رؤية بديلة للشرق الأوسط
رؤية بديلة للشرق الأوسط
سامح سعيد عبود
تحول اليهود من قبائل بدوية تمارس الرعى فى الصحارى الواقعة ما بين مصر و بابل فى العصور القديمة ، إلى جماعة وظيفية فى العصور الوسطى تعمل أساسا فى بعض الحرف والمهن مثل التجارة و الصيرفة والسمسرة و الإقراض ، وقد أقاموا طوال هذه الفترة فى أحياء معزولة فى مدن المناطق المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط ، وقد تعرضوا لسلاسل من الاضطهادات فى أوروبا ،والتى كانت تخفى الصراع الحقيقى بينهم وبين بعض الملوك و الأمراء و النبلاء الاقطاعيين، ومنافسيهم من التجار والحرفيين المسيحيين .و مع انتصار الرأسمالية النهائى على الإقطاع ، تخلص اليهود من اضطهادهم المستمر فى غرب أوربا ، باستثناء الفترة النازية والتى كانت ذروة هذا الاضطهاد ، وإن كان الاضطهاد ظل مستمرا فى شرق أوروبا حتى قيام الثورة الاشتراكية ، و كان من نتيجة هذا أن خرج اليهود من عزلتهم الاجتماعية و تحللت روابطهم المهنية والحرفية ، إلا أنهم فى نفس الوقت فقدوا صفتهم كجماعة وظيفية حافظت على تلاحمها طوال القرون البنية الاجتماعية الاقطاعية الراكدة ، والتى تضع أسوارا لا يمكن اجتيازها ما بين الطبقات والجماعات والطوائف المختلفة التى تكون المجتمع الاقطاعى ، و من ثم تعرضوا للتفكك كجماعة متجانسة بسبب البنية الرأسمالية المتحركة التى أزالت هذه الأسوار ما بين أفراد شتى الطبقات ، وإزاء ذلك واجهوا خياريين .الأول الاندماج فى المجتمع الرأسمالى العلمانى الذى منحهم الحرية والمساواة مع الغالبية المسيحية وهو ما طرحه عليهم موسى مندلسون ، إلا أن هذ الخيار عنى لدى البعض منهم ، تعرضهم للذوبان في المجتمعات الرأسمالية و التشتت كأفراد بين شتى طبقاتها ، ، وقد أدى قبول خيار الاندماج إلى أن يخرج من بين اليهود العديد من العلماء والأدباء والفلاسفة والمفكريين والفنانين الذين شكلت ابداعاتهم علامات بارزة فى الحضارة الإنسانية طوال القرنيين التاسع عشر و العشرين ، كما انخرطت قطاعات واسعة منهم بشكل ملفت للنظر فى الحركات الاشتراكية و العمالية المختلفة ، الثورية منها و الإصلاحية على السواء ، وكما خرجت من بين مثقفيهم قيادات فكرية و حركية هامة لهذه الحركات. و هؤلاء تخلوا تماما عن الثقافة الإنعزالية لليهود، كما أصبحوا على تناقض حاد مع كل التراث اليهودى. وقد شكل الرأسماليين اليهود قطاعا هاما و مؤثرا فى الطبقة الرأسمالية السائدة ، إلا أنهم افتقدوا دولتهم الخاصة التى تحمى مصالحهم الخاصة فى مواجهة منافسيهم.الثانى الصهيونى والذى كان يهدف لإعادة تجميع اليهود ، ومنعهم من الإندماج للحفاظ عليهم كجماعة متجانسة ومنعزلة فى جيتو خاص بها ، من خلال تأديتها لوظيفة اجتماعية جديدة تتناسب مع التطورات الرأسمالية العالمية فى ذلك الوقت ، وهو ما طرحه عليهم تيودور هرتزل تحت حجة عدم إمكانية تعايش اليهود مع غيرهم ، ومن هنا نشأت الصهيونية كحركة استعمار استيطانى مرتبطة بالمصالح الرأسمالية العالمية و الاستعمار الحديث منذ البداية، برغم إن هذه الحقيقة تم تغليفها كثيرا بإدعاءات اشتراكية زائفة لجذب تلك القطاعات الواسعة من اليهود ، وغير اليهود الذين جذبتهم الفكرة الاشتراكية ، للمشروع الصهيونى. ومن بين عدة أماكن تم اقتراحها لقيام مشروع الاستعمار الاستيطانى المطروح على المؤتمر الصهيونى الأول 1897 ، تم اختيار فلسطين لمجموعة من الأسباب مرتبطة باحتياج قطاعات من الرأسمالية العالمية و اليهودية معا . ففلسطين بلد فقير جدا فى الموارد الطبيعية تشكل الصحراء نصف مساحتها ، وتكمن أهميتها الوحيدة فى الموقع الاستراتيجى الذى يمكن من خلال السيطرة عليه الهيمنة على كل منطقة الشرق الأوسط الغنية بمصادر الطاقة البترولية ، و المتحكمة فى طرق التجارة العالمية هذا عن ما لفت انتباه الرأسمالية العالمية فى فلسطين التى رأت أنها تحتاجها كقاعدة تحمى مصالحها فى هذه المنطقة من العالم ،أما القسم اليهودى من الرأسمالية العالمية فرأى فى فلسطين و المناطق المحيطة بها مستودع للعمالة الرخيصة التى يمكن أن يتم انتزاع فائض القيمة منها بأعلى معدل ممكن تحت ظروف القهر العسكرى العنصرى ، و فى ضوء انقسام العالم بعد الحرب العالمية الثانية لمعسكرين ، بيروقراطى و رأسمالى ، ازدادت قيمة الحركة الصهيونية و إسرائيل بالنسبة للمعسكر الرأسمالى العالمى فى صراعه مع المعسكر الآخر ، ومن هنا تلاقت المصالح المادية للرأسمالية اليهودية و الرأسمالية العالمية لإنجاز المشروع الصهيونى والدفاع عنه حتى الآن .كما تم اختيار فلسطين استنادا للأساطير والخرافات التى لاعلاقة لها بحقائق العلم ،إلا أن هذه الأساطير والخرافات كانت دافعا عاطفيا قويا للكثير من الجماهير العاملة من اليهود ومثقفيهم للانجراف وراء قادة الحركة الاستعمارية من أجل إنجاز المشروع الصهيونى، والدفاع عنه ضد مصالحهم الحقيقية فى العيش فى مجتمع علمانى ، يؤمن لهم الحرية والمساواة والأمن الحقيقى .الثقافة اليهودية نشأت فى بيئة قبلية بدوية ، ولأن الثقافات الرعوية تستند على الضرورة التى تفرضها لحظات الجفاف لغزو الشعوب الزراعية لحكمها واستخراج الفائض الاجتماعى منها ، وطبيعة الصراعات الدموية بين القبائل المختلفة على موارد الماء والرعى الشحيحة فى البيئات الجافة ، فمن ثم فقد تميزت الثقافة اليهودية فى بعض تفسيراتها و ممارستها بطابع عنصرى صريح حيث يعتبر اليهود أنفسهم شعب اللة المختار دون كل الشعوب التى خرجت من رحمته للأبد ، وينبنى على تلك العنصرية الأصيلة الطابع الانعزالى والمتعالى على الآخريين للحفاظ على نقاء القبيلة وثقافاتها و دمها ، و لأنها ثقافة بدوية فى جذورها التاريخية ، فأنها تتميز فى بعض جوانبها بالعدوانية ضد الآخريين باعتبارهم فرائس مشروعة يمكن افتراسهم بشتى الطرق سواء بالعنف عند استشعار القوة فى النفس ، أو بالاحتيال عند استشعار الضعف فى النفس ، واعتبار هذا من الأعمال التى تتم باسم الرب وبناء على رغبته و وصاياه.كما اعتمدت آلة الدعاية الصهيونية لتحقيق مشروعها على مجموعة عناصر هىحقائق تاريخية استخدمت فى غير موضعها كالهولوكست ، مع التركيز إعلاميا على أنه كان موجها ضدهم وحدهم ، دون ذكر شعوب أخرى مثل السلاف ، وقوى معارضة سياسية مثل الشيوعيين ، و أقليات أخرى كالغجر ، والذين قد تعرضوا هم أيضا للهولوكوست.أساطير لم تثبت علميا بأى وسيلة علمية مقبولة ، مثل الزعم بأنه كانت لهم دولة فى هذه المنطقة من العالم منذ أكثر من ألفى عام ، فى حين أن الثابت علميا فقط هو وجودهم كقبائل رعوية فى هذه المنطقة من العالم مع غيرهم من القبائل الذى كان بعضها زراعي وتجاري مستقر فى المدن والقرى ، و بعضها الآخر بدوى ورعوى فى الصحارى والبرارى ، و قد شكلوا اتحادا قبليا فى هذه المنطقة لفترة زمنية قليلة قبل عهد الأسر البابلى و الشتات ، مع ضرورة الإقرار بأن هذا المنطق معوج و مدمر ، وإلا كان من حق العرب أن يطالبوا بأسبانيا الثابت وجودهم فيها تاريخيا على مدى ثمانى قرون على الأقل .عقائد دينية لا تلزم أحد سواهم منها وعد الرب لهم فى التوارة بهذه الأرض .مع ملاحظة أن الكثير من اليهود المتدينين الأرثوذكس يعارضون الصهيونية و إسرائيل استنادا لتفسيرات مختلفة للتوراه.تحقق تجسيد المشروع الاستعمارى الاستيطانى فى صورة دولة اسرائيل عبر سلسلة طويلة من الجرائم الإرهابية والمذابح الدموية التى نفذها الصهاينة على مدى سبعين عاما على الأقل ، نذكر منها على سبيل المثال و ليس الحصر دير ياسين وكفر قاسم وقبية وصابرا وشاتيلا وقانا وتفجير فندق داود واغتيال برنادوت والإعدام الجماعى للأسرى المصريين عامى 1956و 1967و مذبحة الحرم الإبراهيمى ، بل لم يسلم اليهود أنفسهم من هذه الممارسات لدفعهم للهجرة لإسرائيل مثلما حدث ليهود العراق ، ومازالت المذابح تتوالى ومازال إرهاب الدولة مستمرا فى حق الفلسطينيين والعرب عموما والمتعاطفين معهم أيضا ، وبذلك انتزعوا شعبا كاملا من أرضه ، و استولوا علي حقوقه، محولين غالبيته للاجئين فى المخيمات ومشردين عبر العالم، مجردين من أى جنسية ، ومن ثم بلا أى حقوق للمواطنة لأى بلد ، أما من بقى صامدا فى الأرض فهو إما محكوما حكما عسكريا قاسيا لا يختلف كثيرا عن حكم النازى فى الضفة الغربية وغزة أو مواطن من الدرجة الثالثة فى دولة إسرائيل التى تمارس ضده التمييز العنصرى والاضطهاد .كان تاريخ إسرائيل خلال عمرها البالغ أربعة وخمسين عاما هو تاريخ العدوان على جيرانها والاستيلاء على آراضيهم ، فتم الاستيلاء على سيناء ثم الانسحاب منها فى 1956بعد الإنذار الأمريكى ، وتم الاستيلاء على سيناء والضفة الغربية وغزة والجولان فى عدوانها عام 1967 ، و الانسحاب من سيناء بعد حرب 1973بمعاهدة السلام مع مصر ، وغزو جنوب لبنان و احتلاله فى 1982قبل الانسحاب منه عام 2000 بالمقاومة اللبنانية المسلحة دون مفاوضات أو معاهدات.دولة إسرائيل تمنح بموجب قانون العودة كل حقوق المواطنة والجنسية لأى يهودى يطأ أرض إسرائيل تحت زعم أن أجداده منذ أكثر من ألفى عام كانوا يقيمون فى تلك المنطقة ، فى حين يطرد الفلسطينى المقيم فعلا فى هذا المكان ، ويمنع من العودة بعد أن تم طرده بشتى طرق الإرهاب و تسلب كل حقوقه الإنسانية، ويضطهد إن قرر الصمود والبقاء برغم كل التمييز العنصرى ضده ، و دولة إسرائيل تقوم على أساس دينى يميز بين البشر على أساس الدين ، ومن ثم تكتسب طابعها العنصرى ، برغم الرتوش الديمقراطية العلمانية بهدف الظهور عالميا بأنها واحة الديمقراطية فى الشرق الأوسط .كانت الوظيفة الاجتماعية الجديدة لليهود التى ارتضتها لهم الصهيونية هو التحول من تجار وصيارفة حوض البحر الأبيض المتوسط و أوروبا ، للحراس العسكريين لمصالح الرأسمالية العالمية فى منطقة الشرق الأوسط مما استدعى أن تكون إسرائيل مجتمع عسكرى تماما تحت الستار المدنى الديمقراطى الزائف ، فإسرائيل دولة فى خدمة الجيش ، وجيشها ليس مجرد جيش فى خدمة الدولة ، فاليهود الإسرائيليين من سن السادسة عشر إلى سن التاسعة والأربعين مجندين إجباريا فى جيش الدفاع الإسرائيلى ، وبندى الأمن و الدفاع هما أهم و أكبر بنود الميزانية على الإطلاق ، ويلاحظ أن معظم الساسة الإسرائيلين آتين من صفوف العسكر المحترفين ، كما أن أهم الصناعات الإسرائيلية هى صناعة السلاح ، وهذا يربط مصالح الرأسمالية الإسرائيلية بمصالح شركات إنتاج السلاح وتجارته و النخب العسكرية . وبرغم كل آلة الأمن الجبارة والعسكرة العميقة للمجتمع الإسرائيلى الذى تحول لثكنة عسكرية ، فإن المواطن و المجتمع الإسرائيلى يفتقد الأمن فعلا منذ نشأته سواء بفعل الحروب التى دخلها فى مواجهة جيرانه ، أو بفعل المقاومة الفلسطينية المسلحة ضده ، و المستمرة منذ أكثر من سبعين عاما أو يزيد ، أنهم ارتضوا أن يعيشوا دائما على حافة الخطر حين قبلوا الاشتراك فى هذا المشروع الإجرامى ، حيث لابد وأنهم قد توقعوا مسبقا أن يقاومهم من سلبوهم أرضهم وحقوقهم ، ومن ثم فلا يلومون إلا أنفسهم عندما يمارس ضدهم العنف.إسرائيل مشروع استثمارى تتحمل تكلفته و مازالت الرأسمالية العالمية، وبالأخص الأمريكية ، سواء بشكل غير مباشر عبر الحكومات و بأموال دافعى الضرائب ، وبشكل مباشر عبر الاستثمارات والتبرعات و خلافه ، وهو ما يفسر الانحياز السافر والدعم غير المحدود من الحكومات الرأسمالية الكبرى فى العالم لإسرائيل و التواطوء معها ، و مالم يثبت فشل المشروع فى تحقيق أهدافه و ربحيته المنتظرة منه ، لهؤلاء الممولين و المستثمرين ، فسيستمر الدعم و الانحياز والتواطوء مع ملاحظة أن الرأسماليات العربية ليست بعيدة تماما عن تمويل و دعم هذا المشروع ولو بشكل غير مباشر و غيرعمدى ، بالاستثمارات و الإيداعات البنكية فى البلاد الرأسمالية المتقدمة ، فضلا عن اندماجها فى السوق العالمى مما يوحد مصالح الرأسمالية العالمية بما فيها الأقسام اليهودية والعربية جوهريا ، برغم تنافسهم وصراعهم غير الجوهرى على الأسواق ، فالعرب هم الوحيدين من شعوب العالم الثالث تقريبا الذين حققوا تراكم هائل لرأسالمال بسبب الحقبة النفطية ، لم يستثمرمعظمه فى تمويل تنمية المنطقة العربية و تطويرها ، بقدر ما ساعد الرأسمالية العالمية ، ومن ثم إسرئيل فى الانتعاش والبقاء بفضل ما تدفق من هذه الأموال بشكل مباشر على غرب أوروبا وأمريكا .ينقسم الصهاينة فيما بينهم فيما يتعلق بالحل النهائى للنزاع المزمن الذى تسببوا هم فيه إلى: يسار صهيونى يقبل بالاندماج فى المنطقة من أجل الهيمنة الاقتصادية عليها عبر علاقات طبيعية مع دولها ، و من ثم يقبل بإنهاء احتلال الضفة وغزة والقبول بدويلة فلسطينية على مساحة تصل إلى عشرين بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية ، ستكون بلاشك دويلة تابعة تماما لإسرائيل ، المتفوقة عسكريا واقتصاديا فضلا عن كونها المتحكمة فى اقتصادها وأمنها ، حتى لو حصلت هذه الدويلة على السيادة الكاملة على آراضيها بما فيها حق تكوين جيش مستقل ، و تقبل بعض قطاعات يسار هذا اليسار بحق العودة للاجئين لآراضى الدويلة الفلسطينية القادمة لا لكل فلسطين التاريخية ، وذلك للحفاظ على الطابع اليهودى لدولة إسرائيل ، كما أنهم مع المساواة الكاملة بين اليهود و العرب فى إسرائيل .يمين صهيونى مع استمرار الانعزال عن المنطقة ، ومن ثم مع استمرار حالة الحرب وعدم الاستقرار فى المنطقة مع الهيمنة عليها عسكريا ، ومن ثم فهو يرفض انهاء الاحتلال للضفة وغزة ، بل وتطالب قطاعات منه بطرد كل الفلسطينيين من كامل فلسطين التاريخية للبلاد العربية ، و تقبل قطاعات أخرى منه بالحكم الذاتى للمناطق كثيفة السكان العرب فى الضفة الغربية وغزة تحت الهيمنة الإسرائيلية ، وبالطبع يرفضون جميعا القبول بحق العودة للاجئيين ، وهم عموما مع استمرار الطابع العنصرى الدينى لدولة إسرائيل .بالطبع كان يعلم الصهاينة ، أن مشروعهم الاستعمارى سيفجر ضدهم مشاعر الكراهية ، من الفلسطينيين والعرب و المسلمين الذين يشكلون سدس سكان العالم ، وكما كان من المنطقى أن تنطلق أعمال المقاومة سواء السلمية أو العنيفة، النظامية أو الشعبية ضد مشروعهم الاستعمارى الاستيطانى ، ولكن تبنى الأيديولوجية الصهيونية القائمة على عبادة القوة والعدوانية ، والثقافة الانعزالية العنصرية المتعالية على الآخرين ، ومتطلبات حماية مصالح الرأسمالية العالمية ، وقفت حائلة دون أن تردعهم عن خططهم ، برغم كل هذه الدماء المسفوكة على جانبى الصراع لأكثر من سبعين عام ، فقد استطاعوا غسل عقول الغالبية الساحقة من العمال الإسرائيليين بالدعاية الصهيونية المضللة ، لكى يعملوا ضد مصالحهم الحقيقية فى التحرر من الاستغلال والقهر الرأسماليين ، باسم حرية الوطن المزعوم واستقلاله الزائف ، و باسم العواطف الدينية المضللة ، وليدفع هؤلاء المحرومين واقعيا من الحرية حياتهم وجهودهم ، نزيفا دمويا مستمرا ، لحماية قلة مترفة من البيروقراطيين والساسة والقادة العسكريين و الرأسماليين اليهود ، ولحماية مصالح احتكارات البترول و السلاح، مكتفين بالفتات الذى يلقى إليهم ليشعرهم بالتميز عن الطبقة العاملة العربية.الحكومات الاستعمارية والرأسمالية العالمية التى أنشئت إسرائيل ، و أعطتها الشرعية الدولية ودعمتها ، بالطبع كانت تعلم أن وجودها سيشعل المشاعر القومية والدينية والطائفية فى منطقة الشرق الأوسط ، وسيتسبب ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر فى تصاعد الحركات السياسية القائمة على أساس الدين أو القومية أو الطائفة أو العرق ، وهى التيارات والحركات السائدة فى كل المنطقة على مدى نصف القرن الماضى ، سواء أكانت فى الحكم أو فى المعارضة ، متحالفة مع السلطة أم متصارعة عليها ، وقد استطاعت التيارات القومية والدينية أن تهمش كل التيارات الليبرالية و اليسارية فى كل دول المنطقة ، بسبب وجود إسرائيل ، العدو غالبا لمعظمها أو الحليف أحيانا لبعضها ، والنموذج الذى يتمنون تقليده جميعا. فأنشئوا حركاتهم السياسية القائمة على الاستخدام السياسى للدين أو الثقافة أو القومية أو الطائفة ،مناضلين من أجل دولة تجسد أيديولوجياتهم . كان وجود إسرائيل فى المنطقة و ممارستها البشعة و دعم الاستعمار و الرأسمالية العالمية لها مبررا لتصاعد كل أيديولوجيات و حركات التعصب القومى والدينى والعنصرية والرجعية المتخلفة على الجانب العربى من الصراع.لاشك أن وجود إسرائيل واستمرارها فى أداء وظائفها الموكولة إليها كان من أسبابه الجوهرية، تلك السلسلة الطويلة من الحماقات و الأخطاء و الخيانات والجرائم التى ارتكبت من قبل القوى والتيارات القومية والدينية المتنوعة بتحالفاتها وصراعاتها وتنافساتها التى ملئت المنطقة ضجيجا بلا طحن على مدى نصف قرن ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مذابح أيلول الأسود من قبل النظام الأردنى و تل الزعتر بواسطة الجيش السورى ، واجتياح الكويت من قبل العراق ، و أحداث 11 سبتمبر الأخيرة ، والممارسات الإرهابية ضد المدنيين عموما التى أعتمدتها الكثير من المنظمات الفلسطينية ، والتخلى عن خيار الدولة العلمانية الديمقراطية على كامل فلسطين للقبول بدولتين ، و اتفاقيات أوسلو فالحقيقة أن الرأسماليات العربية المتخلفة عاجزة تماما عن أن تدافع بحنكة عن مصالحها فى مواجهة منافساتها من الرأسماليات الأخرى ، و على رأسها الرأسمالية الإسرائيلية التى تهددها بالهيمنة على أسواقها ، ذلك لأن المعبرين عنها سياسيا و فكريا يفكرون غالبا بعقليات تنتمى لما قبل الرأسمالية ، و يعشش فى عقولهم الجهل و التخلف ، ولا تسلم من ذلك أوساط النخب المثقفة نفسها ، فى حين أتى رواد الصهاينة من قلب العالم الرأسمالى المتقدم مستفيدين من خبراته وتقدمه وعلومه ، و من ثم اكتسبوا تفوقهم النوعى على الرأسماليات العربية .برغم استنادهم على ثقافة بدائية و أيديولوجية متخلفة لأسباب تعبوية للجماهير اليهودية العاملة لا غير.كانت التيارات القومية العربية و الإسلامية تمنى شعوبها بتحقيق برنامج الحد الأقصى المتضمن انهاء وجود إسرائيل وهزيمة الصهيونية وطرد اليهود إلى من حيث أتوا ، إلا أنهم بعد سلسلة الانكسارات والهزائم المتوالية التى لحقت بهم ، تبنى الواقعيون منهم ، وخصوصا من هم فى الحكم برنامج اليسار الصهيونى لحل القضية الفلسطينية ، القبول باسرائيل والتطبيع معها والرضى بالدويلة الفلسطينية فى الضفة والقطاع ،أى أنهم فى النهاية تبنوا أيديولوجية أعدائهم عمليا ، و ارتضوا الصهيونية فى أفضل تجلياتها ،إلا أن المتطرفون منهم فى المعارضة ، والذين يضمن لهم موقعهم بعيدا عن السلطة ومسئولياتها ، القدرة على المزايدة و إمكانية الإدعاء ، فما زالوا يعلنون برنامج الحد الأقصى هدفا لن يحيدو عنه. إننا لابد و أن نقر بفشل كل طرق المفاوضات السلمية التى تعتمد على القرارات الدولية المختلفة ، والتى صدرت عن منظمات ودول ومؤتمرات فقدت شرعيتها و جدارتها بالاحترام بداهة حين اعترفت بحق إسرائيل فى الوجود ، و هى المقامة على أسس منافية للمبادىء الإنسانية المقررة دوليا، من حيث استعماريتها الاستيطانية وعنصريتها وعدوانيتها وقيامها على أسس بدائية وممارسات إجرامية بربرية ، وبالرغم من أن إسرائيل لم تستجب لأى من هذه القرارات ، وبالرغم من أنها انتهكت كل القوانين والمعاهدات الدولية مما جعلها تشكل حالة بالغة الشذوذ فى السياسة الدولية جعلتها أكثر الدول خروجا عن القانون الدولى ،فقد منحها هذا المجتمع الدولى والرسمى الاعتراف بالشرعية وساندها وأيدها لتسرق وطنا كاملا من شعبه بالإكراه والإجبار والعنف والاحتيال ، ومازالت ترتكب بحق هذا الشعب شتى صنوف التعذيب و التنكيل والتشريد ، وبالرغم من ذلك يطالب غالبية الحكام المتمدينون هذا الشعب بأن يصمت فضلا عن أن يحب ويتسامح ويتعلم من قاتليه وسارقيه . وحين يتمرد ويطالب بحقوقه السليبة ، يوصم بالعنف والإرهاب ، ويطالب إزاء العنف الموجه ضده بضبط النفس وقبول ما يمنحه له سارقيه .وهو ما يزيد من حدة الهوس الدينى والقومى لدى كل من الطرف المظلوم الذى لايجد من يرد له حقوقه كاملة ، والطرف الظالم الذى لا يجد من يردعه.كما لابد وأن نقر بفشل كل طرق العنف فى حسم الصراع الذى طال أمده دون حل ما يبشر بالاستقرار ،مما انعكس على كل أوضاع منطقة الشرق الأوسط والتى تحولت لواحدة من أكثر مناطق العالم تخلفا فى شتى المجالات ، بسبب هذا الصراع الملتهب منذ أكثر من نصف قرن . و برغم إدانتى المبدأية للعنف و معارضتى للعسكرية ، وإيمانى بالصراع المدنى طريقا صحيحا و وحيدا للتحرر الحقيقى ، إلا أنى اتفهم بالطبع الظروف القاسية التى تدفع الفلسطينيين لممارسة العنف فى كفاحهم ضد الصهيونية ، والتى طالما مارسته عليهم الصهيونية نفسها لعشرات السنين ، و من ثم فلا يمكن أن نلوم الضحايا والمظلومين حتى و لو كنا لا نتفق مع أساليبهم فى التخلص من الظلم ، وعلى ردود أفعالهم فى مواجهة القهر الواقع عليهم.وتجب الإشارة إلى أن الإرهاب يساعد فى دعم المشروع الصهيونى من حيث لا يحتسب مرتكبيه،وهو لا يساعد على تحرير اليهود من الأيديولوجيا الصهيونية ،و يفقد القضية التعاطف الشعبى العالمى المطلوب لدعمها ، فالتعاطف الرسمى ليس هو المطلوب بالطبع فى ضوء فهمنا لطبيعة الصراع ، فى حين أن أساليب المقاومة السلمية ستساعد غالبية اليهود المخدوعين فى التحرر من الوهم الصهيونى ، ولن تعطى أى فرصة لآلة الإعلام الصهيونية فى تشويه وعى الناس التى يوفرها لها الإرهاب ضد المدنيين.تتبنى قوى اليسار الأممى اللاسلطوى على جانبى الصراع ، رؤية بديلة للشرق الأوسط ، ترفض أى استخدام سياسى للهوية الجماعية دينا كانت أو قومية أو طائفة أو عنصر ، و ذلك فى مواجهة الرؤى القومية والدينية التى لن تزيد نار الصراع الا اشتعالا ، و التى عند احتدامها فأنها لن تنطفىء إلا بعد أن يفوت آوان الندم ، ومن ثم على فهم طبيعة الصراع الحقيقى المغلف من باب التضليل بالصراع الدينى والقومى، الصراع الحقيقى من وجهة نظر اليسار الأممى اللاسلطوى هو الصراع الطبقى ، وهو يستلزم توحد الطبقات العاملة فى مواجهة الرأسماليات الحاكمة على طرفى الصراع القومى و الدينى .صحيح أن من يرفعون شعار الحل العلماني الديمقراطي على كامل التراب الفلسطينى وفى سائر بلاد منطقة الشرق الأوسط ، الذى يتمتع فيه كل الأفراد من شتى القوميات و الطوائف و الأعراق و الأديان والثقافات بالحرية و المساواة الكاملتين ، قد تواروا لمجرد مجموعات سياسية هامشية لا تأثير جماهيرى واسع لها على جانبى الصراع مع تصاعد قوى اليمين المحافظ و الفاشي فى العالم كله بشكل عام ، و لأن الطبقات العاملة فى الشرق الأوسط مازالت أسيرة الأيديولوجيات الرأسمالية القومية والدينية بتنوعاتها مثلها مثل الطبقة العاملة اليهودية أسيرة الأيديولوجيا الصهيونية سواء بسواء. ولكن هذا لا يمنع من طرح الرؤية الصحيحة مهما كانت الصعوبات فى طريق تحققها ، مراهنيين على إمكانية التحولات السريعة ، وغير المتوقعة فى وعى البشر وممارستهم، التى تفرضها تحولات واقعية مفاجئة ، قادرة على تحرير الطبقات المحكومة من الوعى السائد للطبقات الحاكمة . من وجهة نظر إنسانية وأممية وعلمانية ومعادية للعنصرية والفاشية و العنف و العسكرة والاستخدام السياسى للقومية أوالدين.أدعو كل الفلسطينيين سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود فى كل أرض فلسطين التاريخية على جانبى الخط الأخضر أن يناضلوا بكل وسائل الصراع المدنية من أجل مجتمع علمانى و لا سلطوى فى كل أرض فلسطين التاريخية.و أن يرفضوا أى حلول تقوم على أساس تقسيم فلسطين لدولتين على أى أساس عنصرى سواء أكان قوميا أو دينيا. و أن يسقطوا قانون العودة الإسرائيلى وغيره من القوانيين العنصرية الصهيونية، فضلا عن ضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم مع تعويضهم عن كل مافقدوه وتكبدوه طوال سنوات النفى القسرى عن وطنهم السليب.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية