الحرية والسلطة
العلاقة بين الحرية والسلطة مثل العلاقة بين المياه واليابسة ، فكما تحدد الشواطئ حدود البحار ، تحدد السلطة حدود الحرية ، وقد تطغى المياه على اليابسة كما في المد ، وقد تطغى اليابسة على المياه كما في الجذر ، وهكذا الحال بين الحرية و السلطة ، فإذا كانت الحرية هي التحديد الذاتي للأفعال بما تعنيه من حرية الإرادة في تقرير هذا الفعل أو ذاك ، فإن السلطة هي تحديد خارجي للأفعال بما تعنيه من تقييد الإرادة في تحديد الأفعال ، وذلك بإرادة من يمارسون السلطة .
تلك السلطة المنفصلة عن من تمارس عليهم ، هى التى يرفضها ويعاديها اللاسلطويون ويناضلون من أجل زوالها من كل العلاقات الاجتماعية بين البشر . ومن ثم يرون أن كل العلاقات الاجتماعية يجب أن تنتظم وفق توافق الإرادات الحرة للأفراد الداخلون فيها ، و بالطبع فإن هذا الوضع سينشأ حدودا لحريات هؤلاء الأفراد أى سلطة ، إلا إنها ليست بمنفصلة عنهم و لا متعالية عليهم فى هذه الحالة ، فقد حددوا هم بأنفسهم أو قبلوا تلك الحدود التى تقيد حريتهم حين دخلوا تلك العلاقات المنشئة للجماعات التى دخلوا فيها طوعا ، وهم قادرين على التحلل من تلك العلاقات والانفصال عن تلك الجماعات حين تتعارض مع حرية إرادتهم فى أى لحظة يشاءون ، و تتأسس إدارة الجماعة على الديمقراطية المباشرة ، التى تعنى أن كل ما يتعلق بنشاط الجماعة و أفرادها فيما يتعلق منه بنشاط الجماعة ، يحق لكل أعضاء الجماعة مناقشته و اتخاذ قرارا بشأنه على نحو ديمقراطى ، فلكل جماعة أن تحدد القواعد التى تنظم أوجه نشاطها ، وأن تعاقب أى عضو من أعضاءها يخرج عن هذه القواعد والنظم التى حددوها بأنفسهم ، أو قبلوها مع انضمامهم للجماعة ، وأن تفصل فى الخلافات التى قد تحدث بين الأعضاء ، والمخالفات التى قد يرتكبوها.
وهذا النوع من التنظيم الاجتماعى الناتج عن توافق الإرادات الفردية الحرة تتوحد فيه السلطة مع الحرية ، فاللاسلطوية لا تعنى انتفاء التنظيم الاجتماعى أو الفوضى كما قد يفهم البعض ، ولكنها تعنى القضاء على الانفصال بين الحرية و السلطة فى كل تنظيم اجتماعى قائم أو يمكن أن يقوم بلا استثناء .
يولد الفرد ، و قد حددت العديد من المحددات البيولوجية من الجينات الوراثية و الهرمونات وغيرها العديد من أفعاله المستقبلية ، لتبدأ السلطة الاجتماعية المنفصلة عنه لتحدد المزيد من هذه الأفعال هى الأخرى ، ليس فحسب على مستوى الإباحة والتحريم ، والثواب و العقاب فقط ، بل بما هو أخطر من ذلك بمراحل إذ يتم تشكيل مجمل وعيه الاجتماعى بكل مؤسسات الترويض الاجتماعية ، عبر الأسرة والعلاقات الاجتماعية المتنوعة التى يدخل فيها ، ومؤسسات التعليم و الدين و الثقافة إلى آخر القائمة ، وهذا الوعى الذى هو صناعة اجتماعية ، و برغم أنه لا دخل له فيه و لا اختيار إلا إنه يشارك فى تحديد إرادته نفسها سلفا ، ومن ثم يحدد أفعاله و اتجاهاته وميوله ، ومن ثم تصبح حريته محددة سلفا بالسلطة الاجتماعية الخارجة عنه ، حتى وهو يحدد بكامل إرادته ماذا يفعل ، فسوف يتدخل فى هذا التحديد ليس خصائصه البيولوجية فحسب ، وإنما أيضا ما تمت برمجته به من وعى اجتماعى ، ومن قيم أخلاقية وعادات و تقاليد و معتقدات ومعارف وخبرات ..الخ ، فنحن قد نتصور أننا أحرار فى إختياراتنا بين البدائل المتنوعة المطروحة علينا ، ونتصور أن إرادتنا حرة فى تحديد ما نفعل ، و نتصور أن ما فعلناه قد فعلناه بحريتنا الكاملة ، فى حين أن ما حدد أفعالنا هو حزمة من المحددات البيولوجية، والسلطات الاجتماعية الخارجة عنا ، والتى لم نشارك فى تحديدها و لا فى صناعتها .
تهدف اللاسلطوية لخلق مجتمع تتعاظم فيه الحرية الفردية ليس فقط بتوحيدها بالسلطة كما وسبق وقد أشرنا ، ولكن بتقليص أثر المحددات السلطوية الاجتماعية على تلك الحرية ، وهذا يعنى بالضرورة حرية البحث عن الحقائق ، ، فكل الأشخاص و الظواهر الاجتماعية و الأفكار والمؤسسات والقواعد غير محصنة من النقد و الشك والتمرد ، و الحق فى الاختلاف مع الآخرين سواء أكانوا أفرادا أو مؤسسات أو أفكار ، وتحمل مسئولية هذا الاختلاف على نحو خاص ، و تحمل مسئولية الأفعال و الاختيارات الناتجة عن التمسك بالحرية عموما .
تهدف اللاسلطوية إلى القضاء على وصاية البعض من البشر المتميزين على البعض الآخر تحت أى مسمى أو حجة ، مع استثناء الأطفال و المجانين بالطبع، حيث ترتبط الحرية ارتباطا وثيقا بالمسئولية ، فالقصر هم الذين يتحمل مسئوليتهم الأوصياء مقابل ما سلبوه من حريتهم ، فالحرية تعنى أن تكون صادقا أو كاذبا ، أمينا أو خائنا إلا أن عليك أن تتحمل مسئولية كونك كذابا فلا يصدقك الناس أو خائنا فلا يأتمنوك ، و إذا كنت كسولا غير منتج فعليك أن تتحمل مسئولية لفظ النشطاء و المنتجين لك ، وفصلك من جماعاتهم المنتجة ، و إذا ما اعتديت على أى من حقوق وحريات الآخرين ، فعليك تحمل نتائج دفاع من اعتديت على حقوقهم عن تلك الحقوق ، ومن ثم يصبح تحمل المسئولية الناتجة عن الحرية ، و تحرر البشر من الوصاية ، أقوى رادع للسلوك الإنسانى فى تعامله مع الآخرين.فإرادات البشر لن تتفق على الكذب و الخيانة والكسل والعنف والنهب وغيرها من الرذائل كقواعد سلوكية فيما بينهم وهم ينشئون جماعاتهم المختلفة ، و من ثم وبدون وصاية سلطوية ، ستواجة الجماعات كل هذه السلوكيات وغيرها إما بالعقاب أو العلاج أو طرد من يرتكبها من الجماعة .فالفضائل الإنسانية هى ضرورة اجتماعية للإبقاء على التماسك الاجتماعى لا تحتاج لتلك السلطات القمعية المختلفة للحفاظ عليها كما يزعم السلطويين ، وفى الحقيقة أن هذه السلطات تحديدا هى السبب فى تلك الرذائل و ترويض الضمير بما تمارسه من قهر يولد الكذب والنفاق و العنف والسلبية والجبن ..الخ ، و استغلال يولد النهب والسرقة والاحتيال ..الخ .
السلطة فيما بين البشر تقوم على أسس مادية ، منفصلة عن كل من إرادة و وعى الممارسين للسلطة أو الخاضعين لتلك السلطة ، فالاستبداد ليس قيمة سلوكية أخلاقية ترجع لسوء أو حسن سلوك من يمارسها ، ربما تتدخل الأخلاق فحسب فى مدى سوء أو حسن استخدام السلطة ، وإنما ترجع السلطة بصرف النظر عن حسن ممارستها أو سوءها ، للسيطرة على مصادر السلطة المادية و احتكارها من الطرف الممارس للسلطة ، وحرمان الخاضع لها من تلك المصادر . والمسألة ليست معقدة و إنما يفهمها ويلاحظها كل إنسان ، فمن يملك الطعام قادر على إجبار الجائع على تنفيذ ما يريده هو لا ما يريد الجائع ، و الذى لابد وأن يقبل شروط مالك الطعام حتى يعطيه ما يملأ به معدته ، ويستطيع الجائع أن يخدع نفسه بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، و هذا صحيح ، ولكن بشرط توافر الخبز أولا ، فحتى يستطيع الإنسان ممارسة أى نشاط آخر غير الأكل ، عليه أولا أن يملأ معدته بالطعام ، و إلا لن يكون باستطاعته الحياة ليمارس أى نشاط . ومن يملك وسائل العنف سواء كانت قوة عضلية أو سلاح قادر على إجبار الأضعف عضليا أو الأضعف تسليحا أو الأعزل على تنفيذ ما يريد ، وليس على الضعيف أو الأعزل إلا أن يستجيب لإرادة الأقوى لو أراد لنفسه الحياة والسلامة ، ومن يملك المعرفة والوعى على نحو أكبر أو يحتكرها أو يدعيها لنفسه ، قادر على السيطرة على من لا يملك منها إلا القليل أو لا يملكها على الإطلاق ، فشخص يعرف الطريق لابد و أن يقود من لا يعرفه للسير فيه ، وما دمت لا تعرف إلى أين تتجه فما عليك سوى الاستجابة لنصيحة من يعرف . هذه هى الجذور المادية للسلطة .ولا يمكن أن تقام علاقات اجتماعية تخلو من الاستبداد إلا إذا تساوى الداخلين فى تلك العلاقة فى سيطرتهم على مصادر السلطة الثلاثة على نحو متساو ، فطالما سيطر أحد أطراف العلاقة على أى من هذه المصادر فأنه لا مناص من استبداده بالآخرين وهى عملية منفصلة عن نية وأخلاق من يمارسها ، ورغم أن هذه بديهيات لا تحتاج للبرهنة ، إلا أننا مضطرين لتوضيحها دائما ، لأن القوى السياسية التسلطية المختلفة ،تصدر خطابها الدعائى دائما ، بإمكانية تحقيق الحرية والإخاء والمساواة دون القضاء على انقسام المجتمع بين من يسيطرون على مصادر السلطة المادية ، وبين من لا يسيطرون عليها .
فالحقيقة أنه لا حرية مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج كما أنه لا حرية مع ملكية الدولة لتلك الوسائل ، ولا حرية مع احتكار البعض للعنف دون الآخرين من قبل أى مؤسسات سلطوية منفصلة عن من تحميهم كالجيش والشرطة ، كما أنه لا حرية مع احتكار المعرفة ، كما أنه لا حرية مع إدعاء إمتلاك الحقيقة أو تمثيل المبدأ أو الهوية الجماعية أو العقيدة أو الجماهير .. الخ ، سواء من قبل الأفراد أو المؤسسات والنخب المختلفة ، سياسية كانت أو اجتماعية أو دينية أو ثقافية وغيرها .
إن أهم مؤسسات السلطة القهرية والقمعية هى الدولة ، و قد عرفت تلك المؤسسة العديد من أشكال ممارسة تلك السلطة التى يرفضها اللاسلطويون ومن ثم يرفضون المؤسسة التى تمارسها ، فمن الديكتاتورية بأنواعها إلى الديمقراطية بضروبها ، و أى ما كانت هذه الأشكال فهى فى الفهم التحررى تتنافى مع الحرية الحقيقية للبشر ، و بصرف النظر عن أن الديمقراطية هى أفضل هذه الأشكال من زوايا عديدة ، إلا أن كل هذه الأشكال ما هى سوى مجرد طرق مختلفة لممارسة القهر السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى على المحرومين من مصادر السلطة المادية .
ولأن الدولة مؤسسة اعتبارية تجسد هويات جماعية مجردة ، فإن من يديرون هذه المؤسسة هم أشخاص حقيقيون من الساسة و البيروقراطيين ، وهم فى إدارتهم لهذه المؤسسة يعبرون عن مصالح من يسيطرون على مصادر السلطة المادية إذا لم يكونوا هم وبشكل مباشر المسيطرون على تلك المصادر .
عرف البشر الدولة كمؤسسة حينما انقسموا لطبقات وفق علاقاتهم بمصادر السلطة المادية وهى وسائل الإنتاج والعنف والمعرفة ،فمن امتلكوا أو حازوا أو سيطروا أو أداروا تلك الوسائل صنعوا الدولة لتدافع عن مصالحهم فى مواجهة الطبقات المحرومة من تلك الوسائل ولينظموا عملية استغلالهم وقهرهم.
عندما كانت وسائل العنف أو المعرفة هى سبب السيطرة على وسائل الإنتاج كان شكل ممارسة السلطة يميل للاستبداد والديكتاتورية كما فى المجتمعات الإقطاعية والبيروقراطية بأنواعها ، حيث كان من يسيطرون على وسائل العنف من العسكريين أو المعرفة من الكهنة أو الحقيقة والمبدأ و الجماهير من السياسيين والبيروقراطيين، يسيطرون على الإنتاج و وسائله و يستولون على فائضه بحكم هذه السيطرة العسكرية أو بحكم المعرفة الدينية أو إدعاء تمثيل مصالح الجماهير والحقيقة والمبدأ ، إلا أنه عندما كانت السيطرة على وسائل الإنتاج تضمن السيطرة على وسائل العنف و المعرفة ، كان من يسيطرون على هذه الوسائل يمارسون تسلطهم عبر أشكال متفاوتة الدرجة من الديمقراطية كانت فى المحل الأول الطريقة المثلى لحسم التنافس فيما بينهم على السلطة بدلا من استخدام العنف المسلح والمؤامرات وسائر ما يمارسه الإقطاعيين والكهنة والعسكر و السياسيين والبيروقراطيين فيما بينهم حسما لنفس التنافس .
وقد تطورت الديمقراطية فى المجتمعات الرأسمالية حيث من يسيطرون على وسائل الإنتاج من الرأسماليين هم من يسيطرون على وسائل العنف والمعرفة ويتقاسمون فائض الإنتاج فيما بينهم . وقد توسع المشاركين في العملية الديمقراطية مع إقرار حق الاقتراع العام لكافة المواطنين فى القرن العشرين بعد أن كان مقصورا على الرأسماليين والبيروقراطيين والعسكريين ورجال الدين كما كان الحال فى بدايات تطور الديمقراطية البورجوازية فى القرن التاسع عشر باستثناءات قليلة .
والديمقراطية التمثيلية التى ارتبطت بالرأسمالية كنمط إنتاج هى أكثر أشكال ممارسة السلطة تحقيقا لدرجة عالية من الحريات والحقوق الفردية الشكلية ، ومن ثم فإنها من هذا الجانب تكون الأخطر على وعى المقهورين حين تمنحهم إحساسا وهميا بالحرية لا تعطيهم إياه الديكتاتورية التى تحرمهم حتى من هذه الحقوق الشكلية.وقد اكتسبت هذه الديمقراطية مع الوقت طابع المثل الأعلى الذى تنشده الغالبية ، وتدعيه لنفسها معظم النخب السياسية ، فلا أحد أصبح يصرح بالديكتاتورية هدفا له ، إلا عبيد الدولة والسلطة من غلاة اليمين واليسار السلطويين ، وقد أصبحوا فى ظل الظروف الحالية على هامش الحياة السياسية فى معظم بلاد العالم ، إلا أن هذا لن يمنع من أن تحولهم ظروف اجتماعية أخرى فى المستقبل لقلب هذه الحياة ، سواء فى اتجاه اليمين أو فى اتجاه اليسار.
والديمقراطية و إن كان يمكن أن تكون فى ظل ظروف معينة هدفا مؤقتا ومرحليا بالنسبة للبعض ، إلا أن هذا لا يجب أن ينسينا أنها وهما بالحرية لا علاقة له بالتحرر الحقيقى الذى يناضل من أجله التحرريين ، فهى فى التحليل الأخير شكل من أشكال ممارسة السلطة المنفصلة والمتعالية على الغالبية ، حتى ولو كانت فى أكثر نماذجها تحقيقا للحقوق والحريات الإنسانية كما فى سويسرا التى كانت رغم ذلك أحد أقدم معاقل اللاسلطوية فى القرن التاسع عشر.
تقوم الديمقراطية البورجوازية على أساس مبدأ التمثيل الذى هو فى حقيقته لونا من الدجل ، لا يضمن على الإطلاق التعبير عن مصالح وإرادات الذين يتم تمثيلهم أو إدعاء تمثيلهم ، فالمسالة هى مجرد أن يختار الناس كل بضعة سنوات عبر الاقتراع من يمارسون السلطة عليهم ، هذا لو اعتبرنا أن هذا الاقتراع هو وسيلة مثالية لاختيار هؤلاء الممثلين ، وهو أمر لاشك فى تضليله حيث تتحكم فى العملية الانتخابية ، الدعاية و الغوغائية و الأموال والنفوذ وجماعات الضغط والمصالح فضلا عن عدم توافر المعلومات اللازمة لاتخاذ أى قرار على أسس سليمة ، مما يسم الأمر كله بالمسرحية الهزلية.فمن يسيطرون على وسائل كل من الثروة والمعرفة والعنف يملكون الدعاية و يملكون أن يكتبوا النهاية لتلك المسرحية بما يصب فى مصلحتهم . مكررين العرض السخيف كل بضعة سنوات .
وحتى لو افترضنا ظروفا أشد عدالة لممارسة عملية الاقتراع فكيف لناخب أن يحدد ما يناسب مصالحه من قرارات ، وهو يفتقر للمعلومات الضرورية لاتخاذ قراره ، وحتى لو توفرت المعلومات فأنه سيفتقر للوقت اللازم لدراسة كل مسألة تمس مصالحه سواء على نحو مباشر أو غير مباشر فى ظل دولة مركزية تدير مجتمع متضخم ومعقد يتجاوز أفراده الملايين ، و كيف له أن يحدد السياسة المناسبة وفق الظروف الواقعية وهو عاجز عن الإلمام التفصيلى بتلك الظروف ، وفى الحقيقة أن أى ناخب أمام هذا المأزق الذى وضع فيه لخداعه وقهره ، إما أن يأخذ موقفا سلبيا من العملية برمتها وهى نسبة تتزايد مع الوقت فى كل دول العالم بعد انكشاف اللعبة ، أو يترك نفسه للتأثر بالدعاية الغوغائية ، والتى تستفيد من التجهيل والتسطيح المتعمد الذى تدفع به النخب الحاكمة والطبقات المالكة الغالبية الساحقة من الجماهير ، ليختار فى النهاية ممثلا له يلقى عليه أعباء ومسئوليات اتخاذ القرارات المتعلقة به ، متنازلا عن حريته طوال فترة بقاء هذا الممثل فى السلطة. ليمارس حريته فى اختيار ممثل جديد كل عدة سنوات.هذا لو افترضنا أن هناك أى إمكانية لتمثيل دقيق لمجمل الجماهير ،وهو أمر مستحيل فى كل الأنظمة الإنتخابية .
أشرنا إلى أن التنظيم الاجتماعى فى المجتمع اللاسلطوى يقوم على توافق الإرادات الحرة للداخلين فيه من أسفل لأعلى . الأفراد وهم يشكلون الجماعات ، والجماعات وهى تشكل الاتحادات وهكذا إلى الاتحادات الأعلى ، مما يضمن التسيير الذاتى لمجمل النشاط البشرى بلا مركزية ، ويظل الأفراد وعلى نحو متساوى محتفظون بكامل السلطة السياسية فى أيديهم فى الجماعات التى شكلوها ، إلا أنهم يفوضون من بينهم من يريدوهم من المختصين فى الأمور التى يحتاج تقريرها إلى مختصين بحكم معرفتهم أو خبرتهم ، أو لكى يتحدوا أو ينسقوا مع جماعات أو اتحادات أخرى من أجل أنشطة و مصالح أكثر اتساعا ، ويحق لهم فى كل الأحوال مراقبة هؤلاء المفوضين ومحاسبتهم وتكلفيهم وسحب التفويض منهم فى أى وقت إذا ما أخلوا بوظائفهم ومقتضيات تفويضهم . فحقوق سلطة التفويض ليست سياسية و إنما إدارية و تنفيذية و تنظيمية و فنية ، فالمفوضين ملزمين بالإرادة السياسية لمفوضيهم ، كما أنهم لا يجب أن يحصلوا على أى امتيازات مادية أو أدبية بسبب أداءهم لوظائفهم التى هى جزء من واجبهم تجاه الجماعات التى فوضتهم .
أقترح لمزيد من ضبط عملية التفويض وحمايتها من مفاسد و مباذل اللعبة الانتخابية أن يتم اختيار المفوضين وفق مبدأ أن من طلب التفويض لا يفوض ، و من ثم يتصور أن يتم اختيار المفوضين وفق أن يكون كل أعضاء الجماعة مرشحين وناخبين فى نفس الوقت فى الأحوال التى لا تحتاج إلى مختصين ، و أن يكون كل المختصين من أعضاء الجماعة مرشحين فى الأحوال التى تحتاج إلى مختصين ، و من يحوز على تفويض أكبر عدد من الأعضاء يتم تفويضه على أساس توافق الإرادات . ويسرى نفس المبدأ فيما بين المفوضين فى الاتحادات بين الجماعات والاتحادات الأكبر .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية