الخميس، 10 أغسطس 2017

مقدمة أصل الأناركية بدايات وتحولات

مقدمة أصل الأناركية بدايات وتحولات
سامح سعيد عبود
تمهيد
نشأت الأناركية  في القرن التاسع عشر، بمدارسها المختلفة والمتناقضة، والتي يجمعها جميعا رفض السلطة المتعالية والمنفصلة عن إرادة الخاضعين لها في كل العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وكان نشوء الأناركية نتيجة كل من:
أولا: التدخل المتزايد للدولة البرجوازية الحديثة في حياة الأفراد، ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة، ومجتمعات الاكتفاء الذاتي، والحكم الذاتي المحلي في القرى والبلدات المختلفة، سواء داخل الدولة القومية الحديثة أو داخل الإمبراطوريات الاستعمارية، وتقييد الدولة المركزية الحديثة لحرية ولاستقلالية تلك التجمعات البشرية، والقضاء على التنوع الاجتماعي والثقافي في العادات والتقاليد والأعراف المحلية بالتنميط والقولبة عبر مركزية الدولة الحديثة.
ثانيا: الرأسمالية التنافسية المتوحشة التي ميزت القرن التاسع عشر، والتي لم تكن اكتسبت الخبرة بعد لتخفي أو تخفف حدة الصراع الطبقي المحتدم، هذا على مستوى الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي نشأت على خلفيتها الأناركية، إلَّا أنَّ الحركة أيضا كانت وليدة فكريا لرفض كل من الرأسمالية واشتراكية الدولة الماركسية، برغم تأثر الكثير من الأناركيين بالجوانب العلمية في الماركسية، خاصة فيما يتعلق بنقد الرأسمالية، وفهم التطور الاجتماعي، وقد أثبتت التجربة التاريخية صحة هذه الانتقادات حيث أعادت الدولة العمالية إنتاج المجتمع الطبقي والاستغلال والقهر مجددا.
أما أهم الأحداث التي برز فيها دور الأناركيين، فهيَ كوميونة باريس 1871، والثورة الروسية1917، والثورة الإسبانية 1936، وحركتي مناهضة العولمة والحرب في بداية القرن الحالي، وتجربة المجتمع الأناركي المستمر منذ 15 عاما في إقليم تشيباس في المكسيك بقيادة حركة زاباتيستا، وأخيرا حركة احتلوا الميادين الحالية في إطار ما يشبه إرهاصات ثورة عالمية، بدأت شرارتها في تونس وأشعلت الربيع العربي لتنتقل للعالم، وأريد أنْ أشير إلى أننا نحتفل في أول مايو من كل عام بعيد العمال العالمي تخليدا لذكرى إعدام قادة إضراب عمال شيكاغو 1886 الذين كانوا أناركيين، ولم تكن مصر كنموذج للبلاد العربية ببعيدة عن ذلك حيث تواجد الأناركيون في أوساط الجاليات اليونانية والإيطالية في نهاية القرن التاسع عشر، وشاركوا العرابيين ثورتهم، ومقاومتهم للاحتلال الإنجليزي للبلاد باعتبارهم أمميين، وأسسوا جامعة شعبية في أحد المسارح بالإسكندرية، التي كانت ملجأ آمنا لأريكوا مالاتيستا، أحد الرموز الأناركية الكبيرة لفترة قصيرة، واشتركوا في تكوين نقابات عمالية، وأصدروا بعض المطبوعات، وشارك بعضهم في تأسيس الحزب الاشتراكي 1921، ثم اختفوا من التاريخ المصري، إلَّا من بعض الحالات الفردية القليلة المرتبطة بجماعة الخبز والحرية في الأربعينات، كجورج حنين.
ومع نهاية ثلاثينات القرن العشرين انزوت الحركة الأناركية تماما بعد هزيمتها في الحرب الأهلية الإسبانية، نظرا لصعود دولة الرعاية الاجتماعية التي قادها الجناح الاشتراكي الديمقراطي الإصلاحي في غرب أوروبا من جهة، ومن جهة أخرى إنجازات نموذج رأسمالية الدولة البيروقراطية الذي أسسه الجناح الشيوعي الثوري، في شرق أوروبا، ومن جهة ثالثة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث الذي ارتبطت أيضا بنموذج رأسمالية الدولة البيروقراطية مثال عبد الناصر في مصر، وكان مما ميز القرن العشرين أيضا تصاعد الرأسمالية الاحتكارية، ورأسمالية الدولة عموما، والتي تميزت بعمالة منتظمة مستقرة مرتفعة في مستوى معيشتها، وتقلص تنافسية الرأسمالية، وتواري الجوانب المتوحشة فيها التي خففت من حدة الصراع الطبقي، مما أضعف من جذرية العداء للرأسمالية في أوساط البروليتاريا، وهو ما عرف بربع القرن المجيد الذي تلى الحرب العالمية الثانية، والذي ما يزال حلم استعادته يداعب رؤوس الكثيرين، فمن السهل أنْ تحلم باستعادة الماضي، لكن من الصعب رؤية المستقبل على نحو مختلف.
مع نهاية القرن العشرين دخل التطور الرأسمالي مرحلته الثالثة المسماة بالرأسمالية الكوكبية، لتظهر بقوة مجددا الملامح المتوحشة للرأسمالية التي عرفتها في القرن التاسع عشر أثناء مرحلتها التنافسية، وخصوصا مع انهيار كل من رأسمالية الدولة البيروقراطية، ودولة الرعاية الاجتماعية، والفكرة القومية، وفي ظل هذه الظروف عادت الأناركية مرة أخرى كأفكار ثورية أكثر جاذبية مما مضى، بعد أنْ انحسرت الشيوعية السلطوية الدولتية، وانهارت الاشتراكية الديمقراطية، وانكسرت حركات التحرر الوطني.
وكان مما ساعد على هذا الصعود أيضا ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة وعلى رأسها الإنترنت. وعمليا الانتفاضة المصرية وكذلك انتفاضات الربيع العربي هيَ نماذج أناركية في الممارسة الثورية، فهيَ ثورات بلا زعماء ولا قادة، وقد قامت على أسس شبكية باستخدام الإنترنت في التحريض والدعاية والتنظيم، وقد شارك فيها الأناركيون كأفراد، على أساسٍ فرديٍّ وطوعيٍّ. ولا يُعرف حجمُ الأناركيين ومدى مشاركتهم في تلك الانتفاضات، فالأناركيون لا يشكلون تنظيما وليس لهم هياكل تنظيمية هرمية، وليس لهم قادة أو زعماء، ويعتمدون في التواصل والتنسيق والدعاية والتحريض على الإنترنت، والتنسيق الشبكي والعمل الفردي التطوعي، وينتظمون أحيانا في مجموعات تسمى مجموعات الألفة، تتشكل من أعداد قليلة أقرب للأصدقاء، واتحادات لهذه المجموعات، وقد لا يحب بعضهم أنْ يعلن عن نفسه بصفته أناركيا، وأعتقد أنَّ الإنترنت، وهيَ أداة أناركية بامتياز حيث تعتمد على فكرة الشبكية لا المركزية، قد تسببت في انتشار هذا التيار بشكل انفجاري في السنوات الأخيرة، وفي هذا العالم الافتراضي لا يمكن أنْ تحدد كم؟ ومن؟ وأين؟ ومتى؟. ولا شك أنَّ كل من الأزمة الاقتصادية الكبرى، وأزمة الديمقراطية البرجوازية التي يعيشها العالم حاليا، والتي تدل على فشل الرأسمالية بنموذجها الديموقراطي التمثيلي تشكل حافزا جديدا لهذا الفكر أنْ يصعد مجددا.
فالعلاقات الإنسانية القائمة على الطمع والمنفعة والتنافس والتسلط والعنف، هيَ أساس كل الشرور، وما مؤسسات الدولة البرجوازية والرأسمالية، إلَّا هياكل تجسيد تلك الأطماع والعلاقات النفعية والتسلطية، والتي في النهاية تؤدي إلى الفقر والقهر والاغتراب والعبودية، والدولة كما يرى الأناركيون هيَ راعية لهذه الأمراض عن طريق القوانين والنظم والأعراف التي تسنها، وتدافع عنها لضمان مصالح من يسمون أنفسهم بالنخب الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ويصل الفكر الأناركي إلى نتيجة أنَّ الدولة بشكلها الحالي، وما تمثله وتدافع عنه هيَ سبب كل الشرور والخراب، وبالتالي يجب السعيُ إلى تدمير هذا الكيان السياسي، وخلق كيان جديد قائم على التعاون والتشارك، لا التنافس والتدافع بين الناس، وما أفكار مثل التعاونيات التحررية، والاقتصاد التشاركي، واقتصاد إدارة الموارد، والديمقراطية المباشرة، إلَّا امتداد لهذه الأفكار الأناركية ذات الصبغة الاشتراكية وغيرها، فضلا عن المدارس الأناركية التقليدية، ونستطيع أنْ نقول إنَّ الفكر الأناركي يلعب الآن دورا جديدا، لتكوين نواة لنظام اقتصادي واجتماعي جديد بديلا عن كلا من الرأسمالية والدولة.
 لكن الحقيقة الجلية تقول إنَّ الأناركية تعاني فعلا فشلا تاريخيا، فهيَ منذ نشوءها في أواسط القرن التاسع عشر لم تحقق مجتمعها المنشود إلَّا في فترات محدودة للغاية أثناء الحربين الأهليتين الروسية والإسبانية انتهت بهزيمتها، ثم تجربة إقليم تشيباس بالمكسيك، ويبدوا أنَّ هناك مشاكل نظرية وعملية تعوقهم عن تحقيق مشروعهم، إلَّا أنَّ هذا لا ينفي وجود أسباب موضوعية أيضا تعوق تحقق هذا المشروع، منها الطبيعة العالمية للرأسمالية مما لا يسمح بتجاوزها إلَّا عالميا، واستحالة الاكتفاء الذاتي محليا حتى ولو في دولة في ثراء الولايات المتحدة أو روسيا، وتنامي تسليح الجيوش وقوات الشرطة بما لا يمكن معه هزيمتهما عسكريا بقوة عسكرية أبسط تسليحا بمراحل، ولا يمكن أنْ تملك ما يملكوه من أسلحة، والتطور اللامتكافئ بين البلدان المختلفة، مما يصعب من عملية توحد كل شعوبها ضد كل حاكميها، وفي نفس الوقت فإنَّ هناك أسبابا موضوعية أخرى تدفع بهذا الصعود الحركي والفكري.
وجدير بالذكر أنَّه في السنوات العشرين الماضية صعدت الأناركية في العالم بأسره على نحو انفجاري نتيجة لانتشار الإنترنت، وثبتت أقدامها في المنطقة العربية التي لم تعرف هذا الاتجاه من قبل على نحو واسع، وخصوصا في ظل الموجة الثورية التي اندلعت، بدءا من تونس لتصل إلى الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي.

وبرغم كل ما سبق ذكره، فإنَّ المطبوعات الأناركية باللغة العربية سواء مؤلفة أم مترجمة نادرة جدا، فضلا عن المحتوى الأناركي باللغة العربية على الإنترنت قليل جدا لا يغني ولا يسمن من جوع، ويبقى التعمق في الأناركية ومعرفة جوانبها المختلفة قاصرا على من يجيدون القراءة باللغة الانجليزية...ومن هنا نشأت فكرة هذا الكتاب في أنْ يحاول أنْ يقدم  الأناركية للقارىء العربي من عدة جوانب، مفهومها وتاريخها، ومدارسها الفكرية والعملية، بالإضافة إلى المدارس القريبة منها والمتشابه معها، ثم بعض ملامح الاقتصاد الأناركي، وأخيرا بعض القضايا الفكرية  والعملية التي يدور حولها النقاش في أوساط الأناركيين. وأرجو أنْ أكون قد نجحت في المحاولة ولو بشكل نسبي، يفتح الباب للقارىء نحو المزيد من الاطلاع والتعمق لمعرفة هذا التيار على النحو الصحيح. 

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية