السبت، 9 سبتمبر 2017

القسم السادس: قضايا أناركية 2

القسم السادس : قضايا أناركية 2
سامح سعيد عبود
العلاقة مع اليسار:
في حين أنَّ العديد من الأناركيين (وخاصة المشاركين في الحركة المناهضة للعولمة) يستمرون في رؤية أنفسهم كحركة يسارية، لكن بعض المفكرين والناشطين يعتقدون أنَّه من الضروري إعادة تقييم العلاقة الأناركية مع اليسار التقليدي. مثل العديد من الأيديولوجيات المتطرفة، معظم المدارس الأناركية الفكر هي، إلى حد ما، طائفية. غالبا ما يكون هناك اختلاف في الرأي داخل كل مدرسة حول كيفية الرد على أو التفاعل مع المدارس الأخرى. ومع ذلك، فكثير من الأناركيين يتبنون  مجموعة واسعة من وجهات النظر السياسية، مثل زاباتيستا، والمواقفين، والاستقلاليين الماركسيين.
الغيابية والمشاركة في العملية الانتخابية:
يزعم السلطويون الديمقراطيون أنَّ الديمقراطية التمثيلية النيابية هيَ أقرب شكل ممكن لممارسة السلطة يضمن الحرية للبشر، وما هيَ في الحقيقة سوى مجرد إعطاء الأغلبية الحق في أنْ تذهب بشكل دوري لتختار من بين السياسيين الرأسماليين والبيروقراطيين الذين يمثلون النخبة الحاكمة من سيمارس عليهم السلطة، وباسمهم، في تمثيلية لا تنطلي إلَّا على السذج، فمن يملكون أيَّ من مصادر السلطة، هم وحدهم القادرين واقعيا على الفوز في الترشيح للمجالس التمثيلية الذي يكتفي المحرومون منها واقعيا بمجرد حقهم القانوني والشكلي في الترشيح، فليس لهم سوى اختيار أيٍّ من هؤلاء المرشحين سيمثلهم لعدة سنوات، معتمدين في اختيارهم على مدى تأثرهم بالدعاية الانتخابية التي تملك وسائلها النخب الحاكمة والمالكة التي يمثلها هؤلاء المرشحين.
في حين يؤكد الأناركيون على شكلية ديمقراطية الصندوق الانتخابي، ومن ثم رفضها، فالممارسة السياسية عبر الصناديق الانتخابية مهزلة سخيفة، وخدعة كبرى تمارس باسم الحرية، ولا يمكن أنْ تأتي بمن يعبرون عن المصالح النهائية للبروليتاريا، لأن النخب السياسية البرجوازية سواء في الحكم أو في المعارضة تحتكر وحدها دون البروليتاريا الناخبة كل وسائل التأثير على عقول تلك البروليتاريا، والمحجوب عنها المعرفة، والمعلومات الضرورية، مما يجعلها عاجزة عن اتخاذ القرار الصحيح، فضلا عن أنها خاضعة أساسا لعملية تشكيل العقل وتوجيهه إلى ما تريده هذه النخب من أراء، والتي تتنافس فيما بينها في لعبة كراسيَ موسيقية، لتبادل مقاعد الحكم والمعارضة، فبطاقة الاقتراع بين أيدى شعب أهمل تثقيفه عمدا، وتنتشر بين أفرادة كافة أنواع الأميات الأبجدية والثقافية والمعلوماتية، وتتسلط عليه أدوات غسل العقل وتعليبه، وصناعة الوعي وتشكيله، ليست سوى حيلة ماكرة لإنتاج وتجديد إنتاج نخب حاكمة ترتدي أقنعة التمثيل الشعبي الكاذب، ومهمتها الجوهرية هيَ أنْ تحافظ على مصالح ملاك الثروة ووسائل العنف والمعرفة.
يؤكد ما يذهب إليه الأناركيون ضعف الحركات السياسية والنقابية العمالية، وأن المشاركة الجماهيرية في النقابات والأحزاب السياسية خصوصا، والعملية البرلمانية عموما قد تدهورت  بمعدلات مذهلة، لتتحكم في العملية السياسية كلها جماعات الضغط للقضية الواحدة كالبيئةـ والأقليات من جانب الناخبين، والمال والعصبيات القبلية والطائفية، وأن العملية الانتخابية والممارسة البرلمانية من أولها لآخرها هيَ مجرد سيرك للثرثرة والتضليل، فنجاح الحملات الانتخابية للمرشحين تعتمد على وسائل الترويج الإعلاني بأكثر مما تعتمد على البرامج الانتخابية، وذلك لجذب أصوات جماعات الضغط، والناخبون عادة لا يجدون فروقا واضحة بين البرامج تستدعي الاهتمام بالاختيار بين المرشحين، ومن ثم يعتمد النجاح في الانتخابات على الجوانب الشخصية للمرشح، وإمكانيه جذبه لأصوات الناخبين، الذين قد ينجذبون لما له من جاذبية شخصية لا اقتناعا بالبرنامج الانتخابي الذي يقدمه.
في حين أنَّ معظم الأناركيين يعارضون بشدة التصويت أو الترشيح في الانتخابات، أو المشاركة بأيِّ شكل من الأشكال في مؤسسة الدولة، فهناك عدد قليل منهم يختلفون معهم. فالأناركي البارز، بيير جوزيف برودون، ترشح لانتخابات الجمعية التأسيسية الفرنسية مرتين في عام 1848. وطور بول بروس مفهوم استقلال البلديات الذاتي التحرري في سويسرا في تسعينات القرن 19 التي شملت المشاركة في الانتخابات المحلية. ولكن يظل الكثير من الأناركيين يعارضون التصويت في الانتخابات لثلاثة أسباب.
أولا، أنهم يعتقدون أنها غير فعالة، في أحسن الأحوال برغم أنها قد تؤدي إلى إصلاحات طفيفة.
ثانيا، المشاركة في الانتخابات والعملية السياسية البرلمانية أدت تاريخيا إلى أنْ يصبح المعارضون الجذريون جزءا من النظام بدلا من وضع حد له.
ثالثا، لأن حجم التصويت يعني الاعتراف بشرعية الدولة.
وأكثرها أهمية هو فكرة أنَّ الديمقراطية التمثيلية نفسها معيبة بشكل أساسي. في جوهرها، حيث تستخدم النخب السياسية المتصارعة للطبقة الحاكمة، الأوهام الديمقراطية للوصول إلى السلطة على الشعب، ومن ثم تستخدم القوة لقمع أيِّ معارضة حقيقة لها. فالنخب السياسية في الواقع غالبا لا تخدم مصالح الشعب بشكل عام، ولكن تنتج ببساطة الوهم لدى الشعب بأنها تفعل هذا فقط للوصول إلى السلطة، حيث تعمل الحكومات على حساب الصالح العام، ولا يمكن أنْ تخدم أيَّ غرض آخر بغض النظر عن أيا كان الشكل الذي تتخذه، سوى مصالح الطبقة الحاكمة.
وخلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2004، أطلقت جماعة الأناركية الجمعية  CrimethInc. “لا مجرد أصوات، واصنع نشاطا”، حملة للترويج لأهمية العمل المباشر، بدلا من التغيير الانتخابي. والأناركيون في بلدان أخرى غالبا ما يشاركون في حملات مكافحة للتصويت مماثلة. والبعض الآخر يدافع عن نهج أكثر واقعية، بما في ذلك التصويت في الاستفتاءات، في حين أنَّ أناركيين بارزين آخرين مثل هوارد زين ونعوم تشومسكي تعهدوا دائما بدعمهم للمرشحين التقدميين مثل رالف نادر.
جادل الأناركي الفردي ليساندر سبونر بأن التصويت كان وسيلة مشروعة للدفاع عن النفس ضد الدولة، وأشار إلى أنَّ العديد من أنصار الدولة يعتبرون كلا من التصويت والامتناع يمكن أنْ يكونا اعترافا بشرعية الدولة. ويقدم مقال سبونر “لا خيانة” الطعن الأناركي الفردي على الحجة التي بررت بها الحكومات الديمقراطية شرعيتها بكونها قائمة على موافقة الأغلبية، باعتباره منطقا يستجيب للقوة العددية حتى ولو كانت ضارة بالمصلحة العامة، وضد الأقلية العددية لمجرد انها أقلية، حتى ولو كانت على صواب، وتعبر عن المصلحة العامة.
فوفقا للأناركيين الفرديين، “نظام الديمقراطية، القائم على التمسك بقرار الأغلبية، لاغي وباطل. وهو شكل من أشكال الاعتداءات على الحقوق الطبيعية للإنسان للفرد ومن ثم ظالم ورمزا لاستبداد الأغلبية بالأقلية”. وانتقد التحرري الكوميوني موراي بوكتشن الأناركيين الفرديين لمعارضتهم الديمقراطية، وقال إنَّ“حكم الأغلبية” يتفق مع الأناركية، لكنه فضل أيضا مصطلح الجمعية بدلا من الديمقراطية. وبدورهم اتهموا بوكتشن بـ”الدولانية الكوميونية”،أيْ، غير الأناركية. وفي وقت لاحق، تخلى بوكتشن عن الأناركية لتعريف نفسه كمدافع عن الكوميونالية.
العولمة والإمبريالية:
يشارك العديد من الأناركيين بنشاط في الحركة المناهضة للعولمة، ورؤية عولمة الشركات على أنها محاولة من الاستعمار الجديد لاستخدام الإكراه الاقتصادي على نطاق عالمي، ينفذ من خلال مؤسسات دولية مثل البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية ومجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، والمنتدى الاقتصادي العالمي. والعولمة مصطلح غامض لديه معان مختلفة بالنسبة للفصائل الأناركية المختلفة. ولذلك استخدم العديد من الأناركيين المصطلح ليعنوا الاستعمار الجديد أو الإمبريالية الثقافية، وآخرون لا سيما الأناركيون الرأسماليون، يستخدمون “العولمة” للدلالة على التوسع في جميع أنحاء العالم في تقسيم العمل والتجارة، والتي يرون أنها مفيدة طالما الحكومات لا تتدخل فيها. ويرى أناركيو السوق والأناركيون الرأسماليون التوسع في جميع أنحاء العالم لتقسيم العمل من خلال التجارة ( “العولمة”)، كنعمة، ولكن يعارضون تنظيم وتشكيل الكارتلات التي فرضها البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية (WTO)، وغيرها، واتفاقيات التجارة مثل النافتا والجات  واتفاق أمريكا الوسطى للتجارة الحرة (منطقة التجارة الحرة). ويعترض كثيرون على النقود الورقية التي تصدرها البنوك المركزية وما ينتج عنها من الانحطاط في قيمة المال، ومصادرة الثروات.
جماعات مثل مطالب الشوارع، من بين المحرضين في ما  يسمى الحركة المناهضة للعولمة. واعتبر كرنفالا ضد الرأسمالية في 18 يونيو 1999 العام الأول من الاحتجاجات الرئيسية المناهضة للعولمة. حيث لعب أناركيون، مثل WOMBLES، في بعض الأحيان دورا هاما في التخطيط والتنظيم، والمشاركة في احتجاجات لاحقة. وتميل الاحتجاجات إلى التنظيم على مبادئ العمل المباشر الأناركية مع التسامح العام لمجموعة من مختلف الأنشطة التي تتراوح بين هؤلاء الذين ينخرطون في الرعونة التكتيكية للبلاك بلوك، وأشكال سلمية في الاحتجاج.
القومية:
الأناركية لديها تاريخ طويل في معارضة الإمبريالية، لا احتراما للفكرة القومية الهشة، ولا انطلاقا من الوطنية البائسة، السلطويتان في حقيقتيهما، ولكن باعتبارها أحد أشكال الهيمنة والتسلط، سواء في دول المركز الأساسية (المستعمرين) أو دول المحيط (المستعمر). ويفضل الأناركيون بشكل عام، التركيز على بناء الثورات في الوطن، والقيام بأعمال التضامن من أجل الرفاق في بلدان أخرى، حيث أنَّ الأممية أحد الأسس الأناركية.
وهناك مثال آخر لهذا هو رودولف روكر، الأناركي الألماني البارز، والمكافح للفاشية، الذي كان ناشطا خاصة بين العمال اليهود. دعى في كتابه القومية والثقافة لـ“اتحاد الشعوب الأوروبية” التي من شأنها أنْ تشمل اليهود. ورفض النظريات البيولوجية للعرق، ورفض مفهوم الأمة، وقال إنَّه منذ أنْ احتلت واستعمرت دول أوروبا بقية دول العالم، كان التنظيم التحرري الناجح بين الأوروبيين “الشرط الأول لإنشاء اتحاد العالم، الذي سيضمن أيضا للشعوب المستعمرة نفس الحقوق في السعي لتحقيق السعادة”. وكثير من الأناركيين المعاصرين، وغيرهم من مناهضي الإمبريالية يشاطرون روكر هذا النهج.
كان الأناركيون الصينيون نشطاء للغاية في بداية الحركة القومية الصينية، وفي مقاومة الاستعمار الياباني البريطاني، وكان الأناركيون أيضا ضالعين بشكل عميق في الحركات القومية المناهضة للإمبريالية في فيتنام وكوريا وكوبا، وأوكرانيا، وأيرلندا، والمكسيك، وجميع أنحاء أفريقيا. الأناركية أيضا لها تأثير في حركة السكان الأصليين الحديثة.
وجدير بالذكر أنَّ الأناركيين كونهم أساسا ضد الدولة كمؤسسة، فهم الأكثر عداءا لأيِّ دولة بما فيها إسرائيل، ومعادون على وجه الخصوص لكل دولة مقامة على أساس ديني أو قومي أو عرقي، وعدائهم للصهيونية كمشروع قومي وإسرائيل كدولة أولا، ودولة عنصرية ثانيا...لا مجال فيه للمناقشة، ولا يرون سوى حلا واحدا للقضية هو مجتمع أناركي، مكون من تعاهدية كوميونات مستقلة ذاتيا، منفصلة تماما عن الدين والقومية والعرق واللغة..إلخ، على الأرض شرق البحر المتوسط.
الانتقادات الأناركية للرأسمالية:
كتب مؤلفو كتاب الأناركية أسئلة وأجوبة متكررة " أنَّ الأناركيين قد أقروا منذ فترة طويلة بأن الرأسمالية هي، بطبيعتها، هرمية. يخضع  العامل فيها لسلطة رب العمل أثناء ساعات العمل (في بعض الأحيان خارج ساعات العمل أيضا). هذة الحالة من “السيطرة الهرمية على العمل المأجور لها تأثير في نشوء اغتراب العمال عن عملهم، وكذلك عن أنفسهم. فالعمال لم يعودوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم خلال ساعات العمل، وحتى لم يعودوا أحرارا في ما ينتجون وكيف ينتجون”. و هذا هو السبب في أنَّ“الرأسمالية، تتعامل مع العامل بشكل مماثل لجميع السلع الأخرى، وتنفي الفرق الرئيسي بين العامل وغيره من “الموارد” –بين العامل والآلة وأرض المصنع والمادة الخام فكلها سلع لها ثمن ويحقق من منتجها النهائي ربح، حيث يمكن القول بتلازم الطابع السلعي مع  العامل، والذي على عكس “السلع “ الأخرى، موهوب وذو إرادة ورغبة ومشاعر وليس مجرد ذراع في آله تدر الربح على الرأسمالي، والبؤس للعامل. وهكذا فعندما يتحدث شخص عن بيع العمل فهناك القهر الضروري للإرادة بسبب (التسلسل الهرمي)...والقهر الضروري للإبداع باسم احتياجات السوق، ورغبة صاحب العمل، وهو ما يكون مصدر للإحساس بالدونية والحزن أما العمل المدار ذاتيا فهو مصدر الفخر والفرح، وجزء من ما يعنيه أنْ تكون إنسانا كاملا. فالرقابة الموجعة على أعمال العمال تضر بشكل كبير صحتهم النفسية والجسدية”. وهي أيضا إثبات أنَّه:
...تم إنشاء الرأسمالية نفسها من خلال عنف الدولة وتدمير الطرق التقليدية في الحياة والتفاعل الاجتماعي كان جزءا من هذه المهمة. فمنذ البداية، أمضى الرؤساء قدرا كبيرا من الوقت في محاولات لمكافحة طاقة العمال الذين يعملون للانضمام معا لمقاومة التسلسل الهرمي، وحاولوا التأكيد على القيم الإنسانية التي يحاول الرأسماليون استئصالها منهم. ولذلك يناهض الرأسماليون هذه الأشكال من حريات تكوين الجمعيات بين الأنداد (مثل النقابات)، ومثل محاولات تنظيم تجاوزات لمساوىء النظام عن طريق الحكومات الديمقراطية. وفي الواقع، يفضل الرأسماليون الأنظمة المركزية، النخبوية  أو الأنظمة الاستبدادية على وجه التحديد لأنهم على يقين من أنها سوف  تكون خارج الرقابة الشعبية (أنظر القسم B. 2. 5) من الكتاب المذكور.
والرأسمالية هي الطريقة الوحيدة التي تقوم فيها العلاقات التعاقدية على قوة السوق بحيث يمكن أنْ تطبق على السكان منزوعي الإرادة الفعلية بالاضطرار والجبر، المتمتعين بالإرادة الشكلية وفقا للقانون. وقد ازدهرت الرأسمالية في ظل  الدول الشمولية ولذلك دعمت الحركات الفاشية، وقد حقق الرأسماليون أرباحا عالية في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. وتمارس اليوم العديد من الشركات “القيام بعلاقات تجارية بانتظام مع الأنظمة الشمولية والاستبدادية من جديد، لأنها تربح كثيرا عندما تقوم  بذلك”في الواقع، وهناك “اتجاه من قبل الشركات المتعدية الجنسية للاستثمار في هذه البلدان...وربما هذا لا يثير الدهشة، حيث أنَّ هذه الأنظمة هي الأقدر على فرض الشروط الضرورية على سلعة العمل بشكل كامل”. B. 1. 2 هل الرأسمالية هرمية؟ الأناركية أسئلة وأجوبة متكررة.
أدان الأناركي  الفرنسي بيير جوزيف برودون امتيازات الحكومة التي تحمي مصالح الرأسمالية والبنوك وملاك الأرض، وتراكم أو اكتساب الممتلكات (وأيَّ شكل من أشكال القهر الذي أدى إلى ذلك) ولذلك اعتقد أنَّ كلا من الرأسمالية والدولة تعيقان المنافسة وتبقيان الثروة في أيدي قلة من الناس. ورأى الأناركي الفردي الإسباني ميغيل خيمينيز إيغوالادا “الرأسمالية هي أثر من آثار الحكومة، واختفاء الحكومة يعني أنَّ الرأسمالية سوف تسقط من قاعدتها على نحو منقلب...وهذا الذي نسميه الرأسمالية ليس شيئا آخر غير منتج للدولة، ضمنه فقط الشيء الذي يتم دفعه إلى الأمام هو كسب الربح، سواء بطرق جيدة أو سيئة. وهكذا فإنَّ محاربة الرأسمالية هي مهمة لا طائل لها، سواء كان رأسمالية الدولة أو رأسمالية الشركات، ما دامت الحكومة قائمة، فاستغلال رأس المال سيكون موجودا. ولذلك فالمعركة الواعية هيَ ضد الدولة أولا فيسقط رأس المال”.
ضمن الفكر الأناركي ظهر هناك نقد لعبودية العمل المأجور  الذي يشير إلى حالة ينظر إليها على أنها العبودية شبه الطوعية، حيث تعتمد معيشة الفرد على الأجور، وخصوصا عندما يكون الاعتماد عليها كامل وفوري. وهو يبينها سلبا كمصطلح يستخدم لتوضيح التشابه بين العبودية والعمل المأجور من خلال التركيز على أوجه التشابه بين امتلاك واستئجار شخص.
 تم استخدام مفهوم عبودية العمل المأجور لانتقاد الاستغلال الاقتصادي وظهور الطبقات الاجتماعية، مع النظر للقدرة المزعومة على المساومة في المقام الأول باعتبارها غير متكافئة بين العمل ورأس المال (وخاصة عندما يتم دفع أجور العمال منخفضة نسبيا، على سبيل المثال في المصانع كثيفة الاستغلال للعمال)، وهذه الأخيرة تظهر في عدم وجود الإدارة الذاتية للعمال، والوفاء بخيارات العمل والترفيه في الاقتصاد.
آمن الأناركيون بأنه إذا كانت الحرية ذات  قيمة، فإنَّ المجتمع يجب أنْ يعمل من أجل التوصل إلى نظام يكون فيه الأفراد لديهم القدرة على اتخاذ القرار في القضايا الاقتصادية جنبا إلى جنب مع القضايا السياسية. ولذلك يسعى الأناركيون إلى استبدال سلطة غير مبررة بالديمقراطية المباشرة، والاتحاد الطوعي، والاستقلالية الشعبية في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك المجتمعات الطبيعية والمؤسسات الاقتصادية.
مع ظهور الثورة الصناعية، فالمفكرون مثل برودون وماركس صاغوا المقارنة بين العمل المأجور والعبودية في سياق نقد الملكية للنشاط غير المعد للاستخدام الشخصي، وأكد  محطموا الآلات على التجريد من الإنسانية الذي يتم بواسطة الآلات ونظام خط الإنتاج المصنعي، بينما نددت في وقت لاحق إيما غولدمان الشهيرة بعبودية العمل المأجور بالقول: “إنَّ الفرق الوحيد هو أنك استأجرت العبيد بدلا من كونك اشتريت العبيد”.
اعتقدت الأناركية إيما غولدمان أنَّ النظام الاقتصادي الرأسمالي يتنافى مع حرية الانسان. وكتبت في “الأناركية ومقالات أخرى”:“إنَّ الطلب الوحيد للممتلكات يقر بأنها هي الشهية الشرهة الخاصة لمزيد من الثروة، لأن الثروة تعني القوة، والقوة مطلوبة لإخضاع، ولسحق، ولاستغلال البشر، والقدرة على استعبادهم، وللحط من شأنهم”. وقالت أيضا إنَّ الرأسمالية تفقد العمال إنسانيتهم، “حيث يتحول المنتج العامل إلى مجرد جسيمات من الجهاز المدر للربح، مع أقل تمتعه بأقل إرادة ممكنة، وحيث يصاغ القرار من سيده من الصلب والحديد  الذي لا يعرف المشاعر”.
 ويدعي نعوم تشومسكي أنَّ هناك فرقا معنويا كبيرا بين العبودية وتأجير الذات إلى المالك أو “عبودية العمل المأجور”. وقال إنَّه يشعر أنَّه اعتداءٌ على سلامة الشخصية التي تقوض الحرية الفردية. وأن العمال يجب أنْ يمتلكوا ويسيطروا على أماكن عملهم.
رأى بنيامين تاكر أنَّ الاحتكارات “الأربعة الكبار” (الأرض، والمال، والرسوم الجمركية، وبراءات الاختراع) ظهرت في ظل الرأسمالية، ويقول الخبير الاقتصادي المتنافع الجديد كيفن كارسون أنَّ الدولة تنقل أيضا الثروة للأثرياء من خلال دعم المركزية التنظيمية، في شكل إعانات النقل والاتصالات. وهو يعتقد أنَّ تاكر تغاضي عن هذه المسألة بسبب تركيز تاكر على معاملات السوق الفردية، في حين يركز كارسون أيضا على القضايا التنظيمية. ويتم عرض المقاطع النظرية للدراسات في الاقتصاد السياسي المتنافع على أنها محاولة لدمج انتقادات النظرية الحدية للقيمة في نظرية العمل القيمة. ويرى كارسون أنَّ“الرأسمالية، ناجمة عن مجتمع طبقي جديد تولد مباشرة من المجتمع الطبقي القديم من العصور الوسطى، وتأسست على فعل السرقة الضخمة مثل الفتح الاقطاعي السابق للأرض. وما زال مستمرا وحتى الوقت الحاضر من تدخل الدولة المستمر لحماية نظامها للامتيازات الرأسمالية التي دون بقائها لا يمكن تصوره “.
صاغ كارسون المصطلح التحقيري“التحررية المبتذلة”، وهي العبارة التي تصف استخدام خطاب السوق الحرة في الدفاع عن رأسمالية الشركات و تبرر عدم المساواة الاقتصادية. فوفقا لكارسون، يشتق المصطلح من عبارة “الاقتصاد السياسي المبتذل”، الذي وصفه كارل ماركس بأنه النظام الاقتصادي الذي“يصبح عمدا اعتذاريا على نحو متزايد، ويصنع محاولات مضنية لاجراء محادثات من الواقع، بالأفكار التي تحتوي على التناقضات القائمة في مجالات الحياة الاقتصادية”.
يتفق الاشتراكيون التحرريون على الطبيعة الاستغلالية لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، والتي جوهرها  هو استخدام العمل المأجور لإنتاج سلع قيمتها أعلى مما يحصل عليه العمال من أجور، فالعمل البشري هو منتج كل الثروات والسلع والقيم والتي تنقسم إلى أجور يحصل عليها العمال، وفائض منهوب منهم يتوزع على باقي شرائح وطبقات المجتمع البرجوازية، سواء في شكل مباشر للرأسمالي الصناعي والزراعي في صورة أرباح أو شكل غير مباشر  للرأسمالي التجاري والمالي، ثم عن طريقهم لباقي شرائح وطبقات المجتمع الأخرى، في صور أرباح وفوائد وريوع وأجور وامتيازات نقدية وعينية.
نظرا لأن ماركس استغرق معظم عمره ليثبت تلك الحقيقة، فقد غاب عن عبقريته أنَّ غياب الملكية الخاصة البرجوازية ليس كافيا لاختفاء الاستغلال الرأسمالي، فالجهاز البيروقراطي للدولة الذي يدير الملكية العامة، قادر على استغلال قوة العمل، وأن ينتزع منها فائض الثروة التي تنتجها، لصالح الأفراد القائمين على إدارة أجهزة الدولة ومباشرة أعمالها، والذين يوجهون الإنتاج والتوزيع والتبادل بما يحقق مصالحهم كأفراد وكطبقة صاحبة امتيازات.
لا يتوقف الأناركيون إذن عند الطبيعة الاستغلالية للرأسمالية، إذ أنهم يعادونها أيضا لأنها علاقة إنتاج سلطوية مثلها مثل العبودية والقنانة، سواء بسواء.
فصاحب العمل سواء أكان الدولة أو الرأسمالي لا يشتري حرية وجهد ووقت العامل خلال ساعات العمل فقط؛ إنَّه يشتريهم في ذهاب العامل لموقع العمل والعودة منه، وما يستغرقه في النوم والراحة ليستعيد نشاطه، وما يقضيه من وقت في الطعام والعلاج ليقوى على الاستمرار في بيع حريته وجهده ووقته لصاحب العمل، وما ينفقه من مال ووقت وجهد من أجل انجاب وتربية عبيد آخرين، ليكرروا نفس المأساة.
العامل الأجير في النهاية لا يختلف كثيرا عن أيِّ عبد، ولا يجب أنْ يتوهم أنَّه حرٌ في اختيار ما يستهلكه من سلع، فهيَ محدودة بما يحصل عليه من أجر، وبما يفرضه الرأسمالي لها من سعر، ليس ذلك فحسب فصاحب العمل يفرض ما هيَ السلع التي تنتج وتطرح في السوق، وما هيَ السلع التي يتوقف عن إنتاجها، وما هيَ السلع التي يطورها، وهو من يحدد كمية ما ينتجه منها، فيحدث كساد لو زادت عن احتياجات المستهلكين، فتنخفض أسعارها، ويطرد العمال للبطالة، أو ندرة لو قلت عن هذه الاحتياجات، فترتفع أسعارها فلا يستطيع المستهلكون شراءها، وهو في سبيل استمرار الإنتاج واستمراره في انتزاع الربح، يخلق احتياجات غير طبيعية للمستهلكين، ويغير من أذواق الناس، لتستمر عجلة الإنتاج الرأسمالي في الدوران.
الرأسماليون كأفراد ومؤسسات وطبقة يستبدون بأحوال البشر ويتحكمون في الموارد البشرية والطبيعية بحكم امتلاكهم وسيطرتهم على الثروة دون باقي البشر المحرومين منها، بعيدا عن الرقابة الشعبية والرأي العام، فيستثمرون في منطقة، ليحدث فيها تشغيل للسكان، ويسحبون استثماراتهم من منطقة فيحدثون بطالة بين السكان، قادرين على أنْ يزرعوا ما يملكونه من الأراضي، يستصلحوا أراضٍ أو يبوروها، ويضاربوا عليها فترتفع أسعارها وتنخفض، أنْ يستثمروا أموالهم في الصناعة، أو يضاربوا بها في البورصة، ويؤثرون على البيئة تلويثا واهلاك لمواردها، وهم في كل هذه القرارات يؤثرون على حياة الناس، الذين لا حول لهم ولا قوة أمام هذه القرارات المستبدة بهم، ولا شك أنَّ من في إمكانهم أنْ يقرروا تلك القرارت هم مجرد رجال أعمال لا علاقة لهم بالسياسة المباشرة، أو أجهزة الدولة القومية أو المنظمات العالمية، ولم يختارهم أحد بحرية ليتخذوا قرارت تؤثر على حياتهم كالساسة المنتخبين، ولا يمكن أنْ يحاسبهم أحد على قرارتهم مثل الساسة المنتخبين، فهم في كل الأحوال بعيدون عن تأثير إرادة المستهلكين والمنتجين.
في مثل هذا النظام لا يمكن الحديث عن الديمقراطية أو الحرية طالما أنَّ غالبية سكان الأرض تتخذ بشأنهم قرارات تؤثر في حياتهم دون أنْ يحق لهم الاعتراض أو التأثير في متخذي القرار ومنفذيه. وحيث تستطيع الشركات المتعدية الجنسية نقل استثماراتها والرأسماليون الماليون في نقل الأموال عبر العالم بلا قيود، مما يؤثر على الاقتصاديات في الدول القومية المختلفة انكماشا وتوسعا، وبطالة وتوظفا، بعيدا عن إرادة المواطنين. مما يرغم الحكومات على التسابق على إرضائها بالإعفاءات الضريبية والجمركية، وتخفيض الإنفاق الاجتماعي، بعكس رغبة الناخبين. والحقيقة أنَّ أيَّ معارضة في العالم لن تفعل خيرا مما تفعله أيُّ حكومة قومية في العالم الآن مهما تحسنت نواياها تجاه شعوبها وأيما كانت برامجها، فستفاجأ حين تصل إلى دست الحكم أنها مقيدة بأوامر ديكتاتورية أسواق المال العالمية والتي يجسدها الرأسماليون العالميون التي تنتقل أموالهم وسلعهم عبر العالم بلا قيود، ومن ثم فالتأميم وفرض الضرائب على الأرباح ورأس المال، والإنفاق الاجتماعي وضمان حقوق الإنسان الاجتماعية والثقافية بما فيها حقوق الإضراب، وتكوين النقابات هيَ أمور غير مسموح بها في ظل هذه السلطة الأممية التي تجاوزت منذ زمن الحدود الدولية والولاءات العاطفية، وهيَ تمارس ديكتاتوريتها الشمولية عبر وسائل غير دموية، فقهرها ينبع من احتياج دول العالم لما في يدها، ومن ثم يجب استرضاؤها حتى تأتي، ومن هنا لا إمكانية لمقاومتها إلَّا عبر العالم.
 وأخيرا الرأسماليون يملكون الثروة، وهم وحدهم القادرون واقعيا على الفوز في الترشيح للمجالس التمثيلية والسياسية الذي يكتفي المحرومون منها واقعيا بمجرد حقهم القانوني والشكلي في الترشيح، فليس لهم سوى اختيار أيٍّ من هؤلاء المرشحين سيمثلهم لعدة سنوات، معتمدين في اختيارهم على مدى تأثرهم بالدعاية الانتخابية التي يحتكر وسائلها الرأسماليون الذين يمثلهم هؤلاء المرشحين، الذين يجب أنْ يعبروا عن مصالح الرأسمالين.
الأناركية والهويات العرقية والقومية والدينية:
الدوافع وراء الحركات السياسية التي تستند على أفكار تستند بدورها على خصوصيات وهويات جماعية أيَّا كان نوعها،  عرقية أو قومية أو دينية سلطوية بامتياز، ومن ثم متعارضة مع الأناركية، ولا مجال للجمع بينهما.
حيث أنَّ الدافع الأساسي لها دائما هو تأسيس السلطة السياسية وتبريرها. ومن ثم تكتسب الخصوصية الجماعية على تهاويها ـ من زاوية الحقيقة الموضوعيةـ ضرورتها الاجتماعية لكل من تشملهم بسلطتها، وذلك على أنَّ ما يجمعهم من سمات مشتركة، وما هو إلَّا تجسيد لجوهرهم المشترك وأحلامهم، وأمانيهم المشتركة النابعة من خصوصيتهم الجماعية، ذات الجوهر النهائي والمطلق والثابت، والرسالة التاريخية الخالدة الملقاة على عاتقهم، فلو اعترفت الدولة وسلمت بحقيقة التغير والنسبية لأيِّ خصوصية جماعية، فإنها تعرض شرعيتها وسلطتها وسيادتها المطلقة لخطر الزوال.
ومن هنا فإنَّ الدولة الحديثة غالبا ما تسعى لنفي وطمس الخصوصيات الجماعية للجماعات الفرعية التي تكونها، فلا تعترف باللهجات المحلية، وتسيد لغة رسمية للتعليم والمراسلات الرسمية، كما ترفض الاعتراف بما يمكن أنْ يكون مشتركا بين من تشملهم بسلطتها وبين الجماعات الأخرى، في حين تحرص كل الحرص على التأكيد على التمايزات في الوقت الذي تنفي فيه عدم التجانس في المجتمع الذي تحكمه.
إلَّا أنَّ الأفكار التي تستند لفكرة الخصوصية الجماعية، ومن ثم الحركات السياسية التي تتبنى تلك الأفكار تتميز بمجموعة من الخصائص.
أولى هذه الخصائص هيَ قيامها على مفاهيم وأساطير مضللة كأسطورة الجنس الآري الأرقى كما في الحركة النازية، أو أسطورة شعب الله المختار كما في الحركة الصهيونية، أو القومية العربية ذات الرسالة الخالدة. فكل شعب يتكون من غالبية تتوسط الأذكياء والأغبياء، الأخيار والأشرار، النشطاء والكسالى، فالشعب الألماني الذي أنجب هتلر هو نفسه من أنجب كانط. ما بين قمة التفاهة والابتذال عند الأول إلى قمة العقل والمنطق عند الآخر، وفي الوسط ملايين الألمان العاديين الذين تجد أمثالهم في كل مكان وزمان من البشر حسني النية القابلين للخداع من أمثال هتلر، وللتطور مستنيرين بأفكار كانط.
ثانية هذه الخصائص هيَ استبداديتها، فأىُّ جماعة سياسية تتحدث باسم خصوصية جماعية بشرية نراها تقمع المجتمع باسم ذات المجتمع ولصالح النخبة الحاكمة، فكل غير المنتمين أو المخالفين لتفسير الجماعة السياسية لتلك الخصوصية الجماعية التي تتحدث باسمها، وتستند إليها تلك الجماعة، معرضون للاستبداد والإرهاب والقمع وانتقاص الحقوق، وهذا ما نراه في كل الحركات السياسية الدينية إسلامية أم مسيحية أم يهودية أم هندوسية. فالطالبان منعت المرأة من التعليم والعمل، في نفس الوقت الذي نرى فيه الجماعات المسيحية في أوروبا وأمريكا تهاجم حقي الطلاق والإجهاض، في نفس الوقت الذي يرجم فيه اليهود المتطرفون السيارات التي تمر بالقدس يوم السبت، ولا تستثنى الحركات القومية العلمانية، فقد أعدم صدام حسين وتسبب في موت مئات الألوف من الشعب العراقي وتدمير مستقبله القريب على الأقل، على اعتبار أنَّه الممثل الوحيد للقومية العربية إن لم يكن هو تجسيدها هيَ نفسها. فكما نكل شاه إيران ممثل القومية الفارسية بالشعب الإيراني، نكل آيات الله بنفس الشعب، وتحت اسم خصوصية أخرى هيَ الإسلامية، فالنخب الحاكمة سواء باسم عرش الطاووس أم باسم الله خدعته وقمعته في صراع لا ناقة له فيه ولا جمل. وهذا هو سر المسألة، فالتيارات القائمة على أساس الخصوصية الجماعية، الجماعة، الطائفة، المذهب، الوطن، الأمة، الشعب....ترتكز على كيان كلي متعال على الأفراد، ماحيا خصوصيتهم الحقيقية لصالح خصوصيته المفترضة، ومن ثم فلا مكان في هذا المفهوم للاعتراف بالفرد ولا حقوقه الإنسانية، فالفرد يكتسب وضعه القانوني ليس بناء على سماته كإنسان، وإنما يكتسب وضعه وفق مبدأ الهوية الجماعية القائمة على سمات مصطنعة ومتعسفة لا دخل للفرد فيها ولا اختيار، مما يجعل كل الأفراد الخاضعين له منصهرين في كل واحد يتجسد في زعيم مستبد تتوحد في ذاته الحقيقية الذات الجماعية المزعومة بكل ما انصهر فيها، وتلاشى من ذوات فردية أخرى أصبحت تدور في فلكه، ورهن إرادته، وهو في كل هذا غير خاضع للمحاسبة والمساءلة والمعارضة من قبل هؤلاء الذين تمت مصادرتهم لصالحه. فمعارضته خيانة للذات الجماعية، وفتور الحماس له ضعف في الإيمان بالرسالة التي يجسدها، والتي باسمها يرتكب كل الجرائم فيجد من يبررها له بل ويزينها باعتبارها من جلائل الأعمال، وعلامات العبقرية والألمعية إن لم تكن نفحة من عالم الغيب.
وثالثة هذه الخصائص هيَ الرجعية والجمود ولو ادعت التقدمية، فلأنها تتحدث دائما عن جوهر خالد ونهائي وثابت، وتستند لوهم واقع لا يتغير يجد جذوره في الماضي الأسطوري السحيق، ومن ثم فهيَ ترفض أيَّ خروج عما تعتبره من الخصائص الجوهرية الخالدة، والسمات التي تستند للماضي من عادات وتقاليد وتراث، وهيَ وإن كانت تتحدث كثيرا عن التاريخ فهيَ لا تفهم طبيعة التاريخ الذي هو بحكم التعريف ما يتوالى على الواقع من تغيرات، والتي لولاها لما كان هناك تاريخ. فالصينيون كانوا يضعون أقدام النساء في أحذية من الحديد منذ نعومة أظافرهم لكيلا تنمو، حيث كانت الأقدام الصغيرة من مقاييس جمالهن، ومن ثم يصبح التمرد على هذه العادة تمردا على الخصوصية الصينية يستلزم القمع والإرهاب، لكيْ تظل النساء الصينيات غير قادرات على المشي السليم، وذلك حتى تحافظ الأمة الصينية على خصوصيتها وتراثها. ويعتبر ختان الإناث جزء من خصوصية الشعب المصري يجب المحافظة عليه حتى مع ثبوت آثاره المدمرة على الرجل والمرأة. وفي الحقيقة إنَّ أيَّ تقدم في أيِّ مجتمع لا يأتي إلَّا من القدرة على التمرد على الموروث، ونقده والشك فيه، وليس بأيِّ حال من الأحوال تقديسه أو تخليده. سواء أكان هذا التمرد قد نبع من ذات المجتمع أم نقل إليه من مجتمع آخر. فهكذا تطور التاريخ البشري على كافة المستويات. وإلا كنا نحن العرب مازلنا نسكن الخيام ونمتطي الدواب ونستدفئ بنار الحطب.
معظم الأناركيين المعاصرين والتاريخيين يصفون أنفسهم كمناهضين للعنصرية. وكثير من الأناركيين ومن وقت مبكر، لا سيما لوسي بارسونز – وهيَ شخص ملون وعبدة أمريكية سابقا– تنظر للعنصرية على أنها واحدة من العديد من الآثار الجانبية السلبية للرأسمالية، ومن المتوقع أنها سوف تتلاشى في عالم ما بعد الرأسمالية. وبين الأناركيين الحديثين، فإنَّ مكافحة العنصرية تلعب دورا أكثر بروزا، والعنصرية ينظر إليها عادة باعتبارها واحدة من عدة أشكال من التسلسل الهرمي الاجتماعي والطبقي الذي يجب تدميره. وقد ضمَّنت  منظمات أناركية مناهضة العنصرية كجزء من برنامجها، والعديد من التشكيلات الحديثة تشمل مناهضة صريحة للعنصرية. على سبيل المثال الأناركيون الأمريكيون كانوا وحدهم في معارضة الممارسات العنصرية ضد العمال الصينيين والمكسيكيين في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20.
شارك الأناركيون في سبعينات القرن 20 في الكفاح ضد صعود الجماعات الفاشية الجديدة. في ألمانيا والمملكة المتحدة وعمل بعض الأناركيين داخل جماعات مناهضة للفاشية إلى جانب أعضاء من اليسار الماركسي. ودعوا لمكافحة مباشرة للفاشيين مع استخدام القوة البدنية بدلا من الاعتماد على الدولة. ومنذ أواخر تسعينات القرن 20، ظهر اتجاه مماثل من الأناركية في الولايات المتحدة. للعمل لمكافحة الفاشية (المملكة المتحدة / أوروبا)، والعمل لمكافحة العنصرية هيَ واحدة من أكبر المنظمات القاعدية المناهضة للفاشية والمناهضة للعنصرية في أمريكا الشمالية اليوم، وينظم العديد من الأناركيين بين أعضاءها. وتتمحور تكتيكاتهم، حول مواجهة مباشرة مع مجموعات الفاشيين الجدد وأنصار التفوق الأبيض، وتعتبر مثيرة للجدل سواء داخل الحركة الأناركية (حيث يتم تصويرها في بعض الأحيان باعتبارها حسنة النية ولكنها غير فعالة) وفي المجتمع السائد (حيث غالبا ما يتم تصويرها على أنها عنيفة ومدمرة).
كما يعارض العديد من الأناركيين مفهوم العرق نفسه، بحجة أنَّه لا يوجد لديه أساس بيولوجي في العلوم، وهو بناء اجتماعي يهدف إلى تقسيم الطبقة العاملة، والحفاظ على الرأسمالية.
ومن ناحية أخرى فهناك أقلية من الأناركيين البارزين تاريخيا تم اتهامهم بالعنصرية: مثل برودون  وباكونين.

وهناك مجال كبير للخلاف بين الأناركيين حول العنصرية التي كانت موجودة داخل الحركة الأناركية منذ أيام برودون وباكونين الذين كانا على حد سواء مركزيين أوروربيين، ومعادين للسامية. ويرفض بعض الأناركيين هذا الخلاف باعتباره غير مهم تماما، ويدللون على سبيل المثال بأنَّ العنصرية كانت مقبولة عموما في ذلك الوقت. ويفضل الأناركيون الآخرون ببساطة تجاهل هذه القضية على أساس أنَّ الأناركية، على عكس الأيديولوجيات مثل الماركسية، لم يتم تعريفها من قبل المنظرين الأفراد، ولكن من خلال المفاهيم التي وضعت جماعيا، مما يجعل أيَّ أخطاء شخصية ينظر إليها من المنظرين الأفراد لا علاقة لها بالأناركية عموما. 

1 تعليقات:

في 4 مارس 2022 في 12:14 م , Blogger zensacre يقول...

Harrah's Cherokee Casino Resort - KOMO
KOMO 청주 출장샵 Hotels & Resorts · 1 Casino Drive Cherokee, 강원도 출장안마 NC, 28719 · Harrah's Cherokee Casino 충청남도 출장샵 Resort · 2 울산광역 출장샵 Casino Drive Durant, OK 태백 출장샵 98701 · Hotel & Casino

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية