الأساس الأخلاقى للمجتمع
الأساس الأخلاقى للمجتمع
سامح سعيد عبود
تزاحمت فى رأسى الأفكار حينما شرعت فى الكتابة فى هذا الموضوع ، وانتابتنى الحيرة من أين أبدأ ، وكيف أعبر عما يجيش بنفسى وعقلى ، ولعل هذه الحيرة ناجمة عن تعدد الدوافع وراء تفكيرى فى الكتابة عن الأخلاق ، وهى مفهوم بحد ذاته ملتبس ، وفى حاجة للتعريف الدقيق قبل أن يصح لنا تناوله بالبحث ، ولا أخفى عليك عزيزى القارئ أن هناك من الدوافع ما هو شخصى مما خبره الكاتب من تجارب عملية وتأملات وقراءات ، فأنا وعلى ما يزيد عن عشرين عاما تلتصق بى صفة الشيوعية ، وهى صفة مقرونة فى عقول الكثيرين سواء من داخل أو خارج معسكر الشيوعية نفسه بكل ما هو شرير وحقير ومتدن ومنحل وغير جدير بالثقة فى السلوك الاجتماعى ، وخصوصا و أنا أحاول أن التزم قدر الإمكان وعن اقتناع لا يشوبه النفاق الاجتماعى بكل ما هو خير وشريف وراقى فى سلوكى الاجتماعى مما يجعلنى أتوقع دائما أن يولينى الناس ثقتهم .
وعلى عكس تلك السمعة السيئة ليس للشيوعيين فحسب ، بل ولكل الخارجين عن الثقافة السائدة فى مصر ، تلك الثقافة المتسمة بالضحالة الفكرية والجمود والمحافظة ، والتى أفرزت تدينا شكليا يخفى انحطاطا سلوكيا وتدهورا أخلاقيا شديدى العمق ، ومما يثير التأمل حقا أن المأثرة العبقرية لماركس و إنجلز باعتبارهما فيلسوفا الحركات الاشتراكية و الثورات الأكثر أهمية خلال المائة وخمسون عاما الأخيرة ، واللذان أنجزا أهم إنجاز فكرى وعلمى فى العلوم الاجتماعية فى القرن التاسع عشر ، ما كان يمكن لهما أن ينجزا ما أنجزاه دون ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا تلازمهما مع عبقرية أخلاقية ، أفرزت علاقات إنسانية ( زواج و صداقة ) غاية فى الرقى ما كان يمكن بدونهما أن يتم هذا الإنجاز ، فكان يمكن لعشر عبقرية ماركس ومواهبه وجهده ، لا أن تحمى أسرته من شظف العيش و أولاده من الموت جوعا فقط بل و الاستمتاع بكل متع الحياة الحيوانية وغير الحيوانية وذلك بقليل من الانتهازية والنفاق..الخ ، وخصوصا و أن شقيق زوجته النبيلة الألمانية كان يعمل وزير داخلية بروسيا ، و ما الذى جعل تلك المرأة الجميلة و النبيلة والمترفة ، لا تفعل ما كانت تفعله زوجة سقراط به ، بل و أن تتحمل السكن هى وأولادها فى أحقر أحياء لندن منفية بعيدا عن بلادها ، إلا إذا كان هناك ما يستوجب هذا التحمل من وجه نظرها ، وهو واجب الوقوف بجوار شريك حياتها لتساعده فى إنجاز رسالته فى الحياة التى أختارها لنفسه ، وما الذى جعل إنجلز يساعد هذا العبقرى وأسرته فى استكمال مهمته التاريخية ، و يستمر فى مساعدة أسرته بعد وفاته ربما على حساب إنجازه هو نفسه فى الحياة ، وكان باعتباره المسئول عن نشر ما لم ينشر من مؤلفات ماركس أن ينسب بعضها لنفسه إلا أنه لم يفعل ، وخصوصا تلك التى أعدها للنشر ، وكانت مجرد مسودات ومخطوطات لم يكن أحد قد أطلع عليها بعد . برغم أن الثلاثة لم يأملوا فى أى جزاء سواء فى الدنيا أو فى الآخرة عما كانوا يفعلون .
ما الذى جعل جيفارا يتنازل عن قمة السلطة طواعية ، ليجرب النضال المسلح فى بوليفيا معرضا نفسه للموت ، ولم يكن قد تجاوز الأربعين من عمره ، وما الذى دفعه أصلا للاشتراك مع كاسترو فى قيادة الثورة الكوبية ، وهو الطبيب الأرجنتينى سليل الأسرة البورجوازية الغنية والمنتسبة فى أحد أصولها للعائلة المالكة الأسبانية ، والمصاب بالربو منذ طفولته ، ضاربا ولمرتين عرض الحائط بكل مغريات الحياة من رفاهية وسلطة دون أمل فى حياة أخرى ، و إذا كان هذا هو حال الرموز الشهيرة ، فقد عرفت الحركات الشيوعية وعلى مدى المائتى عاما السابقة ، وفى شتى بقاع الأرض بما فيها مصر ، ملايين البشر التى تراوحت تضحياتهم من أجل ما آمنوا به ، من الحرية إلى الحياة نفسها ، فضلا عن الحرمان من متع الحياة حيوانية وغير حيوانية ، ومارسوا كل ما هو خير وراقى وشريف وجدير بالثقة فى سلوكهم الاجتماعى . وأقترب بعضهم من القداسة ، ونالوا احترام الأعداء قبل الرفاق .
فإذا كان الأمر أمر إشباع الاحتياجات الحيوانية اللصيقة بحيوانية الإنسان وحسب ، باعتبارها المكسب الوحيد للفرد فى تلك الحياة وفق التفسير المبتذل للمادية ، فما هو الدافع الذى دفع كل هؤلاء إلى مثل تلك التضحيات الغيرية المنافية للأنانية ، إن لم تكن دوافع من الأخلاق الخيرة والراقية ، ومن الإحساس بآلام الآخرين والرغبة فى مساعدتهم ، ذلك الفعل المساوى لتجاوزهم مصالحهم الأنانية الضيقة التى ربما حققوها بالفعل المعاكس ، بالاستغراق فى الأنانية والاغتراف من الملذات . وبالطبع هذا لا ينفى وجود دوافع أخرى ربما يكون بعضها غير سوى ومريض بل و منحط أيضا غير أن هذا ليس موضوعنا الآن .
وقد عرفت بعض هؤلاء القديسين ، كما عرفت من بين الشيوعيين من هم أقرب إلى الشياطين ، وفى الحقيقة فأن العلاقة بين الشيوعية وبين سلوك أى من القديسين أو الشياطين من بين المنتسبين إليها ، ضعيفة إلى حد كبير ، فهى كونها تراث نظرى ومثالى ومجرد ، شأنها فى ذلك شأن غيرها من الأديان والفلسفات والعلوم والفنون والأفكار ، تتحول فى عقول البشر وممارستهم إلى تنويعات هائلة ومتفاوتة ، واقعية وملموسة ، فالنص الواحد يتحول إلى نصوص مختلفة بعدد من قرءوه طالما تفاوت البشر فى درجات فهمهم وتأويلاتهم و ظروفهم المختلفة . ومن ثم يتأثرون بما يقرءون على نحو مختلف .
وعموما فالبشر كأفراد لا يسلكون وفق ما يؤمنوا به من أفكار ونظريات فقط ، والتى تقوم بدور التبرير والتفسير والسند النظرى فحسب ، بل يسلكون بناء على مجموعة كبيرة من المؤثرات منها المؤثرات البيولوجية كالعوامل الوراثية و النشاط الهرمونى و الكيميائى و العصبى فى الجسم ، ومستوى الصحة البدنية والنفسية بل ومستوى التغذية ..الخ ، والمؤثرات البيئية من أسرة وتعليم وثقافة وطبيعة شخصية وخبرات عملية ..الخ . وهو الأمر الذى يفسر لنا لماذا نجد داخل كل مجموعة بشرية قومية أو دينية أو سياسية أو عرقية أو ثقافية ..الخ كل التنويعات الممكنة من البشر ، الأشرار والأخيار وما بينهما من درجات ، وكيف أن الفرد الإنسانى نفسه ليس نمط ثابت عبر تاريخه فهو عرضة للتغيرات والتذبذب ما بين الأقطاب المختلفة طالما كان عرضة للتأثر بالمؤثرات المختلفة التى تدفعه لهذا السلوك أو ذاك . إلا أن ما دفعنى بقوة للكتابة أيضا فى هذا الموضوع ، أن البعض من أعداء الشيوعية ، وفى إطار هجومهم عليها ، وبعض المنتسبين لها وفى إطار تبرير تحللهم الأخلاقى و إنفلاتهم السلوكى، يفهمون موضوع الأخلاق ويفسرونه كما ورد على لسان أحد أبطال رائعة ديستوفيسكى " الأخوة كرامازوف " " إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء مباح " . والمرء لا يمكنه أن يعترض على ما أورده ديستوفسكى فى حدود فهمة لأهم رواية لروائى هو واحد من أعظم من كتبوا الرواية عبر العالم ، وعبر تاريخ الأدب عموما ، إلا أنه لا يصح تعميم ما قاله الكاتب على لسان ايفان كرامازوف فى الرواية ، واتخاذه أساسا لفهم موضوع معقد كالأخلاق فى علاقتها بموضوع معقد أيضا كالدين . أما الحقيقة الغائبة عن البعض فهى أن ديستوفيسكى كان يصور حالة قطاع من الثوريين و المثقفين الروس المعروفين بالعدميين ، و الذين انتشروا فى روسيا القيصرية من أربعينات إلى ثمانينات القرن التاسع عشر قبل تكون الحركة الشيوعية فى روسيا ، وهم لا علاقة لهم بالموقف الشيوعى من الأخلاق أو من الدين . فالعدمية تيار فكرى و اجتماعى وسياسى يولى الأهمية القصوى للهدم بصرف النظر عن نتائج ما بعد الهدم ، وهو من ثم يركز على وسائل الهدم أكثر مما يركز على وسائل البناء ، والعدمية كفلسفة تتساوى لديها كافة القيم والأوضاع إلا الوضع الراهن والقيم الراهنة المستوجبين للهدم بأى وسيلة . ومن ثم فالحدود لديها ضائعة بين الثورى والمجرم ، وبين الحرية والفوضى ، وبين العلم والخرافة ، وبين القبح والجمال ..الخ ، وهى تنكر المعايير والقيم الإنسانية العليا الأمر الذى يفرقها بوضوح عن موقف الشيوعية . بعد هذه المقدمة الطويلة آن لنا أن نفهم طبيعة الأخلاق .
الأخلاق هى سلوك اجتماعى لا يمكن تصوره دون وجود سابق للمجتمع عليها ، فالفرد المنعزل عن المجتمع لا يمكنه ـ وإن رغب ـ أن يمارس أخلاقيات ما ، ولا أن يجول بخاطره أى معنى أخلاقى دون دخوله فى علاقة اجتماعية ، إلا أنه و بمجرد دخوله تلك العلاقة ، فعليه أن يسلك على نحو يضمن استمرار هذه العلاقة ، ومن ثم فالأخلاق ضرورة اجتماعية ، موجودة فى كل العلاقات الاجتماعية ، حتى فى التشكيلات الإجرامية والخارجة عن القانون ، والتى لا يمكن أن تستمر لو لم يلتزم أفرادها فيما بينهم بنسق أخلاقى وسلوكى معين يضمن استمرارها فى العمل الإجرامى كجماعة منظمة ، وبدون هذا الالتزام لن يمكن لها الاستمرار والنجاح .
والأخلاق يصعب تعريفها بدقة كونها ظاهرة اجتماعية ، وهى شأن كل الظواهر الاجتماعية تتشابك مع غيرها من الظواهر الاجتمــاعية أو الإنسانية الأخرى بل والطبيعية كذلك .
وبادئ ذى بدء يمكن أن نعرف الأخلاق بطريقتين : إما بإسنادها إلى القيمة المسماة بالخير فقط ، أى الأخلاق بالمعنى الإيجابى وحده ، وهو تعريف قاصر وأن كان شائع ، وهو لا يشمل الأخلاق بالمعنى السلبى أيضا التى ترتبط بالقيمة المسماة بالشر ، وهذا لا يعنى بالطبع التسليم بوجود قيمتين مثاليتين مجردتين ومطلقتين باسمى الخير والشر سابقتين على الوجود الاجتماعى نفسه ، إلا أن الغرض من هذا الربط ، هو مجرد الاتفاق على أن المقصود بالأخلاق محل البحث هى الطريقة التى يسلك بها الناس فيما بينهم سواء رأينا أنها شريرة أو خيرة ، سلبية أو إيجابية ، ضارة أو مفيدة ، منحطة أم راقية..الخ .
يمكن أن نقرر أن الأخلاق لها طبيعة مزدوجة ( فهى نسبية فى الواقع الاجتماعى العينى والملموس ، ومطلقة فى الوعى الاجتماعى النظرى والمجرد فى نفس الوقت ) . أما من ناحية كونها نسبية ، فلأسباب منها كونها سلوك اجتماعى مرتبط بالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية ، فالطريقة التى ينتج بها الناس احتياجاتهم المادية تؤثر على الطريقة التى يسلكون بها فيما بينهم . وعلى القيم والمعايير الاجتماعية المختلفة ، التى تجعلهم يستهجنون سلوكا ما ، و يقبلون آخر ، ويشجعون على ثالث ، ومن ثم فكل تشكيلة اجتماعية اقتصادية لها ما يلائمها من أنماط للسلوك الاجتماعى . ففى المجتمعات التى لا تعرف الملكية الخاصة تختفى السرقة أما عن الأمانة فهى لا تعرف معنى لعدم السرقة و احترام الملكية الخاصة ، وإن كانت تتجسد فى أشكال أخرى للسلوك ، كما يتغير سلم القيم السلوكية من نظام اجتماعى لآخر ، ففى المجتمعات الإقطاعية عموما تكون قيمة التماسك الاجتماعى للأفراد المنتمين لجماعة ما الأسرة أو الحى أو القرية أو الطائفة المهنية أعلى من كثير من القيم الأخرى ، أما فى المجتمعات الرأسمالية فتصبح قيمة الحرية الفردية أعلى من قيم التماسك الاجتماعى لأى جماعة عدا الدولة نفسها التى ينتمى إليها الفرد . و فى المجتمعات البدائية كان قتل المسنين والمرضى والعجزة قيمة أخلاقية مستحبة من أجل الحفاظ على قدرة العشيرة البدائية على الاستمرار فى الوجود ، الأمر الذى تستهجنه المجتمعات المتحضرة القادرة على خلق فائض من الإنتاج يكفى لحياة هؤلاء دون أن يهددوا وجود المجتمع . بل أصبح تبجيل المسنين ، والعطف على الضعفاء والمرضى والعجزة ومساعدتهم قيمة إنسانية عليا .
كما تختلف الأنماط الأخلاقية ويختلف سلم المعايير القيمية داخل نفس التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية متعددة الطبقات من طبقة اجتماعية لطبقة أخرى ، فقيم من يملكون غير قيم من لا يملكون ، وإذا كان على العبيد و الأقنان الطاعة والخنوع للسادة مما يورثهم الجبن والنفاق والسلبية ، فأن مما يشين السادة عموما تلك الطاعة وذاك الخنوع ، وما يستتبعهم من نتائج .
وتتغير القيم والمعايير الاجتماعية فى أى مجتمع فى حالات عدم الاستقرار كالحروب والثورات والكوارث الطبيعية والتعرض للغزو الخارجى ، فيزداد معدل التماسك الاجتماعى وتزداد معدلات الممارسات الغيرية ، أما فى أحوال الاستقرار فيتقلص معدل التماسك الاجتماعى ، وتزداد معدلات السلوكيات الأنانية ، كما يؤثر النظام السياسى فى سلوكيات الأفراد ، ففى النظم الديمقراطية يتصف الأفراد عموما بالإيجابية والصراحة على عكس سلبية الناس ونفاقهم فى ظلال النظم الديكتاتورية .
والفرد الإنساني لا يسلك فى الحياة فقط وفق انتماؤه الاجتماعى و الطبقى فقط ، و إنما وفق مجموعة أخرى إضافية من المؤثرات الطبيعية و الفسيولوجية و الاجتماعية و الثقافية ، وعموما فالبشر تتحكم فيهم فى النهاية غرائزهم وعواطفهم النابعة من فرديتهم جنبا إلى جنب مع القيم و المثل العليا النابعة من اجتماعيتهم ، و قد يتغلب أحيانا جانب على الجانب الآخر ، إلا أنهما يتلازمان طوال الوقت ، فلم ولن يوجد البشر الذين ستظل تحكمهم مثلهم العليا إلى النهاية ، أو تحكمهم فحسب غرائزهم ، وعواطفهم كل لحظة .
كما تتجلى نسبية الأخلاق أيضا ، فى ارتباطها بأطراف العلاقة الاجتماعية التى جرى بينها السلوك الأخلاقى ، فما يكون شرا وسلبا وانحطاطا وضارا لطرف قد يكون خيرا و إيجابا و رقيا و مفيدا للطرف الآخر ، كما أن السلوك نفسه يختلف وضعه فى سلم القيم وفق الزمان والمكان والسياق الذى تم فيهما .
و لكل الأسباب السابقة تتميز الأخلاق على المستويين النظرى والعملى بالنسبية ، إلا أن هذا لا ينفى عنها الطابع المطلق أيضا ، فطوال التاريخ البشرى و بسبب الوظيفة الاجتماعية العامة للأخلاق فى الحفاظ على البنية الاجتماعية ، أخذت تنمو و تتطور ما يمكن أن نسميها بالأنا العليا للبشرية المكونة من المثل و القيم العليا المتفق عليها تحت أى ظروف ، تلك التى نطلق عليها الضمير الإنسانى الذى يدفعنا للأمانة وينفرنا من الخيانة ، الذى نتألم بسببه مما يحيق بالغير من عذاب وقتل واغتصاب حتى ولو كان ذلك مجرد مشهد تمثيلى أو مجرد خبر فى الصحف ، والذى يحاسبنا على الكذب والإضرار بالآخرين أو أى خطأ اقترفناه ، ما يجعلنا نخجل من أنفسنا أو نفخر ، ما يسعدنا بالراحة ، ويشقينا بالعذاب . من إذا نام فى عقولنا أتاح لنا فرصة ارتكاب الآثام ، وإذا استيقظ حاسبنا على كل ما اقترفناه .
ذاك الضمير برغم نموه وتطوره المتزايد لدى البشر عبر التاريخ ، يتميز بالتثبيت المستمر لمجموعة من القيم والمثل العليا يتزايد ما يتفرع عنها من قيم ومثل ويرتقى ، فسيظل البشر يستنكفون الكذب وخيانة الأمانة والطمع والجبن والنفاق ، وإن مارسوا أى منهم فعلا ، و سيظلوا يحبذون الصدق و الأمانة و القناعة و الشجاعة و الصراحة ، و إن عجزوا عن ممارسة أى منهم واقعا ، مهما تغيرت التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية .
فعبر التاريخ البشرى كان هناك انفصال نسبى ما بين المتفق عليه و المعلن عنه نظريا ، والذى يمثل هذا الضمير الاجتماعى السالف ذكره فى لحظات تطوره المختلفة ، وبين ما يمارسه البشر فى حياتهم الواقعية ، والذين يتفاوتون فى درجة الالتزام به ، و تلوينه بشتى التفسيرات والتبريرات مما أكسب السلوك الإنسانى عموما درجات أعلى من التعقد ، فيندر وجود الكاذب الذى يفخر بكذبه ، وإنما يتكاثر من يبرروه لأنفسهم و للآخرين فحسب .
يبقى أن نعرف أن الأنساق الأخلاقية تتفاوت فيما بينها ما بين ما تعتبره ثانوى وجوهرى ، وبين ما هو مجرد عادة أو تقليد ، وما هو أكثر عمومية من ذلك ، وخلال عمليات التغير الاجتماعى يهجر البشر سلوكيات ليتبنوا سلوكيات أخرى ، ويرضوا بسلوكيات كانوا قبل ذلك يستنكروها أو العكس . وخلال ذلك أيضا يتحول ما كان ثانويا إلى ما هو أساسى ، والعكس أيضا فقد يتحول الأساسى إلى ثانوى .
والآن ما هى العلاقة ما بين الأخلاق وكل من الدين والقانون ؟
تتداخل و تتفاعل الأخلاق كشكل من أشكال الوعى الاجتماعى بأشكال أخرى من الوعى الاجتماعى ، مما يزيد من تعقدها و نسبيتها وغموضها . إلا أن العلاقة بين الأخلاق وكل من الدين والقانون باعتبارهم يشكلون آليات الضبط والجبر الاجتماعيين ، تجدر الإشارة إليهما فى هذا المقال .
فكل الأديان سواء السماوية التى تتضمن الإيمان بالله إلها واحد أحد ، والتى يعتنقها أقل من نصف سكان الأرض بقليل ، أو الأديان غير السماوية المستندة أساسا لفلسفات وثقافات مختلفة ولا تعرف الله كجزء من عقيدتها ، والتى يعتنقها الجزء الآخر ، كلها تتضمن أنساق أخلاقية محددة ، و تدعو أتباعها لإتباع سلوكيات معينة واعدة إياهم فى هذه الحالة بالجزاء الحسن ، محذرة هؤلاء إذا أتبعوا سلوكيات أخرى بسوء العاقبة . و سواء أكان هذا الجزاء حسنا أم سيئا ، فى الحياة الدنيا أم بعد الموت ، فهو أمر تشترك فيه كل الأديان . إلا إن هذه الأنساق المختلفة فيما بينها فى التفاصيل ، قد لا تتفق فى الكثير من عناصرها مع درجة التطور التى وصل إليها ما أطلقنا عليه الضمير الإنسانى العام ، فالوصايا العشر الموجهة لليهود ، يلتزم اليهود بها فيما بينهم فقط ، أما مع غير اليهود فالأمر مختلف ، فلا يصح ليهودى أن يسرق يهودى فى حين يصح وفق الشريعة اليهودية أن يسرق من غير اليهودى ، وقس على ذلك كل الوصايا الأخرى . ولا تحرم بعض الأديان إن لم تحض فعلا على غزو أراضى الآخرين من التابعين للأديان الأخرى ، و استرقاقهم و استحلال أموالهم و فرض سيادتهم عليهم ، كما تقنن أديان أخرى الكثير من العلاقات الإنسانية وفق قيم السوق باعتبار البشر مجرد سلع و وسائل للاستعمال ، مما يتنافى و التطور البشرى الحالى أو المرغوب فيه فى مستوى القيم ، و هناك من الأديان ما يحرم إيذاء أى كائن حى فى حين لا تحرم أديان أخرى العنف مع البشر إن لم تعتبره قربة لما يعبده أتباعها من آلهة . إلا أن هذا لا يعنى أن الأنساق الأخلاقية المرتبطة بالأديان لا تتوافق فى كثير من الأحيان مع درجة هذا التطور .. وقد شكل الدين دائما أحد الآليات الاجتماعية للردع و الجبر الاجتماعيين ، وللحفاظ على التزام البشر بنسق قيمى و أخلاقى معين يحفظ للمجتمع وجوده واستقراره ، كما ساعدت الأديان فى كثير من المراحل التاريخية على استبدال الأنساق الاجتماعية السائدة بأنساق أخرى أكثر تقدما وتطورا ، إلا أن هذا لا ينفى أن الأديان أيضا قد تشكل عائق ثقافى أمام التطور الاجتماعى بما تتضمنه من أنساق قيمية متخلفة . خلاصة القول أن كل من الدين والأخلاق متداخلان فى علاقات متشابكة ، إلا أن هذا لا يعنى تطابقهما وتلازمهما . وخصوصا أن الأنساق السلوكية فى الأديان تتضمن أوامر ب ونواهى عن سلوكيات هى أقرب للعادات والتقاليد الجماعية والفردية لا ترتبط بالأخلاق كضرورة اجتماعية و نسق من القيم .
وكما يشتبك الدين و الأخلاق يشتبك القانون ، فالقانون هو آلية من آليات المجتمع للحفاظ على استقراره ، وهو يتضمن أيضا نسق أخلاقى محدد ، يبيح أنواع من السلوك الاجتماعى ويجرم أخرى ، وينظم ثالثة ، إلا أن القانون يستند إلى السلطة الاجتماعية القادرة على وضع قواعده وإلزام المواطنين بها ، وفق آليات العقاب التى تقوم بها السلطة ، وليس بناء على سلطة الضمير كما فى الأخلاق ، أو الثواب والعقاب الأخروي كما فى الدين ، وتتفاوت القوانين فيما تجرمه أو تنظمه من السلوكيات الاجتماعية ، من حيث مدى اقترابها أو بعدها مما أطلقنا عليه الضمير الإنسانى العام ، فقد تنظم بعض القوانين البغاء وقد تجرمه أخرى ، وقد تعترف بعض القوانين بالرق أو تجرمه بعضها ، وقد تأخذ نظم قانونية بتعذيب المتهمين وانتزاع الاعترافات قصرا منهم ، وقد تجرم قوانين أخرى هذا التعذيب ، ولا تعترف بنتائجه وهكذا . ومن ثم فالعلاقة بين القانون والأخلاق علاقة تشابك وتداخل ، وليست علاقة تطابق ولزوم .
ويشكل كل من الأخلاق والدين والقانون ، آليات الضبط والجبر الاجتماعيين ، من أجل الحفاظ على البنية الاجتماعية واستقرارها ، إلا أن تأثيرهم على سلوك الأفراد فى المجتمع ، ثانوى ومساعد ونسبى . فالضمير أو الأنا العليا ليست متساوية القوة والتأثير عند كل الأفراد ، لأسباب بيولوجية وثقافية ونفسية خاصة بكل فرد على حدة ، فتتفاوت ضمائر البشر ما بين النوم والإفاقة ، ومن ثم تتفاوت سلوكياتهم الاجتماعية . وبرغم الأديان المختلفة التى عرفتها البشرية فأن اعتقاد البشر فى العقاب والثواب الأخروي أو الدنيوي لم يردع البشر عن ارتكاب الآثام والذنوب والخطايا المختلفة ، والقوانين برغم عقوباتها القاسية أحيانا لم تمنع الناس من ارتكاب الجرائم رغم علمهم بما قد يلحق بهم من عقوبات تمس حريتهم وحياتهم .
أما العنصر الأساسى والحاسم والحاكم فى التأثير على سلوكيات البشر فهو البنية الاجتماعية الاقتصادية السياسية التى يدخلون فيها ، باعتبار التأثير الشامل لهذه البنية على مجمل العناصر الداخلة فيها . ففى المجتمعات التنافسية القائمة على التملك والاستحواذ الفرديين لابد و أن نتوقع أنانية البشر وفرديتهم ، وعلى العكس ففى المجتمعات التعاونية القائمة على الانتفاع الجماعى لابد ، و أن نتوقع غيرية البشر و جماعيتهم .
الأساس الأخلاقى للرأسمالية
تتزايد الشكوى شفاهه وكتابة مما أصاب البشر من تدهور أخلاقى وسلوكى ، وعن اطراد هذا التدهور العام ، فالماضى أفضل من الحاضر ، والأباء أفضل من الأبناء . وعلى العموم فكل هذه الشكاوى مطلقة على علاتها لأسباب أيديولوجية ونفسية وسياسية ، والغريب أن نفس هذه الشكاوى المختلفة تواجدت عبر كل التاريخ البشرى المكتوب ، وفى كل مكان فيما تركه نفس الأسلاف الذين نقدسهم من أثار وتراث ونراهم ينعون فيها أيضا ما آل إليه البشر من سوء الأحوال الأخلاقية ، وذلك دون أساس من البحث العلمى السبيل الوحيد الذى يمكن أن يثبت لنا صحة هذا الزعم من عدمه أولا ، ومدى هذا التدهور إن وجد ثانيا ، أو على العكس فقد يثبت لنا أن البشر قد حققوا تطورا فى أنساقهم الأخلاقية ، وأنهم أفضل من أجدادهم وآبائهم ، بمعنى أنهم أكثر شرفا ورقيا وخيرا..الخ ثالثا ، وحيث أن معلوماتنا فى هذا الشأن لن تكون دقيقة بأى حال فلن يمكنا الحكم بشأن هذه القضية إلا فى إطار أن البشر ومنذ فجر تاريخهم يتطورون ككل إلى ما هو أفضل عموما ، وذلك بمقارنة الأنساق الأخلاقية المعلنة لمختلف المجتمعات ، والأوضاع الاجتماعية والأخلاقية للبشر عبر التاريخ من خلال ما خلفوه وراءهم من آثار وتراث .
أما ما يمكنا فعله هنا فحسب ، فهو أن نتناول بالدراسة النسق الأخلاقي للرأسمالية باعتبارها التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية السائدة الآن عبر الكوكب بأسره ، و التى تشكل الأساس المادى للحضارة الرأسمالية ذات الطابع العالمى المتزايد العمق وا لاتساع منذ نحو خمسمائة عام . والتى أخذت فى السنوات القليلة طابع الهيمنة الشاملة للرأسمالية الأمريكية الأكثر قـوة .
يتأسس النسق الأخلاقى العام للرأسمالية على قاعدة الفردية وما يرتبط بها من ذاتية وأنانية ، ومن ثم تحطم كل أشكال التماسك الاجتماعى التى عرفتها المجتمعات الإقطاعية ، والتى كانت تقيد الفردية وتوابعها بجماعية الانتماء وأولويته على مصلحة الفرد لصالح جماعة ما الأسرة ، الحى ، المهنة ، الحرفة ..الخ . فالرأسمالية تفترض لوجودها مجتمع من الأفراد الأحرار المتنافسين الذين يلتقون عبر علاقات السوق ليتبادلوا ما يملكونه من سلع مختلفة مادية ومعنوية ، مصنعة أو خام ، بما فيها قوة العمل نفسها باعتبارها سلعة ، وتفترض الرأسمالية أن هؤلاء الأفراد فى حالتهم الفردية تلك متساوون تماما وفق القانون ، وأنهم على علم بمصالحهم التى تجعلهم يدخلون فى صفقات تبادل سلعى وخدمى مختلفة عبر السوق الحر ، وأنهم عبر ذلك عليهم تحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة الذاتية لأنفسهم ، وتحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة عبر استهلاك أفضل السلع المعروضة فى السوق ، دون التفات للآخرين ممن يشاركونهم علاقات السوق الرأسمالى ، الأمر الذى تزعم معه الأيديولوجية الليبرالية أنه سيعود فى النهاية بالنفع على كل أفراد المجتمع وجماعاته ، طالما يتنافسون ، ويحققون نجاحهم كل وفق قدراته وإمكانياته ، ومن ثم يحققون المصلحة العامة للمجتمع والدولة عبر سعى كل المواطنين للنجاح الفردى فى منافسة لا ترحم وسباق لا ينتهى من أجل إنتاج لا يمكن أن يتوقف للسلع التى يتم تداولها فى السوق ، مما يستدعى دائما إلهاب ظهور المستهلكين لكى يستهلكوا ما هم فى حاجة إليه و ما هم فى غير حاجة إليه ، الأمر الذى يتحدد بمقدار نجاحهم فى المنافسة ، ويشكل معيار سعادتهم فى الحياة ، ومعيار تقييمهم للبشر ، الذين تتحدد قيمتهم بما يستهلكونه و بما يمكن أن يستهلكوه . هذا هو المعيار الحاكم فى النسق الأخلاقى للرأسمالية عموما والأكثر ارتباطا بها كنمط للإنتاج . والذى تتأسس عليه كافة العلاقات الاجتماعية فى المجتمع الرأسمالى .
لاشك أن هذا النسق له انعكاساته السلبية و الإيجابية ، الضارة و المفيدة على مستوى الصحة النفسية للأفراد ، و صحة العلاقات الاجتماعية ، ومن ثم الممارسات السلوكية للبشر .
فقد حررت الرأسمالية الأفراد مما كان يكبلهم من قيود تعوق إمكانيتهم ، ونجاحهم الفردى ، وجعلتهم أكثر شجاعة و مبادرة و صراحة و إيجابية ، إلا أنها حولت كل منهم لمجرد شيء أو موضوع أو وسيلة أو أداة للآخر ، وحولت الجميع لمجرد أرقام فى حسابات المكسب والخسارة ، ومن ثم فقد تحولت العلاقات الإنسانية إلى علاقات سوقية عموما ، إذ تحولت لصراعات وصفقات لا تنتهى بين البشر من أجل الفوز بأكبر قدر من غنائم السوق و سلعه تحت وهم تحقيق سعادة سطحية غير مشبعة نفسيا ، فالشبق الاستهلاكى الذى تثيره الرأسمالية يزيد الإحساس المستمر بالحرمان و الاحتياج برغم كل ما يتم استهلاكه من لذات ، أما الإشباع الحقيقى فلن يكون إلا حين يتطابق الاستهلاك مع الضرورة الفعلية ، وهو ما يتناقض مع منطق السوق الرأسمالى المرتبط بتحقيق الربح عبر التوسع المستمر فى الإنتاج ، وهربا من ميل معدل الربح للهبوط . فالمتسابقون يجرون فى مضمار لا ينتهى بالنسبة لكل منهم إلا بخروجه من السباق ، بالانسحاق أو الموت أو الانسحاب أو الجنون أو المرض النفسى ، وعند من يدركون تلك الحقيقة ، فالحياة على مثل هذا النحو السوقي المبتذل عبث لا معنى له و لا يستحق كل هذا العناء . فحتى وفق حساب المكسب والخسارة ، فأن ما يخسره البشر من قيم ومثل ودفء إنسانى و مشاعر جميلة وراحة نفس وذهن واحترام الذات لنفسها ومن من تحبهم وحبهم لها ، والحرية الحقيقية والحياة الطليقة من العبودية ، والامتلاك الفعلى للحياة الشخصية بعيدا عما يقيدها من علاقات السوق ونمط التملك ، لقاء ما يتم اكتسابه من سلع وخدمات سيوضح فى الحساب الختامى كم الخسارة الفادحة التى حاقت بهم مهما بلغ ما اكتسبوه.
و فى المجتمع الرأسمالى يقع الجميع فى الاغتراب ، فالعامل يبيع قوة عمله و قدرا من حريته و وقته و إرادته من أجل إنتاج سلع لا يرغب فى إنتاجها ، ومن أجل سوق لا يعرفه ، وفى ظروف عمل لا يملك السيطرة عليها ، و الرأسمالى تستعبده ملكيته ، وتحرمه من الحرية والأمن ، وتشعل لديه الخوف من الخسارة و من الفشل فى السباق ، و برغم أن ما يملكه يستعبده إلا أن أخشى ما يخشاه أن يخسره ، ويفقد من أجل كل هذا ما سبق و أشرنا إليه.
هذا هو النقد الشيوعى للنسق الأخلاقى للرأسمالية ، وكان ماركس قد تناول فى الفصل الأول من كتاب رأس المال ما أطلق عليه (وثنية) السلعة أى تحولها لصنم هو الإله المعبود فى دين السوق الرأسمالى ، والذى من أجله يقدم البشر القرابين من حريتهم وسعادتهم و جهدهم و أغلى ما يملكوه ، والسلع آلهة مخادعة من أجلها تقدم ما تطلبه من قرابين متوهما لحظتها بأنك إذا تملكت أحدها نلت السعادة ، وأشبعت الرغبة ، وإذا ما أصبحت فى حوزتك واستهلكتها أحسست بجوع لصنم آخر ، بعد أن تأكدت أن الصنم الذى سار فى حوزتك لم يكن يستحق ما دفعته من أجله من قرابين ، وأنه لم يعد يشبع لك رغبة ، وانه ليس كما كنت تتخيله قبل امتلاكه ، والأخطر أن امتلاكه أورثك القلق والخوف من أن تفقده من الحاسدين والطامعين فيما تملكه . والقرابين المقدمة من أجل السلع و إن كانت مجرد نقود بشكل مباشر ، فقد دفعت من أجلها عمرك وحريتك وجهدك وعقلك ، وفقدت بسببها الكثير من أسباب السعادة الصحية ، والإشباع الحقيقى ، وتبلغ المأساة ذروتها حين تتحول السلعة من الصنم المعبود إلى مجرد نفاية بالاستعمال والاعتياد ، ترغب فى التخلص منها بعد كل ما دفعته من أجلها ، وعبئا ترغب فى التخلص منه بعد ما كنت تظنها الكفيلة بإسعادك . ومنذ هذه اللحظة أصبحت تسلك مثل العبيد ، فلست مجرد عبدا للضرورة بل درويشا لآله السوق ، ذبت فيه ، و أصبحت لا تتميز عما يملكك و تملكه سواء أكان مجرد سلعة أو رأسمال أو مجرد قوة عمل .
و إزاء كل تداعيات هذا النمط فى الحياة تتكون شتى أشكال التمرد الفردى والاجتماعى من الحركات الدينية الأصولية أو الجديدة إلى الحركات الهيبية و الوجودية إلى الحركات الثورية المعادية للرأسمالية .
وإذن ما هو الأساس الأخلاقى للشيوعية ؟
يتأسس النسق الأخلاقى للشيوعية على قاعدة الجماعية ، وما يرتبط بها من غيرية وموضوعية ، إلا أنها ليست جماعية المقهورين كما فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية ، وإنما جماعية الأفراد الأحرار المتعاونين طوعا فيما بينهم من أجل إشباع احتياجاتهم المختلفة الفردية والجماعية ، وهم حين يجتمعون على هذا النمط التعاونى الحر ، يكف كل منهم على التعامل مع الآخرين كأشياء أو موضوعات أو أدوات أو وسائل لإشباع رغباته على حسابهم أو مجرد أرقام فى دفتر المكسب والخسارة ، وإنما كبشر أحرار و متساوين و غير خاضعين للقهر والاستغلال . و من ثم تحل قيم التعاون والتضامن والتكافل بين أعضاء المجتمع محل قيم التنافس والصراع ، ويتحرر البشر من عبودية التملك والسلع بتحول هدف الإنتاج من تحقيق الربح عبر فروق القيم التبادلية للسلع فى السوق إلى إشباع الاحتياجات الاستعمالية فقط . وهذا افتراض قائم على أن سعادة الإنسان تتحدد بمقدار تحرره وسيطرته الفعلية على مقدرات وجوده الإنسانى ، وبشرط أن قيمته الاجتماعية تتحدد بما يؤديه من عمل و ما يملكه من قدرات متحررة من الطابع السلعى ، بمعنى أن تتحرر قوة عمله من كونها سلعة ، هذا هو ما بشرت به الشيوعية بصرف النظر عما تم باسمها خلال القرن العشرين لظروف لا مجال لذكرها فى هذا المجال .
ولما كان الهدف من الشيوعية فى جوهرها هو تحرير البشر من كل ما يعيق ممارستهم للمثل العليا الإنسانية ، عبر تشكيلة اجتماعية اقتصادية وتنظيم سياسى للمجتمع يسمح بذلك ، فأن على الشيوعيين أن يتمسكوا بهذه المثل العليا ، ففاقد الشىء لا يعطيه ، و لا يمكن لمجرم ومنحل و وغد أن يقنع أحد ـ إلا المعتوهين ـ أنه يناضل من أجل تحريرهم من القهر و الاستغلال أو يقنعهم بهذا النضال ، وهو يمارس فعليا هذا القهر وذاك الاستغلال مهما كانت المبررات . ولا يمكنه حتى ولو خدعهم أن يحقق فعلا ما يعد الناس به . بسبب العلاقة التلازمية بين الغاية والوسيلة . فالغاية تبرر الوسيلة إذا كانت من طبيعتها ، ولا تبررها طالما كانتا من طبيعيتين مختلفتين .
نعود إلى بداية المقال كى نختمه ، لماذا هذه السمعة السيئة التى يتمتع بها المنتسبون للشيوعية وسائر الخارجين عن المألوف والتقليدى فى مصر ؟ وهى فى رائى وبحكم تجربتى الشخصية تهمة مبالغ فيها بشكل كبير بالقياس إلى ما هو شائع عن غير الشيوعيين و أشباههم .
جزء من المسألة يرجع لثلاث عوامل من خارج الحركة الشيوعية هى
أولا:- الدعاية المضادة والمكثفة ضد الشيوعية باعتبارها أخطر حركة معادية للرأسمالية تهدد وجودها ذاته ، ولازالت برغم النكسة المؤقتة التى تعرضت لها . ثانيا :- الطريقة الساذجة التى يفكر بها الناس فتجعلهم يطابقون بين الدين والأخلاق الجيدة ، و اللاتدين و الأخلاق السيئة رغم عدم صحة التطابق و التلازم ، فضلا عن التعميم الساذج للتجارب الشخصية و الذى يتردد بين الناس بلا تروى ، فيتحول إلى ما يشبه الحقائق العلمية ، فإذا صادف أحدهم أن تعامل مع أحد الشيوعيين سيئ الخلق فأنه يعمم التجربة لتشمل كل الشيوعيين ، مثل رجل خانته امرأة فتتحول كل النساء إلى خائنات فى نظره ، وهو أمر راجع إلى صبيانية التفكير وبدائيته ، الذى يجعلنا دائمى النزوع للتعميم و إصدار الأحكام المطلقة ، ووضع الناس فى فئات جامدة ، و التى يقع فيها المثقفون مثلهم فى ذلك مثل عامة الناس ، والغريب أن ما يتم ترديده عفويا ، يصبح مع الوقت كبديهية لا تستوجب البرهان العلمى ،ونظل نرددها بلا وعى و نبنى على أساسها المواقف .
ثالثا :-أن الشيوعيين فى حقيقتهم أبناء البنية الرأسمالية ولو عادوها نظريا فأنه سيصعب عليهم التحرر الكامل من تأثيرها ومن تأثير الثقافة والوعى السائد حتى ولو هاجموه بالنقد ، وأن استطاعوا بشكل نسبى تجاوزه . فكيف يستطيعون التحرر من ديانة السوق وقيمه و أخلاقه ، وهم أسرى البنية التى تفرزها .
الجزء الآخر للمسألة يرجع إلى الشيوعيين أنفسهم كحركة وكأفراد ومنها العوامل الآتية : ـ
أولا :- التفسير المبتذل و العدمى للمادية الذى يتشبث به البعض ليبرر تمرده الاجتماعى وانحلاله الأخلاقى ، فيستخدم الرطانة الثورية كى يخفى بمهارة كل ما يفعله البورجوازى من سلوك عفن ومنحط ، فيتعامل الرجل منهم مع المرأة كمجرد وسيلة للمتعة ، و يقهرها و يستغلها ، تحت الغطاء الثورى الكاذب المسمى الحرية الشخصية ، كما تتعامل هى معه بنفس المنطق النفعى ، وباعتبارها العنصر الأضعف اجتماعيا فى العلاقة تصبح ضحيتها الأساسية مما يصيبها بقدر من المرارة أحيانا أو المزيد من الانحدار أحيانا أخرى ، وخصوصا فى المجتمعات التى تولى أهمية خاصة ومحورية للسلوك الجنسى فى سلم القيم الأخلاقية ، و يسرق البعض أو ينصب محتجا بعدم قدسية الملكية الخاصة ، برغم أن المجتمعات الشيوعية نفسها لم و لن تخلو من ملكية المقتنيات الشخصية على نحو خاص .
و فى الحقيقة أن أيديولوجيا التمرد و ممارستها لا تحمل فى حقيقتها تحريرا حقيقيا للبشر ، فالذى يتمرد على المجتمع و يتعاطى المخدرات ، وغيرها من المكيفات التى تصيب بالإدمان أو تضر بالصحة ، ينزلق إلى عبودية المخدر والكيف ، ويفقد حريته الحقيقية وهو يبحث عنها ، وهو فى النهاية يصبح عبدا للتمرد فى حد ذاته ، ويعجز عن التغيير الفعلى للمجتمع مثله مثل الذى يطلق العنان لإشباع غرائزه متوهما أنه بذلك يصبح حرا فيصبح عبد لتلك الرغبات التى لا تنتهى فى الإشباع.
ثانيا :-عدم تحررهم من النسق الأخلاقى البورجوازى ، وعجزهم عن تجاوز هذا النمط من الحياة أحيانا و بالتالى يصبح سلوكهم فى الحياة نموذجا للتناقض بين المعلن عنه نظريا والممارس واقعيا مما يفقدهم المصداقية . ثالثا :- كونهم يسلكون أحيانا و فى إطار السلوك الجنسى بشكل خاص ما يختلف عن النسق الأخلاقى المعلن للمجتمع برغم أن سلوكهم لا يختلف فى الواقع عن غير الشيوعيين ، سوى أن الآخرين يمارسونه سرا ويرفضونه علنا فى حين أن الشيوعيين يبررونه و لا يجدون فيما يفعلون خطأ يستوجب السرية والرفض ، مما يصدم الحس التقليدى والوعى المحافظ السائد . رابعا:- عدم الاهتمام الفعلى بالجوانب الأخلاقية و التربوية و الثقافية فى الحركة مما يتيح الفرصة للمرضى نفسيا و المشوهين سلوكيا و الجهلاء و الحمقى و المتمردين اجتماعيا و المغرضين فضلا عن الانتهازيين و الأفاقين من كل شاكلة و نوع أن يملئوا صفوف الحركة ، وهذا أيضا مرتبط بعدم الاهتمام النظرى بموضوع الأخلاق إلا فى إطار الصراع السياسى كما ذكره لينين مثلا فى تعريفه للأخلاق الشيوعية ، والذى تحولت الأخلاق الشيوعية فيه إلى نزعة براجماتية تحددها فى كل سلوك يهدف إلى انتصار الشيوعية ، وبمعنى آخر تسيس الأخلاق وابتذالها ، مما أفقد الأخلاق وظيفتها الاجتماعية العامة وضرورتها لصحة الأفراد النفسية و صحة علاقاتهم الاجتماعية بصرف النظر عن الصراعات الاجتماعية والسياسية . و أهمية طرح نسق أرقى ملزم فى القيم الأخلاقية و السلوكية .
وإذا كانت هذه عوامل عامة فهناك عوامل خاصة بالحركة الشيوعية المصرية ، وما يمكن أن يتشابه معها من حركات ، فالحركة الشيوعية المصرية لم تعرف أبدا الجماهيرية إلا فى لحظات تاريخية محدودة جدا ، وفى أوساط الطلاب والمهنيين والمثقفين أساسا ، وبمناسبات المد الوطنى التى تجذب مثل تلك الفئات ، مما أكسبها الطابع القومى وأورثها تناقضها المميت ، و أفقدها طابعها المميز كحركة تحرر إنسانى تقوم من بين ما تقوم عليه على نقد النسق الأخلاقى البورجوازى و تقديم نسق أخلاقى أكثر تقدما . وخصوصا أنهم تبنوا الشيوعية بقدر كبير من الانتقائية ، يلبى ما يحتاجونه فعليا منها ، فهناك من شاء أن يحولها لمجرد أيديولوجية قومية جذرية ، فى إطار الصراع القومى التحررى ، وفى إطار الصراع مع الأصولية الدينية والقوى المحافظة ، وهناك من حولها كمبرر للتمرد على القيم الاجتماعية السائدة بجوانبها المحافظة ، لعجزهم عن التبنى الصريح للعدمية أو الهيبية أو الفوضوية الفردية .
ونظرا لتدنى جماهيريتهم فقد ظهرت بينهم أخلاقيات القبيلة المنعزلة عن الواقع و المتمردة عليه ، وكان أهم آثار عدم الجماهيرية تلك ، هو حرصهم على أن لا يفقدوا أى منهم ، فمارسوا التدليل الليبرالى فيما بينهم حتى يحافظوا على العدد المحدود أصلا من التقلص . وأخيرا فأنى أرى أن العقود القليلة المقبلة و مع تزايد معدلات التهميش للكتلة الأعظم من البشر ، سيواجه العالم من ضمن ما سيواجه من احتمالات ، زيادة حركات الاحتجاج الجماعية فى مواجهة نمط الحياة البورجوازى ونسقه الأخلاقى ، تلك الحركات التى ما زالت تحمل الطابع الرجعى فى معظم الأحوال ، مما يستلزم وجود بديل تقدمى وتحررى ، لا يستهدف العودة للماضى ما قبل الرأسمالى ولا يستلهم رؤى السلف ، ولا يتبنى معاداة التنوير والعقلانية والعلمية ، ولا يستعبد الإنسان بقيود جديدة بقدر ما يحرره من القيود والأوهام ، وهو ما أعتقد أن قوى التقدم والتحرر قادرة على أن تقدمه شرط أن تفهم أهميته .
وعلى عكس تلك السمعة السيئة ليس للشيوعيين فحسب ، بل ولكل الخارجين عن الثقافة السائدة فى مصر ، تلك الثقافة المتسمة بالضحالة الفكرية والجمود والمحافظة ، والتى أفرزت تدينا شكليا يخفى انحطاطا سلوكيا وتدهورا أخلاقيا شديدى العمق ، ومما يثير التأمل حقا أن المأثرة العبقرية لماركس و إنجلز باعتبارهما فيلسوفا الحركات الاشتراكية و الثورات الأكثر أهمية خلال المائة وخمسون عاما الأخيرة ، واللذان أنجزا أهم إنجاز فكرى وعلمى فى العلوم الاجتماعية فى القرن التاسع عشر ، ما كان يمكن لهما أن ينجزا ما أنجزاه دون ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا تلازمهما مع عبقرية أخلاقية ، أفرزت علاقات إنسانية ( زواج و صداقة ) غاية فى الرقى ما كان يمكن بدونهما أن يتم هذا الإنجاز ، فكان يمكن لعشر عبقرية ماركس ومواهبه وجهده ، لا أن تحمى أسرته من شظف العيش و أولاده من الموت جوعا فقط بل و الاستمتاع بكل متع الحياة الحيوانية وغير الحيوانية وذلك بقليل من الانتهازية والنفاق..الخ ، وخصوصا و أن شقيق زوجته النبيلة الألمانية كان يعمل وزير داخلية بروسيا ، و ما الذى جعل تلك المرأة الجميلة و النبيلة والمترفة ، لا تفعل ما كانت تفعله زوجة سقراط به ، بل و أن تتحمل السكن هى وأولادها فى أحقر أحياء لندن منفية بعيدا عن بلادها ، إلا إذا كان هناك ما يستوجب هذا التحمل من وجه نظرها ، وهو واجب الوقوف بجوار شريك حياتها لتساعده فى إنجاز رسالته فى الحياة التى أختارها لنفسه ، وما الذى جعل إنجلز يساعد هذا العبقرى وأسرته فى استكمال مهمته التاريخية ، و يستمر فى مساعدة أسرته بعد وفاته ربما على حساب إنجازه هو نفسه فى الحياة ، وكان باعتباره المسئول عن نشر ما لم ينشر من مؤلفات ماركس أن ينسب بعضها لنفسه إلا أنه لم يفعل ، وخصوصا تلك التى أعدها للنشر ، وكانت مجرد مسودات ومخطوطات لم يكن أحد قد أطلع عليها بعد . برغم أن الثلاثة لم يأملوا فى أى جزاء سواء فى الدنيا أو فى الآخرة عما كانوا يفعلون .
ما الذى جعل جيفارا يتنازل عن قمة السلطة طواعية ، ليجرب النضال المسلح فى بوليفيا معرضا نفسه للموت ، ولم يكن قد تجاوز الأربعين من عمره ، وما الذى دفعه أصلا للاشتراك مع كاسترو فى قيادة الثورة الكوبية ، وهو الطبيب الأرجنتينى سليل الأسرة البورجوازية الغنية والمنتسبة فى أحد أصولها للعائلة المالكة الأسبانية ، والمصاب بالربو منذ طفولته ، ضاربا ولمرتين عرض الحائط بكل مغريات الحياة من رفاهية وسلطة دون أمل فى حياة أخرى ، و إذا كان هذا هو حال الرموز الشهيرة ، فقد عرفت الحركات الشيوعية وعلى مدى المائتى عاما السابقة ، وفى شتى بقاع الأرض بما فيها مصر ، ملايين البشر التى تراوحت تضحياتهم من أجل ما آمنوا به ، من الحرية إلى الحياة نفسها ، فضلا عن الحرمان من متع الحياة حيوانية وغير حيوانية ، ومارسوا كل ما هو خير وراقى وشريف وجدير بالثقة فى سلوكهم الاجتماعى . وأقترب بعضهم من القداسة ، ونالوا احترام الأعداء قبل الرفاق .
فإذا كان الأمر أمر إشباع الاحتياجات الحيوانية اللصيقة بحيوانية الإنسان وحسب ، باعتبارها المكسب الوحيد للفرد فى تلك الحياة وفق التفسير المبتذل للمادية ، فما هو الدافع الذى دفع كل هؤلاء إلى مثل تلك التضحيات الغيرية المنافية للأنانية ، إن لم تكن دوافع من الأخلاق الخيرة والراقية ، ومن الإحساس بآلام الآخرين والرغبة فى مساعدتهم ، ذلك الفعل المساوى لتجاوزهم مصالحهم الأنانية الضيقة التى ربما حققوها بالفعل المعاكس ، بالاستغراق فى الأنانية والاغتراف من الملذات . وبالطبع هذا لا ينفى وجود دوافع أخرى ربما يكون بعضها غير سوى ومريض بل و منحط أيضا غير أن هذا ليس موضوعنا الآن .
وقد عرفت بعض هؤلاء القديسين ، كما عرفت من بين الشيوعيين من هم أقرب إلى الشياطين ، وفى الحقيقة فأن العلاقة بين الشيوعية وبين سلوك أى من القديسين أو الشياطين من بين المنتسبين إليها ، ضعيفة إلى حد كبير ، فهى كونها تراث نظرى ومثالى ومجرد ، شأنها فى ذلك شأن غيرها من الأديان والفلسفات والعلوم والفنون والأفكار ، تتحول فى عقول البشر وممارستهم إلى تنويعات هائلة ومتفاوتة ، واقعية وملموسة ، فالنص الواحد يتحول إلى نصوص مختلفة بعدد من قرءوه طالما تفاوت البشر فى درجات فهمهم وتأويلاتهم و ظروفهم المختلفة . ومن ثم يتأثرون بما يقرءون على نحو مختلف .
وعموما فالبشر كأفراد لا يسلكون وفق ما يؤمنوا به من أفكار ونظريات فقط ، والتى تقوم بدور التبرير والتفسير والسند النظرى فحسب ، بل يسلكون بناء على مجموعة كبيرة من المؤثرات منها المؤثرات البيولوجية كالعوامل الوراثية و النشاط الهرمونى و الكيميائى و العصبى فى الجسم ، ومستوى الصحة البدنية والنفسية بل ومستوى التغذية ..الخ ، والمؤثرات البيئية من أسرة وتعليم وثقافة وطبيعة شخصية وخبرات عملية ..الخ . وهو الأمر الذى يفسر لنا لماذا نجد داخل كل مجموعة بشرية قومية أو دينية أو سياسية أو عرقية أو ثقافية ..الخ كل التنويعات الممكنة من البشر ، الأشرار والأخيار وما بينهما من درجات ، وكيف أن الفرد الإنسانى نفسه ليس نمط ثابت عبر تاريخه فهو عرضة للتغيرات والتذبذب ما بين الأقطاب المختلفة طالما كان عرضة للتأثر بالمؤثرات المختلفة التى تدفعه لهذا السلوك أو ذاك . إلا أن ما دفعنى بقوة للكتابة أيضا فى هذا الموضوع ، أن البعض من أعداء الشيوعية ، وفى إطار هجومهم عليها ، وبعض المنتسبين لها وفى إطار تبرير تحللهم الأخلاقى و إنفلاتهم السلوكى، يفهمون موضوع الأخلاق ويفسرونه كما ورد على لسان أحد أبطال رائعة ديستوفيسكى " الأخوة كرامازوف " " إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء مباح " . والمرء لا يمكنه أن يعترض على ما أورده ديستوفسكى فى حدود فهمة لأهم رواية لروائى هو واحد من أعظم من كتبوا الرواية عبر العالم ، وعبر تاريخ الأدب عموما ، إلا أنه لا يصح تعميم ما قاله الكاتب على لسان ايفان كرامازوف فى الرواية ، واتخاذه أساسا لفهم موضوع معقد كالأخلاق فى علاقتها بموضوع معقد أيضا كالدين . أما الحقيقة الغائبة عن البعض فهى أن ديستوفيسكى كان يصور حالة قطاع من الثوريين و المثقفين الروس المعروفين بالعدميين ، و الذين انتشروا فى روسيا القيصرية من أربعينات إلى ثمانينات القرن التاسع عشر قبل تكون الحركة الشيوعية فى روسيا ، وهم لا علاقة لهم بالموقف الشيوعى من الأخلاق أو من الدين . فالعدمية تيار فكرى و اجتماعى وسياسى يولى الأهمية القصوى للهدم بصرف النظر عن نتائج ما بعد الهدم ، وهو من ثم يركز على وسائل الهدم أكثر مما يركز على وسائل البناء ، والعدمية كفلسفة تتساوى لديها كافة القيم والأوضاع إلا الوضع الراهن والقيم الراهنة المستوجبين للهدم بأى وسيلة . ومن ثم فالحدود لديها ضائعة بين الثورى والمجرم ، وبين الحرية والفوضى ، وبين العلم والخرافة ، وبين القبح والجمال ..الخ ، وهى تنكر المعايير والقيم الإنسانية العليا الأمر الذى يفرقها بوضوح عن موقف الشيوعية . بعد هذه المقدمة الطويلة آن لنا أن نفهم طبيعة الأخلاق .
الأخلاق هى سلوك اجتماعى لا يمكن تصوره دون وجود سابق للمجتمع عليها ، فالفرد المنعزل عن المجتمع لا يمكنه ـ وإن رغب ـ أن يمارس أخلاقيات ما ، ولا أن يجول بخاطره أى معنى أخلاقى دون دخوله فى علاقة اجتماعية ، إلا أنه و بمجرد دخوله تلك العلاقة ، فعليه أن يسلك على نحو يضمن استمرار هذه العلاقة ، ومن ثم فالأخلاق ضرورة اجتماعية ، موجودة فى كل العلاقات الاجتماعية ، حتى فى التشكيلات الإجرامية والخارجة عن القانون ، والتى لا يمكن أن تستمر لو لم يلتزم أفرادها فيما بينهم بنسق أخلاقى وسلوكى معين يضمن استمرارها فى العمل الإجرامى كجماعة منظمة ، وبدون هذا الالتزام لن يمكن لها الاستمرار والنجاح .
والأخلاق يصعب تعريفها بدقة كونها ظاهرة اجتماعية ، وهى شأن كل الظواهر الاجتماعية تتشابك مع غيرها من الظواهر الاجتمــاعية أو الإنسانية الأخرى بل والطبيعية كذلك .
وبادئ ذى بدء يمكن أن نعرف الأخلاق بطريقتين : إما بإسنادها إلى القيمة المسماة بالخير فقط ، أى الأخلاق بالمعنى الإيجابى وحده ، وهو تعريف قاصر وأن كان شائع ، وهو لا يشمل الأخلاق بالمعنى السلبى أيضا التى ترتبط بالقيمة المسماة بالشر ، وهذا لا يعنى بالطبع التسليم بوجود قيمتين مثاليتين مجردتين ومطلقتين باسمى الخير والشر سابقتين على الوجود الاجتماعى نفسه ، إلا أن الغرض من هذا الربط ، هو مجرد الاتفاق على أن المقصود بالأخلاق محل البحث هى الطريقة التى يسلك بها الناس فيما بينهم سواء رأينا أنها شريرة أو خيرة ، سلبية أو إيجابية ، ضارة أو مفيدة ، منحطة أم راقية..الخ .
يمكن أن نقرر أن الأخلاق لها طبيعة مزدوجة ( فهى نسبية فى الواقع الاجتماعى العينى والملموس ، ومطلقة فى الوعى الاجتماعى النظرى والمجرد فى نفس الوقت ) . أما من ناحية كونها نسبية ، فلأسباب منها كونها سلوك اجتماعى مرتبط بالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية ، فالطريقة التى ينتج بها الناس احتياجاتهم المادية تؤثر على الطريقة التى يسلكون بها فيما بينهم . وعلى القيم والمعايير الاجتماعية المختلفة ، التى تجعلهم يستهجنون سلوكا ما ، و يقبلون آخر ، ويشجعون على ثالث ، ومن ثم فكل تشكيلة اجتماعية اقتصادية لها ما يلائمها من أنماط للسلوك الاجتماعى . ففى المجتمعات التى لا تعرف الملكية الخاصة تختفى السرقة أما عن الأمانة فهى لا تعرف معنى لعدم السرقة و احترام الملكية الخاصة ، وإن كانت تتجسد فى أشكال أخرى للسلوك ، كما يتغير سلم القيم السلوكية من نظام اجتماعى لآخر ، ففى المجتمعات الإقطاعية عموما تكون قيمة التماسك الاجتماعى للأفراد المنتمين لجماعة ما الأسرة أو الحى أو القرية أو الطائفة المهنية أعلى من كثير من القيم الأخرى ، أما فى المجتمعات الرأسمالية فتصبح قيمة الحرية الفردية أعلى من قيم التماسك الاجتماعى لأى جماعة عدا الدولة نفسها التى ينتمى إليها الفرد . و فى المجتمعات البدائية كان قتل المسنين والمرضى والعجزة قيمة أخلاقية مستحبة من أجل الحفاظ على قدرة العشيرة البدائية على الاستمرار فى الوجود ، الأمر الذى تستهجنه المجتمعات المتحضرة القادرة على خلق فائض من الإنتاج يكفى لحياة هؤلاء دون أن يهددوا وجود المجتمع . بل أصبح تبجيل المسنين ، والعطف على الضعفاء والمرضى والعجزة ومساعدتهم قيمة إنسانية عليا .
كما تختلف الأنماط الأخلاقية ويختلف سلم المعايير القيمية داخل نفس التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية متعددة الطبقات من طبقة اجتماعية لطبقة أخرى ، فقيم من يملكون غير قيم من لا يملكون ، وإذا كان على العبيد و الأقنان الطاعة والخنوع للسادة مما يورثهم الجبن والنفاق والسلبية ، فأن مما يشين السادة عموما تلك الطاعة وذاك الخنوع ، وما يستتبعهم من نتائج .
وتتغير القيم والمعايير الاجتماعية فى أى مجتمع فى حالات عدم الاستقرار كالحروب والثورات والكوارث الطبيعية والتعرض للغزو الخارجى ، فيزداد معدل التماسك الاجتماعى وتزداد معدلات الممارسات الغيرية ، أما فى أحوال الاستقرار فيتقلص معدل التماسك الاجتماعى ، وتزداد معدلات السلوكيات الأنانية ، كما يؤثر النظام السياسى فى سلوكيات الأفراد ، ففى النظم الديمقراطية يتصف الأفراد عموما بالإيجابية والصراحة على عكس سلبية الناس ونفاقهم فى ظلال النظم الديكتاتورية .
والفرد الإنساني لا يسلك فى الحياة فقط وفق انتماؤه الاجتماعى و الطبقى فقط ، و إنما وفق مجموعة أخرى إضافية من المؤثرات الطبيعية و الفسيولوجية و الاجتماعية و الثقافية ، وعموما فالبشر تتحكم فيهم فى النهاية غرائزهم وعواطفهم النابعة من فرديتهم جنبا إلى جنب مع القيم و المثل العليا النابعة من اجتماعيتهم ، و قد يتغلب أحيانا جانب على الجانب الآخر ، إلا أنهما يتلازمان طوال الوقت ، فلم ولن يوجد البشر الذين ستظل تحكمهم مثلهم العليا إلى النهاية ، أو تحكمهم فحسب غرائزهم ، وعواطفهم كل لحظة .
كما تتجلى نسبية الأخلاق أيضا ، فى ارتباطها بأطراف العلاقة الاجتماعية التى جرى بينها السلوك الأخلاقى ، فما يكون شرا وسلبا وانحطاطا وضارا لطرف قد يكون خيرا و إيجابا و رقيا و مفيدا للطرف الآخر ، كما أن السلوك نفسه يختلف وضعه فى سلم القيم وفق الزمان والمكان والسياق الذى تم فيهما .
و لكل الأسباب السابقة تتميز الأخلاق على المستويين النظرى والعملى بالنسبية ، إلا أن هذا لا ينفى عنها الطابع المطلق أيضا ، فطوال التاريخ البشرى و بسبب الوظيفة الاجتماعية العامة للأخلاق فى الحفاظ على البنية الاجتماعية ، أخذت تنمو و تتطور ما يمكن أن نسميها بالأنا العليا للبشرية المكونة من المثل و القيم العليا المتفق عليها تحت أى ظروف ، تلك التى نطلق عليها الضمير الإنسانى الذى يدفعنا للأمانة وينفرنا من الخيانة ، الذى نتألم بسببه مما يحيق بالغير من عذاب وقتل واغتصاب حتى ولو كان ذلك مجرد مشهد تمثيلى أو مجرد خبر فى الصحف ، والذى يحاسبنا على الكذب والإضرار بالآخرين أو أى خطأ اقترفناه ، ما يجعلنا نخجل من أنفسنا أو نفخر ، ما يسعدنا بالراحة ، ويشقينا بالعذاب . من إذا نام فى عقولنا أتاح لنا فرصة ارتكاب الآثام ، وإذا استيقظ حاسبنا على كل ما اقترفناه .
ذاك الضمير برغم نموه وتطوره المتزايد لدى البشر عبر التاريخ ، يتميز بالتثبيت المستمر لمجموعة من القيم والمثل العليا يتزايد ما يتفرع عنها من قيم ومثل ويرتقى ، فسيظل البشر يستنكفون الكذب وخيانة الأمانة والطمع والجبن والنفاق ، وإن مارسوا أى منهم فعلا ، و سيظلوا يحبذون الصدق و الأمانة و القناعة و الشجاعة و الصراحة ، و إن عجزوا عن ممارسة أى منهم واقعا ، مهما تغيرت التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية .
فعبر التاريخ البشرى كان هناك انفصال نسبى ما بين المتفق عليه و المعلن عنه نظريا ، والذى يمثل هذا الضمير الاجتماعى السالف ذكره فى لحظات تطوره المختلفة ، وبين ما يمارسه البشر فى حياتهم الواقعية ، والذين يتفاوتون فى درجة الالتزام به ، و تلوينه بشتى التفسيرات والتبريرات مما أكسب السلوك الإنسانى عموما درجات أعلى من التعقد ، فيندر وجود الكاذب الذى يفخر بكذبه ، وإنما يتكاثر من يبرروه لأنفسهم و للآخرين فحسب .
يبقى أن نعرف أن الأنساق الأخلاقية تتفاوت فيما بينها ما بين ما تعتبره ثانوى وجوهرى ، وبين ما هو مجرد عادة أو تقليد ، وما هو أكثر عمومية من ذلك ، وخلال عمليات التغير الاجتماعى يهجر البشر سلوكيات ليتبنوا سلوكيات أخرى ، ويرضوا بسلوكيات كانوا قبل ذلك يستنكروها أو العكس . وخلال ذلك أيضا يتحول ما كان ثانويا إلى ما هو أساسى ، والعكس أيضا فقد يتحول الأساسى إلى ثانوى .
والآن ما هى العلاقة ما بين الأخلاق وكل من الدين والقانون ؟
تتداخل و تتفاعل الأخلاق كشكل من أشكال الوعى الاجتماعى بأشكال أخرى من الوعى الاجتماعى ، مما يزيد من تعقدها و نسبيتها وغموضها . إلا أن العلاقة بين الأخلاق وكل من الدين والقانون باعتبارهم يشكلون آليات الضبط والجبر الاجتماعيين ، تجدر الإشارة إليهما فى هذا المقال .
فكل الأديان سواء السماوية التى تتضمن الإيمان بالله إلها واحد أحد ، والتى يعتنقها أقل من نصف سكان الأرض بقليل ، أو الأديان غير السماوية المستندة أساسا لفلسفات وثقافات مختلفة ولا تعرف الله كجزء من عقيدتها ، والتى يعتنقها الجزء الآخر ، كلها تتضمن أنساق أخلاقية محددة ، و تدعو أتباعها لإتباع سلوكيات معينة واعدة إياهم فى هذه الحالة بالجزاء الحسن ، محذرة هؤلاء إذا أتبعوا سلوكيات أخرى بسوء العاقبة . و سواء أكان هذا الجزاء حسنا أم سيئا ، فى الحياة الدنيا أم بعد الموت ، فهو أمر تشترك فيه كل الأديان . إلا إن هذه الأنساق المختلفة فيما بينها فى التفاصيل ، قد لا تتفق فى الكثير من عناصرها مع درجة التطور التى وصل إليها ما أطلقنا عليه الضمير الإنسانى العام ، فالوصايا العشر الموجهة لليهود ، يلتزم اليهود بها فيما بينهم فقط ، أما مع غير اليهود فالأمر مختلف ، فلا يصح ليهودى أن يسرق يهودى فى حين يصح وفق الشريعة اليهودية أن يسرق من غير اليهودى ، وقس على ذلك كل الوصايا الأخرى . ولا تحرم بعض الأديان إن لم تحض فعلا على غزو أراضى الآخرين من التابعين للأديان الأخرى ، و استرقاقهم و استحلال أموالهم و فرض سيادتهم عليهم ، كما تقنن أديان أخرى الكثير من العلاقات الإنسانية وفق قيم السوق باعتبار البشر مجرد سلع و وسائل للاستعمال ، مما يتنافى و التطور البشرى الحالى أو المرغوب فيه فى مستوى القيم ، و هناك من الأديان ما يحرم إيذاء أى كائن حى فى حين لا تحرم أديان أخرى العنف مع البشر إن لم تعتبره قربة لما يعبده أتباعها من آلهة . إلا أن هذا لا يعنى أن الأنساق الأخلاقية المرتبطة بالأديان لا تتوافق فى كثير من الأحيان مع درجة هذا التطور .. وقد شكل الدين دائما أحد الآليات الاجتماعية للردع و الجبر الاجتماعيين ، وللحفاظ على التزام البشر بنسق قيمى و أخلاقى معين يحفظ للمجتمع وجوده واستقراره ، كما ساعدت الأديان فى كثير من المراحل التاريخية على استبدال الأنساق الاجتماعية السائدة بأنساق أخرى أكثر تقدما وتطورا ، إلا أن هذا لا ينفى أن الأديان أيضا قد تشكل عائق ثقافى أمام التطور الاجتماعى بما تتضمنه من أنساق قيمية متخلفة . خلاصة القول أن كل من الدين والأخلاق متداخلان فى علاقات متشابكة ، إلا أن هذا لا يعنى تطابقهما وتلازمهما . وخصوصا أن الأنساق السلوكية فى الأديان تتضمن أوامر ب ونواهى عن سلوكيات هى أقرب للعادات والتقاليد الجماعية والفردية لا ترتبط بالأخلاق كضرورة اجتماعية و نسق من القيم .
وكما يشتبك الدين و الأخلاق يشتبك القانون ، فالقانون هو آلية من آليات المجتمع للحفاظ على استقراره ، وهو يتضمن أيضا نسق أخلاقى محدد ، يبيح أنواع من السلوك الاجتماعى ويجرم أخرى ، وينظم ثالثة ، إلا أن القانون يستند إلى السلطة الاجتماعية القادرة على وضع قواعده وإلزام المواطنين بها ، وفق آليات العقاب التى تقوم بها السلطة ، وليس بناء على سلطة الضمير كما فى الأخلاق ، أو الثواب والعقاب الأخروي كما فى الدين ، وتتفاوت القوانين فيما تجرمه أو تنظمه من السلوكيات الاجتماعية ، من حيث مدى اقترابها أو بعدها مما أطلقنا عليه الضمير الإنسانى العام ، فقد تنظم بعض القوانين البغاء وقد تجرمه أخرى ، وقد تعترف بعض القوانين بالرق أو تجرمه بعضها ، وقد تأخذ نظم قانونية بتعذيب المتهمين وانتزاع الاعترافات قصرا منهم ، وقد تجرم قوانين أخرى هذا التعذيب ، ولا تعترف بنتائجه وهكذا . ومن ثم فالعلاقة بين القانون والأخلاق علاقة تشابك وتداخل ، وليست علاقة تطابق ولزوم .
ويشكل كل من الأخلاق والدين والقانون ، آليات الضبط والجبر الاجتماعيين ، من أجل الحفاظ على البنية الاجتماعية واستقرارها ، إلا أن تأثيرهم على سلوك الأفراد فى المجتمع ، ثانوى ومساعد ونسبى . فالضمير أو الأنا العليا ليست متساوية القوة والتأثير عند كل الأفراد ، لأسباب بيولوجية وثقافية ونفسية خاصة بكل فرد على حدة ، فتتفاوت ضمائر البشر ما بين النوم والإفاقة ، ومن ثم تتفاوت سلوكياتهم الاجتماعية . وبرغم الأديان المختلفة التى عرفتها البشرية فأن اعتقاد البشر فى العقاب والثواب الأخروي أو الدنيوي لم يردع البشر عن ارتكاب الآثام والذنوب والخطايا المختلفة ، والقوانين برغم عقوباتها القاسية أحيانا لم تمنع الناس من ارتكاب الجرائم رغم علمهم بما قد يلحق بهم من عقوبات تمس حريتهم وحياتهم .
أما العنصر الأساسى والحاسم والحاكم فى التأثير على سلوكيات البشر فهو البنية الاجتماعية الاقتصادية السياسية التى يدخلون فيها ، باعتبار التأثير الشامل لهذه البنية على مجمل العناصر الداخلة فيها . ففى المجتمعات التنافسية القائمة على التملك والاستحواذ الفرديين لابد و أن نتوقع أنانية البشر وفرديتهم ، وعلى العكس ففى المجتمعات التعاونية القائمة على الانتفاع الجماعى لابد ، و أن نتوقع غيرية البشر و جماعيتهم .
الأساس الأخلاقى للرأسمالية
تتزايد الشكوى شفاهه وكتابة مما أصاب البشر من تدهور أخلاقى وسلوكى ، وعن اطراد هذا التدهور العام ، فالماضى أفضل من الحاضر ، والأباء أفضل من الأبناء . وعلى العموم فكل هذه الشكاوى مطلقة على علاتها لأسباب أيديولوجية ونفسية وسياسية ، والغريب أن نفس هذه الشكاوى المختلفة تواجدت عبر كل التاريخ البشرى المكتوب ، وفى كل مكان فيما تركه نفس الأسلاف الذين نقدسهم من أثار وتراث ونراهم ينعون فيها أيضا ما آل إليه البشر من سوء الأحوال الأخلاقية ، وذلك دون أساس من البحث العلمى السبيل الوحيد الذى يمكن أن يثبت لنا صحة هذا الزعم من عدمه أولا ، ومدى هذا التدهور إن وجد ثانيا ، أو على العكس فقد يثبت لنا أن البشر قد حققوا تطورا فى أنساقهم الأخلاقية ، وأنهم أفضل من أجدادهم وآبائهم ، بمعنى أنهم أكثر شرفا ورقيا وخيرا..الخ ثالثا ، وحيث أن معلوماتنا فى هذا الشأن لن تكون دقيقة بأى حال فلن يمكنا الحكم بشأن هذه القضية إلا فى إطار أن البشر ومنذ فجر تاريخهم يتطورون ككل إلى ما هو أفضل عموما ، وذلك بمقارنة الأنساق الأخلاقية المعلنة لمختلف المجتمعات ، والأوضاع الاجتماعية والأخلاقية للبشر عبر التاريخ من خلال ما خلفوه وراءهم من آثار وتراث .
أما ما يمكنا فعله هنا فحسب ، فهو أن نتناول بالدراسة النسق الأخلاقي للرأسمالية باعتبارها التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية السائدة الآن عبر الكوكب بأسره ، و التى تشكل الأساس المادى للحضارة الرأسمالية ذات الطابع العالمى المتزايد العمق وا لاتساع منذ نحو خمسمائة عام . والتى أخذت فى السنوات القليلة طابع الهيمنة الشاملة للرأسمالية الأمريكية الأكثر قـوة .
يتأسس النسق الأخلاقى العام للرأسمالية على قاعدة الفردية وما يرتبط بها من ذاتية وأنانية ، ومن ثم تحطم كل أشكال التماسك الاجتماعى التى عرفتها المجتمعات الإقطاعية ، والتى كانت تقيد الفردية وتوابعها بجماعية الانتماء وأولويته على مصلحة الفرد لصالح جماعة ما الأسرة ، الحى ، المهنة ، الحرفة ..الخ . فالرأسمالية تفترض لوجودها مجتمع من الأفراد الأحرار المتنافسين الذين يلتقون عبر علاقات السوق ليتبادلوا ما يملكونه من سلع مختلفة مادية ومعنوية ، مصنعة أو خام ، بما فيها قوة العمل نفسها باعتبارها سلعة ، وتفترض الرأسمالية أن هؤلاء الأفراد فى حالتهم الفردية تلك متساوون تماما وفق القانون ، وأنهم على علم بمصالحهم التى تجعلهم يدخلون فى صفقات تبادل سلعى وخدمى مختلفة عبر السوق الحر ، وأنهم عبر ذلك عليهم تحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة الذاتية لأنفسهم ، وتحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة عبر استهلاك أفضل السلع المعروضة فى السوق ، دون التفات للآخرين ممن يشاركونهم علاقات السوق الرأسمالى ، الأمر الذى تزعم معه الأيديولوجية الليبرالية أنه سيعود فى النهاية بالنفع على كل أفراد المجتمع وجماعاته ، طالما يتنافسون ، ويحققون نجاحهم كل وفق قدراته وإمكانياته ، ومن ثم يحققون المصلحة العامة للمجتمع والدولة عبر سعى كل المواطنين للنجاح الفردى فى منافسة لا ترحم وسباق لا ينتهى من أجل إنتاج لا يمكن أن يتوقف للسلع التى يتم تداولها فى السوق ، مما يستدعى دائما إلهاب ظهور المستهلكين لكى يستهلكوا ما هم فى حاجة إليه و ما هم فى غير حاجة إليه ، الأمر الذى يتحدد بمقدار نجاحهم فى المنافسة ، ويشكل معيار سعادتهم فى الحياة ، ومعيار تقييمهم للبشر ، الذين تتحدد قيمتهم بما يستهلكونه و بما يمكن أن يستهلكوه . هذا هو المعيار الحاكم فى النسق الأخلاقى للرأسمالية عموما والأكثر ارتباطا بها كنمط للإنتاج . والذى تتأسس عليه كافة العلاقات الاجتماعية فى المجتمع الرأسمالى .
لاشك أن هذا النسق له انعكاساته السلبية و الإيجابية ، الضارة و المفيدة على مستوى الصحة النفسية للأفراد ، و صحة العلاقات الاجتماعية ، ومن ثم الممارسات السلوكية للبشر .
فقد حررت الرأسمالية الأفراد مما كان يكبلهم من قيود تعوق إمكانيتهم ، ونجاحهم الفردى ، وجعلتهم أكثر شجاعة و مبادرة و صراحة و إيجابية ، إلا أنها حولت كل منهم لمجرد شيء أو موضوع أو وسيلة أو أداة للآخر ، وحولت الجميع لمجرد أرقام فى حسابات المكسب والخسارة ، ومن ثم فقد تحولت العلاقات الإنسانية إلى علاقات سوقية عموما ، إذ تحولت لصراعات وصفقات لا تنتهى بين البشر من أجل الفوز بأكبر قدر من غنائم السوق و سلعه تحت وهم تحقيق سعادة سطحية غير مشبعة نفسيا ، فالشبق الاستهلاكى الذى تثيره الرأسمالية يزيد الإحساس المستمر بالحرمان و الاحتياج برغم كل ما يتم استهلاكه من لذات ، أما الإشباع الحقيقى فلن يكون إلا حين يتطابق الاستهلاك مع الضرورة الفعلية ، وهو ما يتناقض مع منطق السوق الرأسمالى المرتبط بتحقيق الربح عبر التوسع المستمر فى الإنتاج ، وهربا من ميل معدل الربح للهبوط . فالمتسابقون يجرون فى مضمار لا ينتهى بالنسبة لكل منهم إلا بخروجه من السباق ، بالانسحاق أو الموت أو الانسحاب أو الجنون أو المرض النفسى ، وعند من يدركون تلك الحقيقة ، فالحياة على مثل هذا النحو السوقي المبتذل عبث لا معنى له و لا يستحق كل هذا العناء . فحتى وفق حساب المكسب والخسارة ، فأن ما يخسره البشر من قيم ومثل ودفء إنسانى و مشاعر جميلة وراحة نفس وذهن واحترام الذات لنفسها ومن من تحبهم وحبهم لها ، والحرية الحقيقية والحياة الطليقة من العبودية ، والامتلاك الفعلى للحياة الشخصية بعيدا عما يقيدها من علاقات السوق ونمط التملك ، لقاء ما يتم اكتسابه من سلع وخدمات سيوضح فى الحساب الختامى كم الخسارة الفادحة التى حاقت بهم مهما بلغ ما اكتسبوه.
و فى المجتمع الرأسمالى يقع الجميع فى الاغتراب ، فالعامل يبيع قوة عمله و قدرا من حريته و وقته و إرادته من أجل إنتاج سلع لا يرغب فى إنتاجها ، ومن أجل سوق لا يعرفه ، وفى ظروف عمل لا يملك السيطرة عليها ، و الرأسمالى تستعبده ملكيته ، وتحرمه من الحرية والأمن ، وتشعل لديه الخوف من الخسارة و من الفشل فى السباق ، و برغم أن ما يملكه يستعبده إلا أن أخشى ما يخشاه أن يخسره ، ويفقد من أجل كل هذا ما سبق و أشرنا إليه.
هذا هو النقد الشيوعى للنسق الأخلاقى للرأسمالية ، وكان ماركس قد تناول فى الفصل الأول من كتاب رأس المال ما أطلق عليه (وثنية) السلعة أى تحولها لصنم هو الإله المعبود فى دين السوق الرأسمالى ، والذى من أجله يقدم البشر القرابين من حريتهم وسعادتهم و جهدهم و أغلى ما يملكوه ، والسلع آلهة مخادعة من أجلها تقدم ما تطلبه من قرابين متوهما لحظتها بأنك إذا تملكت أحدها نلت السعادة ، وأشبعت الرغبة ، وإذا ما أصبحت فى حوزتك واستهلكتها أحسست بجوع لصنم آخر ، بعد أن تأكدت أن الصنم الذى سار فى حوزتك لم يكن يستحق ما دفعته من أجله من قرابين ، وأنه لم يعد يشبع لك رغبة ، وانه ليس كما كنت تتخيله قبل امتلاكه ، والأخطر أن امتلاكه أورثك القلق والخوف من أن تفقده من الحاسدين والطامعين فيما تملكه . والقرابين المقدمة من أجل السلع و إن كانت مجرد نقود بشكل مباشر ، فقد دفعت من أجلها عمرك وحريتك وجهدك وعقلك ، وفقدت بسببها الكثير من أسباب السعادة الصحية ، والإشباع الحقيقى ، وتبلغ المأساة ذروتها حين تتحول السلعة من الصنم المعبود إلى مجرد نفاية بالاستعمال والاعتياد ، ترغب فى التخلص منها بعد كل ما دفعته من أجلها ، وعبئا ترغب فى التخلص منه بعد ما كنت تظنها الكفيلة بإسعادك . ومنذ هذه اللحظة أصبحت تسلك مثل العبيد ، فلست مجرد عبدا للضرورة بل درويشا لآله السوق ، ذبت فيه ، و أصبحت لا تتميز عما يملكك و تملكه سواء أكان مجرد سلعة أو رأسمال أو مجرد قوة عمل .
و إزاء كل تداعيات هذا النمط فى الحياة تتكون شتى أشكال التمرد الفردى والاجتماعى من الحركات الدينية الأصولية أو الجديدة إلى الحركات الهيبية و الوجودية إلى الحركات الثورية المعادية للرأسمالية .
وإذن ما هو الأساس الأخلاقى للشيوعية ؟
يتأسس النسق الأخلاقى للشيوعية على قاعدة الجماعية ، وما يرتبط بها من غيرية وموضوعية ، إلا أنها ليست جماعية المقهورين كما فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية ، وإنما جماعية الأفراد الأحرار المتعاونين طوعا فيما بينهم من أجل إشباع احتياجاتهم المختلفة الفردية والجماعية ، وهم حين يجتمعون على هذا النمط التعاونى الحر ، يكف كل منهم على التعامل مع الآخرين كأشياء أو موضوعات أو أدوات أو وسائل لإشباع رغباته على حسابهم أو مجرد أرقام فى دفتر المكسب والخسارة ، وإنما كبشر أحرار و متساوين و غير خاضعين للقهر والاستغلال . و من ثم تحل قيم التعاون والتضامن والتكافل بين أعضاء المجتمع محل قيم التنافس والصراع ، ويتحرر البشر من عبودية التملك والسلع بتحول هدف الإنتاج من تحقيق الربح عبر فروق القيم التبادلية للسلع فى السوق إلى إشباع الاحتياجات الاستعمالية فقط . وهذا افتراض قائم على أن سعادة الإنسان تتحدد بمقدار تحرره وسيطرته الفعلية على مقدرات وجوده الإنسانى ، وبشرط أن قيمته الاجتماعية تتحدد بما يؤديه من عمل و ما يملكه من قدرات متحررة من الطابع السلعى ، بمعنى أن تتحرر قوة عمله من كونها سلعة ، هذا هو ما بشرت به الشيوعية بصرف النظر عما تم باسمها خلال القرن العشرين لظروف لا مجال لذكرها فى هذا المجال .
ولما كان الهدف من الشيوعية فى جوهرها هو تحرير البشر من كل ما يعيق ممارستهم للمثل العليا الإنسانية ، عبر تشكيلة اجتماعية اقتصادية وتنظيم سياسى للمجتمع يسمح بذلك ، فأن على الشيوعيين أن يتمسكوا بهذه المثل العليا ، ففاقد الشىء لا يعطيه ، و لا يمكن لمجرم ومنحل و وغد أن يقنع أحد ـ إلا المعتوهين ـ أنه يناضل من أجل تحريرهم من القهر و الاستغلال أو يقنعهم بهذا النضال ، وهو يمارس فعليا هذا القهر وذاك الاستغلال مهما كانت المبررات . ولا يمكنه حتى ولو خدعهم أن يحقق فعلا ما يعد الناس به . بسبب العلاقة التلازمية بين الغاية والوسيلة . فالغاية تبرر الوسيلة إذا كانت من طبيعتها ، ولا تبررها طالما كانتا من طبيعيتين مختلفتين .
نعود إلى بداية المقال كى نختمه ، لماذا هذه السمعة السيئة التى يتمتع بها المنتسبون للشيوعية وسائر الخارجين عن المألوف والتقليدى فى مصر ؟ وهى فى رائى وبحكم تجربتى الشخصية تهمة مبالغ فيها بشكل كبير بالقياس إلى ما هو شائع عن غير الشيوعيين و أشباههم .
جزء من المسألة يرجع لثلاث عوامل من خارج الحركة الشيوعية هى
أولا:- الدعاية المضادة والمكثفة ضد الشيوعية باعتبارها أخطر حركة معادية للرأسمالية تهدد وجودها ذاته ، ولازالت برغم النكسة المؤقتة التى تعرضت لها . ثانيا :- الطريقة الساذجة التى يفكر بها الناس فتجعلهم يطابقون بين الدين والأخلاق الجيدة ، و اللاتدين و الأخلاق السيئة رغم عدم صحة التطابق و التلازم ، فضلا عن التعميم الساذج للتجارب الشخصية و الذى يتردد بين الناس بلا تروى ، فيتحول إلى ما يشبه الحقائق العلمية ، فإذا صادف أحدهم أن تعامل مع أحد الشيوعيين سيئ الخلق فأنه يعمم التجربة لتشمل كل الشيوعيين ، مثل رجل خانته امرأة فتتحول كل النساء إلى خائنات فى نظره ، وهو أمر راجع إلى صبيانية التفكير وبدائيته ، الذى يجعلنا دائمى النزوع للتعميم و إصدار الأحكام المطلقة ، ووضع الناس فى فئات جامدة ، و التى يقع فيها المثقفون مثلهم فى ذلك مثل عامة الناس ، والغريب أن ما يتم ترديده عفويا ، يصبح مع الوقت كبديهية لا تستوجب البرهان العلمى ،ونظل نرددها بلا وعى و نبنى على أساسها المواقف .
ثالثا :-أن الشيوعيين فى حقيقتهم أبناء البنية الرأسمالية ولو عادوها نظريا فأنه سيصعب عليهم التحرر الكامل من تأثيرها ومن تأثير الثقافة والوعى السائد حتى ولو هاجموه بالنقد ، وأن استطاعوا بشكل نسبى تجاوزه . فكيف يستطيعون التحرر من ديانة السوق وقيمه و أخلاقه ، وهم أسرى البنية التى تفرزها .
الجزء الآخر للمسألة يرجع إلى الشيوعيين أنفسهم كحركة وكأفراد ومنها العوامل الآتية : ـ
أولا :- التفسير المبتذل و العدمى للمادية الذى يتشبث به البعض ليبرر تمرده الاجتماعى وانحلاله الأخلاقى ، فيستخدم الرطانة الثورية كى يخفى بمهارة كل ما يفعله البورجوازى من سلوك عفن ومنحط ، فيتعامل الرجل منهم مع المرأة كمجرد وسيلة للمتعة ، و يقهرها و يستغلها ، تحت الغطاء الثورى الكاذب المسمى الحرية الشخصية ، كما تتعامل هى معه بنفس المنطق النفعى ، وباعتبارها العنصر الأضعف اجتماعيا فى العلاقة تصبح ضحيتها الأساسية مما يصيبها بقدر من المرارة أحيانا أو المزيد من الانحدار أحيانا أخرى ، وخصوصا فى المجتمعات التى تولى أهمية خاصة ومحورية للسلوك الجنسى فى سلم القيم الأخلاقية ، و يسرق البعض أو ينصب محتجا بعدم قدسية الملكية الخاصة ، برغم أن المجتمعات الشيوعية نفسها لم و لن تخلو من ملكية المقتنيات الشخصية على نحو خاص .
و فى الحقيقة أن أيديولوجيا التمرد و ممارستها لا تحمل فى حقيقتها تحريرا حقيقيا للبشر ، فالذى يتمرد على المجتمع و يتعاطى المخدرات ، وغيرها من المكيفات التى تصيب بالإدمان أو تضر بالصحة ، ينزلق إلى عبودية المخدر والكيف ، ويفقد حريته الحقيقية وهو يبحث عنها ، وهو فى النهاية يصبح عبدا للتمرد فى حد ذاته ، ويعجز عن التغيير الفعلى للمجتمع مثله مثل الذى يطلق العنان لإشباع غرائزه متوهما أنه بذلك يصبح حرا فيصبح عبد لتلك الرغبات التى لا تنتهى فى الإشباع.
ثانيا :-عدم تحررهم من النسق الأخلاقى البورجوازى ، وعجزهم عن تجاوز هذا النمط من الحياة أحيانا و بالتالى يصبح سلوكهم فى الحياة نموذجا للتناقض بين المعلن عنه نظريا والممارس واقعيا مما يفقدهم المصداقية . ثالثا :- كونهم يسلكون أحيانا و فى إطار السلوك الجنسى بشكل خاص ما يختلف عن النسق الأخلاقى المعلن للمجتمع برغم أن سلوكهم لا يختلف فى الواقع عن غير الشيوعيين ، سوى أن الآخرين يمارسونه سرا ويرفضونه علنا فى حين أن الشيوعيين يبررونه و لا يجدون فيما يفعلون خطأ يستوجب السرية والرفض ، مما يصدم الحس التقليدى والوعى المحافظ السائد . رابعا:- عدم الاهتمام الفعلى بالجوانب الأخلاقية و التربوية و الثقافية فى الحركة مما يتيح الفرصة للمرضى نفسيا و المشوهين سلوكيا و الجهلاء و الحمقى و المتمردين اجتماعيا و المغرضين فضلا عن الانتهازيين و الأفاقين من كل شاكلة و نوع أن يملئوا صفوف الحركة ، وهذا أيضا مرتبط بعدم الاهتمام النظرى بموضوع الأخلاق إلا فى إطار الصراع السياسى كما ذكره لينين مثلا فى تعريفه للأخلاق الشيوعية ، والذى تحولت الأخلاق الشيوعية فيه إلى نزعة براجماتية تحددها فى كل سلوك يهدف إلى انتصار الشيوعية ، وبمعنى آخر تسيس الأخلاق وابتذالها ، مما أفقد الأخلاق وظيفتها الاجتماعية العامة وضرورتها لصحة الأفراد النفسية و صحة علاقاتهم الاجتماعية بصرف النظر عن الصراعات الاجتماعية والسياسية . و أهمية طرح نسق أرقى ملزم فى القيم الأخلاقية و السلوكية .
وإذا كانت هذه عوامل عامة فهناك عوامل خاصة بالحركة الشيوعية المصرية ، وما يمكن أن يتشابه معها من حركات ، فالحركة الشيوعية المصرية لم تعرف أبدا الجماهيرية إلا فى لحظات تاريخية محدودة جدا ، وفى أوساط الطلاب والمهنيين والمثقفين أساسا ، وبمناسبات المد الوطنى التى تجذب مثل تلك الفئات ، مما أكسبها الطابع القومى وأورثها تناقضها المميت ، و أفقدها طابعها المميز كحركة تحرر إنسانى تقوم من بين ما تقوم عليه على نقد النسق الأخلاقى البورجوازى و تقديم نسق أخلاقى أكثر تقدما . وخصوصا أنهم تبنوا الشيوعية بقدر كبير من الانتقائية ، يلبى ما يحتاجونه فعليا منها ، فهناك من شاء أن يحولها لمجرد أيديولوجية قومية جذرية ، فى إطار الصراع القومى التحررى ، وفى إطار الصراع مع الأصولية الدينية والقوى المحافظة ، وهناك من حولها كمبرر للتمرد على القيم الاجتماعية السائدة بجوانبها المحافظة ، لعجزهم عن التبنى الصريح للعدمية أو الهيبية أو الفوضوية الفردية .
ونظرا لتدنى جماهيريتهم فقد ظهرت بينهم أخلاقيات القبيلة المنعزلة عن الواقع و المتمردة عليه ، وكان أهم آثار عدم الجماهيرية تلك ، هو حرصهم على أن لا يفقدوا أى منهم ، فمارسوا التدليل الليبرالى فيما بينهم حتى يحافظوا على العدد المحدود أصلا من التقلص . وأخيرا فأنى أرى أن العقود القليلة المقبلة و مع تزايد معدلات التهميش للكتلة الأعظم من البشر ، سيواجه العالم من ضمن ما سيواجه من احتمالات ، زيادة حركات الاحتجاج الجماعية فى مواجهة نمط الحياة البورجوازى ونسقه الأخلاقى ، تلك الحركات التى ما زالت تحمل الطابع الرجعى فى معظم الأحوال ، مما يستلزم وجود بديل تقدمى وتحررى ، لا يستهدف العودة للماضى ما قبل الرأسمالى ولا يستلهم رؤى السلف ، ولا يتبنى معاداة التنوير والعقلانية والعلمية ، ولا يستعبد الإنسان بقيود جديدة بقدر ما يحرره من القيود والأوهام ، وهو ما أعتقد أن قوى التقدم والتحرر قادرة على أن تقدمه شرط أن تفهم أهميته .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية