصنيع برنامج تشغيل السوفت وير  الخاص بى من حوالى قرنين تقريبا ، كان هناك 16 زوج من الأجداد والجدات و هؤلاء أتوا بدورهم من 32 زوج من الجدات والأجداد، أتو بدورهم من 64 زوج و هلم جرا،  لا أعرف من هم ومن أين جاؤوا  و ماذا كان مصيرهم؟، و لا مدى مشاركة كل واحد منهم على وجه اليقين فى الكرموزومات التى تحمل الجينات الوارثية التى هى برنامج التشغيل الخاص فهى ليست مؤكدة، المهم أنهم على السواء لا أعرف أى معلومات عنهم، كلها ذهبت إلى المجهول والنسيان للأبد، كل ما اعرفه اسم جد جدى الذى ينتهى إلي اسمى على خط الذكور، من المؤكد إنه شارك بكروموزم y"" من بين الستة وأربعين كروموزوم الذين يشكلون برنامج التشغيل الخاص بى، مع ملاحظة أن خطوط الجدات هى الأكثر غموضا ونسيانا و المجهولة أكثر من خط الأجداد الذكور الذى يحملهم أسمى، برغم إنهن لا يعطين كروموزومات فقط مثل الأجداد  لكنهن يورثن مكونات ثانية فى الخلية الحية مثل الميتاكوندريا التى تحتوى على نسخة كروموزومات اضافية.
أتى من نسل الستاشر زوج ثامنى أزواج من الجدات والأجداد، و ليس لدى أى معلومات عنهم، غير اسماء ثامنى أجداد مؤسسون لثمانى عائلات مختلفة، و أعرف جدة واحدة من زوجاتهم، و هؤلاء مشاركتهم بالكروموزومات تضاعفت، وتكررت نفس الحكاية مع الأربع أزواج التاليين ليهم، وهنا زادت المعلومات قليلا، و قل الغموض بخصوصهم ، على الأقل اعرف أسماء أربع أجداد و ثلاث جدات من بين أربعة، و روايات شفوية عنهم و عن عائلاتهم ، و بهذا نصل إلى الزوجين من الأجداد والجدات اللذان هما أباء و أمهات ابى و أمى، وهنا زادت المعلومات ، حتى وصلنا للزوج اللى شارك كل منهم بثلاثة وعشرين كروموزوم، فى ليلة شتوية  تعيسة قبل تسع شهور من خروجى من  الرحم.
هنا بدء السوفت وير المتكون حديثا يشتغل، و الهارد وير الخاص بالإيجو يتكون من خلية مكونة من بويضة الأم و الحيوان المنوى الفائز من بين  ملايين الحيوانات المنوية الذين تم قذفهم بعد سباقهم خلال قناة فالوب للوصول للبويضة فى عنق الرحم، و نمت الخلية الأولى بالانقسام إلى،2.أثنتين ثم أربعة فثمانى و هكذا ..... لتعيد قصة تطور الكائنات الحية باختصار، حتى تحولت لجنين كامل النمو مستعد لاستقبال العالم، بعد تسع شهور من وجوده فى الرحم، و بالطبع كانت هناك مؤثرات خارجية تؤثر فيه، الأكل والأدوية اللى تناولتها امى، و حالتها النفسية، أثناء الحمل.
خرجت للدنيا فى مثل هذا اليوم، و أصبح لى ايجو يعترف به المجتمع، و أحمل اسما، لم اختاره، مثل كل الناس الذين لم يختاروا اسمائهم، وهذا أول ما فرضه المجتمع علي دون أخذ رأيى،  و لكن بالرغم من ذلك فهناك من يدفع الكثير من أجل خلود هذا الاسم الذى لم يختاره، و حتى يظل الناس يذكرونه به بعد مماته... سواء بالانجاب وخصوصا للذكور الذين سوف يحفظوا الاسم من النسيان، أو بأوهام تحقيق الذات والشهرة التاريخية. و تركز الغالبية الساحقة الناس فى حياتها على نقل كروموزوماتها بالجينات المحملة عليها باعتبارها الهدف الأسمى لوجودها، لأجيال أخرى بصرف النظر عن عيوبها ومحاسنها لأبنائها، وبصرف النظر عن إن هذه الكروموزومات والجينات التى سوف يحمل أبنائهم نصفها وأحفادهم المباشرين ربعها، سوف تتبعثر عبر أجيال من الأبناء و الأحفاد وأحفاد الأحفاد.
من هذه اللحظة بدء تنزيل البرامج المساعدة على الجزء الخاص المتحكم فى الهارد وير أقصد المخ، آلاف الملفات يتم تحميلها فى الذاكرة، معظمها لم أختارها طبعا، لا يوجد من يختار دينه الأصلى ولا لغته الأم، ولا عاداته ولا تقاليده الأصلية، ولا تفضيلاته، ولا اذواقه ، ولا ميوله، و لا ثقافته ولا قيمه، ولا معلوماته و لا صفاته الشخصية الجوهرية، على الأقل فى سنين التكوين الأولى، و هو ما يصعب تعديلها فى المستقبل، ويظل معظم البشر متأثرين بها حتى موتهم، و ذلك فى الوقت الذى يكون الشخص عاجزا فيه عن التفكير والاختيار والنقد، كل هذا بالإضافة لبرنامج التشغيل الأصلي المكون من 46 كرموزوم بما فيهم من ملايين الجينات باعتبارها أوامر تتحكم فى الهارد وير ، أى جسمى، وتحدد صفاتى الشكلية و سلوكى وتفكيرى وكلامى ومشاعرى الخ، وهى التى تشكل هويتى وشخصيتى التى لم أختارها، و برغم ذلك أتوهم انى حر أو ممكن أن ابقى حر و هو وهم إلا فى حدود ضيقة للغاية ، وبرغم  تلك الحقيقة نعطى لأنفسنا الحق فى محاسبة الآخرين علي أشكالهم و على ما يفعلون ويتكلمون ويشعرون ويفكرون.. ونطمح فى تغييرهم، صحيح يمكنى عندما  أكبر أن اعدل قليلا فى بعض البرامج والملفات التى تؤثر فى و يمكنى أن أؤثر فى بعض الناس فيتغيرون، و لكن ليس الكثير منها مثلما نظن. 
و هذه العملية من برمجة الهارد وير المتبادلة بينى وبين الآخرين، لن تتوقف إلا بالموت، فطول الوقت يتم برمجتى ببرامج و يتم انزال ملفات على الهارد الخاص بى بعضها ممكن اتحكم فيه،بإرادتى ، لكن معظمها لا يمكنى التحكم فيه، و يتم باستمرار التأثير فى السوفت وير أى الوعى الخاص بى عبر كل العلاقات التى انخرط فيها مع الآخرين، مثلما لا أتوقف أنا عن برمجة الآخرين وانزال ملفات على هارداتهم و التأثير في وعيهم.
و طالما أحيا فإن خلايا جسدى لن تتوقف عن الانقسام، و الميلاد و الشيخوخة والموت، جسدى لن يتوقف عن النمو والاضمحلال، ولن تتوقف اعضائه عن الاعتلال والصحة، حتى الجزيئات والذرات التى تكون جسدى لن تتوقف عن التبدل بجزئيات وذرات جديدة من البيئة المحيطة، بما أتناوله من طعام وشراب و عقاقير وأكسجين، وأخرجه من براز وبول وعرق وثانى أكسيد كربون. جسدى الذى تحدد تفاصيله الظاهرة الجلد والشعر الذى قد يبدو جميلا أو قبيحا، جذابا أو منفرا،، يحوى فى كل الآحوال بداخله على الطعام المهضوم والبول والبراز والدم والقيح وكل ما هو مثير للقرف من افرازات.

أحزانى وأفراحى، قلقى واطمئنانى، مرضى وصحوى، كسلى ونشاطى، نومى ويقظتى، انتباهى وغفلتى، شرى وخيرى، عصبيتى وهدوئى، كلامى وصمتى، حيرتى ويقينى، ذكائى وغبائى ...هى فى النهاية نتيجة تفاعلات بين جزيئات كيميائية تسرى فى جسدى من البيئة خارجه أو من داخله.
 وكما يتغير جسدى طول الوقت، يتغير الإيجو الخاص بى أو وعى ، برامج تمسح و تفسد و تتعطل وتتعدل ، و برامج ثانية تنزل وتنشط وتتجمد، ملفات تنسى من الذاكرة القريبة والذاكرة البعيدة، وملفات ثانية تنزل، إلى أن تجىء لحظة توقف الهارد وير الخاص بى أى جسدى تماما عن العمل و يموت، فى تلك اللحظة سوف يتلاشى السوفت وير كله مع الجسد الميت، و لن يمكن استعادته، فهل رأيت  سوفت وير موجود هكذا  من غير أن يكون محملا على سى دى أو فلاشة أو هارد، و هل ممكن بعد تلف السى دى أن يتم استرجاع البرامج المحملة عليه، وهل ممكن فصل السوفت وير عن الهارد وير المحمل عليه.
هنا سوف تنتهى قصة الإيجو  الخاص بى مثل أى ايجو وجد على الأرض.
و بعد أن يموت الهارد وير ويضيع السوفت وير المحمل عليه للأبد ، كل ما سوف يبقى هو بعض الذكريات عنى، وتأثيراتى فى ذوات الآخرين و فى وعيهم، وبالنسبة للذكريات فأنها  فى الأحوال العادية للغالبية العادية من البشر سوف تبقى لخمسين سنة بعد موتى، و وسوف تقل تأثيراتى السلبية والايجابية فى و عى الآخرين بمرور الزمن، وكل ما تركته من بصمات فى الحياة سوف يزول ويتبعثر، و يسقط فى النسيان، تلك هى قصة كل ايجو. لعلكم تتعظون...ايتها الكائنات شديدة الغرور.