الأحد، 10 يونيو 2012

الشرعية ضد العمال والعمال ضدالشرعية


الشرعية ضد العمال والعمال ضدالشرعية

سامح سعيد عبود
يرى البعض أن اليساريون و العمال لدينا يقدسون الشرعية البرجوازية، ويناضلون عبرها، حتى ولو أدعى البعض منهم الثورية، وحتى ولو مارسوا بعض الممارسات غير الشرعية، فهم فى النهاية يسعون لاعتراف الشرعية البرجوازية بهم، وبمنظماتهم السياسية والنقابية والاقتصادية، و لا يتصورون الحصول على حقوقهم خارج إطار هذه الشرعية، و قد لا يرغبون حقا فى تحطيم تلك الشرعية  البرجوازية من أساسها، ويؤكد ذلك أنهم لا يملكون الاستراتيجية اللازمة لذلك، و لا يتبعون التكتيكات التى يمكن أن تتفق ومثل هذه الاستراتيجية.
ويرون أن  هذا مرتبط فى النهاية بأنهم لا يريدون حقا التحرر من العمل المأجور، و لا يضعونه هدفا لهم، ومن ثم يقتصرون على تحسين شروط تلك علاقة العمل المأجورة التى يلتمسونها فى الشرعية البرجوازية التى يقننها الرأسماليين والبيروقراطيين، ويرجعون هذه الظاهرة إلى طبيعة العمال المصريين، و فى القوى التى تدعى تمثيلهم والدفاع عن مصالحهم، والتعبير عنهم، والمصنفة فى خانة اليسار.إذ أن قطاعات واسعة من العمال المصريين ما هم إلا موظفين لدى دولة أبوية لم تتخلص من طابعها المملوكى، منذ بدء نشأتهم الأولى فى عهد محمد على مرورا بعهد عبد الناصر، شأنهم شأن جل المتعلمين تعليما عاليا الذين يشكلون غالبية عضوية منظمات اليسار، وتأثير هذا النبع المشترك للعمال اليدويين والذهنيين، فى التكوين التاريخى لهاتين الفئتين على استفحال تلك الظاهرة التى تناولتها فى مقال قديم لى باسم العمال والنضال القانونى، فهم فى الغالب موظفوا حكومة لا بروليتاريا حقيقية.
 والحقيقة أنه لا يمكن الأخذ بهذه الرؤية على إطلاقها ذلك أن العمال فى مصر ينقسمون إلى عمال فى الدولة والقطاع العام والشركات الرأسمالية الكبيرة والمتوسطة، وهم أقرب لوضع الأفنديات من الطبقة الوسطى، لهم وظائف مستقرة نسبيا، ويحصلون على أجور تكفيهم وأسرهم إلى حد ما، وتحكم علاقات العمل بينهم وبين أصحاب العمل قوانين ولوائح، وهم يشكلون فى مصر الآن ربع قوة العمل المأجورة تقريبا بعد حذف البيروقراطيين، وهؤلاء ليسوا مغتربين تماما عن الحياة السياسية والعامة، وفى الحقيقة أن معظم هؤلاء موظفين حكوميين إلا قلة لا تتجاوز المليون يعملون فى الشركات الرأسمالية.
و هناك عمالة أخرى مهمشة و لا منتظمة و لا تتمتع بالوظائف المستقرة و لا بالأجور الكافية، ولا تحكمهم عمليا قوانين ولوائح العمل، وهم يشكلون ثلاث أرباع قوة العمل المأجورة، وهؤلاء مغتربون تماما عن الحياة السياسية والعامة، وخارج منظور الرؤية السابقة تماما ذلك لضعف الروابط بينهم وبين الدولة.
العمالة المنتظمة المستقرة هى التى يمكن أن تمارس الصراع الطبقى الجماعى المنظم،الإصلاحى والاقتصادى، ويمكنها أن تنشأ نقابات منشأة،على عكس العمالة الأخرى المهمشة، وتستطيع أن تلجأ إلى الشرعية فى صراعها مع صاحب العمل، شركة رأسمالية أو دولة، فرديا كان ذلك أو جماعيا، أما العمال المهمشون فلا صراع طبقى جماعى منظم و لا نقابات و لا شرعية قانونية تحكم علاقاتهم بصاحب العمل، ومن ثم فكل ما يستطيعونه إما نضال فردى لتحسين شروط الحياة، أو تمرد ثورى فى مواجهة الدولة ورأسالمال معا.
بدء النضال العمالى الاقتصادى مبكرا مع نهاية القرن التاسع عشر لدى العمالة المنظمة المستقرة، إلا أن تبنى بعض المتعلمون تعليما عاليا حديثا الماركسية والأناركية والفابية الإصلاحية، مع بدايات القرن العشرين، و اتجهوا للطبقة العاملة، وقاموا بأعمال أقرب للتشهيل لصالح العمالة المستقرة المنظمة، مثل نشر أخبارهم وقضاياهم فى أجهزة الإعلام أو رفع قضايا لهم فى المحاكم، أو التضامن معهم فى صراعهم الاقتصادى من أجل المطالب الاقتصادية، ومساعدتهم فى تشكيل نقاباتهم، و من ناحية غالبية العمال فإنهم كانوا يتعاملون معهم على نحو نفعى، و يستفيدون منهم بأعتبارهم أهل خير، دون السماح لهم غالبا بالتأثير عليهم فكريا، وبالابتعادة عن الانخراط فى المشاريع السياسية لهؤلاء،  كما أن اليساريين سواء أكانوا حقوقيين أو إعلاميين كانوا لا يفصحون للعمال عن هويتهم و أفكارهم، و لا يربطون بين تلك المساعدات التشهيلية، وبين مشروعهم السياسى، بل أن بعضهم مع عصر مراكز حقوق الإنسان  فى التسعينات تخلى تماما عن الرؤية السياسية والدور السياسى و أصبح  عمله مقصورا على الخدمة الإعلامية والقانونية، والتوعية الحقوقية والنقابية دون استهداف لأى شىء آخر. و لا أريد أن أثقل على القارىء بحكايات وأمثلة، لكن شخص كان يتمتع بكاريزما وقدرات وطاقات عالية مثل نبيل الهلالى ظل منهكا مستغرقا فى تولى قضايا العمال مجانا، طوال أربعين عاما، وحين رشح نفسه فى حلوان قلعة الطبقة العاملة المصرية لم يحصل إلا على بضع مئات من الأصوات غالبا كانت لليساريين هناك، و بلا شك أنه كان يمكن لهذه القدرات والطاقات الكاريزمية التى لا أريد الخوض فى تفاصيلها اختصارا للوقت، أن يستفاد منها، لو كان سلك طريقا آخر، طريق يبدأ بكشف حقيقة الشرعية البرجوازية و حدودها، وكيف أنها تعادى العمال أصلا،  و لا تعبر عن مصالحهم، يفضح طبيعة مرفق العدالة بأكمله، لا تكريس الوهم لديهم بعدالة تلك الشرعية، وحيادية هذا المرفق، وتكريس فكرة النضال الشرعى لديهم بدلا من تنبيهم إنه فخ لا ستيعابهم فى النظام، وبالنسبة لى وبرغم أنى لم استمر طويلا فى العمل كمحامى عمالى ، إلا أن لى ذكريات فى هذا الشأن أقرب للكوميديا السوداء.
ومن ناحية أخرى فاليساريين الذين ظلوا متمسكين بالدور السياسى و فى سياق عملهم الخدمى، كانوا يستهدفون بعض العمال الذين لديهم استعداد خاص لتقبل أفكارهم لتجنيدهم فى منظماتهم، فالدعاية والتثقيف كان مرتبطا وجودا وعدما بالتجنيد التنظيمى فقط، وفى هذا السياق يتم عزل هؤلاء عن العمال  المجندين عن زملائهم، لأنهم أصبحو أعضاء فى طائفة لها قضاياها المعزولة عن قضايا العمال، واهتماماتهم الحقيقية، بعد أن أصبحو يتبنون تلك الرؤية البرجوازية القومية لهؤلاء المثقفين المؤدلجين، مما يعزلهم عن قضايا الصراع الطبقى، وبفصلهم عن الرؤية الطبقية العفوية، لرؤية أيديولوجية، ليغرقوا فى قضايا نظرية بيزنطية، مثل طبيعة المرحلة والسلطة على سبيل المثال، وما يستتبع الخلاف عليها من انشقاقات واندماجات تنظيمية، و تنافس على التجنيد بين الأطراف المتصارعة من المثقفين، وفى إطار هذا السياق نفسه فإن ممارسة الدعاية والتحريض والتثقيف لجماهير العمال العاديين لم تكن تخرج عن إطار الوعى النقابى الاقتصادى الشرعى، فهم كانوا لا يستهدفون رفع مستوى الطبقة ثقافيا فى عمومه، حتى لو كان هذا يتم على نحو ضيق فهو لم يكن يتجاوز الثقافة السياسية، لتظل لهم القيادة وللجماهير الطاعة، دع عنك اللغة والأفكار الوطنية والقومية والديمقراطية، والبعد تماما عن اللغة والأفكار الطبقية.. ذلك أنه لم تواجه الأوهام القومية والطائفية السائدة فى أوساط الطبقة العاملة، إن لم يتم تكريسها أحيانا.
وانتهت هذه الممارسات طوال مئة عام إلى أن التأثير الثورى اليسارى فى أوساط العمالة  المنظمة المستقرة ظل محدودا للغاية إلا من فترات تاريخية قصيرة فى العشرينات والأربعينات والسبعينات، ومعدوما فى أوساط العمالة المهمشة المتروكة لا غترابها، فالشعارات الاقتصادية والبرامج الاجتماعية تستهدف أساسا العمالة المنتظمة المستقرة ومن هذا مثلا المطالبة بالحد الأدنى للأجور الذى لن يمكن تطبيقه عمليا إلا على العمالة المنتظمة المستقرة، ولم تطرح برامج اجتماعية واقتصادية لهؤلاء المهمشين، ويتم الاهتمام بتنظيم المستقرين نقابيا لا المهمشين فى إطار الشرعية البرجوازية.
الخروج من هذا المأزق يتطلب تجاوز الخضوع للشرعية، ويتطلب أيضا أشكال من التنظيم تتجاوز الأشكال التقليدية الحزب السياسى \ النقابة \الجمعية التعاونية \الرابطة، لأشكال تجمع بين خصائص هذه التنظيمات بعضها أو كلها، وتجمع بين كل أشكال النضال العمالى السياسى والنقابى والتكافلى، وتتجاوز فكرة التأسيس على أساس المنشأة لتتأسس على أساس المهنة والمنطقة الجغرافية، فى شكل اتحادات عمالية تناضل من أجل التحرير النهائى للطبقة العاملة كما تناضل من أجل تحسين ظروف حياتها فى نفس الوقت، اتحادات واقعية غير مبرقطة، تقوم على الأفقية والشبكية والديمقراطية المباشرة ، والعمل الطوعى والمبادرات الحرة،اتحادات لا تستند فى عملها وقواعدها على الشرعية القانونية، بل تعتمد على شرعية الواقع والممارسة العملية. هل هذا ممكن؟.



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية