الخميس، 19 مايو 2011

الثورات التقنية وأثرها على التحولات الاجتماعية

الثورات التقنية وأثرها على التحولات الاجتماعية

سامح سعيد عبود

الثورات التقنية وأثرها على التحولات الاجتماعية

فى مناطق معينة فى الشرق الأوسط منذ عشرة آلاف عام، أكتشف البشر الزراعة التقليدية، ومن ثم الاستقرار فى القرى والمدن، وأدى هذا الاكتشاف إلى نشوء المجتمعات الطبقية ما قبل الرأسمالية، وعلاقات العبودية والقنانة المعممة منها وغير المعممة، ونشأت الدولة بدلا من القبيلة كمؤسسة اجتماعية، وأخذ تطور البشر الحضارى يرتبط بنوع المعدن الذى يصنعون منه أدواتهم، فحضارات عصر الحجر ما قبل التاريخ المكتوب غير حضارات عصر النحاس الذى تلاه، غير عصر حضارات البرونز، وأخيرا حضارات عصر الحديد.
ظهرت منذ قرنين الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر لتغير وجه العالم بدءا من إنجلترا، ولتظهر الرأسمالية والدولة الحديثة، بكل ما مرت به من تطورات كانت مرتبطة بوضوح بتطور الطاقة المستخدمة إلى حد كبير، فعصر الرأسمالية التنافسية ارتبط بقوة بالفحم والبخار فى القرن 19 وصناعات الغزل والنسيج على سبيل المثال، وعصر الرأسمالية البيروقراطية والاحتكارية أرتبط بقوة مع الكهرباء والبترول فى القرن 20 وصناعات الأجهزة المنزلية والسيارات على سبيل المثال، ولا شك أن عصر الرأسمالية الكوكبية فى القرن الحالى، ارتبط بقوة مع الثورة التقنية فى مجالات الحاسوب والاتصالات والأنترنت والأتمتة.
كان لهذه الثورة الأخيرة الأثر الأعظم فى تشكيل عالمنا اليوم، ومن هذه الآثار ، أن عدد الأيدي العاملة في القطاعات الصناعية راح يتضاءل بسرعة حتى بلغ نسبة 14% من إجمالي الأيدي العاملة فى انجلترا بلد الثورة الصناعية الأولى، وبلغ في الولايات المتحدة أقل من 20% من إجمالي القوى العاملة، مقارنة بـ25% في عام 1970، وتلي الولايات المتحدة وبريطانيا كلا من فرنسا واليابان وأخيرا ألمانيا وإيطاليا. ويتكرر هذا النمط في بقية الدول الصناعية المركزية بدرجات متفاوتة، بل وفى بلد متوسط النمو كمصر انخفض من 40% فى السبعينات إلى 23% فى بداية القرن الحادى والعشرين، وهذا يعنى تخلفا كارثيا، وفقا لمفاهيم الاقتصاد التقليدى، إلا أن العكس هو الصحيح، فتقلص العاملين في قطاع الصناعة في دول المركز لا يعني ضعفا، بل يعني مزيدا من القوة الاقتصادية، وذلك لأن الثورة التكنولوجية الجديدة أدت إلى أن تحل الآلات محل الأيدي العاملة البشرية بحيث انحسرت هذه الأيدي، بينما ارتفع الإنتاج الصناعي نفسه، وفاضت السلع على الاحتياجات البشرية، وتحولت الصناعات فى المركز من صناعات كثيفة العمالة، وهى صناعات القرنين التاسع عشر والعشرين مثل صناعة الحديد والصلب والأسمنت والغزل و النسيج والسيارات والأجهزة المنزلية التى رحلت لدول شبه المحيط مثل الصين، إلى صناعات كثيفة المعرفة، مثل الإلكترونيات و الأدوية والآلات و منتجات النانو تكنولوجى والهندسة الوراثية، فإنتاج برنامج تشغيلي للكومبيوتر (مثل وندوز) يعود على الاقتصاد بأرباح مضاعفة عشرات المرات من إنتاج القرص المدمج الذي يسجل عليه البرنامج نفسه، وذلك لأن إنتاج البرامج أمر معقد، ويحتاج إلى كثير من الجهد الذهنى الأكثر إرهاقا من الجهد العقلى، و كثير من وقت العمل الاجتماعى لكتابة تلك البرامج التى هى أوامر تشغيل وليست مجرد رص معلومات، بينما تصنيع القرص نفسه أمر سهل، ربما لا يحتاج سوى لضغطة على زر ماكينة إنتاجه، وينعكس ذلك بوضوح في السعر، فالقرص الفارغ يكلف أقل من جنية، بينما يكلف القرص الذي يحمل برنامج «وندوز» نحو بضعة مئات من الجنيهات، والشيء نفسه ينطبق على الغسالة الفول أتوماتيك، فإنتاج الغسالة في حد ذاته لا يعني شيئا من دون برنامج التشغيل الخاص بها، ومن ناحية أخرى فإنتاج الآلة المؤتمتة التى صنع بها القرص إنتاج تقنى عالى يظل من نصيب المركز، وإن كان لا يطرح فى أسواق السلع الاستهلاكية كى يلاحظه الناس، وأن تكلفة البرامج التى أصبحت موجودة تقريبا فى كل أجهزة الاستهلاك مثل السيارات والمكيفات كما فى كل آلات الإنتاج ومعداته التى تنتج سلع الاستهلاك، أعلى كثيرا من تكلفة إنتاج الأجهزة والآلات نفسها، وبالتالى فإن أجور المبرمجين أعلى بكثير من أجور عمال تشغيل الآلات والمعدات،لأن التكلفة الاجتماعية لإنتاج مبرمج أعلى بكثير من التكلفة الاجتماعية لإنتاج عامل تشغيل ماكينات، مع ملاحظة أن السوفت وير لابد له من بروسيسور يباشر تنفيذ أوامره، وهى صناعة عالية التقنية بدورها، ومن ثم يصنع البروسيسور فى دول المركز لا فى دول المحيط، أما صناعة باقى الأجزاء الميكانيكية والكهربائية فينتج أحيانا فى دول شبه المحيط، فى حين يترك تجميع الأجهزة نفسها إلى دول المحيط، والمثل الآخر على تأثير الثورة التقنية فى إحداث التحولات الاجتماعية، هو مثل تجميع النصوص لطباعتها، فقديما كان تجميع صفحات الكتب والصحف يتم بشكل يدوى يشارك فيه أكثر من عامل فى عمل شاق يبدأ من صهر الرصاص ثم صب الرصاص المصهور فى قوالب الحروف الأبجدية المختلفة، ورصها فى دولاب مقسم لخانات لكل حرف وموقعه فى الكلمة، ليأتى عامل التجميع يلتقط حروف الرصاص من الدولاب ليضعها فى صندوق مطابقا النص المكتوب أمامه، وهذا يحتاج تركيز هائل، فأى خطأ غير مسموح به، لأن هذا يعنى فك قالب الرصاص وإعادة تجميعه، ثم يذهب القالب لآلة الطباعة، ثم تتوالى عمليات أخرى من عمال آخرين تنتهى بالتجليد، وهذا شرح مبسط للغاية لعملية الطباعة قديما، أما الآن فيتم تجميع الكتاب أو الصحيفة بكل صفحاتها باستخدام الكومبيوتر الشخصى المحمل عليه برامج النشر المكتبى وبرامج الكتابة والرسم المختلفة، ويتم تصحيح النص أكثر من مرة بسهولة ويساعد فى هذا برامج الكتابة نفسها، بجهد عقلى وعضلى أقل بمراحل من جهد التجميع اليدوى وبواسطة عامل واحد، و فى وقت عمل أقل بمراحل من وقت التجميع اليدوى، ويرسل الكتاب أو الصحيفة إلى المطبعة كنص رقمى على أسطوانة مدمجة ليدخلها العامل إلى آلة الطباعة مبرمجة بدورها هى الأخرى، ليخرج كتاب مجلد أو صحيفة كاملة بعدد النسخ المطلوبة دون أن يمسسها بشر، وهذه عمليات كان يقوم بها عدة عمال من قبل.
انتقال الصناعات التى لا تحتاج لمهارات عالية من المركز إلى الدول شبه المحيطية، تطلب توسع عدد الوظائف التي تتطلب مهارات عالية في المركز، وانخفاض فى الطلب على العمالة غير الماهرة فى تلك البلاد المركزية، على عكس ما حدث فى دول المحيط، وكان هذا سببا فى انتقال شركات عالمية ضخمة إلى المحيط وشبه المحيط، تلك الفروع والصناعات المعتمدة على العمالة غير الماهرة، وضعيفة الإنتاجية، والأكثر استخداما لعضلاتها من عقولها، بالإضافة طبعا لكونها أيدى عاملة رخيصة، مقارنة بأجور العمالة فى دول المركز.
بلغت قيمة إنتاج الصين الصناعي في عام 2005 نحو 700 مليار دولار، أي نصف ما أنتجته الولايات المتحدة على الرغم من أن عدد العمال الصناعيين في الصين يبلغ 6 أضعاف عددهم في الولايات المتحدة، والسبب أن إنتاجية العامل الأميركي تعادل 12 ضعف إنتاجية نظيره الصيني، والفضل في ذلك يعود للتقنيات الحديثة المتوافرة للعامل الأميركي، والتى لا تتوافر للعامل الصينى، ولكن هناك سبب آخر أهم، وهو أن الأيدي العاملة في المركز تعيد تأهيل نفسها باستمرار وبسرعة لمواكبة الثورة المعرفية والتكنولوجية الحديثة، ومن جهة أخرى فإن هناك سبب آخر لتحول الأيدي العاملة من الصناعة إلى الخدمات، هو أن السلع يمكن بسهولة إنتاجها عبر الآلات المؤتمتة والبشر الآليين، بينما الخدمات الطبية والتعليمية والمالية تحتاج إلى الأيدي والعقول البشرية، وأخيرا فإن هناك حدودا لاستهلاك السلع، أما الخدمات فإن حدود استخدامها أكثر اتساعا من السلع.
لاشك أن الاعتماد على الآلة المؤتمتة في الصناعة يضاعف من إنتاجية السلع، لأن الآلة أقوى وأسرع من الإنسان، بالإضافة إلى أن توفير العمالة فى الصناعة، يفرغ الأيدي البشرية للعمل في قطاع الخدمات الذي لا يحتاج للآلة بقدر احتياجه للعقول والأفكار البشرية، وما ينطبق على الصناعة ينطبق على الزراعة، ويتضح هذا جليا في التاريخ الاقتصادي للدول المتطورة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، حيث كان 70% من السكان يعملون في الزراعة التقليدية حتى عام 1820، بينما اليوم يعمل 2% فقط في الزراعة على الرغم من أن الإنتاج الزراعي أصبح أضعاف ما كان عليه الإنتاج فى القرن التاسع عشر، وكما أشرنا فإن نسبة 18% فقط تعمل في الصناعة، بينما يعمل أكثر من 80% في قطاع الخدمات .
الفارق التقليدي الحاد بين قطاعي الصناعة والخدمات قد يتلاشى تدريجيا مع تطور التكنولوجيا نفسها، فنصف العاملين في القطاع الصناعي في الولايات المتحدة اليوم يعملون في التصميم الهندسي و البرمجة وفي الإدارة والتسويق. ولكن لأنهم يعملون في مصانع، فإن الإحصاءات الرسمية تعدهم ضمن القطاع الصناعي، بينما يحسبهم الاقتصاديون ضمن قطاع الخدمات، و العاملون فى صناعة الكومبيوتر، يعملون فى قطاع يمزج بين الخدمات والإنتاج، إذ إن الكومبيوتر نفسه لا يعني شيئا من دون البرامج التي تشغله (مثل وندوز وغيره). والعاملون فى صيانة الكومبيوتر يعملون على إعادة تجميعه، كما أن الإنتاج الثقافى والإعلامى والذى يعتبر من قطاع الخدمات، فإنه فى حقيقته يبيع سلعا تباع فى الأسواق، شأنها شأن الملابس والأطعمة، سواء أكانت كتب أو أفلام أو برامج إعلامية أو درامية أو صحف، فإنتاج هذه السلع وبيعها ينتمى للصناعة و الخدمات فى نفس الوقت، كما أن سلاسل مطاعم الوجبات الجاهزة، والتى تنتمى لقطاع الخدمات تصنع وتبيع السلع فى نفس الوقت، وحتى الفرق بين الزراعة والصناعة أخذ يتلاشى، فالهندسة الوراثية واستخدماتها فى الزراعة، مع آليات متطورة للرى والصرف، وتغذية النباتات ورعايتها، وغيرها من التطورات التقنية الخاصة بالتحكم فى المناخ المحيط بنمو النباتات و تغذيته فى الصوب وغير ذلك، حول المزرعة لمشروع شبه صناعى يعتمد على الآلات أكثر من المشروع الزراعى التقليدى المعتمد على الجهد العضلى وظروف الطبيعة، و هذه كلها أمثلة على أن كثيرا من الصناعات الحديثة تمزج بين قطاعي الصناعة والخدمات، وبين الزراعة والصناعة، وبين الزراعة والخدمات. لكن الفرق بين طبيعة المهن الإنتاجية والخدمية والزراعية يبقى واضحا، حتى وإن ذابت الفوارق بين القطاعات وتسمياتها.
ما سبق الحديث عنه هو التقنيات المستخدمة اقتصاديا فعلا ، وما أحدثته من تحولات اجتماعية، أما آفاق التطور العلمى والتكنولوجى فى المستقبل القريب فإنها سوف تنقل البشر المرتبطين بالثورة العلمية والتقنية، إلى آفاق تتجاوز كل ما يحسبه البعض خالد من علاقات ونظم اجتماعية، يقودهم صناع تلك التقنيات من علماء ومبتكرين ومصممين ومبرمجين، فاكتشاف واستخدام مصادر لا تنفذ للطاقة النظيفة سوف يؤدى إلي نقلة نوعية في علاقة الإنسان بالطبيعة حيث سوف يتحرر إلي الأبد من العوز في مصادر الطاقة التى يعتمد عليها في حياته عموما،ويتجه العالم الآن لاستخدام مصادر أخري لا متناهية للطاقة النظيفة وغير المكلفة مما يعد ثورة كبري تفوق الثورة التي ترتبت علي اكتشاف البترول، وضمن مصادر الطاقة الجديدة الرياح والأمواج والهيدروجين والاندماج النووي. إن حلم إنتاج طاقة نظيفة ورخيصة، ومن مصادر لا تنفذ علي وشك التحقق بل هو يتحقق الآن بالفعل ولن تمر سوى عدة عقود حتي يستبدل البترول والفحم نهائيا بالطاقة الهيدروجينية والاندماجية.
وسوف يتغير العالم كليا مع تحقق هذه الثورة، فستصبح البيئة أنظف بكثير حيث سينعدم انبعاث ثانى أوكسيد الكربون والغازات الأخرى الملوثة للبيئة كما سيرتفع معدل النمو الاقتصادي بشدة نتيجة رخص الطاقة وسهولة إنتاجها ووفرتها، وللقارئ أن يتصور مصير البلاد التي تتعيش علي نهب العالم باحتكارها للبترول والتحولات السياسية التي ستترتب علي ذلك .


0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية