الثلاثاء، 15 أغسطس 2017

القسم الثانى:تاريخ الأناركية2

القسم الثانى:تاريخ الأناركية2
سامح سعيد عبود
الأناركية في النصف الأول من القرن العشرين:
في عام 1907، انعقد المؤتمر الأناركي الدولي في أمستردام وحضر إليه مندوبون  من 14 دولة مختلفة، من بينها شخصيات مهمة من الحركة الأناركية، بما في ذلك أريكو مالاتيستا، وبيير مونات، ولويجي فابري، وإيما غولدمان، ورودولف روكر، وكريستيان كورنيليسين. وعالج المؤتمر مواضيع مختلفة، ولا سيما فيما يتعلق بتنظيم الحركة الأناركية، وقضايا التعليم الشعبي، والإضراب العام، ومناهضة العسكرية، والعلاقة بين الأناركية والنقابية، ونشب خلاف بشأن هذه المسألة، حيث أعتبر مونات أنَّ النقابية الثورية سوف تخلق ظروف تساعد على الثورة الاجتماعية، في حين أنَّ مالاتيستا لم ير النقابية في حد ذاتها كافية لذلك. وقال إنَّه يعتقد أنَّ النقابية في جوهرها حركة إصلاحية، وحتى محافظة، مؤكدا إنها برجوازية الأهداف، حيث لا تسعى لنفي علاقة العمل المأجور التي تميز الرأسمالية، وإنما تناضل النقابات فحسب لتحسين شروط العمل والحياة لأعضائها دون المساس بجوهر النظام الرأسمالي، ومشيرا إلى ظاهرة مسؤولي النقابات المهنية المعاديين للعمال، وحذر مالاتيستا بأن أهداف النقابيين كانت دائما هيَ إدامة النقابية نفسها بإدامة النظام الذي أفرزها لا نقضه، وبإدامة الظروف التي أوجدتها لا تغييرها، ولذلك تظل النقابات رجعية في أهدافها، ومحافظة في وسائلها، في حين أنَّ الأناركيين يجب أنْ يكونوا دائما في حالة من الثورة الأناركية حتى النهاية، وبالتالي الامتناع عن الالتزام بأيِّ طريقة معينة لتحقيق ثورتهم.
وبرغم تحفظات مالاتيستا، اكتسبت منذ ذلك الوقت أناركية الاتحادات النقابية أهمية خاصة في إسبانيا. وكان الاتحاد العمالي الإسباني في عام 1881 أول منظمة أناركية نقابية رئيسية، وكانت المنظمة النقابية الأكثر نجاحا هيَ التعاهدية الوطنية للعمل ( CNT)، التي تأسست في عام 1910، وظلت حتى قبل أربعينات القرن 20، القوة الرئيسية المنظمة للطبقة العاملة الإسبانية، وجذبت للانضمام إليها مليون ونصف مليون عضو، ولعبت دورا رئيسيا في الحرب الأهلية الإسبانية. و كانت منضمة لجمعية العمال العالمية، واتحاد النقابات الأناركية الذي تأسس في عام 1922، مع وفود تمثل مليوني عامل من 15 بلدا في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
وفي أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص “سرعان ما أصبح الأناركيون نشطاء في تنظيم الحرفيين والعمال الصناعيين في جميع أنحاء جنوب ووسط أمريكا اللاتينية، وحتى عشرينات القرن 20 كانت النقابات العمالية الأناركية في المكسيك والبرازيل وبيرو وتشيلي والأرجنتين أناركية نقابية بشكل عام، وكانت هيبة CNT كمنظمة ثورية إسبانية بلا شك مسئولة إلى حد كبير عن هذا الوضع، وكان أكبر ومعظم المنظمات النقابية الإقليمية في الأرجنتين...التي نمت بسرعة إلى الربع مليون عضو تقريبا، أناركية نقابية، في حين تضاءلت النقابات الاشتراكية الديمقراطية المنافسة “.
في أوائل القرن العشرين تأسست منظمة عمال العالم الصناعيين في الولايات المتحدة كنقابة ثورية، وظلت قوية النفوذ طوال النصف الأول من القرن العشرين، ومازالت مستمرة باعتبارها منظمة دولية للعمال، وعمال العالم الصناعيين كانوا أقوياء النفوذ في الولايات المتحدة قبل عصر المكارثية في الخمسينيات في الولايات المتحدة، وهم وفروعهم يحاولون الآن استلهام تجربة موندراجون في إسبانيامثل عمال صلب أوهايو وفي استراليا.
استند من طرحوا النقابة الثورية كبديل للتنظيم الثوري، على أنَّ النقابة الإصلاحية هيَ أحد آليات الرأسمالية والدولة لاستمرار الرأسمالية، والتي جوهرها نظام العمل المأجور، وذلك بتحسين شروطه، وشروط حياة أعضائها، وتقديم بعض الخدمات، وتعمل في الحقيقة كالوسيط التجاري بين باعة سلعة العمل أيْ العمال، والمشترين من الرأسماليين والبيروقراطيين، وتربح قياداتها في مقابل هذا الامتيازات التي تفصلهم عن العمال، وهذا يجعلهم من أشد المدافعين عن استمرار النظام القائم وأعداء ألداء لتغييره، مع ايهام الأعضاء بأن النضال النقابي الإصلاحي هو النضال الوحيد الممكن لتحسين ظروف حياتهم..وعلى العكس من ذلك فالنقابة الثورية هيَ أحد الآليات الثورية التي تسعى لإنهاء العمل الماجور، وتحرير العمال لا تسمينهم، والدفع بالنضال العمالي نحو الإدارة الذاتية لوحدات الإنتاج والخدمات، وتعونة الاقتصاد، وبناء التعاونيات العمالية، وتشغيل العمال للمنشئات المغلقة تعاونيا، وتهدف في النهاية للقضاء على الرأسمالية ودولتها، لا الإبقاء عليهما وتجميلهما.
ووفقا للوسيان فان دير والت:“بمجرد النظر على مستوى العالم، تجد الحركات الجماهيرية تمتد من الأرجنتين إلى الصين، إلى كوبا، إلى المكسيك، إلى بيرو، إلى أوكرانيا وهلم جرا. ما حدث فعلا مفقود بسبب الدراسات التي تركز على أوروبا الغربية، والحقيقة هيَ أنَّ معظم التاريخ الأناركي  النقابي جرى في أماكن أخرى غير أوروبا الغربية. وبعبارة أخرى، لا يمكن أنْ نفهم الأناركية إلَّا إذا فهمنا أنَّ جزءا كبيرا من تاريخها كان في الشرق والجنوب، وليس فقط في الشمال والغرب”  فالحركة العمالية المصرية على سبيل المثال التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت متأثرة بشدة بالعمال المهاجرين الأناركيين اليونانيين والإيطاليين، والأناركيين الهاربين بما فيهم إريكو مالاتيستا في مدينة الأسكندرية، والذين أسسو مدارس شعبية مسائية في أواخر القرن التاسع عشر، وهيَ صفحات مجهولة من التاريخ لا يعرفها الغالبية الساحقة حتى من المهتمين.
الأناركية في روسيا:
كانت روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر هيَ البلد التي أنجبت عدد متميز من كبار منظري الأناركية...باكونين وتولستويْ وكروبوتكين وإيما جولدمان وماخنو وفولين وبيركمان وماكسيموف. وقد شارك الأناركيون إلى جانب البلاشفة في كل من ثورتي فبراير وأكتوبر 1917في روسيا، وكانوا في البداية متحمسين للثورة البلشفية، وعقب خلافاتهم السياسية  مثل غيرهم من المعارضين اليساريين للبلاشفة، انتهيَ شهر العسل المؤقت إلى الصراع بينهما، بدءا من تمرد عمال وبحارة كرونشتاد عام 1921، الذي قمعته الحكومة الجديدة. وسجن الأناركيون في روسيا، أو دفعوا إلى الاحتجاب، أو انضموا للبلاشفة المنتصرين. وفر الكثير من الأناركيين من بتروغراد وموسكو إلى أوكرانيا. وهناك، في الأرض الحرة، قاتل الجيش الأناركي الثوري المتمرد بقيادة  نيستور ماخنو، الذي أسس مجتمع أناركي في المنطقة لعدد من الأشهر في الحرب الأهلية ضد البيض وهو تجمع لأنصار الملكية وغيرهم من المعارضين لثورة أكتوبر، ثم ضد البلاشفة.
طرد البلاشفة الأناركيان الأمريكيان من أصل روسي إيما غولدمان وألكسندر بيركمان الذان كانا يحرضان ضد السياسة البلشفية، وضد قمع انتفاضة كرونشتاد، وقبل مغادرتهما روسيا. كتبا عن تجاربهما، منتقدين سيطرة وممارسات البلاشفة. وبالنسبة لهما، فقد أثبتت تلك التجربة صحة تنبؤات باكونين عن عواقب الحكم الماركسي بأن حكام الدولة الماركسية الجديدة “الاشتراكية” سوف يصبحون نخبة جديدة منفصلة عن الجماهير.
خلال الثورة الروسية، حاول الأناركيون خلق مجتمعات أناركية شيوعية محلية مطالبين البلاشفة السماح لهم بذلك إلَّا أنَّ طلبهم تم رفضه، كما تم سحق تلك المحاولات أثناء الحرب الأهلية 1918-1922.
كان آخر ظهور علني للأناركيين سمحت به السلطات في روسيا تحت حكم البلاشفة، قد حدث أثناء جنازة بيوتر كروبوتكين المنظر الأناركي الشيوعي الأهم، حيث حضر الألاف منهم مراسم الوداع له، وللأناركية في روسيا عام 1921.
عمل الأناركيون مثل نيستور ماخنو على خلق  مجتمع أناركي شيوعي، والدفاع عنه، بواسطة الجيش الأوكراني الثوري المتمرد في الأراضي الحرة لأوكرانيا عام 1919 قبل أنْ يتم غزوها من قبل البلاشفة في عام 1921. وشن جيش الأوكراني الثوري، والمعروف أيضا باسم الجيش الأسود الأناركي، بقيادة نيستور ماخنو  حملة حرب عصابات معارضة على حد سواء للبلشفيين “الحمر”وللملكيين “البيض”. وكانت حركة الحكم الذاتي الثورية في أوكرانيا قد طرحت العديد من اتفاقيات عسكرية تكتيكية في الوقت الذي كانت تقاتل فيه مختلف القوى الرجعية وتنظم الأراضي الحرة فى أوكرانيا، كمجتمع أناركي، ملتزمة بمقاومة سلطة الدولة، سواء كانت الرأسمالية أو البلشفية.
ونجحت في صد القوات النمساوية المجرية، وجيوش البيض القيصرية، والقوات الوطنية الأوكرانية، قبل أنْ تسحق القوات العسكرية البلشفية الحمراء جيش الأناركيين الأسود بقيادة ماخنو في نهاية المطاف.
أما عن تجربة جيش نستور ماخنو في الحرب الأهلية الروسية بعد الثورة، فقد شهدت، تناقضا صارخا يصل إلى حد الفصام بين الشعارات والأيديولوجية المعلنة والسلوك العملي، وهذا له أسبابه القهرية، ولا يعني بالضرورة ادعاء وانتهازية وازدواجية، فدائما ما هو على البر سباح.
ألحق انتصار البلاشفة في ثورة أكتوبر، وما نجم عنها من الحرب الأهلية الروسية  ضررا جسيما بالحركات الأناركية دوليا. حيث رأى العديد من العمال والناشطين نجاح البلاشفة كقدوة لهم لتحقيق أهدافهم، في حين لم تنتصر تكتيكات الأناركيين، والناس دائما مع من غلب، ويقلدون الناجحين. ونمت الأحزاب الشيوعية اللينينية على حساب الحركة الأناركية والحركات الاشتراكية الأخرى. ففي فرنسا والولايات المتحدة، على سبيل المثال، ترك الكثير من الأعضاء من الحركات المنظمات النقابية الأناركية الرئيسية الCGT التعاهدية العامة للعمل وIWW عمال العالم الصناعيين، وانضموا للأممية الشيوعية بقيادة البلاشفة.
الموجة الثورية:
شهدت الموجة الثورية في الربع الأول من القرن العشرين مشاركة نشطة وداعمة من الأناركيين بدرجات متفاوتة.
في أثناء الثورة المكسيكية خلال عشريات القرن العشرين قاد الأناركي الشيوعي ريكاردو فلوريس ماجون سلسلة من الهجمات العسكرية مما أدى إلى اجتياح الثوار لبعض المدن والمناطق في ولاية باجا كاليفورنيا بالمكسيك. ملهمين من كتاب كروبوتكين “الاستيلاء على الخبز”، الذي اعتبره فلوريس ماجون نوعا من الكتاب المقدس الأناركي، واعتبروه أساسا للكوميونات الثورية قصيرة الأجل التي أنشأوها في باجا كاليفورنيا خلال تمرد “ماجنوستا” عام 1911، وخاض اميليانو زاباتا وجيشه وحلفائه، بما في ذلك بانشو فيلا، الحرب من أجل الإصلاح الزراعي في المكسيك. على وجه التحديد، حيث كانوا يريدون ترسيخ حقوق الأراضي المشاع للسكان الأصليين في المكسيك، الذين فقدوا معظم أراضيهم لصالح النخبة الثرية من أصل أوروبي. وقد تأثر زاباتا جزئيا بريكاردو فلوريس ماجون. ويمكن رؤية تأثير فلوريس ماجون على زاباتا في“خطة دي أيالا، لجيش زاباتا وبشكل ملحوظ في شعاره...تييرا والحرية “أو” الأرض والحرية “، وهو عنوان عمل فلوريس ماجون الأكثر شهرة. هذا وجاءت معرفة زاباتا للأناركية عن طريق مدرس محلي، اسمه أوتيليو مونتانيو سانشيز بعد عام من انضمامه إلى جيش زاباتا، حيث عرض لزاباتا أعمال بيتر كروبوتكين وفلوريس ماجون في نفس الوقت الذى كان فيه زاباتا يبدأ المشاركة في نضالات الفلاحين من أجل الأرض.
في الانتفاضة الألمانية المعروفة باسم الثورة الألمانية 1918-1919 التي أنشأت الجمهورية السوفيتية البافارية، والتي انتهت باغتيال روزا لوكسمبرج وكارل ليبكنخت، على يد الشرطة الألمانية، ومطاردة حزب عصبة سبارتاكوس الثوري، كان الأناركيون غوستاف لاندور، وسيلفيو جيزيل وإريك موهسام يشغلون مناصب قيادية مهمة في إطار الهياكل المجالسية الثورية.
في الأحداث الإيطالية المشابهة  في نفس الوقت، نما الاتحاد النقابي الإيطالي الأناركي  إلى 800000 عضو وبلغت عضوية الاتحاد الأناركي الإيطالي 20000 عضو بالإضافة إلى إصدار “نوفا يومانيتا”، كصحيفة يومية، والتي أصبحت واسعة الانتشار...وكان الأناركيون أول من اقترح احتلال العمال لأماكن العمل وإدارتها ذاتيا كحركة تصاعدت في إيطاليا أثناء تلك الأحداث.
مكافحة الفاشية:
في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، ومع صعود الفاشية في أوروبا، خاض الأناركيون صراعهم مع الدولة الفاشية. وشهدت إيطاليا الصراعات الأولى بين الأناركيين والفاشيين بقيادة موسوليني، ولعبت المنظمة الأناركية الإيطالية “أرديتي ديل بوبولو” دورا رئيسيا في تنظيم الحركة المناهضة للفاشية، التي كانت أقوى في المناطق ذات التقاليد الأناركية، وحققت بعض النجاح في نشاطها، مثل صد جماعات القمصان السود في معقل الأناركية في بارما في أغسطس 1922. وكان الأناركي الإيطالي المخضرم، لويجي فابري، واحدا من المنظرين المنتقدين الأول للفاشية، واصفا إياها بأنها “وقائية الثورة المضادة”. وبشكل عام كان الأناركيون في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا نشيطين في المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية.
الثورة الإسبانية:
إنَّ أفضل الأمثلة المعروفة عن المجتمع الشيوعي الأناركي (أيْ، المجتمعات التي أنشئت حول تلك الأفكار، ولفتت انتباه العالم والمعروفة في التاريخ)، هيَ الأراضي الأناركية أثناء الثورة الإسبانية بتأثير  جهود الأناركيين الإسبان خلال الثورة الإسبانية في الحرب الأهلية الإسبانية، والتي وجدت بدءا من عام 1936 في معظم إقليم أراجون، وأجزاء من أقاليم ليفانتي والأندلس، وكذلك في المعقل الأناركي الأهم؛ “كاتالونيا” قبل أنْ تسحقها القوات المشتركة من النظام الذي انتصر في الحرب بقيادة الجنرال فرانكو، المدعوم من قوات  هتلر وموسوليني، فضلا عن  القمع الذي مارسه الحزب الشيوعي الإسباني (المدعوم من قبل الاتحاد السوفييتي) ضدها، وكذلك الحصار الاقتصادي والمسلح من الدول الرأسمالية وقوات الجمهورية الإسبانية نفسها.
رفضت التعاهدية الوطنية للعمل في البداية الانضمام إلى التحالف الانتخابي للجبهة الشعبية، الذي ضم الشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين والجمهوريين، وامتنع أنصار التعاهدية الوطنية للعمل عن المشاركة في الانتخابات عام 1933، مما أدى إلى فوز الجناح اليميني في الانتخابات. ولكن التعاهدية الوطنية للعمل غيرت سياستها في الانتخابات التي تلتها عام 1936، وساعدت الأصوات الأناركية في وصول الجبهة الشعبية إلى السلطة، وقبلوا بناء على ذلك الاشتراك في الحكومة بأربع وزراء في مراجعة لأحد المبادئ الجوهرية للأناركية، وهيَ الغيابية الانتخابية، تحت مسمى الضرورة العملية، وبعد أشهر من تولي حكومة الجبهة الشعبية للحكم، قامت الطبقة الحاكمة والمالكة بتمرد عسكري بقيادة فرانكو، مما تسبب في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939). وردا على تمرد الجيش على الحكومة الجمهورية، قامت الحركة بدعم من الميليشيات المسلحة من الفلاحين والعمال الملهمة  بالأناركية، بالسيطرة على برشلونة، وعلى مناطق واسعة من الريف الإسباني حيث حولت ملكية الأرض إلى تعاونيات. ولكن حتى قبل انتصار الفاشية النهائي في عام 1939، كان الأناركيون يتراجعون في صراعهم المرير مع الستالينيين الذين سيطروا على توزيع المساعدات العسكرية للجمهورين بايعاز من الاتحاد السوفيتي. وقمعت قوات تقودها القوات الستالينية التعاونيات الأناركية في الريف والمدن، واضطهدت كل من الماركسيين المنشقين عن الستالينية (التروتسكيين) والأناركيين على السواء.
كانت الأحداث المعروفة باسم الثورة الإسبانية ثورة اجتماعية للعمال بدأت أثناء اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، وأسفرت عن تنفيذ المبادئ التنظيمية الأناركية على نطاق واسع في أنحاء مختلفة من البلاد من سنتين إلى ثلاث سنوات، في المقام الأول كاتالونيا، ثم أراجون، والأندلس، وأجزاء من ليفانتي. حيث تم وضع الكثير من الاقتصادالإسباني تحت سيطرة العمال. في معاقل أناركية مثل كاتالونيا، كان العدد يصل إلى 75٪، ولكن أقل من ذلك في المناطق التي يوجد فيها نفوذ كبير للحزب الشيوعي الإسباني، الذي كان حليف الدولة السوفيتية، والذي قاوم بنشاط محاولات تشريع تعونة الاقتصاد. وتشغيل المصانع من خلال لجان العمال، وتحويل المناطق الزراعية للتعاونية، وتشغيلها ككوميونات تحررية. ويقدر المؤرخ الأناركي سام دوجلوف أنَّ حوالي ثمانية ملايين شخص شاركوا بشكل مباشر أو على الأقل بشكل غير مباشر في الثورة الإسبانية، وطبقوا نموذج “جاء أقرب إلى تحقيق المثل الأعلى للمجتمع الحر الخالي من الدولة على نطاق واسع أكثر من أيِّ ثورة أخرى في التاريخ “.
الأناركية ما بعد الحرب العالمية الثانية:
سعت الأناركية لإعادة تنظيم نفسها بعد الحرب، وفي هذا السياق أخذت النقاشات التنظيمية بين تياري أناركية التوليف والأناركية البرنامجية أهمية مرة أخرى، وخاصة في الحركات الأناركية في إيطاليا وفرنسا. وتم تأسيس الاتحاد المكسيكي الأناركي في عام 1945 بعد الاتحاد الأناركي للمركز متحدا مع الاتحاد الأناركي في المقاطعة الاتحادية. وفي أربعينات القرن 20، اندمجت التضامن الدولي لمناهضة الفاشية، واتحاد الجماعات الأناركية لكوبا في منظمة وطنية كبيرة رابطة ليبراتاريا دي كوبا (جمعية كوبا الليبرتانية). من 1944-1947، ونهض الاتحاد الشيوعي الأناركي البلغاري كجزء من حركة لجان احتلال المصانع وأماكن العمل، ولكن تم قمعها من قبل النظام الشيوعي الستاليني الجديد. وفي عام 1945 في فرنسا تأسس الاتحاد الأناركي“التعاهدية الوطنية للعمل”  للأناركيين النقابيين، وتأسس في العام 1946 اتحاد “أناركيا” الإيطالي في إيطاليا، وشكل الأناركيون الكوريون رابطة البنائون الاجتماعيون في سبتمبر 1945، وفي عام 1946 تم تأسيس الاتحاد الأناركي الياباني.
وعقد المؤتمر الأناركي الدولي بمندوبين من مختلف أنحاء أوروبا في باريس في مايو 1948..وتأسس الاتحاد الليبرتاني الاشتراكي في ألمانيا في عام 1947، وفي عام 1956 تم تأسيس الاتحاد الاوروجوياني الأناركي. وفي عام 1955 الاتحاد الأناركي الشيوعي الأرجنتيني أعاد تسمية نفسه باسم الاتحاد الارجنتيني الليبرتاني. وكان اتحاد العمال النقابي “المجموعة الأناركية النقابية ناشطة في بريطانيا ما بعد الحرب، وهيَ واحدة من أقدم أسلاف اتحاد تضامن. وقد تم تأسيسه في عام 1950 من قبل أعضاء الاتحاد الأناركي لبريطانيا المنحل. وعلى عكس AFB الاتحاد الأناركي لبريطانيا، الذي تأثر بالأفكار الأناركية النقابية، ولكن لا النقابية نفسها في النهاية، قررت SWF متابعة استراتيجية نقابية أكثر تركز على العمل المباشر منذ البداية.
واصلت الأناركية التأثير على الشخصيات الأدبية والفكرية الهامة في ذلك الوقت، مثل ألبير كامي، وهربرت ريد، وبول جودمان، ودوايت ماكدونالد، وألين جينسبيرج، وجورج وودكوك، وليوبولد كوهر، وجوليان بيك، وجون كيج  والمجموعة السوريالية الفرنسية بقيادة أندريه بريتون، والذي أعرب صراحة عن قبوله الأناركية وتعاون مع الاتحاد الأناركي.
أصبحت الأناركية السلمية مؤثرة في الحركة العالمية المناهضة للأسلحة النووية، والمناهضة للحرب، كما يمكن أنْ نراها في هذا الوقت في نشاط وكتابات العضو الأناركي الإنجليزي في  حملة نزع السلاح النووي أليكس كومفورت، أو نشاطا مشابها له في  نشاط الأناركيتان الكاثوليكيتان الأمريكيتان عمون هيناكي ودوروثي دايْ. وأصبحت الأناركية المسالمة “أساسا لنقد النزعة العسكرية على جانبي الحرب الباردة”. و قد تم توثيق تجدد الأفكار الأناركية خلال هذه الفترة بشكل جيد.
الأناركية المعاصرة:
حدثت موجة من الاهتمام الشعبي بالأناركية في الدول الغربية خلال ستينات وسبعينات القرن 20، وكان  للأناركية تأثير في حركة الثقافة المضادة من عام  1960  وشارك الأناركيون بنشاط في الستينات  في ثورات الطلاب والعمال والاحتجاجات ضد الحرب، ومن أجل نزع السلاح، في ذلك الوقت، وفي عام 1968 تأسست في كارارا، بإيطاليا الأممية الأناركية خلال المؤتمر الأناركي الدولي الذي عقد هناك في عام 1968 من قبل الاتحادات الاوروبية الثلاث الموجودة (الاتحاد الأناركي) في فرنسا، ومن اتحاد أناركيا الإيطالي الأناركي الأيبيريي، وكذلك الاتحاد البلغاري في المنفى.
في المملكة المتحدة في سبعينات القرن 20 ترافق صعود الأناركية مع حركتي الروك والبانك الفنيتين، والفرق الموسيقية المرتبطة بها. وأدى تفاقم أزمة السكن وضعف فرص العمل في معظم دول أوروبا الغربية إلى تشكيل الجماعات الكوميونية، وتنامي حركة احتلال المباني المهجورة، مثل برشلونة في إسبانيا. وفي الدنمارك، حيث احتل واضعو اليد قاعدة عسكرية مهجورة، وأعلنوها مدينة حرة باسم كريستيانا، وتشكل ملاذا مستقلا عن  الحكومة الدانماركية في وسط مدينة كوبنهاجن، و مستمرة حتى الآن.
منذ إحياء الأناركية في منتصف القرن 20، ظهر  عدد من الحركات والمدارس الفكرية الجديدة. وعلى الرغم من أنَّ النزعات النسوية كانت دائما جزءا من الحركة الأناركية في شكل الأناركية النسوية، فقد عادت بقوة خلال الموجة الثانية من الحركة النسوية في ستينات القرن العشرين، وواصلت الأناركية توليد العديد من الفلسفات والحركات، و التى كانت في بعض الأحيان انتقائية، بالاعتماد على مصادر مختلفة، وتوفيقية، تجمع بين المفاهيم المختلفة لخلق المناهج الفلسفية الجديدة.
 افترض كل من الأنثروبولوجي الأناركي ديفيد جريبير والمؤرخ الأناركي أندريه جروباتشيك قطيعة بين الأجيال الأناركية؛ بين أولئك الذين “غالبا لم تهتز عاداتهم الطائفية، ومواقفهم العصبوية” المنتمية للتراث الأناركي التقليدي في القرن الـ19، والنشطاء الصغار المطلعين “أكثر من هؤلاء بكثير، على عناصر أناركية أخرى، فضلا عن الأفكار الأصلية، مثل الأناركيات النسوية والبيئية والثقافية النقدية”، والذين في مطلع القرن الـ21 شكلوا“إلى حد بعيد الأغلبية”من بين الأناركيين.
حول منعطف القرن الـ21، نمت الأناركية في شعبيتها ونفوذها في إطار الحركات المناهضة للحرب، وللرأسمالية، وللعولمة. وأصبح الأناركيون معروفون بمشاركتهم في الاحتجاجات ضد اجتماعات منظمة التجارة العالمية (WTO)، ومجموعة الثمانية، والمنتدى الاقتصادي العالمي. وشاركت بعض الفصائل الأناركية في هذه الاحتجاجات، وفي أعمال شغب وتدمير الممتلكات الرأسمالية، وفي المواجهات العنيفة مع الشرطة، وشارك في هذه الممارسات مجموعات بلا قيادة وكوادر مجهولة تعرف باسم الكتل السوداء، ومجموعات أخرى لها أساليب تنظيمية أخرى رائدة مثل ثقافة الأمن، والجماعات المتقاربة، واستخدام التكنولوجيات اللامركزية مثل الإنترنت. وكان الحدث الكبير في هذه الفترة هو المواجهات في مؤتمر منظمة التجارة العالمية في سياتل في عام 1999. ووفقا للأناركي الباحث سيمون كريتشلي “يمكن أنْ ينظر إلى الأناركية المعاصرة كقوي نقدية للتحررية الزائفة المعاصرةن والليبرالية الجديدة...ويمكن القول إنَّ الأناركية المعاصرة تقوم على أساس المسؤولية الاجتماعية، والغضب الأخلاقي على عدم المساواة والفقر والتمييز الذي أصبح واضحا جدا محليا وعالميا”.
وتشمل الاتحادات الأناركية الدولية على المستوى  الدولي الاتحادات الأناركية، جمعية العمال العالمية، والتضامن التحرري الدولي.
 أكبر منظمة للحركة الأناركية اليوم في إسبانيا، هيَ التعاهدية العامة للعمل (CGT) والتعاهدية الوطنية للعمل CNT. وتقدر عضوية CGT بحوالي 100000 لعام 2003. وتشمل  الحركات النقابية النشطة الأخرى في السويد الهيئة المركزية للعمال السويدين واتحاد شباب السويدي الأناركي النقابي. والمجلس الوطني الانتقالي-AIT في فرنسا. وسينديكال يونيني في إيطاليا؛ وتحالف التضامن العمالى في الولايات المتحدة واتحاد التضامن في المملكة المتحدة والاتحاد الأناركي. وعمال العالم الصناعيين، وجمعية العمال العالمية، وهو خليفة الأناركية النقابية للأممية الأولى، والتي لا تزال ناشطة أيضا.
وليس معنى تلك الكثرة العددية للأناركيين ومنظماتهم أنَّ معظم هؤلاء مؤثرين في تطور العملية الثورية، بما يتوافق وحجم انتشارهم، لأنهم غالبا أفرادٌ بلا تنظيم، فعاليتهم فعالية جنود في الحشود، يحصد نتاج نضالهم وتضحياتهم الجنرالات من الساسة المنظمين، أو على الأقل لا يملكون القوة المادية اللازمة لإحداث التغيير الاجتماعي، أو التأثير فيه، أيْ أنهم يوظفوا أنفسهم وبإرادتهم لصالح إعادة إنتاج مجتمع سلطوي على عكس أهدافهم، ويعيدون إنتاج فشلهم التاريخي المتكرر، في كوميونة باريس والثورة الروسية والحرب الأهلية الإسبانية والموجة الثورية العالمية في مايو 68 وأخيرا حركتي مناهضة العولمة والحرب واللتان انتهيتا إلى الفشل، وفي أحداث ما يسمى الربيع العربي، والحقيقة أنَّه في كل تلك الأحداث التاريخية كان الأناركيون يتواجدون بقوة، ولكن بلا تأثير في النتائج النهائية.

في حوار جمع بين مجموعة من الأناركيين المصريين، وأحد الرفاق الأناركيين من شيلي نقل لهم خبرته من تطورات الوضع في أمريكا اللاتينية، عن أنَّ نفس المشكلة تتكرر في كل موجة ثورية، نضالٌ عاتٍ وحضورٌ مكثفٌ في الفعاليات والاحتجاجات الثورية، ولكن الثمار غالبا ما تقع في أيدي سلطويين مختلفين، وهذا يشير بوضوح لخطأ لابد من تداركه، حتى تتوقف الأناركية عن إعادة إنتاج فشلها التاريخي. 

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية