هل ما زالت الإصلاحية ممكنة
هل ما زالت الإصلاحية ممكنة
سامح سعيد عبود
الحقيقة إنى قد تحررت منذ زمن بعيد من تلك الصيبيانية ،التى تجعل البعض يعتبرون أن الإصلاحية والحلول الجزئية رجس من عمل الشيطان علينا اجتنابه ، وأن الثورية والحلول الجذرية هى الصراط المستقيم الذى علينا اجتيازه ، فالنضال من أجل تحسين ظروف البشر المعيشية وتوفير أقصى ما يمكن من حقوقهم الإنسانية ليس عيبا فى حد ذاته على الإطلاق إن لم يكن أفضل ما يمكن أن نفعله ، و اتساقا مع تلك الحقيقة فأنى اعتبر وعلى سبيل المثال لا الحصر ، أن العالم الذى اكتشف علاج حمى النفاس فحافظ على حياة ملايين الأمهات وحافظ من ثم على أطفالهم من اليتم ، أو العالم الذى اكتشف لقاح الحمى الشوكية فحمى ملايين الأطفال من الإعاقة الأبدية ، أكثر ثورية وبما لا يقاس من آلاف من أدعياء الثورية من المتنطعين فى المقاهى والبارات ، الذين لا يفعلون من شىء سوى الترديد بلا ملل لأكثر الشعارات ثورية . هذا النوع من الإصلاحية لا يمكن إلا لمعتوه أن يرفضه ،وذاك النوع من الثورية لا يسع إلا الانتهازى قبوله ، فحين نحكم على أى من الثورية أو الإصلاحية ، لابد وأن نحكم من زاوية مدى ما أداه الفعل الثورى أو الإصلاحى من تطوير لحياة البشر ، وتحقيق لتحررهم ، وتحسين لشروط حياتهم . وليس من منطلق طفولى رومانسى أو معتقد شبه دينى ، يهلل لكل تمرد أو عنف سياسى أو اجتماعى ، و يطرب لكل عبارة ثورية ، ويعتبرهما الدليل الأوحد على الثورية حتى ولو كان من يمارسونهما أو يرددوها أكثر رجعية وتخلفا من السلطة التى يعارضونها . ويستنكر أى عمل إصلاحى باعتباره إعاقة للحل الجذرى المطروح على المستقبل غير المنظور .
أكتب هذا لأنى وخلال فترة قصيرة من الوقت كدت اقتنع بأن علينا الآن أن نناضل من أجل التحسين المستمر لظروف حياة البشر باعتباره الطريق الأكثر واقعية و إمكانية ، بعد أن ظهر أن الحل الجذرى فى غاية الصعوبة إن لم يبدو مستحيلا ، وأنه لمحفوف بالمخاطر والعراقيل . و لا أقصد بالطبع هنا الإصلاحية على المستوى العلمى والتكنولوجى فستستمر هذه الإصلاحية شئنا أم أبينا و بنا أو بسوانا ،ولكنى أقصد الإصلاحية كحركة سياسية واجتماعية ونقابية ، تسعى من خلال الفوز بمقاعد فى البرلمان ومن ثم فى الحكومة ، فضلا عن وسائل الضغط والتفاوض النقابيين ، للحصول على مكاسب مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية للطبقات الشعبية ، وهى الحركة التى شهدت عصرها الذهبى منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى سبعينات القرن العشرين ، إلا أنها قد شهدت الأفول منذ نهاية القرن العشرين ، وهذا ما سأحاول إثباته هنا.كما سأحاول تفسير لماذا كان هذا الصعود وكان ذاك الأفول. فبالطبع كان لصعود الإصلاحية وهبوطها أسبابا موضوعية ،وكانت تلك الأسباب تتراكم عبر الزمن وتتفاعل فيما بينها لترفع أو لتهبط بالإصلاحية .
فالرأسمالية بكل ملامحها الفجة والوحشية والقبيحة ،كانت هى البداية الحقيقية لنشأة وتطور الرأسمالية ،و التى ساعدتها الإصلاحية على التطور والاستمرار وحلت أزماتها و اعطتها كل هذا البريق الجذاب أيضا ، فالرأسمالية التنافسية ، لم تكن تعترف بالحركة النقابية فى بدايتها ، وقاومتها بعنف وضراوة وصلت لحد إعدام القادة العماليين والنقابيين ، والدولة البورجوازية لم تكن تعترف بالحقوق السياسية للطبقات العاملة حتى نهاية القرن التاسع عشر ، وكانت ظروف العمل الشاقة ، والحياة البائسة للعمال جحيما حقيقيا صوره الكثير من أدباء هذه الفترة ،كما صوره الكثير من المفكرين و العلماء .و إزاء كل هذا لم يكن ثمة من سبيل للخروج من هذا الجحيم إلا بالثورية والجذرية والسعى لقلب الرأسمالية رأسا على عقب وفورا .
مع ثمانينات القرن التاسع عشر دخلت الرأسمالية مرحلتها الاحتكارية ، التى تميزت بتكون هامش ربح إضافى سمى بالربح الاحتكارى الناتج عن الأوضاع الاحتكارية للمؤسسات الرأسمالية ، والارتباط المباشر بين تلك المؤسسات والدولة ،كما تميزت تلك الفترة بالنهب الواسع للمستعمرات من خلال نزح الفائض الاجتماعى من الأطراف المتخلفة المستعمَرة والتابعة إلى المركز المتقدم الاستعمارى ، هذا ساعد مع تصاعد النضال العمالى من أجل تحسين ظروف العمل والحياة ، فضلا عن الحصول على الحقوق السياسية للعمال فى بعض البلدان ، على نشأة وتطور الإصلاحية بملامحها المعروفة ، فقررت الطبقات الرأسمالية و بما توفر لديها من فوائض مالية سواء من الربح الاحتكارى أو نهب المستعمرات ،و عن إضطرار ، أن تستجيب لبعض المطالب العمالية النقابية والسياسية التى لا تمس الجوهر الرأسمالى ، وهو ما قلم أظافر الطبقة العاملة فى النهاية وروضها تدريجيا ، الأمر الذى دشنه فكريا مفكرى الإصلاحية والاشتراكية الديمقراطية أمثال كاوتسكى وبرنشتين فى ألمانيا ،والفابيين فى بريطانيا وغيرهم .فالطريق الواقعى الذى رسموه لخوض الصراع الطبقى الذى تحول لدي أسلافهم لتعاون طبقى ثم تدهور للدفاع عن الرأسمالية فيما بعد ، هو السعى للفوز بأغلبية مقاعد البرلمان والوصول للسلطة عبر صناديق الاقتراع من أجل التطوير التدريجى للرأسمالية إلى الاشتراكية ، هكذا بدأوا حتى انتهى بهم الحال ليكونوا مجرد أداة لحل أزمات الرأسمالية وتجميلها بتسكين عوامل الصراع الطبقى وتهدئته ، وكان ما أضاف للإصلاحية قوة دفع كبيرة ، هو ظهور الكينزية كمدرسة اقتصادية جاءت لحل أزمات الكساد الدورية الرأسمالية ، بكل ما تعنية من التدخل الحكومى فى الاقتصاد لتنشيط الطلب العام ،وذلك بزيادة الانفاق الاجتماعى العام للقضاء على الكساد والبطالة وتوسيع سوق الاستهلاك ، أضيف إلى هذا عامل سياسى هو ظهور الكتلة المسماة بالاشتراكية ،وما شكلته من نموذج بديل ألهم بشعاراته العمال بالثورة ، مما اضطرت معه الرأسمالية لتقديم المزيد من التنازلات للطبقات العاملة و الوسطى فيما عرف بدولة الرفاهية ، ساعد فى ذلك قوة نفوذ النقابات والأحزاب الإصلاحية فى المركز الرأسمالى المتقدم التى حققت فيه الطبقات العاملة والوسطى خصوصا فى دول اسكندناوة وألمانيا الغربية والنمسا مستويات مرتفعة من المعيشة ، كما شهد العالم بأسره عهدا من الرواج والتشغيل شبه الكامل للعمالة ، والتدخل الحكومى بدرجات متفاوتة فى الإنتاج لصالح رفع مستوى معيشة الطبقات الشعبية ، وصف البعض ذلك العهد بربع القرن المجيد الذى بدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية. و انتهى بدخول الرأسمالية مع أوائل السبعينات مرحلة جديدة عرفت بالكوكبية ذات ملامح مختلفة تماما عن المرحلة السابقة ، مما أدى لأفول الإصلاحية التى تدهورت لتتحول إلى مجرد ليبرالية رأسمالية ذات حس اجتماعى يسميها مفكروها بالطريق الثالث الذى هو مسخ لا معنى له بالنسبة للإصلاحية القديمة التى كانت الأكثر نجاحا .
والعوامل التى أدت لهذا الأفول هى أولا ما اصطلح عليه بديكتاتورية أسواق المال العالمية، فقد أدى تدويل الإنتاج السلعى ، إلى ضرورة تخلى الدولة عن تدخلها المباشر الذى ميز المرحلة الاحتكارية فى الإنتاج ، ومع حرية انتقال رؤوس الأموال عبر العالم أصبح على الحكومات أن تسترضى المستثمرين بتحقيق أفضل مناخ ممكن لهم ، وذلك بتحرير حركتهم وتدليلهم مقابل تقييد دور الحكومات وتقليص حقوق العمال واضطهادهم ، وذلك بتخفيض الضرائب وزيادة الإعفاءات من التزامات الرأسماليين قبل الحكومات ، وبيع القطاع الحكومى ، وضمان عدم التدخل الحكومى فى النشاط الرأسمالى إلا لصالح تشجيع الاستثمار وتعظيم أرباحه على حساب رفاهية العمال ، ومن ثم تقليص الإنفاق العام على عكس ما تفترضه السياسة الكينزية ،حتى اصبح التنافس بين حكومات العالم الآن حول توفير أفضل مناخ للاستثمار لجذب رؤوس الأموال ، وذلك بالضغط على الطبقات الوسطى والعمالية . فأكثر الإصلاحيين والبرلمانين جذرية لن يستطيع أن يفعل أى شىء للطبقات العاملة إلا تقديم الوعود التى ستتحطم على صخرة استرضاء رؤوس الأموال المقيمة بها لكيلا تهرب حيث المناخ الاستثمارى أكثر ربحية ، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية بإغراءها بالقدوم ،وذلك بتوفير أفضل الفرص لها للاستثمار ، فهروب رأسالمال يعنى تفاقم مشكلة البطالة وضيق سوق العمل والاستهلاك على السواء، ولذلك لا مفر من طاعة الرأسماليين وتدليلهم . وقد صعدت ديكتاتورية أسواق المال فى وقت شهدت فيه الرأسمالية ظاهرة الركود التضخمى ،وهو ما يعنى أن الحلول الإصلاحية الكينزية القديمة للأزمات الدورية لم تعد تصلح ، فحل أزمة الركود يعنى زيادة الإنفاق العام مما سيزيد من معدل التضخم ، وحل مشكلة التضخم يعنى اتخاذ سياسات تقشقية تزيد من معدل الركود . فى نفس الوقت ضعفت الحركات السياسية والنقابية ، فالمشاركة الجماهيرية فى النقابات و الأحزاب السياسية والعملية البرلمانية عموما ، تدهورت بمعدلات مذهلة ، لتتحكم فى العملية السياسية كلها جماعات الضغط للقضية الواحدة كالبيئة و الأقليات من جانب الناخبين ، وسيرك الحملات الانتخابية من جانب المرشحين الذين يعتمدون على وسائل الترويج الإعلانى بأكثر مما يعتمدون على البرامج الانتخابية ، وذلك لجذب أصوات جماعات الضغط ، والناخبين الذين لا يجدون فروقا بين البرامج تستدعى الاهتمام ، ومن ثم يعتمد النجاح فى الانتخابات على الجوانب الشخصية للمرشح وإمكانيه جذبه لأصوات الناخبين لا البرنامج الانتخابى الذى يقدمه ، وكل هذه العوامل اضعفت الحركة النقابية ، واضعفت الإصلاحية عبر البرلمان .وكان مما أضعف النقابية والإصلاحية أيضا الارتفاع المطرد فى معدلات البطالة فمع اتساع جيش العمال المتعطلين يصعب على جيش العمال المشتغلين الضغط على أصحاب العمل ، بل و قد يضطرون لقبول شروط أسوء للعمل للحفاظ على ما يحوزونه من فرص العمل التى تتضائل باستمرار واضطراد ، ويتشوق للحصول عليها المتعطلون بشروط أكثر سوءا ، و جدير بالذكر أن المتخصصون يتوقعون أن تصل البطالة الهيكلية فى العالم إلى 80% خلال هذا القرن مما سيزيد الأمور سوءا بلا شك لتصل لمستويات لا قبل لنا بها ما لم يحدث تغيير جذرى فى النظام الاجتماعى .
كان العامل الثالث فى تدهور الإصلاحية هو السقوط المدوى للاشتراكية التسلطية البيروقراطية ، مما أعفى الرأسمالية من الخوف القديم من البديل الملهم بالثورة العمالية ، وخصوصا أن هذا السقوط ألحق الضرر على المدى القصير بالحركات السياسية الثورية ، فما الذى يضمن للناس أن الثورة لن تسلب منهم كما حدث من قبل ، ومن يضمن أنها لن تتدهور لهذا النموذج الكئيب الذى تكشف لهم سواء قبل وبعد السقوط ، ومن ثم و إزاء التهميش الواسع وفقدان الثقة بالثورة ، يغرق المهمشون والخائفون من التهميش على السواء انفسهم فى شتى أنواع المخدرات والأوهام والخيالات .
لكل هذه العوامل التى لا علاقة لها بالرومانسية والخيالية أقول أن الإصلاحية باتت أكثر خيالية من الطريق الثورى ، برغم كل ما يتراص فى هذا الطريق من صعوبات وعراقيل
أكتب هذا لأنى وخلال فترة قصيرة من الوقت كدت اقتنع بأن علينا الآن أن نناضل من أجل التحسين المستمر لظروف حياة البشر باعتباره الطريق الأكثر واقعية و إمكانية ، بعد أن ظهر أن الحل الجذرى فى غاية الصعوبة إن لم يبدو مستحيلا ، وأنه لمحفوف بالمخاطر والعراقيل . و لا أقصد بالطبع هنا الإصلاحية على المستوى العلمى والتكنولوجى فستستمر هذه الإصلاحية شئنا أم أبينا و بنا أو بسوانا ،ولكنى أقصد الإصلاحية كحركة سياسية واجتماعية ونقابية ، تسعى من خلال الفوز بمقاعد فى البرلمان ومن ثم فى الحكومة ، فضلا عن وسائل الضغط والتفاوض النقابيين ، للحصول على مكاسب مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية للطبقات الشعبية ، وهى الحركة التى شهدت عصرها الذهبى منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى سبعينات القرن العشرين ، إلا أنها قد شهدت الأفول منذ نهاية القرن العشرين ، وهذا ما سأحاول إثباته هنا.كما سأحاول تفسير لماذا كان هذا الصعود وكان ذاك الأفول. فبالطبع كان لصعود الإصلاحية وهبوطها أسبابا موضوعية ،وكانت تلك الأسباب تتراكم عبر الزمن وتتفاعل فيما بينها لترفع أو لتهبط بالإصلاحية .
فالرأسمالية بكل ملامحها الفجة والوحشية والقبيحة ،كانت هى البداية الحقيقية لنشأة وتطور الرأسمالية ،و التى ساعدتها الإصلاحية على التطور والاستمرار وحلت أزماتها و اعطتها كل هذا البريق الجذاب أيضا ، فالرأسمالية التنافسية ، لم تكن تعترف بالحركة النقابية فى بدايتها ، وقاومتها بعنف وضراوة وصلت لحد إعدام القادة العماليين والنقابيين ، والدولة البورجوازية لم تكن تعترف بالحقوق السياسية للطبقات العاملة حتى نهاية القرن التاسع عشر ، وكانت ظروف العمل الشاقة ، والحياة البائسة للعمال جحيما حقيقيا صوره الكثير من أدباء هذه الفترة ،كما صوره الكثير من المفكرين و العلماء .و إزاء كل هذا لم يكن ثمة من سبيل للخروج من هذا الجحيم إلا بالثورية والجذرية والسعى لقلب الرأسمالية رأسا على عقب وفورا .
مع ثمانينات القرن التاسع عشر دخلت الرأسمالية مرحلتها الاحتكارية ، التى تميزت بتكون هامش ربح إضافى سمى بالربح الاحتكارى الناتج عن الأوضاع الاحتكارية للمؤسسات الرأسمالية ، والارتباط المباشر بين تلك المؤسسات والدولة ،كما تميزت تلك الفترة بالنهب الواسع للمستعمرات من خلال نزح الفائض الاجتماعى من الأطراف المتخلفة المستعمَرة والتابعة إلى المركز المتقدم الاستعمارى ، هذا ساعد مع تصاعد النضال العمالى من أجل تحسين ظروف العمل والحياة ، فضلا عن الحصول على الحقوق السياسية للعمال فى بعض البلدان ، على نشأة وتطور الإصلاحية بملامحها المعروفة ، فقررت الطبقات الرأسمالية و بما توفر لديها من فوائض مالية سواء من الربح الاحتكارى أو نهب المستعمرات ،و عن إضطرار ، أن تستجيب لبعض المطالب العمالية النقابية والسياسية التى لا تمس الجوهر الرأسمالى ، وهو ما قلم أظافر الطبقة العاملة فى النهاية وروضها تدريجيا ، الأمر الذى دشنه فكريا مفكرى الإصلاحية والاشتراكية الديمقراطية أمثال كاوتسكى وبرنشتين فى ألمانيا ،والفابيين فى بريطانيا وغيرهم .فالطريق الواقعى الذى رسموه لخوض الصراع الطبقى الذى تحول لدي أسلافهم لتعاون طبقى ثم تدهور للدفاع عن الرأسمالية فيما بعد ، هو السعى للفوز بأغلبية مقاعد البرلمان والوصول للسلطة عبر صناديق الاقتراع من أجل التطوير التدريجى للرأسمالية إلى الاشتراكية ، هكذا بدأوا حتى انتهى بهم الحال ليكونوا مجرد أداة لحل أزمات الرأسمالية وتجميلها بتسكين عوامل الصراع الطبقى وتهدئته ، وكان ما أضاف للإصلاحية قوة دفع كبيرة ، هو ظهور الكينزية كمدرسة اقتصادية جاءت لحل أزمات الكساد الدورية الرأسمالية ، بكل ما تعنية من التدخل الحكومى فى الاقتصاد لتنشيط الطلب العام ،وذلك بزيادة الانفاق الاجتماعى العام للقضاء على الكساد والبطالة وتوسيع سوق الاستهلاك ، أضيف إلى هذا عامل سياسى هو ظهور الكتلة المسماة بالاشتراكية ،وما شكلته من نموذج بديل ألهم بشعاراته العمال بالثورة ، مما اضطرت معه الرأسمالية لتقديم المزيد من التنازلات للطبقات العاملة و الوسطى فيما عرف بدولة الرفاهية ، ساعد فى ذلك قوة نفوذ النقابات والأحزاب الإصلاحية فى المركز الرأسمالى المتقدم التى حققت فيه الطبقات العاملة والوسطى خصوصا فى دول اسكندناوة وألمانيا الغربية والنمسا مستويات مرتفعة من المعيشة ، كما شهد العالم بأسره عهدا من الرواج والتشغيل شبه الكامل للعمالة ، والتدخل الحكومى بدرجات متفاوتة فى الإنتاج لصالح رفع مستوى معيشة الطبقات الشعبية ، وصف البعض ذلك العهد بربع القرن المجيد الذى بدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية. و انتهى بدخول الرأسمالية مع أوائل السبعينات مرحلة جديدة عرفت بالكوكبية ذات ملامح مختلفة تماما عن المرحلة السابقة ، مما أدى لأفول الإصلاحية التى تدهورت لتتحول إلى مجرد ليبرالية رأسمالية ذات حس اجتماعى يسميها مفكروها بالطريق الثالث الذى هو مسخ لا معنى له بالنسبة للإصلاحية القديمة التى كانت الأكثر نجاحا .
والعوامل التى أدت لهذا الأفول هى أولا ما اصطلح عليه بديكتاتورية أسواق المال العالمية، فقد أدى تدويل الإنتاج السلعى ، إلى ضرورة تخلى الدولة عن تدخلها المباشر الذى ميز المرحلة الاحتكارية فى الإنتاج ، ومع حرية انتقال رؤوس الأموال عبر العالم أصبح على الحكومات أن تسترضى المستثمرين بتحقيق أفضل مناخ ممكن لهم ، وذلك بتحرير حركتهم وتدليلهم مقابل تقييد دور الحكومات وتقليص حقوق العمال واضطهادهم ، وذلك بتخفيض الضرائب وزيادة الإعفاءات من التزامات الرأسماليين قبل الحكومات ، وبيع القطاع الحكومى ، وضمان عدم التدخل الحكومى فى النشاط الرأسمالى إلا لصالح تشجيع الاستثمار وتعظيم أرباحه على حساب رفاهية العمال ، ومن ثم تقليص الإنفاق العام على عكس ما تفترضه السياسة الكينزية ،حتى اصبح التنافس بين حكومات العالم الآن حول توفير أفضل مناخ للاستثمار لجذب رؤوس الأموال ، وذلك بالضغط على الطبقات الوسطى والعمالية . فأكثر الإصلاحيين والبرلمانين جذرية لن يستطيع أن يفعل أى شىء للطبقات العاملة إلا تقديم الوعود التى ستتحطم على صخرة استرضاء رؤوس الأموال المقيمة بها لكيلا تهرب حيث المناخ الاستثمارى أكثر ربحية ، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية بإغراءها بالقدوم ،وذلك بتوفير أفضل الفرص لها للاستثمار ، فهروب رأسالمال يعنى تفاقم مشكلة البطالة وضيق سوق العمل والاستهلاك على السواء، ولذلك لا مفر من طاعة الرأسماليين وتدليلهم . وقد صعدت ديكتاتورية أسواق المال فى وقت شهدت فيه الرأسمالية ظاهرة الركود التضخمى ،وهو ما يعنى أن الحلول الإصلاحية الكينزية القديمة للأزمات الدورية لم تعد تصلح ، فحل أزمة الركود يعنى زيادة الإنفاق العام مما سيزيد من معدل التضخم ، وحل مشكلة التضخم يعنى اتخاذ سياسات تقشقية تزيد من معدل الركود . فى نفس الوقت ضعفت الحركات السياسية والنقابية ، فالمشاركة الجماهيرية فى النقابات و الأحزاب السياسية والعملية البرلمانية عموما ، تدهورت بمعدلات مذهلة ، لتتحكم فى العملية السياسية كلها جماعات الضغط للقضية الواحدة كالبيئة و الأقليات من جانب الناخبين ، وسيرك الحملات الانتخابية من جانب المرشحين الذين يعتمدون على وسائل الترويج الإعلانى بأكثر مما يعتمدون على البرامج الانتخابية ، وذلك لجذب أصوات جماعات الضغط ، والناخبين الذين لا يجدون فروقا بين البرامج تستدعى الاهتمام ، ومن ثم يعتمد النجاح فى الانتخابات على الجوانب الشخصية للمرشح وإمكانيه جذبه لأصوات الناخبين لا البرنامج الانتخابى الذى يقدمه ، وكل هذه العوامل اضعفت الحركة النقابية ، واضعفت الإصلاحية عبر البرلمان .وكان مما أضعف النقابية والإصلاحية أيضا الارتفاع المطرد فى معدلات البطالة فمع اتساع جيش العمال المتعطلين يصعب على جيش العمال المشتغلين الضغط على أصحاب العمل ، بل و قد يضطرون لقبول شروط أسوء للعمل للحفاظ على ما يحوزونه من فرص العمل التى تتضائل باستمرار واضطراد ، ويتشوق للحصول عليها المتعطلون بشروط أكثر سوءا ، و جدير بالذكر أن المتخصصون يتوقعون أن تصل البطالة الهيكلية فى العالم إلى 80% خلال هذا القرن مما سيزيد الأمور سوءا بلا شك لتصل لمستويات لا قبل لنا بها ما لم يحدث تغيير جذرى فى النظام الاجتماعى .
كان العامل الثالث فى تدهور الإصلاحية هو السقوط المدوى للاشتراكية التسلطية البيروقراطية ، مما أعفى الرأسمالية من الخوف القديم من البديل الملهم بالثورة العمالية ، وخصوصا أن هذا السقوط ألحق الضرر على المدى القصير بالحركات السياسية الثورية ، فما الذى يضمن للناس أن الثورة لن تسلب منهم كما حدث من قبل ، ومن يضمن أنها لن تتدهور لهذا النموذج الكئيب الذى تكشف لهم سواء قبل وبعد السقوط ، ومن ثم و إزاء التهميش الواسع وفقدان الثقة بالثورة ، يغرق المهمشون والخائفون من التهميش على السواء انفسهم فى شتى أنواع المخدرات والأوهام والخيالات .
لكل هذه العوامل التى لا علاقة لها بالرومانسية والخيالية أقول أن الإصلاحية باتت أكثر خيالية من الطريق الثورى ، برغم كل ما يتراص فى هذا الطريق من صعوبات وعراقيل
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية