السبت، 3 سبتمبر 2011

حدثت الانتفاضة ونحن فى انتظار الكارثة أو الثورة

سامح سعيد عبود

كتبت منذ أكثر من سبع سنوات مقال بعنوان "ما قد يحدث من انتفاضة وما قد يعقبها من كارثة"، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=14176 ، وحدثت الانتفاضة بالفعل، ولكن ما لم اتوقعه أنها جاءت فى سياق موجة ثورية اجتاحت العديد من بلاد العالم عامة، والبلاد العربية خصوصا، وهو ما سوف ينعكس بالضرورة على التطورات المحتملة لوضع الانتفاضة الثورية المصرية، كما أن ما سوف تؤول إليه الانتفاضة سوف ينعكس بدوره على تطورات الأوضاع فى الانتفاضات الثورية الأخرى، التى لا يمكن فصلها أو عزلها عن بعضها البعض فى انتصاراتها أو فى اخفاقاتها، ومن ثم فضمان انتصار الانتفاضة المصرية وغيرها من الانتفاضات فى البلاد الأخرى، وتحولها لثورات تحرر اجتماعى حقيقى، مرهون بوحدة القوى الاجتماعية الثورية المتشابه فى مصالحها فى البلاد التى نشبت فيها الانتفاضات الثورية، والبلاد التى مازالت تنتظر دورها فى الانتفاض، تلك الوحدة لابد و أن تكون شيئا أكبر من مجرد التضامن الأممى، إذ لابد وأن تتجاوزه لتوحد تنظيمى واستراتيجى، ذلك أنه فى حالة انعدام هذه الوحدة، فإن انهيار كل أو بعض تلك الانتفاضات وانكسارها سوف يكون هو الأكثر احتمالا من احتمالات انتصاراتها، وتحولها من انتفاضة ثورية محدودة الأفق إلى ثورة تحرر اجتماعى.

فتلك الانتفاضات الثورية خاصة فى البلاد العربية تواجه أربع احتمالات للتطور، إما نجاح النظام فى إعادة إنتاج نفسه مجملا نفسه ببعض الإصلاحات الشكلية فى الأشخاص فبدلا من حسنى مبارك يأتى عمر سليمان أو شفيق أو عمرو موسى، وإما نظام أكثر ديمقراطية وتحرر، وأقل فسادا وحداثة، مع الحفاظ على الجوهر الرأسمالى للنظام، أو السقوط فى الفاشية أيما كانت ايديولوجيتها دينية أو قومية، سواء أكانت تميل يسارا أو يمينا، أما الاحتمال الأخير فهو تحول تلك الانتفاضات لثورات اجتماعية تتجاوز الرأسمالية والدولة المركزية القمعية وبيروقراطيتها، وأبواب كل تلك الاحتمالات مفتوحة، تزداد أو تنقص فرصها فى الحدوث، بتفاعل العديد من العوامل المحلية والدولية.

تلك الزاوية الأممية للرؤية تتناقض بالطبع مع الزوايا المحلية السائدة، و غلبة التيارات السياسية التى تصدر الخطابات القومية والدينية والشعبوية والإصلاحية على الساحة السياسية، وهو ما يشكل خطرا على التطور المأمول لتلك الانتفاضات، وانخفاض السقف المتاح لتطورها، فتلك الزوايا المحلية ضيقة الأفق تتجاهل أن نجاح الثورة الديمقراطية فى بلد كإيران سوف يشكل دافع كبير لنجاح الانتفاضات الديمقراطية التى تجتاح العالم العربى بدلا من سقوط ثورات تلك البلاد فى هوة الدولة الدينية الاستبدادية بطبيعتها، و أن سقوط ولاية الفقية سوف يشكل هزيمة للإسلام السياسى باعتباره العقبة الكبرى فى طريق التحول الديمقراطي الجذرى فى المنطقة العربية، وتتجاهل أن توازنات القوى الدولية، والجذور العالمية للأزمة، وما أدت إليه من انتفاضات، يمكن أن تشكل حائط الصد أمام القوى الشعبوية دينية كانت أو قومية لتولى سدة السلطة، وتحقيق كامل رؤيتها الأيديولوجية، حتى ولو كانت تحظى على شعبية ظاهرة مقارنة بانحسار الشعبية عن القوى الليبرالية والعلمانية، وأنه لا سبيل للقوى الشعبوية الدينية والقومية، إلا أن تقدم الكثير من التنازلات المتناقضة مع ايديولوجيتها الأصلية، لو أرادت الحكم، والاحتفاظ به على المدى الطويل.

على صعيد آخر، فإن تصاعد حركات الاحتجاج فى أسبانيا واليونان وايطاليا المطالبة بديمقراطية مشاركة مباشرة بديلا عن الديمقراطية البرلمانية، والمعادية للرأسمالية، إلى وضع الانتفاضة الثورية، سوف يساعد القوى اليسارية الجذرية الهامشية فى الانتفاضة المصرية التى تطالب بتلك الديمقراطية وذاك التجاوز للرأسمالية، فى أن تتحول من وضع الهامشية إلى أن تشكل قلب العملية الثورية، ومن هنا فإنه لا يجب أن نتغافل على أننا نعيش فى حالة ثورية عالمية، لا مجرد انتفاضة محلية، و الا نتغافل عن أن بعض الأجنحة الثورية الفاعلة، تتبنى رؤية ديمقراطية اجتماعية جذرية، تعتمد على نفس القوى الاجتماعية، والوسائل الثورية، فى حين تستخدم السلطات وقوى اجتماعية أخرى معادية لتلك الرؤية نفس الأساليب فى مقاومة الانتفاضات الثورية فى أن تتحول إلى ثورات تحرر اجتماعى، ليقتصر الأمر عند بعض اجنحتها على بعض الإصلاح فى النظام التى لا تمس جوهره.

بلا شك أن النخب الحاكمة فى العالم سواء أكانت فى الحكم أم فى المعارضة سوف تنسق وتتضامن فيما بينها، وتتحد فيما بينها لو شكلت تلك القوى الثورية الجذرية خطرا على مصالحها المشتركة، و هى تتصارع أو تتحالف فيما بينها هنا أو هناك، فى هذا الموقف أو ذاك، متفقة فى النهاية على قمع الثورة ذلك لو كانت فى السلطة أو ترويضها باحتضان بعض مطالبها الثانوية لو كانت فى المعارضة، فأى ما كانت تلك النخب السياسية فى تلوناتها المختلفة فهى برجوازية الجوهر ، سلطوية المضمون، حتى ولو تبنت الديمقراطية البرلمانية، حتى لو اختلفت فى الأيديولوجيات والبرامج والشعارات المعلنة، فهى فى النهاية تعبر عن مصالح البرجوازية والبيروقراطية كى تحتفظ بأكبر قدر من كعكعة الهيمنة الاجتماعية، وهى تتصارع وتتحالف من أجل هذا الهدف المشترك.

العامل الذى لم يجعل الانتفاضة الثورية المصرية مجرد حدث محلى كما توقعته فى المقال القديم أن هناك أحداثا عالمية تدخلت فى صنع الحدث الثورى فى مصر ليشتبك مع غيره من الأحداث الثورية فى البلدان الأخرى، هو الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، وهو ما يجعل هذا العامل الدولى جزءا هاما لا غنى عنه عند تحليل الوضع الحالى وتطوارته المحتملة، والتى يمكن أن نشير فى عجالة لبعض معالمه، وهى أزمة الرهون العقارية، وأزمة منطقة اليورو التى عصفت باقتصاديات اليونان وأسبانيا، وأخيرا أزمة الديون المحلية الأمريكية، و هو ما أغفلت انعكاساته على الوضع فى مصر الكثير من التحليلات، فشابها الكثير من القصور.

وما يؤكد هذا أنه على عكس ما تدعيه كذبا أجهزة الإعلام من أن هذه الانتفاضات هى انتفاضات شباب الطبقة الوسطى المرتبط باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، والمطالبة فقط بالإصلاح الديمقراطى، فإن هؤلاء الشباب وأن كانوا فجروا الشرارة، فإن الشرارة ماكان لها أن تتحول لسعير يقلب عروش أربع طغاة حتى الآن دون دعم شعبى واسع النطاق، و لكى نفهم المسألة فلابد أولا أن نتخلى عن مفاهيم مغلوطة مثل الطبقة الوسطى، ومصطلحات نسبية بطابعها مثل الغنى والفقر، والعلم والجهل، ولكى نصبح أكثر دقة علينا أن نتعامل مع مفاهيم أكثر دقة للتحليل الاجتماعى، مثل البلترة والبرجزة، فالبلترة لا تعنى بالضرورة الفقر والجهل، والبرجزة لا تعنى بالضرورة الغنى والعلم، فالبلترة والبرجزة وضعيتان طبقيتان، مرتبطتان بالوضع فى علاقات الإنتاج ـ تضع من يقع تحت مفهوم أحدهما فى صراع مع من يقع تحت المفهوم الآخر، بصرف النظر عن مستوى معيشتهما وتعليمهما.

إننا حقا امام شباب متعلم ميسور الحال قادر على استخدام وسائل الإتصال الحديثة، ولكنه فى الحقيقة يفتقد مهارات العمل والحياة، و لا علاقة غالبا بين ما يمتهنه من عمل وما حصل عليه من شهادات علمية، بعضه متعطل عن العمل يعيش على حساب أهله، أو مهمش يعيش من أعمال تافهة، وبعضه يعمل بأجور لا تكفيه ضرورات الحياة، وحتى المتميزين والمحظوظين منهم، وبرغم ما يحصلون عليه من أجور متميزة إلا انهم يعملون كالعبيد حتى يحافظوا على ما يحصلون عليه من مميزات، وهم غالبا لا يملكون كبعض صغار الموظفين والعمال فرص الانخراط فى أشكال الاقتصاد السرى، وقد سدت أمامهم أبواب الحل الفردى أو ما كانت تقدمه لهم دولة الرعاية الاجتماعية، التى توفرت لآبائهم من متوسطى العمر طوال العقود الماضية، لكل هذا كانوا لابد أن يبادروا هم بالثورة إلا أنهم لم ينجحوا فى مسعاهم إلا عندما استطاعوا جذب القطاعات الواسعة من البروليتاريا الأكثر فقر، والأقل تعليما، ولا شك أنه امتدادا لتلك الرؤية القاصرة بل والمغرضة يحاول البعض تصوير انتفاضة 25 يناير على إنها مجرد ثورة برجوازية تقليدية ذات مطالب ديمقراطية وتحررية محدودة، متناسين أن البرجوازية الكبيرة فى الحكم فعلا بجناحيها الرأـسمالى والبيروقراطى، و لا تحتاج لثورة كى تصل إليه، لتحقيق مصالحها، صحيح أن الرأسماليون كانوا منقسمين لرأسماليى دولة مستفيدين من النظام، وآخرين من المغضوب عليهم، إلا أن المغضوب عليهم يعنيهم رضى الدولة عنهم واستفادتهم منها لا تغيير جوهر النظام الرأسمالى، ولذلك دعموا الانتفاضة ليركبوها ويقمعوها حتى لا تتطور لما هو أخطر على مصالحهم الجوهرية.

أن الانتفاضة ما كانت لتنجح فى تحقيق أول انتصاراتها دون التدخل الفعال لفئات كانت العدالة الاجتماعية هى دافعها الأول للثورة، وأن الانتفاضة منذ أول لحظة رفعت شعارات العدالة الاجتماعية جنبا إلى جنب شعارات الحرية والكرامة الإنسانية، وأن ما يمكن أن يحمي الانتفاضة من الارتداد أو أن تستولى عليها قوى غير ديمقراطية أو قوى لا تحقق أى قدر من العدالة الاجتماعية، هو الحفاظ على جانبها الاجتماعى و الطبقى، مع التحفظ بالطبع على كلمة العدالة الاجتماعية الإنشائية التى لا تحمل أى معنى دقيق وملموس ومحدد.

الانتفاضة الثورية هى الخطوة الأولى فى أى ثورة، و هى تتحول لثورة فعلية عندما تستطيع إحداث تغيرات فى البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية للمجتمع، وقد تنكسر لتعيد إنتاج النظام القديم، أو لما هو أسوء من ذلك، ومن المؤكد أن الانتفاضة المصرية قد حلت الكثير من مؤسسات النظام السياسية كمجلسى الشعب والشورى والمجالس المحلية والحزب الحاكم ومؤسسة الرئاسة ووزراء الحكومة، إلا أن النظام القديم مازال ماثلا فى ما هو أهم من بعض مؤسساته وشخوصه ورموزه، وهو الإطار الأيديولوجى والدستورى والقانونى والقيمى الحاكم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا.
لا شك أن النظام مازال قائما فى أسسه الاقتصادية و هى الأكثر جوهرية فى بنية النظام، من حيث أن الطبقات الحاكمة مازلت هى نفسها التى تحكم وتهيمن وهى مكونة من قسمين، بيروقراطية جهاز الدولة العتيدة الفاسدة، وفى القلب منها القيادات العليا فى الجيش، و القسم الآخر كبار الرأسماليين المرتبطين عضويا بالبيروقراطية الحاكمة، أما القطاعات الأخرى من الرأسمالية غير المرتبطة بجهاز الدولة وبيروقراطييها، والمتضررة من الوضع السابق، فسوف يكفيها فى النهاية،من خوضها غمار الانتفاضة، إما ارتباطها بجهاز الدولة، استمرارا لنفس النظام القديم، أو مجرد تحول ديمقراطى يضمن لهم فسادا أقل، وتدخلا أقل للدولة فى أعمالهم، وفرصا أكثر للعمل، بعيدا عن قبضة الدولة الحديدية على رقابهم، أنهم فى النهاية لا يسعون سوى إلى مجرد إصلاح لنفس النظام وتحديثه.
لن يتحقق أى انتصار نهائى للانتفاضة وتحولها إلى ثورة إلا باسقاط كافة من كان لهم سلطة اتخاذ القرار فى جهاز الدولة، بل وحتى قطاع واسع من صغار موظفى هذا الجهاز الفاسدين، وإعادة هيكلة وتطهير كافة مؤسسات الدولة، وبناء مؤسسات بديلة عنها، وإزالة كل الهيكل القانونى للنظام، والمؤسسات المبنية علي أساسه، وتغيير القيم الحاكمة، من أجل تقليص مهام الدولة ومركزيتها، وتغيير آليات عملها المتوغلة فى كل شأن عام وخاص، و فى النهاية فإن الثورة سوف تفقد معناها دون قدرتها على مصادرة كل الأموال النقدية والمنقولة والعقارية التي يثبت أنها جاءت فى أصولها من الجرائم والفساد الإدارى والمضاربات والمراهنات المختلفة على الأموال والأسهم والعقارات والمنقولات، وكل الثروات المعدة للمراهنات والمضاربات بلا تعويض، ذلك لإن غالبية الرأسماليين فى مصر وأعوانهم من رجال الدولة والبيروقراطيين ليسوا كهؤلاء الذين طالما انتقدتهم الحركات الاشتراكية، وأثبت لصوصيتهم ماركس، لأن هؤلاء شرفاء بمنطقهم البرجوازى..المشكلة أن معظم الرأسماليين لدينا مجرد لصوص تقليديين ينطبق عليهم قانون العقوبات البرجوازى نفسه لا قانون الثورة ضدهم، ومن ثم فمصادرة أموالهم لصالح الشعب ليس اجراءا اشتراكيا ثوريا، وإنما هو إجراء قانونى لتحقيق العدالة وفق القانون البرجوازى نفسه، فتلك الأموال هى التى تدعم قوى الثورة المضادة الآن، وسوف تدعم إعادة إنتاج النظام القديم، وإعاقة اصلاحه لما هو أفضل.
الانتفاضة الثورية المصرية شأنها شأن كل انتفاضة ثورية انضمت إليها أجنحة وقوى طبقية من الحلف الطبقى الحاكم، فلا شك أن الجيش وقطاعات أخرى من بيروقراطية الدولة كانت معارضة لمشروع توريث الحكم، وشلة المحاسيب المرتبطة بمبارك وآله، ولذا شاركت فى الانتفاضة، حماية لمصالحها هى لا مصالح الثوار الذين ذبحوا على مرأى منها، ولكنها ما إن ضمنت تلك البقاء على تلك المصالح حتى انقلبت على الثوار، فأصدرت قانون تجريم الاضرابات، وشرعت فى تقديم الثوار للمحاكم العسكرية، وهذا شأن كل ثورة فى التاريخ، تقلبات للقوى السياسية والاجتماعية ما بين معسكرا الثورة والثورة المضادة، فحلفاء اليوم قد يصبحوا خصوم الغد وهكذا.
وكل هذا يستلزم نضال قد يستغرق جولات من انتفاضات ثورية أخرى تعتمد على استمرار روح الثورة لا انتصار نغمة الاستقرار، و من ثم فعلينا أن ننتزع مكاسب أخرى فى هذا الطريق، وإلا فإن الردة ستسلبنا أى مكاسب.
فمازلنا فى طور الانتفاضة الثورية حيث لم تنضج الثورة بعد و من أجل هذا نحتاج لمزيد من الزخم الثورى بعد أن فترت همة الناس بعد أن أوهموها أنها انتصرت فى حين أنها لم تسقط حتى النظام بعد أن اكتفت برأسه حيث
وقعت الإنتفاضة المصرية فى مأزقها الحالى لأنها ببساطة شخصنت الصراع مطالبة برحيل مبارك ورجاله لا سقوط النظام بكامله الذى يعد الجيش أحد أعمدته الأساسية، وتحت ادعاءات وطنية الجيش تم تسليمه السلطة، وها هو يعبث بالشعب من أجل تجديد النظام لا انهائه، ونحن أمام مشكلة أن من خرجوا يوم 11 فبراير خرجوا من أجل اسقاط مبارك لا الجيش فماذا نفعل الآن إلا التحريض والدعاية مجددا من أجل اسقاط النظام.ذلك النظام الذى لم ينشأ بتولى مبارك سدة الحكم بل من يوم أن تولى العسكر فى مصر الحكم.



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية