الخميس، 25 ديسمبر 2014

هل تحولنا لباعة جائلين هو قدرنا فى ظل الرأسمالية؟

هل تحولنا لباعة جائلين هو قدرنا فى ظل الرأسمالية؟
سامح سعيد عبود
حتى نهاية الثمانينات، نادرا ما كنت ترى باعة جائلين أو مندوبى مبيعات يدورون فى الشوارع والمقاهى و يذهبون ببضائعهم حتى المنازل ومحلات العمل، وأما المتاجر والأسواق والمقاهى والمطاعم، فقد كانت قليلة مقارنة بعدد السكان، ولذلك كانت معظم الأحياء تتميز بالهدوء، وليس بذلك الصخب التجارى الذى حول المدن لأسواق تجارية مثل الآن، فقد كان المصريون فى غالبيتهم الساحقة ينتجون فى الحقول والمزارع والمصانع والمناجم، أو يقدمون خدمات مفيدة وضرورية فى التعليم والعلاج والنقل والمواصلات والاتصالات ، وكان المتطفلين على صناع الثروة من هؤلاء المهمشين لم يشكلوا الجزء الأكبر من السكان كما هو الوضع القائم الآن.....حيث كان هناك بعض موظفى الحكومة و قليل من المهمشين...وكان سوق العمل بالخليج وليبيا وأوروبا يستوعب قوة العمل الزائدة عن الحاجة، حتى أغلقت الأبواب أمامهم فى العقدين الماضيين، ولم يبقى أمامهم إلا العمل التافه وغير المنتج والتسول والبطالة مقنعة وغير مقنعة فى مصر المحروسة، رغم محاولة مئات الألوف منهم الهجرة شرعيا وغير شرعيا عبر البحر إلى الشمال الأوروبى فى ظل ظاهرة الاتجار بالبشر. .
انقلب الوضع الآن تماما، فنحن إزاء مجتمع يزداد سكانه تهميشا وتطفلا وتبطلا وتسولا، فى مقابل تناقص أعداد منتجى الثروة، مجتمع تتخيل إنه قد تحول بالكامل إلى باعة، وسائقى ميكروباسات وتاكسيات وتكاتك، عندما تنزل إلى ميادين السيدة عيشة والعتبة ورمسيس وحلوان والجيزة والعباسية، حيث أحتل الباعة وبضائعهم ليس الأرصفة فقط بل أجزاء من أنهر الطرق والشوارع مثل  26 يوليو والجلاء والأزهر فى قلب العاصمة القاهرة، وتجدهم فى عربات ومحطات المترو، وهؤلاء يشكلون جزء فقط من المهمشين عموما الذين يشكلون غالبية السكان الآن الذين لا يشكل غالبيتهم العمال الصناعيين و لا الحرفيين ولا الفلاحين، كما يظن البعض حيث أكد تقرير لاتحاد الغرف التجارية إن هناك أكثر من 9 ملايين شاب يعملون فى تجارة الرصيف، يشكلون طاقة عمل معطلة وغير مفيدة، ولا تحتاج لأى مهارة ولا تدريب.أما للإجابة عن لماذا لا تستطيع الحكومة مواجهة هؤلاء بحسم؟ مع تسببهم فى أزمات للمرور بقلب المدينة بما له من تداعيات اقتصادية وخسائر مالية،وتلويث للبيئة وخلافه ، فالإجابة هى
أولا إن عددهم قد يتجاوز 5 مليون وفق إحصائيات 2006 وممكن أن يكونوا قد تضاعفوا فى العشر سنين الأخيرة، وهؤلاء لا توجد لديهم أى فرص عمل أخرى غير البيع على الرصيف وفى عربات المترو، ومحاربتهم فى مصدر رزقهم الوحيد والمتاح جديا، يعنى إما تمردهم جماعيا ضد النظام، أو فرديا بالتحول للنشاط الإجرامى.
السبب الثانى أنهم يشكلون مصدر للدخل الإضافى لرجال الشرطة وموظفى المحليات الذين يحصلون منهم على إتاوات لغض أبصارهم عنهم والسماح لهم بالعمل رغم عدم مشروعيته، فالموظفين الحكوميين يزيدون من دخولهم و يعوضون ضعف المرتبات فى الحكومة، والحكومة لا تستطيع غلق باب زيادة دخل موظفيها، فذلك يحميها أيضا من التمرد عليها من موظفيها، ومن انتشار ارتكاب الجرائم الأخطر بينهم .
السبب الثالث إن فقراء المستهلكين يجدوا احتياجاتهم لدى هؤلاء الباعة لأنها أرخص حتى ولو كانت مستعملة أو سيئة الصنع أو قصيرة العمر
 ورابع الأسباب إن هذه الطريقة فى البيع تصرف الراكد من السلع سواء لكونها فائضة أو معيبة، وهذا يحقق فوائد للمنتجين.
مشكلة التهميش وتحول غالبية السكان لباعة ومهمشين ومتسولين ومتطفلين على الإنتاج، هى مشكلة عالمية وليست محلية على الإطلاق، و سببها ببساطة إن الرأسمالية بطريقة إنتاجها و وتوزيعها وتبادلها وتكنولوجيتها، أصبحت لا تحتاج لقوة عمل كثيفة، ولا تحتاج إلى غالبية السكان كمنتجين، وإن كانت تحتاجهم بالطبع كمستهلكين، و تتيح فرصا واسعة لهم للتطفل على القلة المنتجة، بتوسيع فرص العمل التافه وغير المنتج لهم فى الخدمات، والتى بطبيعة الأمور اللهم إلا مع بعض الاستثناءات و فى بعض المجالات يكون ضعيف الأجر، والقاعدة الرأسمالية فى مواجهة أخطار التهميش هى الهاء الجميع بقليل من الطعام وكثير من التسلية، فالرأسمالية فى قطاعاتها السلعية كالزراعة والصناعة، وحتى فى قطاعاتها الخدمية تطرد غالبية السكان للبطالة والتهميش، فى عملية متصاعدة، فالمصنع الذى كان ينتج مليون سلعة بألف عامل أصبح ينتجها بمائة عامل، تاركا 900 عامل فى الشارع، ليتحولوا لمهمشين وباعة جائلين لبضائع أنتجها المائة عامل، فعدد العاملين بالصناعة والزراعة يتقلص بمعدلات متزايدة عبر العالم، حتى فى الخدمات الضرورية والمفيدة، أو التى نتخيلها ضرورية ومفيدة للمجتمع فى حين إنها مفيدة فقط للمستفيدين من الوضع القائم لا غالبية السكان .
وحل المشكلة ليست كما يطرح البعض ويتصورون عن سذاجة هى فى توفير فرص العمل المنتج والحقيقى لهؤلاء فى ظل السوق الرأسمالى، فالاقتصاد السلعى يشكوا من فرط الإنتاج لا من ندرته، وما الندرة المتخيلة إلا بسبب سوء توزيع الموارد، فما يتم إنفاقه على سلاح يترك للصدأ،  يمكن لو وجه فى إنتاج سلع أخرى أكثر فائدة،أن يحقق وفرة فيما نعتقد إنه نادر، وهذا على سبيل المثال لا الحصر بالطبع .
و مما لا شك فيه إن معنى الإنتاج بلا إمكانية للبيع فى السوق لما تم إنتاجه، هو مزيد من الكساد ومزيد من إهدار الموارد، وبالطبع فإن تشغيل كل هؤلاء يحتاج استثمارات ضخمة لإنشاء مصانع واستصلاح آراضى ، ويحتاج استثمارات لتدريبهم وتعليمهم، لكن معظم الأموال فى العالم و فى مصر محجوزة للاستثمار فى المضاربات والعقارات، فالرأسماليون يتحاشون الاستثمار فى القطاعات السلعية كالزراعة والصناعة، مفضلين  المضاربة على العقارات والسلع الثمينة والخدمات الترفيه، وذلك وفق المنطق الحاكم للنشاط الرأسمالى وهو الحصول على أعلى الأرباح.
هناك حل إصلاحى آخر قد يفكر فيه البعض هو تشغيل كل هؤلاء المهمشين والمتعطلين فى الأعمال المفيدة والضرورية، بحيث  يتم تقليص عدد ساعات العمل مع الحفاظ على نفس مستوى الأجور بالطبع،  وهو يعد ضربا من الخيال فى ظل الرأسمالية، فكيف يقبل الرأسمالى أن يشغل ألف عامل بدلا من مائة، ويدفع عشرة أضعاف الأجور التى كان يدفعها لإنتاج نفس السلع والخدمات.
وهناك حلول تطرح توفير إعانات بطالة لهم، ولا أعرف كيف يمكن توفير نقود لكل هؤلاء، والذى لا يعنى سوى مزيد من طباعة النقود بلا غطاء من إنتاج أو ذهب، وبما يعنيه من زيادة الدين الداخلى والأسعار لأرقام فلكية، فضلا عن تحويل قطاع واسع ومتزايد النمو لمتعطلين بالتسول من الحكومة. ولا أدرى كيف لبلد فقير كمصر أن توفر أموال ليست محملة بأعباء الديون الخارجية لتوجيهها للاستثمارات الإنتاجية أو إعانات البطالة.
هناك طبعا من يطرحون فرض تحديد النسل عن السكان بالقوة
ولا أدرى كيف يمكن أن نرغم كل تلك الملايين على تحديد النسل إلا بإجراءات شديدة الصرامة والاستبداد فى ظل دولة رخوة ومتهالكة و فاسدة كالدولة المصرية، تدعم بكل قوتها التدين و الهوس الدينى الذى يشجع على الإنجاب بلا ظابط و لا رابط، وأن الأرزاق بيد الله و هو الذى يطعم الدودة تحت الحجر، رغم الدعاية الرسمية لتحديد النسل.

طبعا هناك حلول فاشية يمينية تطرح إبادة كل هؤلاء السكان الزائدين عن الحاجة، طالما لا أمل فى التخلص منهم بالهجرة أو الحروب، ولكن هذا الحل يتناقض مع احتياج الرأسماليين لأمثال هؤلاء كمستهلكين أولا ، وكجيش عمل احتياطى يضغط مجرد وجودة على جيش العمل الفعلى، لكى يرضى بأقل القليل من الرأسماليين خوفا من المنافسين من جنود جيش البطالة.
الصينيين خمس سكان العالم ينتجون عشر الإنتاج الإجمالى العالمى، وفى نفس الوقت ينتجون نصف الإنتاج السلعى الصناعى والزراعى، الذى يشكل عشر الإنتاج الاجمالى العالمى، وبضائعهم تكتسح أسواق العالم،  أما الباقى أى التسعين بالمئة فهو فى الخدمات التى يتضخم نصيبها النقدى من اجمالى الإنتاج العالمى بسبب طبع النقود الحرة وعلى رأسها الدولار من غير استناد على إنتاج حقيقى و لا غطاء مادى، أو سلعى بل مجرد استناد على قوة الدولة القومية، وهو اقتصاد قائم على الديون المتبادلة فى جوهره قابل للانهيار فى أى لحظة بانهيار الدولة الرئيسة فى طبع النقود أى الولايات المتحدة، و دعمها لتلك النقود بقوة سلاحها وبالبلطجة الدولية...... من هذه الحقائق نستنتج إن كل اثنين من الصينين يشاركوا فى الإنتاج العالمى الإجمالى مثل واحد من غير الصينيين، لكن على مستوى الاقتصاد الحقيقى فكل صينى ينتج سلع مثل أربعة من غير الصينيين، أما على مستوى المصريين اللذين يشكلون تقريبا واحد على السبعين من سكان العالم، فيشاركون ب 2 من ألف من الإنتاج العالمى نصفهم إنتاج سلعى أى واحد من الألف، أى إن إنتاجية كل مصرى أدنى بكثير من إنتاجية أى انسان غير مصرى، سواء على مستوى الاقتصاد السلعى، أو مجمل الاقتصاد، مما يعنى إننا محليا فى حاجة لزيادة الإنتاجية، لكننا مندمجين فى سوق عالمى يعانى بالفعل من فائض فى الإنتاج السلعى وليس العكس، والبشر ليسوا فى حاجة لمزيد من السلع، بقدر ما هم فى حاجة لإدارة مختلفة للموارد البشرية والطبيعية ليشعر الجميع بهذا الفائض، المساء فقط توزيعه.

أيها السياسى والمؤدلج بعيدا عن الشعارات التى تنتجها وتستهلكها، هل يمكن أن تقدم حل عملى ممكن لتلك المشكلة على نطاق محلى أو عالمى؟، هذه هى الحنكة والدور المطلوب منك، وليس صراع الديوك الأيديولوجى والسياسى، وليس  الشعارات والكلام الرومانسى والحماسى، غير المؤسس على المعلومات الصحيحة والعلم.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية