الأربعاء، 24 يونيو 2015

التعاونيات والثقافة والقيم السائدة

التعاونيات والثقافة
والقيم السائدة
سامح سعيد عبود

بلاشك أن الثقافة والقيم السائدة فى مجتمع ما يمكن أن تدعم نجاح الحركة التعاونية لو كانت فى توافق وانسجام مع قيم التعاون ومبادئه وأهدافه، كما يمكن إن يؤدى عدم الانسجام والتوافق إلى فشل الحركة التعاونية وتشويهها وانحرافها، فسيادة قيم التعاون الأخلاقية والسلوكية والفكرية فى مجتمع ما يجعله تربة خصبة لنمو التعاون وازدهاره، أما افتقار أفراد المجتمع لتلك القيم، يجعله تربة بور لا يمكن أن ينمو فيها التعاون أو أن يزدهر، وهذا قد يفسر سر النجاح المبهر للحركة التعاونية فى مجتمعات، وفشلها المريع فى مجتمعات أخرى.
ومن ناحية أخرى وبما لا ينفى الفكرة المشار إليها فى الفقرة الأولى عن أهمية تأثير الوعى والثقافة السائدة على الواقع الاجتماعى، وهو دور ثانوى فى الحقيقة، حيث إن الواقع الاجتماعى له الدور الأساسى فى تشكيل الثقافة والقيم ومجمل الوعى الاجتماعى عموما، إلا أن هناك تأثير متبادل بين الوعى الاجتماعى والواقع الاجتماعى فى نفس الوقت، فالطريقة التى يحيا بها الناس ويلبون بها احتياجاتهم المادية، ونوعية العلاقات الاجتماعية والإنسانية فيما بينهم، تحدد مصالحهم، ومن ثم تحدد وعيهم وسلوكهم الاجتماعى.
فإذا كان نجاح التعاونيات مشروط بتحلى المتعاونين بقيم معينة، والتزامهم بمبادئها، فإنهم محكومون أيضا بظروفهم الاجتماعية، وتغير الظروف الاجتماعية يؤدى لتغير القيم، كما إن تغيير القيم يساعد على تغيير الظروف الاجتماعية، وربما كان من أسباب حماسى للتعاونيات الحقيقية، انى اعتبرها بمثابة برنامج علاجى يتم بتناول المجتمع مضاد حيوى طويل الأمد من العمل الجماعى التعاونى، لمعالجة الانحطاط الاجتماعى الشامل الذى يعانى منه المجتمع، وحتى يقاوم الأثر المدمر للقيم المعاكسة لقيم التعاون السائدة فى بلادنا، فعندما يمارس الناس التعاون، فسوف يتعلمون من الممارسة العملية لا من الوعظ والارشاد، التخلص من قيم الفردية والأنانية الغبية والصراع والتنافس وأولوية الربح الشخصى، وتدريجيا كلما انتشرت التعاونيات فى المجتمع، تحولت تلك القيم التنافسية من السيادة إلى الهامشية، وتحولت قيم التعاون المضادة من الهامشية إلى السيادة.
وبمراجعة قصة نجاح تعاونيات موندراجون المشار إليها فيما سبق، سنعرف إنها بدأت بجهد تثقيفى وتعليمى عام عن قيم ومبادىء وأهداف التعاون سالفة الذكر بين عدد كبير من السكان فى البلدة التى بدأت منها المؤسسة، واستمرار هذا الجهد فيها حتى الآن، فضلا عن تعليم تقنى للشباب، فى كلية تقنية أنشأها المؤسس فى البلدة، تخرج منها مؤسسى أول تعاونية صناعية لإنتاج سخانات البرافين، كبداية لشبكة وسلسلة تعاونيات موندراجون الصناعية والتعليمية والبحثية والائتمانية والخدمية والتأمينية، ومعنى ذلك إن موندراجون تعتمد فى نجاحها على العلم والتعليم الجاد والبحث العلمى والتطوير التكنولوجى والابداع، فضلا عن الالتزام الصارم بمبادىء التعاون، واشاعتها بين طلاب جامعتها ومدارسها وأعضائها.
 لسنا فى حاجة للقول إنه فى مجتمع يقدس الجهل والفهلوة والتفاهة والحفظ والتلقين والجمود والطاعة والخنوع والتبعية والانسحاق أمام القوة والسلطة، فلا أمل فى نجاح الحركة التعاونية فيه و القائمة على قيم الحرية والاستقلالية.
ولسنا فى حاجة إلى القول إنه فى مجتمع يقدس الملكية الخاصة، ويقدس انقسام المجتمع لطبقات، ويقدس سيادة وأولوية رأسالمال على العمل، من الصعب عليه تقبل الفكرة التعاونية القائمة على المساواة وأولوية العمل على رأسالمال والملكية الخاصة.
ولسنا فى حاجة إلى القول إنه فى مجتمع لا يقيم وزنا للكرامة الإنسانية، ولا حقوق الإنسان وحرياته، يمكن أن يتقبل فكرة تحمل المسئولية الفردية عن النفس والآخرين.
ولسنا فى حاجة إلى القول إلى أن مجتمع تسيطر عليه أفكار الإصلاح عبر الدولة، وأحلام الحكومة التدخلية القوية، وأوهام الحكومة النظيفة والعادلة وغير الفاسدة، وضلالات المستبد العادل، وينتشر فيها اعتماد الناس علي الدولة فى حل مشاكلهم الواقعية، واقتصار احتجاجتهم على مطالبتها بالتدخل الإصلاحى من أجل تحسين شروط حياتهم وعملهم، إنه لا أمل فى نجاح الحركة التعاونية.
ولسنا فى حاجة للقول بإن انتشار ثقافة التسول والتذلل والاعتمادية على الغير تحررا من المسئولية، و عدم الاحساس بالكرامة والكبرياء والاستقلالية، وانتظار الإحسان من الغير، تعرقل انتشار التعاون القائم على المساعدة الذاتية.
وإذا كانت القيم التعاونية هى "المساعدة الذاتية، والاعتماد علي النفس، والمسؤولية الذاتية، والاستقلالية، والديمقراطية، والمساواة، والعدالة، والتضامن، والانفتاح،.. ووفقا للتقاليد التي أرساها مؤسسوا التعاونيات، فإن أعضاء التعاونيات يؤمنون بالقيم الأخلاقية للأمانة والصراحة والمسؤولية الاجتماعية، والاهتمام بالآخرين. فإذ تهمشت تلك القيم والأخلاق فى المجتمع فلا أمل فى نجاح الحركة التعاونية.
الثقافة السائدة المتمركزة حول استهداف الربح وتحقيق المصلحة الفردية ولو على حساب الآخرين، ومنطق أولوية الربح على العلاقة الطيبة مع الآخرين، وعدم استيعاب إمكانية تحقيق المصلحة الفردية عبر تحقيق المصلحة الجماعية بالتعاون الجماعى لا بالتنافس الفردى، بالتضامن الجماعى لا بالصراع، تقف حائلا دون ميل الناس للانخراط فى التعاونيات كحل لمشاكلهم الجماعية.ولكن برغم كل تلك المعوقات فالحركة التعاونية قائمة وناجحة إلى حد كبير برغم كل تلك المعوقات عبر العالم، حقيقية أحيانا، زائفة فى أحيان أخرى.
أن الغالبية من البشر ليسوا مهيئين للتحرر الذاتى من واقع عبوديتهم، ذلك لأنهم ليسوا مقموعين ومضللين فقط، ولكن لأنه تم تشكيلهم عقليا طوال تاريخهم الطويل، وبواسطة مؤسسات المجتمع والدولة ليقبلوا بوضع عبوديتهم باعتباره الوضع الطبيعى، وتم اقناعهم بأن الشأن العام هو مسئولية الساسة والحكام لا مسئوليتهم هم، ومن ثم فإن قضية تحررهم من العبودية لا تعنيهم، كما إن الشئون العامة للمجتمع والعالم لا تعنيهم، إلا إذا مست مصالحهم الشخصية المباشرة، وهم ليسوا على استعداد لتحمل مسئوليات العمل الجماعى العام، وقد تعودوا على إلقاءها على عاتق الغير، والتهرب منها كلما أمكن، إلا إذا حققت لهم مصلحة شخصية مباشرة.
غالبية الناس يقتصر دورهم على الفرجة على الاستعراضات التى تقدمها لهم النخب الحاكمة، وذلك بمتابعة ما تبثه لهم أجهزة الإعلام المختلفة، أو الساسة فى مهرجانات الانتخابات العامة، لكن دون تعمق فى الفهم للشئون العامة، الذى لا يمكن أن يتحقق لهم عبر وسائل الثقافة والتعليم والحملات الانتخابية التى تسيطر عليها النخب الحاكمة والمالكة، ومن ثم هم أسرى غوغائية الإعلانات، وضجيج الدعاية، والتعليم المؤدلج، ومن هنا تصبح خياراتهم فى الانتخابات ليست تعبيرا عن مصالحهم، وإنما تأثرا بروعة الدعاية وسحر الإعلان وجاذبية الإثارة، وتعصبا للدين والطائفة والعشيرة والعرق والشلة.
لا تتجاوز اهتمامات الغالبية من البشر ثقافة الاستهلاك والترفيه والتسلية والمتعة الغريزية، ومعظمهم مدمن على الفرجة على ما يلقي إليه من الاستعراضات السياسية والرياضية والفنية، التى تلهيهم وتخدرهم، وتحرمهم من الفهم، وتصيبهم فى النهاية بالبلاهة والجهل، وحتى بعد انتشار الانترنت وبرغم كل ما فيه من إمكانية مذهلة ورخيصة للثقافة والفهم العميقين، وبرغم إمكانياته الرائعة فى تشكيل عقول متحررة من سيطرة النخب الحاكمة والمالكة، فإن الغالبية العظمى من مستخدمى الانترنت، لا يستخدمونه إلا لمتابعة مواقع الجنس والخرافات والإثارة والألعاب والدردشة الفارغة والثرثرة التافهة، والخلاصة أن الغالبية الساحقة من البشر مدمنون لأشكال متنوعة من المخدرات، ومهووسون بالمتعة الغريزية والمصلحة الشخصية ولا شئ آخر، وبرغم كل ما حققته البشرية من تقدم علمى ومعرفى مذهل، فإنهم وعلى التضاد من ذلك يكرهون العلم، ويدمنون الخرافة، وفى حين يتشككون فى العلماء فإنهم يسلمون عقولهم لكل من يبيع لهم الخرافة.
الثقافة السائدة تقوم على قيم التنافس الفردى والصراع على المنافع الأنانية، ومن ثم تم ترسيخ الحلول الفردية، وتم رفع قيمة تحقيق المصلحة الشخصية، وهى ثقافة مضادة لقيم التعاون والتكافل لتحقيق المصالح المشتركة، وهو ما يمكن أن يدفع الناس للعمل الجماعى التعاونى.
وتلك الثقافة السائدة هى التى تدفع الكثير من الناس للهجرة أو للعمل فى أكثر من عمل فى نفس الوقت فى مواجهة ارتفاع الأسعار، ولكنهم لا يفكرون فى تنظيم أنفسهم فى جمعيات تعاونية استهلاكية، توفر عليهم ما يدفعوه للتجار، وتمنحهم الفرصة لتقليص عدد ساعات عملهم ليستمتعوا بالحياة.
الحقيقة أن الحرية والمساواة والعدل والتقدم لم تكن يوما محور اهتمام غالبية الناس، وإنما هو محور اهتمام قلة طليعية، ناضلت عبر التاريخ دافعة الإنسانية معها لتحقيق كل ما تم تحقيقه من حريات وحقوق للإنسان وتقدم للبشرية، وما يرفضه التعاونيون هو أن تشكل تلك الأقلية الطليعية من نفسها وصية على الغالبية، مدعية تمثيلها، ومحاولة للوصول للسلطة لتحقيق برنامجها، لأنها فى النهاية سوف تعيد إنتاج القهر والاستغلال، طالما ظلت الغالبية على حالتها سالفة الذكر، وانطلاقا من ذلك فإن الدور المطروح على هذه الطليعة أن تقدم نماذج عملية للتحرر تنطلق من تلبية مصالح أفراد الغالبية المباشرة، وفى حالتنا تلك التعاونيات الاستهلاكية لمواجهه ارتفاع الأسعار، والتعاونيات الإنتاجية لتوفير فرص للعمل الحرة والكريمة.




0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية