الخصوصية الجماعية بين الحقيقة والوهم
الخصوصية الجماعية بين الحقيقة والوهم
سامح سعيد عبود
تنتج المجتمعات البشرية الأفكار المختلفة مثلما تنتج احتياجاتها المادية ، تلك الأفكار التى لا تعبر بالضرورة فى كثير من الأحيان عن الحقيقة الموضوعية بقدر ما تعبر عن الضرورة الاجتماعية ، وبقدر ما تعبر عن احتياج جماعى . و لما كانت المجتمعات البشرية وعبر كل التاريخ المكتوب لم تكن أبدا كلا متجانسا يخلوا من التناقضات والصراعات بين طبقات وشرائح المجتمع المختلفة ، فقد أنعكس ذلك فى تناقضات وصراعات الأفكار التى هى تعبير مثالى عن ما يحدث على أرض الواقع الاجتماعى .
تموج المجتمعات البشرية بنخب الساسة والمثقفين ، والذين يتلخص دورهم الاجتماعى فى إنتاج وإعادة إنتاج الأفكار ، والتى تكون فى كثير من الأحيان تعبير مشوه ومقلوب عن الواقع الحى الملموس ومن ثم فأنهم يرجون لتلك الأفكار زاعمين أنها تعبير عن المصلحة العليا للمجتمع ، عن مصلحة الإنسان المجرد الذى لا تنفصل مصلحته عن مصلحة مجتمعه ، وذلك لأنهم إنما يعبرون عن مصالح واحتياجات شرائح وطبقات اجتماعية محددة متناقضة المصالح ومن ثم متصارعة بالضرورة حولها إلا أنهم لا يعترفون بتلك الحقيقة فى نفس الوقت الذى يدعون فيه أنهم المعبرين عن الحقيقة المطلقة ، عن المصلحة الاجتماعية العليا ، عن الإنسان المجرد .
ومن الأفكار التى ينتجها هؤلاء المثقفون ، ويروجون لها لتستخدمها النخب السياسية على شتى ألوانها أفكار الخصوصية الجماعية ، والقائمة على أحد أشكال الوعى الاجتماعى مثل الدين أو القومية أو الثقافة أو العادات والتقاليد ، أو اللغة أو حتى اللهجة المحلية .
ولما كانت أى جماعة بشرية تكون وحدتها الأساسية هى الفرد الإنسانى ، وهو كائن واقعى ومتميز عن باقى الأفراد ، ومن ثم يتمتع بخصوصية حقيقية وهوية ، فأننا سنبحث تدرج الخصوصية الجماعية من خلاله وخصوصا أن كل جانب من جوانب شخصيته يشترك فيه مع آخرين مما يجعله يشترك معهم فى جماعة ما لها خصوصيتها بحكم ما يجمع أفراده من خصائص مشتركة ، فهو من ناحية الأسرة ينتمى هو ومجموعة من الأفراد لأسلاف مشتركة ومن ثم تاريخ وعادات مشتركة ، وهو يشترك مع سكان حيه أو مدينته أو قريته أو إقليمه فى بعض العادات والتقاليد وطريقة معينة فى الحديث ، وأكلات مميزة ، وملابس ، ولهجة خاصة ، وهى بما تحمله من مفردات خاصة تتميز عن باقى اللهجات واللغة الأم .
ونستطيع أن نصعد فيما ينتمى إليه الفرد الإنسانى من جماعات إلى مستوى القومية ، ثم الإقليم الجغرافى ، هل هو أوروبى أم أفريقى ؟ حتى نصل إلى المستوى الأكثر شمولا باعتباره فردا من أفراد الجنس البشرى ، والذين تجمعهم نفس الاحتياجات والأحلام المشتركة والبسيطة ، والتى ورغم تنوعها تتلخص فى حياة حرة وآمنة ، قوامها إشباع غرائزهم وعواطفهم .سواء أكانوا يعيشون فى الشمال أم فى الجنوب ، فى الشرق أم فى الغرب ، هكذا كانوا فى الماضى ،و سيظلوا هكذا فى المستقبل طالما ظلوا بشرا ينتمون لجنس الإنسان العاقل .
وإذا عدنا للفرد مرة أخرى ، ونظرنا له من زوايا أخرى كالمهنة التى يحترفها ، فأننا سنجده ينتمى لخصوصيات جماعية أخرى غير عشائرية و لا قومية ولا ثقافية . فهو كعسكرى على سبيل المثال ، وبصرف النظر عن الجيش الذى يخدم فيه يتمتع بمجموعة من الصفات بحكم المهنة ذات أهمية أشد من نمط الملبس والمأكل واللهجة واللغة والعادات والتقاليد ، فالعسكرية تعلمه غالبا احترام الشكليات والعناية بالمظهر والدقة واحترام التراتبية و الانضباط الحديدى والطاعة العمياء للأوامر ، فعدم تمسكه بهذه السلوكيات يعنى عدم نجاحه فى الاستمرار عضوا بجماعة العسكريين .
وإذا نظرنا للفرد من زاوية الدين فسنجده يتميز وبحكم الدين الذى ينتمى إليه عن غيره من من لا ينتمون لهذا الدين ، وإن كانوا يشتركون معه فى القومية أو سكن نفس الحى أو حتى المنزل ، فأى دين يفرض على اتباعه مجموعة من العادات والتقاليد والطقوس وأنماط من المأكل والملبس ، فالمسيحيين فى مصر لا يحتفلون بعيد الأضحى ، كما لا يحتفل المسلمون فى مصر بعيد القيامة ، وإن كان كل المصريون يحتفلون بعيد شم النسيم على اختلاف أديانهم .
ولو نظرنا للفرد من زاوية الطبقة الاجتماعية التى ينتمى إليها فسنجده يشترك مع أفراد طبقته فى المصالح ومستوى المعيشة وكثير من العادات والتقاليد والسلوكيات والقيم والمفاهيم على اختلاف أديانهم وقومياتهم ، فالعمال فى أى مكان فى العالم يهدفون إلى أجور أعلى وساعات عمل أقل وأسعار أرخص فى حين يهدف الرأسماليون إلى عكس كل ذلك تماما .
يبقى لنا أن نشير إلى أن الفرد ذاته ، وبكل جوانب شخصيته المتعددة التى أكتسبها وراثيا وبيئيا لا يتمتع بخصوصية ثابتة ونهائية ومطلقة ، فإذا كان جوهر الإنسان وما يميزه هو سلوكه وأخلاقياته وطريقة تفكيره ، فأننا نلاحظ أن أى منا وعبر رحلة حياته ، يكتسب سلوكيات و أخلاقيات جديدة تزيح القديمة لخانة تاريخ الفرد ، و تتعدل طرق تفكيره ومعتقداته ، بتعديل ثقافته وخبراته . بل أن الفرد ذاته قد يسلك سلوكيات معينة فى ظل سياق اجتماعى معين لا يسلكها فى ظل سياق اجتماعى معين لا يسلكها فى ظل سياق آخر ، فلا يوجد فرد شرير بشكل مطلق أو خير بشكل مطلق ، وقس على ذلك باقى سلوكيات الفرد وصفاته العقلية والجسمانية من حكمة ونشاط وذكاء وقوة وصحة وأمانة ..الخ.
وأخيرا والأهم فأن مكتسبات الفرد والتى تحدد شخصيته من مورثات بيولوجية وسلوكيات ولغة وعادات وتقاليد وتاريخ ، فرضت عليه فرضا بحكم ميلاده الذى لا دخل ولا اختيار له فيه لأسرة معينة ، وفى بيئة اجتماعية معينة ، تمت برمجته من خلالها ، فيحق لهذا الفرد أن يتمرد علي ، ويشك فى ، وينقد ، ما تلقاه من هذه البيئة ، ولكل ما أكتسبه من مكتسبات لم يتدخل فى اختيارها ، ولا يحق لأحد وفقا لأهم وأبسط قواعد العدالة أن يحدد موقفا منه فيما لا دخل لإرادته الحرة فيه ، ولا أن يلزمه بما لم يختاره بنفسه طالما لم يتعد على حقوق وحريات الآخرين.
وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للفرد الواقعى الذى يشكل وحدة الجماعة البشرية ، فأن هذا ينطبق و بالضرورة على الجماعات البشرية التى لا تعبر خصوصيتها الجماعية عن جوهر نهائى ومطلق وثابت ، فكل جماعة بشرية يسرى عليها ما هو جديد ، وهجر ما هو قديم من سمات خاصة مثل اللغة والعادات والتقاليد والقيم مثلما يسرى على الأفراد التى ينتمون إليها .
والحقيقة أن الخصوصية الجماعية كظاهرة اجتماعية لا يمكن إنكارها شرط فهم طبيعتها النسبية والمتغيرة والمتطورة عبر الزمن ، إلا أن ما يمكن إنكاره هو إضفاء طابع الخلود والثبات والنهائية عليها ، والذى لا يتسم به أى كائن من كائنات الواقع المادى . فالحرية الجنسية فى الغرب الصناعى ، والتى أصبحت أحد سمات خصوصيته لم تكن معروفة على الإطلاق قبل الثورة الصناعية والتطور الرأسمالى فى الغرب الذى أفرز حضارة إنسانية مختلفة بشكل جوهرى عن ما كان قبلها . فالمتعة الجنسية فى المسيحية خطيئة فى حد ذاتها .حيث الجنس مجرد وسيلة لاستمرار الجنس البشرى ، ولا ينبغى الاستمتاع به على أى نحو ، هكذا هى تعاليم كل من اليهودية والمسيحية. فأين هذا مما هو عليه الحال الآن فى المجتمعات التى يدين أفرادها بتلك الأديان .
هذا هو حجم الحقيقة والوهم فى قضية الخصوصية الجماعية . فما هى الدوافع إذن وراء الحركات السياسية التى تستند على أفكار تستند بدورها على خصوصيات جماعية أيا كان نوعها ؟.
لا شك أن الدافع الأساسى دائما هو تأسيس السلطة السياسية وتبريرها . ومن ثم تكتسب الخصوصية الجماعية على تهاويها ـ من زاوية الحقيقة الموضوعيةـ ضرورتها الاجتماعية لكل من تشملهم بسلطتها ، وذلك على أن ما يجمعهم من سمات مشتركة ، ما هو إلا تجسيد لجوهرهم المشترك وأحلامهم و أمانيهم المشتركة النابعة من خصوصيتهم الجماعية ، ذات الجوهر النهائى والمطلق والثابت ، والرسالة التاريخية الخالدة الملقاة على عاتقهم ، فلو اعترفت الدولة وسلمت بحقيقة التغير والنسبية لأى خصوصية جماعية ، فإنها تعرض شرعيتها وسلطتها وسيادتها المطلقة لخطر الزوال .
ومن هنا فأن الدولة الحديثة غالبا ما تسعى لنفى وطمس الخصوصيات الجماعية للجماعات الفرعية التى تكونها ، فلا تعترف باللهجات المحلية ، وتسيد لغة رسمية للتعليم والمراسلات الرسمية ، كما ترفض الاعتراف بما يمكن أن يكون مشترك بين من تشملهم بسلطتها وبين الجماعات الأخرى ، فى حين تحرص كل الحرص على التأكيد على التمايزات فى الوقت الذى تنفى فيه عدم التجانس فى المجتمع الذى تحكمه .
إلا أن الأفكار التى تستند لفكرة الخصوصية الجماعية ، ومن ثم الحركات السياسية التى تتبنى تلك الأفكار تتميز بمجموعة من الخصائص.
أولى هذه الخصائص هى قيامها على مفاهيم وأساطير مضللة كأسطورة الجنس الآرى الأرقى كما فى الحركة النازية ، أو أسطورة شعب الله المختار كما فى الحركة الصهيونية ، أو القومية العربية ذات الرسالة الخالدة . فكل شعب يتكون من غالبية تتوسط الأذكياء و الأغبياء ، الأخيار والأشرار ، النشطاء والكسالى ، فالشعب الألمانى الذى أنجب هتلر وجوبلز هو نفسه من أنجب ماركس وكانت . ما بين قمة التفاهة والابتذال عند الأولين إلى قمة العقل والمنطق عند الآخرين ، وفى الوسط ملايين الألمان العاديين الذين تجد أمثالهم فى كل مكان وزمان من البشر حسنى النية القابلين للخداع من أمثال هتلر وجوبلز ، وللتطور مستنيرين بأفكار ماركس وكانت.
ثانية هذه الخصائص هى استبداديتها ، فأى جماعة سياسية تتحدث باسم خصوصية جماعية بشرية نراها تقمع المجتمع باسم ذات المجتمع ولصالح النخبة الحاكمة ، فكل غير المنتمين أو المخالفين لتفسير الجماعة السياسية لتلك الخصوصية الجماعية التى تتحدث باسمها ، وتستند إليها تلك الجماعة ، معرضون للاستبداد و الإرهاب والقمع وانتقاص الحقوق ، وهذا ما نراه فى كل الحركات السياسية الدينية إسلامية أم مسيحية أم يهودية أم هندوسية. فالطالبان منعت المرأة من التعليم والعمل ، فى نفس الوقت الذى نرى فيه الجماعات المسيحية فى أوروبا وأمريكا تهاجم حقى الطلاق والإجهاض ، فى نفس الوقت الذى يرجم فيه اليهود المتطرفون السيارات التى تمر بالقدس يوم السبت ، ولا تستثنى الحركات القومية العلمانية ، فقد أعدم صدام حسين وتسبب فى موت مئات الألوف من الشعب العراقى وتدمير مستقبله القريب على الأقل ، على اعتبار أنه الممثل الوحيد للقومية العربية أن لم يكن هو تجسيدها هى نفسها . فكما نكل شاه إيران ممثل القومية الفارسية بالشعب الإيرانى ، نكل آيات الله بنفس الشعب وتحت اسم خصوصية أخرى هى الإسلامية ، فالنخب الحاكمة سواء باسم عرش الطاووس أم باسم الله خدعته وقمعته فى صراع لا ناقة له فيه ولا جمل . و لأن الشىء بالشىء يذكر فقد تذكرت حوارا نشرته جريدة الأهرام منذ سنوات عديدة مع موبوتو سى سيكو ديكتاتور زائير الراحل ، وكان يتحدث عن استناد نظام حكمه على الخصوصية الزائيرية ، وذكر فيما ذكر مما يميز الزائيريين من خصوصية تستوجب توحدهم ، عادة لا قيمة لها يمارسها الزائيريون ، وهى ضرورة ترك نقطة من أى مشروب بالكوب وقلبه باعتبارها سمة زائيرية ، و لا أتذكر تفسير ذلك الآن ، و لا لماذا ذكرها موبوتو ، والذى بالضرورة قد فلسفها أو لم يعدم من أصلها له فلسفيا حتى يكسب تفاهته رونقا فلسفيا لا يستحقه ، وهذا هو سر الطرافة فباسم تلك التفاهات و أمثالها تم التنكيل بشعب الكونغو ونهب ثرواته من حكم فردى أدعى تجسيد خصوصيته كما تم ذلك مع الكثير من شعوب العالم . فالتيارات القائمة على أساس الخصوصية الجماعية ،الجماعة ، الطائفة ،المذهب ،الوطن ،الأمة ،الشعب ترتكز على كيان كلى متعال على أفراد ، ماحيا خصوصيتهم الحقيقية لصالح خصوصيته المفترضة ، ومن ثم فلا مكان فى هذا المفهوم للاعتراف بالفرد و لا حقوقه الإنسانية فالفرد يكتسب وضعه القانونى ليس بناء على سماته كإنسان ، وإنما يكتسب وضعه وفق مبدأ الهوية الجماعية القائمة على سمات مصطنعة ومتعسفة لا دخل للفرد فيها ولا اختيار ، مما يجعل كل الأفراد الخاضعين له منصهرين فى كل واحد يتجسد فى زعيم مستبد تتوحد فى ذاته الحقيقية الذات الجماعية المزعومة بكل ما انصهر فيها وتلاشى من ذوات فردية أخرى أصبحت تدور فى فلكه و رهن إرادته ، وهو فى كل هذا غير خاضع للمحاسبة والمساءلة والمعارضة من قبل هؤلاء الذين تمت مصادرتهم لصالحه . فمعارضته خيانة للذات الجماعية، وفتور الحماس له ضعف فى الإيمان بالرسالة التى يجسدها ،والتى باسمها يرتكب كل الجرائم فيجد من يبررها له بل ويزينها باعتبارها من جلائل الأعمال و علامات العبقرية والألمعية إن لم تكن نفحة من عالم الغيب .
وثالثة هذه الخصائص هى الرجعية والجمود ولو ادعت التقدمية ، فلأنها تتحدث دائما عن جوهر خالد ونهائى وثابت ، وتستند لوهم واقع لا يتغير يجد جذوره فى الماضى الأسطورى السحيق ، ومن ثم فهى ترفض أى خروج عما تعتبره من الخصائص الجوهرية الخالدة ، والسمات التى تستند للماضى من عادات وتقاليد وتراث ، وهى وأن كانت تتحدث كثيرا عن التاريخ فهى لا تفهم طبيعة التاريخ الذى هو بحكم التعريف ما يتوالى على الواقع من تغيرات ، والتى لولاها لما كان هناك تاريخ . فالصينيين كانوا يضعون أقدام النساء فى أحذية من الحديد منذ نعومة أظافرهم لكيلا تنمو ، حيث كانت الأقدام الصغيرة من مقاييس جمالهن ، ومن ثم يصبح التمرد على هذه العادة تمردا على الخصوصية الصينية يستلزم القمع والإرهاب ، لكى تظل النساء الصينيات غير قادرات على المشى السليم وذلك حتى تحافظ الأمة الصينية على خصوصيتها وتراثها . ويعتبر ختان الإناث جزء من خصوصية الشعب المصرى يجب المحافظة عليه حتى مع ثبوت أثاره المدمرة على الرجل والمرأة . وفى الحقيقة أن أى تقدم فى أى مجتمع لا يأتى إلا من القدرة على التمرد على الموروث ونقده والشك فيه وليس بأى حال من الأحوال تقديسه أو تخليده . سواء أكان هذا التمرد قد نبع من ذات المجتمع أم نقل إليه من مجتمع آخر . هكذا تطور التاريخ البشرى على كافة المستويات . وإلا كنا نحن العرب مازلنا نسكن الخيام ونمتطى الدواب ونستدفأ بنار الحطب.
ولقد اكتوت شعوب منطقة الشرق الأوسط بالحركات السياسية والأنظمة التى تستند لخصوصيات جماعية مختلفة ، سواء أكانت قومية كالحركات القومية العربية والتركية والكردية، أو دينية كالحركة الإسلامية والحركة الصهيونية ، مما أورث المنطقة صراعات دامية أخرت التطور والنمو فى هذه المنطقة من العالم ،وتهددها فعلا بالتهميش فى ظل العولمة بالرغم مما تملكه المنطقة من إمكانيات هائلة للنمو ،وقد ضاعت منها بلا شك فرص حقيقية للتقدم كالحقبة النفطية ، أهدرت فى عبث مجنون ، فى حين كان بقية العالم يتحرك للأمام فى خطوات متسارعة .ولعل من المفارقات التاريخية أن تلك المنطقة التى شهدت بدايات الحضارة البشرية أصبحت هى وأفريقيا جنوب الصحراء من أكثر مناطق العالم تخلفا وتهميشا، فعلى المستوى السياسى فالمنطقة العربية هى الوحيدة فى العالم التى تتواجد بها أسر حاكمة تحكم حكم مطلق بالفعل فى حين أن معظم الملكيات الأخرى هى ملكيات دستورية تملك فيها الأسر الحاكمة ولا تحكم مع استثناءات قليلة فى آسيا وأفريقيا ، أما فى الجمهوريات فغالبا ما تحكمها إما عائلات تتوراث الحكم ، أو حكومات عسكرية واستبدادية تشبه فى أسلوبها وشريعتها النظام المملوكى ، كما تتواجد فى المنطقة إسرائيل الدولة الوحيدة فى العالم القائمة على أساس عنصرى يفرق بين البشر على أساس الدين كما إنها الدولة الوحيدة التى تحتل أراضى الغير فى العالم اليوم ، و إيران التى يحكمها مبدأ ولاية الفقيه والحكومة الدينية وأفغانستان المحكومة على نسق القرون الوسطى الإسلامية ، كما تنتشر بالمنطقة الحروب الأهلية من أفغانستان إلى الصومال إلى الجزائر، والصراعات الحدودية المسلحة من القرن الأفريقى وحتى الخليج العربى وحتى المغرب . وعلى المستوى الاقتصادى يتضاءل حجم الإنتاج والمشاركة فى التجارة الدولية بالنسبة لحجم السكان لمنطقة الشرق الأوسط ، وتتضاءل مستويات المعيشة ومعدلات الدخل القومى ، فتأتى المنطقة بعد جنوب وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية وبالطبع أوربا وأمريكا الشمالية ، ولا يأتى بعدها سوى أفريقيا جنوب الصحراء التى تأتى فى المرتبة الأخيرة ، مع ملاحظة أن الأزمة فى أوربا الشرقية أزمة مؤقتة ستنفرج خلال سنوات قليلة بحكم حجم ما تم إحرازه من تقدم خلال الأنظمة السابقة التى وفرت بنية أساسية للتقدم لا تتوفر فى منطقة الشرق الأوسط ،وحتى بالنسبة لإسرائيل، فما يبدوا من حجم إنتاج اقتصادى كبير بالنسبة لحجم سكانها يرجع أساسا للدعم الأمريكى والصهيونى لها ، وليس لقوة ذاتية تنبع من الدولة المصطنعة و أما عن الخليج وما حققه من نهضة نتيجة الحقبة النفطية فهو مهدد بزوال الحقبة النفطية .وأما على مستوى الإنتاج العلمى والفكرى والثقافى فهو يعكس تدنى المستوى الاقتصادى والسياسى بوضوح ، وحتى الاستثناء الإسرائيلى فيرجع إلى طبيعة سكان الدولة الآتين من نخب دول المركز الحضارى ، وليس غير .وكل ذلك التدهور والتدنى لتلك المنطقة من العالم التى كانت تحتل مكانة متميزة فى العالم بعد أوربا فى النصف الأول من القرن العشرين كان بسبب سيطرة حركات الهوية والخصوصية الجماعية المختلفة فى المنطقة فى النصف الثانى من القرن العشرين سواء على الحكم أو فى حركات المعارضة ، و التى استندت لأيديولوجيات الرأسمالية فى مراحلها المبكرة التى سرعان ما تم التخلى عنها فى العالم المتقدم بعد الحرب العالمية الثانية التى أعلنت هزيمة تلك الأيديولوجيات معلنة البداية المبكرة للمرحلة الأخيرة من التطور الرأسمالى المتميزة بالكوكبية.
تموج المجتمعات البشرية بنخب الساسة والمثقفين ، والذين يتلخص دورهم الاجتماعى فى إنتاج وإعادة إنتاج الأفكار ، والتى تكون فى كثير من الأحيان تعبير مشوه ومقلوب عن الواقع الحى الملموس ومن ثم فأنهم يرجون لتلك الأفكار زاعمين أنها تعبير عن المصلحة العليا للمجتمع ، عن مصلحة الإنسان المجرد الذى لا تنفصل مصلحته عن مصلحة مجتمعه ، وذلك لأنهم إنما يعبرون عن مصالح واحتياجات شرائح وطبقات اجتماعية محددة متناقضة المصالح ومن ثم متصارعة بالضرورة حولها إلا أنهم لا يعترفون بتلك الحقيقة فى نفس الوقت الذى يدعون فيه أنهم المعبرين عن الحقيقة المطلقة ، عن المصلحة الاجتماعية العليا ، عن الإنسان المجرد .
ومن الأفكار التى ينتجها هؤلاء المثقفون ، ويروجون لها لتستخدمها النخب السياسية على شتى ألوانها أفكار الخصوصية الجماعية ، والقائمة على أحد أشكال الوعى الاجتماعى مثل الدين أو القومية أو الثقافة أو العادات والتقاليد ، أو اللغة أو حتى اللهجة المحلية .
ولما كانت أى جماعة بشرية تكون وحدتها الأساسية هى الفرد الإنسانى ، وهو كائن واقعى ومتميز عن باقى الأفراد ، ومن ثم يتمتع بخصوصية حقيقية وهوية ، فأننا سنبحث تدرج الخصوصية الجماعية من خلاله وخصوصا أن كل جانب من جوانب شخصيته يشترك فيه مع آخرين مما يجعله يشترك معهم فى جماعة ما لها خصوصيتها بحكم ما يجمع أفراده من خصائص مشتركة ، فهو من ناحية الأسرة ينتمى هو ومجموعة من الأفراد لأسلاف مشتركة ومن ثم تاريخ وعادات مشتركة ، وهو يشترك مع سكان حيه أو مدينته أو قريته أو إقليمه فى بعض العادات والتقاليد وطريقة معينة فى الحديث ، وأكلات مميزة ، وملابس ، ولهجة خاصة ، وهى بما تحمله من مفردات خاصة تتميز عن باقى اللهجات واللغة الأم .
ونستطيع أن نصعد فيما ينتمى إليه الفرد الإنسانى من جماعات إلى مستوى القومية ، ثم الإقليم الجغرافى ، هل هو أوروبى أم أفريقى ؟ حتى نصل إلى المستوى الأكثر شمولا باعتباره فردا من أفراد الجنس البشرى ، والذين تجمعهم نفس الاحتياجات والأحلام المشتركة والبسيطة ، والتى ورغم تنوعها تتلخص فى حياة حرة وآمنة ، قوامها إشباع غرائزهم وعواطفهم .سواء أكانوا يعيشون فى الشمال أم فى الجنوب ، فى الشرق أم فى الغرب ، هكذا كانوا فى الماضى ،و سيظلوا هكذا فى المستقبل طالما ظلوا بشرا ينتمون لجنس الإنسان العاقل .
وإذا عدنا للفرد مرة أخرى ، ونظرنا له من زوايا أخرى كالمهنة التى يحترفها ، فأننا سنجده ينتمى لخصوصيات جماعية أخرى غير عشائرية و لا قومية ولا ثقافية . فهو كعسكرى على سبيل المثال ، وبصرف النظر عن الجيش الذى يخدم فيه يتمتع بمجموعة من الصفات بحكم المهنة ذات أهمية أشد من نمط الملبس والمأكل واللهجة واللغة والعادات والتقاليد ، فالعسكرية تعلمه غالبا احترام الشكليات والعناية بالمظهر والدقة واحترام التراتبية و الانضباط الحديدى والطاعة العمياء للأوامر ، فعدم تمسكه بهذه السلوكيات يعنى عدم نجاحه فى الاستمرار عضوا بجماعة العسكريين .
وإذا نظرنا للفرد من زاوية الدين فسنجده يتميز وبحكم الدين الذى ينتمى إليه عن غيره من من لا ينتمون لهذا الدين ، وإن كانوا يشتركون معه فى القومية أو سكن نفس الحى أو حتى المنزل ، فأى دين يفرض على اتباعه مجموعة من العادات والتقاليد والطقوس وأنماط من المأكل والملبس ، فالمسيحيين فى مصر لا يحتفلون بعيد الأضحى ، كما لا يحتفل المسلمون فى مصر بعيد القيامة ، وإن كان كل المصريون يحتفلون بعيد شم النسيم على اختلاف أديانهم .
ولو نظرنا للفرد من زاوية الطبقة الاجتماعية التى ينتمى إليها فسنجده يشترك مع أفراد طبقته فى المصالح ومستوى المعيشة وكثير من العادات والتقاليد والسلوكيات والقيم والمفاهيم على اختلاف أديانهم وقومياتهم ، فالعمال فى أى مكان فى العالم يهدفون إلى أجور أعلى وساعات عمل أقل وأسعار أرخص فى حين يهدف الرأسماليون إلى عكس كل ذلك تماما .
يبقى لنا أن نشير إلى أن الفرد ذاته ، وبكل جوانب شخصيته المتعددة التى أكتسبها وراثيا وبيئيا لا يتمتع بخصوصية ثابتة ونهائية ومطلقة ، فإذا كان جوهر الإنسان وما يميزه هو سلوكه وأخلاقياته وطريقة تفكيره ، فأننا نلاحظ أن أى منا وعبر رحلة حياته ، يكتسب سلوكيات و أخلاقيات جديدة تزيح القديمة لخانة تاريخ الفرد ، و تتعدل طرق تفكيره ومعتقداته ، بتعديل ثقافته وخبراته . بل أن الفرد ذاته قد يسلك سلوكيات معينة فى ظل سياق اجتماعى معين لا يسلكها فى ظل سياق اجتماعى معين لا يسلكها فى ظل سياق آخر ، فلا يوجد فرد شرير بشكل مطلق أو خير بشكل مطلق ، وقس على ذلك باقى سلوكيات الفرد وصفاته العقلية والجسمانية من حكمة ونشاط وذكاء وقوة وصحة وأمانة ..الخ.
وأخيرا والأهم فأن مكتسبات الفرد والتى تحدد شخصيته من مورثات بيولوجية وسلوكيات ولغة وعادات وتقاليد وتاريخ ، فرضت عليه فرضا بحكم ميلاده الذى لا دخل ولا اختيار له فيه لأسرة معينة ، وفى بيئة اجتماعية معينة ، تمت برمجته من خلالها ، فيحق لهذا الفرد أن يتمرد علي ، ويشك فى ، وينقد ، ما تلقاه من هذه البيئة ، ولكل ما أكتسبه من مكتسبات لم يتدخل فى اختيارها ، ولا يحق لأحد وفقا لأهم وأبسط قواعد العدالة أن يحدد موقفا منه فيما لا دخل لإرادته الحرة فيه ، ولا أن يلزمه بما لم يختاره بنفسه طالما لم يتعد على حقوق وحريات الآخرين.
وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للفرد الواقعى الذى يشكل وحدة الجماعة البشرية ، فأن هذا ينطبق و بالضرورة على الجماعات البشرية التى لا تعبر خصوصيتها الجماعية عن جوهر نهائى ومطلق وثابت ، فكل جماعة بشرية يسرى عليها ما هو جديد ، وهجر ما هو قديم من سمات خاصة مثل اللغة والعادات والتقاليد والقيم مثلما يسرى على الأفراد التى ينتمون إليها .
والحقيقة أن الخصوصية الجماعية كظاهرة اجتماعية لا يمكن إنكارها شرط فهم طبيعتها النسبية والمتغيرة والمتطورة عبر الزمن ، إلا أن ما يمكن إنكاره هو إضفاء طابع الخلود والثبات والنهائية عليها ، والذى لا يتسم به أى كائن من كائنات الواقع المادى . فالحرية الجنسية فى الغرب الصناعى ، والتى أصبحت أحد سمات خصوصيته لم تكن معروفة على الإطلاق قبل الثورة الصناعية والتطور الرأسمالى فى الغرب الذى أفرز حضارة إنسانية مختلفة بشكل جوهرى عن ما كان قبلها . فالمتعة الجنسية فى المسيحية خطيئة فى حد ذاتها .حيث الجنس مجرد وسيلة لاستمرار الجنس البشرى ، ولا ينبغى الاستمتاع به على أى نحو ، هكذا هى تعاليم كل من اليهودية والمسيحية. فأين هذا مما هو عليه الحال الآن فى المجتمعات التى يدين أفرادها بتلك الأديان .
هذا هو حجم الحقيقة والوهم فى قضية الخصوصية الجماعية . فما هى الدوافع إذن وراء الحركات السياسية التى تستند على أفكار تستند بدورها على خصوصيات جماعية أيا كان نوعها ؟.
لا شك أن الدافع الأساسى دائما هو تأسيس السلطة السياسية وتبريرها . ومن ثم تكتسب الخصوصية الجماعية على تهاويها ـ من زاوية الحقيقة الموضوعيةـ ضرورتها الاجتماعية لكل من تشملهم بسلطتها ، وذلك على أن ما يجمعهم من سمات مشتركة ، ما هو إلا تجسيد لجوهرهم المشترك وأحلامهم و أمانيهم المشتركة النابعة من خصوصيتهم الجماعية ، ذات الجوهر النهائى والمطلق والثابت ، والرسالة التاريخية الخالدة الملقاة على عاتقهم ، فلو اعترفت الدولة وسلمت بحقيقة التغير والنسبية لأى خصوصية جماعية ، فإنها تعرض شرعيتها وسلطتها وسيادتها المطلقة لخطر الزوال .
ومن هنا فأن الدولة الحديثة غالبا ما تسعى لنفى وطمس الخصوصيات الجماعية للجماعات الفرعية التى تكونها ، فلا تعترف باللهجات المحلية ، وتسيد لغة رسمية للتعليم والمراسلات الرسمية ، كما ترفض الاعتراف بما يمكن أن يكون مشترك بين من تشملهم بسلطتها وبين الجماعات الأخرى ، فى حين تحرص كل الحرص على التأكيد على التمايزات فى الوقت الذى تنفى فيه عدم التجانس فى المجتمع الذى تحكمه .
إلا أن الأفكار التى تستند لفكرة الخصوصية الجماعية ، ومن ثم الحركات السياسية التى تتبنى تلك الأفكار تتميز بمجموعة من الخصائص.
أولى هذه الخصائص هى قيامها على مفاهيم وأساطير مضللة كأسطورة الجنس الآرى الأرقى كما فى الحركة النازية ، أو أسطورة شعب الله المختار كما فى الحركة الصهيونية ، أو القومية العربية ذات الرسالة الخالدة . فكل شعب يتكون من غالبية تتوسط الأذكياء و الأغبياء ، الأخيار والأشرار ، النشطاء والكسالى ، فالشعب الألمانى الذى أنجب هتلر وجوبلز هو نفسه من أنجب ماركس وكانت . ما بين قمة التفاهة والابتذال عند الأولين إلى قمة العقل والمنطق عند الآخرين ، وفى الوسط ملايين الألمان العاديين الذين تجد أمثالهم فى كل مكان وزمان من البشر حسنى النية القابلين للخداع من أمثال هتلر وجوبلز ، وللتطور مستنيرين بأفكار ماركس وكانت.
ثانية هذه الخصائص هى استبداديتها ، فأى جماعة سياسية تتحدث باسم خصوصية جماعية بشرية نراها تقمع المجتمع باسم ذات المجتمع ولصالح النخبة الحاكمة ، فكل غير المنتمين أو المخالفين لتفسير الجماعة السياسية لتلك الخصوصية الجماعية التى تتحدث باسمها ، وتستند إليها تلك الجماعة ، معرضون للاستبداد و الإرهاب والقمع وانتقاص الحقوق ، وهذا ما نراه فى كل الحركات السياسية الدينية إسلامية أم مسيحية أم يهودية أم هندوسية. فالطالبان منعت المرأة من التعليم والعمل ، فى نفس الوقت الذى نرى فيه الجماعات المسيحية فى أوروبا وأمريكا تهاجم حقى الطلاق والإجهاض ، فى نفس الوقت الذى يرجم فيه اليهود المتطرفون السيارات التى تمر بالقدس يوم السبت ، ولا تستثنى الحركات القومية العلمانية ، فقد أعدم صدام حسين وتسبب فى موت مئات الألوف من الشعب العراقى وتدمير مستقبله القريب على الأقل ، على اعتبار أنه الممثل الوحيد للقومية العربية أن لم يكن هو تجسيدها هى نفسها . فكما نكل شاه إيران ممثل القومية الفارسية بالشعب الإيرانى ، نكل آيات الله بنفس الشعب وتحت اسم خصوصية أخرى هى الإسلامية ، فالنخب الحاكمة سواء باسم عرش الطاووس أم باسم الله خدعته وقمعته فى صراع لا ناقة له فيه ولا جمل . و لأن الشىء بالشىء يذكر فقد تذكرت حوارا نشرته جريدة الأهرام منذ سنوات عديدة مع موبوتو سى سيكو ديكتاتور زائير الراحل ، وكان يتحدث عن استناد نظام حكمه على الخصوصية الزائيرية ، وذكر فيما ذكر مما يميز الزائيريين من خصوصية تستوجب توحدهم ، عادة لا قيمة لها يمارسها الزائيريون ، وهى ضرورة ترك نقطة من أى مشروب بالكوب وقلبه باعتبارها سمة زائيرية ، و لا أتذكر تفسير ذلك الآن ، و لا لماذا ذكرها موبوتو ، والذى بالضرورة قد فلسفها أو لم يعدم من أصلها له فلسفيا حتى يكسب تفاهته رونقا فلسفيا لا يستحقه ، وهذا هو سر الطرافة فباسم تلك التفاهات و أمثالها تم التنكيل بشعب الكونغو ونهب ثرواته من حكم فردى أدعى تجسيد خصوصيته كما تم ذلك مع الكثير من شعوب العالم . فالتيارات القائمة على أساس الخصوصية الجماعية ،الجماعة ، الطائفة ،المذهب ،الوطن ،الأمة ،الشعب ترتكز على كيان كلى متعال على أفراد ، ماحيا خصوصيتهم الحقيقية لصالح خصوصيته المفترضة ، ومن ثم فلا مكان فى هذا المفهوم للاعتراف بالفرد و لا حقوقه الإنسانية فالفرد يكتسب وضعه القانونى ليس بناء على سماته كإنسان ، وإنما يكتسب وضعه وفق مبدأ الهوية الجماعية القائمة على سمات مصطنعة ومتعسفة لا دخل للفرد فيها ولا اختيار ، مما يجعل كل الأفراد الخاضعين له منصهرين فى كل واحد يتجسد فى زعيم مستبد تتوحد فى ذاته الحقيقية الذات الجماعية المزعومة بكل ما انصهر فيها وتلاشى من ذوات فردية أخرى أصبحت تدور فى فلكه و رهن إرادته ، وهو فى كل هذا غير خاضع للمحاسبة والمساءلة والمعارضة من قبل هؤلاء الذين تمت مصادرتهم لصالحه . فمعارضته خيانة للذات الجماعية، وفتور الحماس له ضعف فى الإيمان بالرسالة التى يجسدها ،والتى باسمها يرتكب كل الجرائم فيجد من يبررها له بل ويزينها باعتبارها من جلائل الأعمال و علامات العبقرية والألمعية إن لم تكن نفحة من عالم الغيب .
وثالثة هذه الخصائص هى الرجعية والجمود ولو ادعت التقدمية ، فلأنها تتحدث دائما عن جوهر خالد ونهائى وثابت ، وتستند لوهم واقع لا يتغير يجد جذوره فى الماضى الأسطورى السحيق ، ومن ثم فهى ترفض أى خروج عما تعتبره من الخصائص الجوهرية الخالدة ، والسمات التى تستند للماضى من عادات وتقاليد وتراث ، وهى وأن كانت تتحدث كثيرا عن التاريخ فهى لا تفهم طبيعة التاريخ الذى هو بحكم التعريف ما يتوالى على الواقع من تغيرات ، والتى لولاها لما كان هناك تاريخ . فالصينيين كانوا يضعون أقدام النساء فى أحذية من الحديد منذ نعومة أظافرهم لكيلا تنمو ، حيث كانت الأقدام الصغيرة من مقاييس جمالهن ، ومن ثم يصبح التمرد على هذه العادة تمردا على الخصوصية الصينية يستلزم القمع والإرهاب ، لكى تظل النساء الصينيات غير قادرات على المشى السليم وذلك حتى تحافظ الأمة الصينية على خصوصيتها وتراثها . ويعتبر ختان الإناث جزء من خصوصية الشعب المصرى يجب المحافظة عليه حتى مع ثبوت أثاره المدمرة على الرجل والمرأة . وفى الحقيقة أن أى تقدم فى أى مجتمع لا يأتى إلا من القدرة على التمرد على الموروث ونقده والشك فيه وليس بأى حال من الأحوال تقديسه أو تخليده . سواء أكان هذا التمرد قد نبع من ذات المجتمع أم نقل إليه من مجتمع آخر . هكذا تطور التاريخ البشرى على كافة المستويات . وإلا كنا نحن العرب مازلنا نسكن الخيام ونمتطى الدواب ونستدفأ بنار الحطب.
ولقد اكتوت شعوب منطقة الشرق الأوسط بالحركات السياسية والأنظمة التى تستند لخصوصيات جماعية مختلفة ، سواء أكانت قومية كالحركات القومية العربية والتركية والكردية، أو دينية كالحركة الإسلامية والحركة الصهيونية ، مما أورث المنطقة صراعات دامية أخرت التطور والنمو فى هذه المنطقة من العالم ،وتهددها فعلا بالتهميش فى ظل العولمة بالرغم مما تملكه المنطقة من إمكانيات هائلة للنمو ،وقد ضاعت منها بلا شك فرص حقيقية للتقدم كالحقبة النفطية ، أهدرت فى عبث مجنون ، فى حين كان بقية العالم يتحرك للأمام فى خطوات متسارعة .ولعل من المفارقات التاريخية أن تلك المنطقة التى شهدت بدايات الحضارة البشرية أصبحت هى وأفريقيا جنوب الصحراء من أكثر مناطق العالم تخلفا وتهميشا، فعلى المستوى السياسى فالمنطقة العربية هى الوحيدة فى العالم التى تتواجد بها أسر حاكمة تحكم حكم مطلق بالفعل فى حين أن معظم الملكيات الأخرى هى ملكيات دستورية تملك فيها الأسر الحاكمة ولا تحكم مع استثناءات قليلة فى آسيا وأفريقيا ، أما فى الجمهوريات فغالبا ما تحكمها إما عائلات تتوراث الحكم ، أو حكومات عسكرية واستبدادية تشبه فى أسلوبها وشريعتها النظام المملوكى ، كما تتواجد فى المنطقة إسرائيل الدولة الوحيدة فى العالم القائمة على أساس عنصرى يفرق بين البشر على أساس الدين كما إنها الدولة الوحيدة التى تحتل أراضى الغير فى العالم اليوم ، و إيران التى يحكمها مبدأ ولاية الفقيه والحكومة الدينية وأفغانستان المحكومة على نسق القرون الوسطى الإسلامية ، كما تنتشر بالمنطقة الحروب الأهلية من أفغانستان إلى الصومال إلى الجزائر، والصراعات الحدودية المسلحة من القرن الأفريقى وحتى الخليج العربى وحتى المغرب . وعلى المستوى الاقتصادى يتضاءل حجم الإنتاج والمشاركة فى التجارة الدولية بالنسبة لحجم السكان لمنطقة الشرق الأوسط ، وتتضاءل مستويات المعيشة ومعدلات الدخل القومى ، فتأتى المنطقة بعد جنوب وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية وبالطبع أوربا وأمريكا الشمالية ، ولا يأتى بعدها سوى أفريقيا جنوب الصحراء التى تأتى فى المرتبة الأخيرة ، مع ملاحظة أن الأزمة فى أوربا الشرقية أزمة مؤقتة ستنفرج خلال سنوات قليلة بحكم حجم ما تم إحرازه من تقدم خلال الأنظمة السابقة التى وفرت بنية أساسية للتقدم لا تتوفر فى منطقة الشرق الأوسط ،وحتى بالنسبة لإسرائيل، فما يبدوا من حجم إنتاج اقتصادى كبير بالنسبة لحجم سكانها يرجع أساسا للدعم الأمريكى والصهيونى لها ، وليس لقوة ذاتية تنبع من الدولة المصطنعة و أما عن الخليج وما حققه من نهضة نتيجة الحقبة النفطية فهو مهدد بزوال الحقبة النفطية .وأما على مستوى الإنتاج العلمى والفكرى والثقافى فهو يعكس تدنى المستوى الاقتصادى والسياسى بوضوح ، وحتى الاستثناء الإسرائيلى فيرجع إلى طبيعة سكان الدولة الآتين من نخب دول المركز الحضارى ، وليس غير .وكل ذلك التدهور والتدنى لتلك المنطقة من العالم التى كانت تحتل مكانة متميزة فى العالم بعد أوربا فى النصف الأول من القرن العشرين كان بسبب سيطرة حركات الهوية والخصوصية الجماعية المختلفة فى المنطقة فى النصف الثانى من القرن العشرين سواء على الحكم أو فى حركات المعارضة ، و التى استندت لأيديولوجيات الرأسمالية فى مراحلها المبكرة التى سرعان ما تم التخلى عنها فى العالم المتقدم بعد الحرب العالمية الثانية التى أعلنت هزيمة تلك الأيديولوجيات معلنة البداية المبكرة للمرحلة الأخيرة من التطور الرأسمالى المتميزة بالكوكبية.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية