الأممية الآن وليس غدا
الأممية الآن وليس غدا
سامح سعيد عبود
أتخيل الكثيرين مما قد يقرأون هذا المقال سيتهمون كاتبه بشتى الاتهامات من المثالية والخيالية إلى الانعزال عن الواقع وعدم العلم به ، متناسين أن ما صدمهم من أفكار بالتحديد إنما استند إلى ما هو جوهرى وأساسى فى هذا الواقع الذى يزعمون معرفته و الاستناد إليه ، فالكاتب ليس بغافل بالطبع عن ذلك الجانب من الواقع الذى يستند إليه هؤلاء فى رفض ما يدعيه ، وهو أنه بالرغم من كوكبية الاقتصاد المتزايدة إلا أن الغالبية الساحقة من البشر مازلت تسيطر عليهم شتى الأفكار و الأيديولوجيات القائمة على عبادة الدولة وتقديسها ، ومرجعية القومية والدين والطائفة والثقافة والعادات والتقاليد والأعراف المحلية والعرق واللون واللغة بل وحتى القبيلة ، وهم على استعداد للدفاع حتى الموت عن تلك المرجعيات ، وعن تلك الأيديولوجيات ، وأنه و بالرغم من الكوكبية المتزايدة فأن شتى مظاهر التفكك فى العالم تتزايد بنفس المعدل فلم يتفكك الاتحاد السوفيتى ويوغوسلافيا فحسب بل سمعنا عن نزاعات عرقية فى فيجى وجزر سليمان وحركة انفصال فى جزر القمر والذى لا يزيد عدد سكانهم جميعا عن سكان الحى الذى اسكنه، ومن ثم تصبح تلك الدعوة للوحدة الإنسانية هى أحلام قلة نادرة من المهمشين والحالمين والمنعزلين عن جموع البشر ، ومن ثم فاقدى التأثير و الأهمية ، و كأنما من المفترض أن يرضخ المرء لما تراه الأغلبية حتى لو ثبت ليس مجرد خطأه بل مدى ضرره على مستقبل تلك الأغلبية نفسها ، وكأنما من المستحيل أن تغير تلك الأغلبية رأيها عندما تكتشف مدى إضراره بمصالحها ، وخصوصا أن تلك الأغلبية صناعة اجتماعية شكلتها وسائل التعليم والإعلام والثقافة ليست بالضرورة تعى حقيقة مصالحها، وليس يعنى هذا الدعوة للوصاية عليها على أى نحو ، و إنما مقاومة المؤثرات التى تعميها عن تلك المصلحة بتعليم وإعلام وثقافة أخرى ، الأهم من كل هذا وهو ما يعطى مثل هذه الدعوة قوتها أنها لا تفترض أنها دعوة تقبل أو ترفض ، و إنما هى تعبير عن ضرورة حاكمة يفرضها الواقع نفسه ، وتعبير عن مصالح الكتلة الأعظم من البشر حتى و لو كانت تلك الكتلة لم تدرك مصالحها بعد .وهى بلا شك تمس مصالح آخرين بالضرر مما يجعلها موضوعا للصراع بين من فى مصلحتهم الإبقاء على الوضع الراهن وبين من يناضلون من أجل تغييره ، وسوف ينجح فيه من يلتمس بكفاءة أكثر سبل النجاح ، ويكون أكثر فهما للواقع ، و اكثر قدرة على التعامل مع ضروراته وحقائقه ، و أكثرهم بذلا للجهد للوصول لهدفه .فالضرورات التى تحكم الواقع لا تعنى انعدام القدرة على التأثير على الواقع وتغييره .
و فى الحقيقة فأنى لا أملك إزاء كل هذه الاتهامات المسبقة إلا أن أضع أمام قرائن الاتهام تلك الدفوع :ـ
* أن العالمية ظاهرة تاريخية بدأت منذ فجر التاريخ إلا أن نموها مرتبط بزيادة قدرة البشر على إقامة الاتصالات فيما بينهم ، والتى ازدادت مع الثورة الصناعية ، وما عرفته من تكنولوجيا المواصلات البخارية والكهربية ووسائل الاتصال الحديثة حتى وصلت إلى ما نعرفه الآن عبر الإنترنت والأقمار الصناعية ، حتى أن شابا من تايوان ، وآخر من الفلبين استطاعا صنع فيروسين للكومبيوتر أثرا ببثهما عبر الإنترنت فى اقتصاديات العالم كله ، واستطاع ملياردير بالمضاربة فى البورصة عبر الإنترنت أن يلحق التدمير باقتصاديات النمور الآسيوية ، واستطاع آخرون الدخول على شبكات أجهزة المخابرات ، ووزارات الدفاع ، و القواعد العسكرية والبنوك وفك الشفرات والإطلاع على الملفات . فأصبح لا أمن ولا سرية و لا رقابة و لا حدود قومية فى عالم اليوم ، وكل ذلك بضغطة على أزار الكومبيوتر التى تستطيع أن تبث من خلالها كل ما تريد إلى كل بقاع الأرض فى لحظات و أن تنقل أى كميات من النقود من مكان لمكان ، كما يمكنك أن تستقبل منها كل ما تتخيله من مواد مسموعة ومرئية ومقروءة دون أى إمكانية للرقابة الفعالة من قبل الدولة التى تقيم فيها .والغريب أنه منذ أربعة عشر قرنا من الزمان أمر النبى محمد اتباعه ، وكانوا مجرد قلة قليلة مضطهدة ، أن يهاجروا إلى الحبشة لأن بها ملك لا يظلم عنده أحد على بعد آلاف الكيلومترات من مكان إقامته فى مكة تلك المدينة الصحراوية ، والتى كانت تشكل معبر للتجارة بين شمال وجنوب الجزيرة العربية بالإضافة لكونها مركز دينى للقبائل العربية البدوية فى الجزيرة العربية ، وما إن استتب له الأمر فى الجزيرة العربية حتى أرسل رسله إلى حكام الدول المجاورة ، ونسب إليه حديثا يقول خذوا العلم ولو فى الصين .وبعد سنوات قليلة أرسى أتباعه إمبراطورية ضخمة امتدت من حدود الصين الغربية وحتى أسبانيا ،وقبله بألف عام حاول الإسكندر الأكبر توحيد العالم الذى كان معروفا لديه تحت حكمه برغم عدم توافر أى من وسائل الاتصال والتواصل المستعملة الآن ، والتى اكتشفتها البشرية خلال النصف قرن الماضية.
* الحقيقة التى يتم تغافلها من الكثيرين أن الرأسمالية كنمط إنتاج تختلف عن ما قبلها من أنماط إنتاج فى كونها ظاهرة عالمية منذ اللحظات الأولى لميلادها بعكس الأنماط الأخرى والتى سبقتها ، والقائمة غالبا على الاكتفاء الذاتى ، والسبب فى ذلك كامن فى ميل الرأسمالية المستمر للتوسع فى الأسواق بحثا عن المستهلكين وقوة العمل والمواد الخام ..الخ ، وذلك هربا من ميل معدل الربح للانخفاض ، وقد أخذ هذا الميل للتوسع عبر العالم فى دفع الرأسمالية عبر مراحل تطورها المختلفة ، يأخذ أشكالا مختلفة تتناسب مع كل مرحلة ومع نوع ومدى احتياجات الرأسمالية من التوسع ، فكانت الرأسمالية التجارية ثم الاستعمار و أخيرا الكوكبية المسماة بالعولمة كمرحلة أخيرة فى ظاهرة عالمية الرأسمالية . وكما كانت الرأسمالية ظاهرة عالمية ، فالقومية والدولة القومية ظاهرتين رأسماليتين حديثتين فى التاريخ البشرى ، فقد كانت الدول فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية لا تؤسس على أساس الهوية الجماعية أيا ما كانت قومية أ غير قومية ، بل على أساس التبعية الشخصية للحاكم من رعاياه أيا ما كان لقبه ، و المعتمد على ما يملكه من قوة عسكرية فى إخضاع رعاياه ، و بصرف النظر عن ما كان ينتمى إليه هؤلاء الرعايا والتابعين من ثقافات و شعوب وما يستخدموه من لغات ولهجات وما يعتنقوه من أديان ، وما يمارسوه من عادات وتقاليد ، وكانت العلاقة بين الحاكمين والرعايا ، تتلخص فى جوهرها فى دفع الرعايا أنواع من الالتزامات النقدية والعينية للحاكم بما يعينه على حمايتهم من نهب الحكام الآخرين ، وحماية سلطته عليهم من المتنافسين على نهب الرعايا ، وكان جوهر مطالب المحكومين هو عدم المبالغة فى الضرائب والجزية والمكوس والالتزامات العينية الأخرى ، وعدم التعنت فى تحصيلها حيث كان يتحدد موقف الرعايا من الحكام وفق سلوكهم فى فرض الالتزام وتحصيله ، بصرف النظر عن جنسية الحاكمين التى كانت لا تهم الرعايا . وكان تأسيس الدولة القومية الحديثة هو هدف نضالى بورجوازى ضد الامتيازات الإقطاعية فى غرب أوربا من أجل توحيد السوق القومى ، و إزالة معوقات النمو الرأسمالى الذى كانت تحده تلك الامتيازات ، ومن ثم كانت الهوية الجماعية ، و من ثم دولتها صناعة رأسمالية انتقلت للبلدان المستعمرة فى غمرة مطالبتها بالاستقلال عن الدول الاستعمارية ، ومن هنا نشأ مفهوم المواطن المنتمى للهوية للجماعية للدولة التى تجسدها . وانتهى مفهوم التابع للحاكم والدولة التى تتجسد فى الحاكم . ومن ثم كان تأسيس الدولة على مفهوم الهوية الجماعية المتميزة عن غيرها من الهويات الجماعية ، هدف استدعته و خلقته البنية الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية ،و قد استدعى معه خلق بنية متكاملة من الوعى الاجتماعى القائم على فكرة الهوية الجماعية مازال عميقا بلا شك ، واستدعى تأصيل ذلك فلسفيا عبر العديد من الفلاسفة والمفكرين الكبار فى القسم المتقدم من العالم من هيجل وحتى هتنجتون ، وقلدهم العديد فى بلاد القسم المتخلف ، فى بلادنا العربية أمثال ساطع الحصرى للقومية العربية ، وسيد قطب للأصولية الإسلامية وغيرهم ، وقامت حركات سياسية واجتماعية وثقافية ، وتكونت أيديولوجيات على هذا الأساس ،والتى ما زالت هى الأقوى برغم ما تخلخل تحتها من أساس مادى ، وما أصابها من شروخ ، مما تسبب فى هشاشتها ، ومن ثم أصبحت آيلة للسقوط رغم كل الصخب الغوغائى الذى تحدثه من حولها ، مما يوحى باستمرار صلابتها وقوتها . وربما كان هذا الصخب الشديد ناتج عن إحساسها بالحصار الذى كلما استحكمت حلقاته كلما كانت أكثر شراسة فى محاولة إنقاذ نفسها من الاحتضار بسببه بالمزيد من المهاترات البيزنطية.
* شهد التطور الجديد فى ظاهرة الكوكبية الرأسمالية فى الربع الأخير من القرن العشرين ظاهرتين لم تكونا معروفتين بهذه الحدة من قبل الأولى سيادة كوكبية الإنتاج المادى على الإنتاج المحلى ، وفى نفس الوقت استمرار الدولة القومية ، وازدهار الحركات السياسية القائمة على أساس الخصوصية الجماعية .. ذلك لأن الكثير من قطاعات الرأسمالية الصغيرة التى تعمل فى الزراعة والصناعات الصغيرة أو القطاعات التى كانت تتمتع بأوضاع احتكارية أو شبه احتكارية داخل الحدود القومية ، أو تلك التى خسرت ما كانت تتمتع به منتجاتها بالحماية الجمركية أصبحت تتضرر من جراء حرية التجارة ، و عجزها عن المنافسة عبر العالم . كما أن قطاعات من الطبقة العاملة فى القسم الغنى من العالم أصبحت تتضرر من منافسة ذلك القسم من العمالة الرخيصة المهاجرة لها فى الوقت الذى تتعرض فيه لازدياد معدلات البطالة ، وهو ما أدى إلى الظاهرة الثانية فبر غم من القبول الواسع بحرية تداول السلع وانتقال رأسالمال عبر العالم إلا أن الحظر يزداد على انتقال قوة العمل كسلعة عبر العالم حتى أصبح انتقال العمالة من بلاد العالم النامى والمتخلف لبلاد العالم المتقدم والغنى محاصرا بشتى أنواع القيود الذى تصل لحد المنع ، و من ثم ازداد تفاوت عائد العمل من مكان لمكان على الإنتاجية الواحدة .
* كان السبب فى انهيار وذبول دور الدولة القومية ، والشروخ التى أصابت فكرة السيادة الوطنية كما كانت تطرحها أيديولوجيات الهوية الجماعية فى أصولها هى أن السلعة أصبحت منتج عالمى برغم ما قد تحمله فى السوق من جنسية قومية محددة ، و أن سقوط الدول التى حاولت الاستقلال عن السوق العالمى هو بسبب عدم كفاءة إنتاجها السلعى إزاء السلع المنتجة عالميا ، وعدم قدرتها بالتالى على إشباع احتياجات مواطنيها من السلع والخدمات المختلفة . وكان هذا هو السر فى سقوط نظريات الاكتفاء الذاتى والتنمية المستقلة التى لا تعنى سوى عدم الاستفادة من حقيقة المزايا النسبية للمناطق المختلفة من العالم فى إنتاج السلع المختلفة ، والذى يعنى إنتاج سلع بتكلفة أعلى و أسوء فى خصائصها و أقل قدرة على الإشباع ، فى حين استفادت من حقيقة المزايا النسبية الدول التى اندمجت فى السوق العالمى فانخفضت التكلفة الفعلية للسلع وازدادت جودتها وقدرتها على الإشباع .
* أصبحت قضية المحافظة على البيئة قضية عالمية لا يمكن تناولها بالحل إلا عبر العالم ، وخصوصا فى ضوء ما تحاوله الرأسمالية العالمية من تصدير الصناعات ، والمنتجات الملوثة للبيئة إلى العالم النامى والمتخلف ، ومحاولة دفن النفايات النووية وغير النووية ، فتلويث نهر فى دول المنبع يعنى انتقال التلوث لدول المصب ، وانفجار مفاعل نووى فى بلد ما يعنى انتقال الإشعاع للبلاد المجاورة فالرياح لا تعرف الحدود ، ومن هنا لا سيادة للدولة مطلقة على حدودها القومية ، وأن للآخرين أن يتدخلوا إذا ما مست تلك السيادة سلامة البيئة لديهم بل أصبحت المحافظة على بيئتهم المشتركة دافع للتعاون المشترك فيما بينهم ، مما يعنى اتخاذ قرارات جماعية ، والالتزام بقواعد محددة فى التعامل مع البيئة مما يحفظ سلامتها للجميع .
* بلغ التطور العلمى والتكنولوجى حدا يسمح بتوفير الرفاهية الفعلية لأضعاف سكان الأرض ، والقضاء على الندرة فى ضروريات الحياة ، سواء على مستوى الإنجاز الفعلى الذى لا تستمتع به ولا تستفيد منه إلا قلة من المترفين فى العالم بسبب سوء التوزيع ، أو إمكانيات الإنجاز المكبوتة بسبب السيطرة علي البحث العلمى والإبداع التكنولوجى من قبل الشركات المتعدية الجنسية خاصة ، و الرأسمالية عامة ، وذلك لأسباب متعددة منها
أولا:ـ الخوف من أن تؤدى هذه الإمكانيات المنجزة أو المكبوتة إلى زيادة معدل ميل معدل الربح للانخفاض بسبب ما قد تؤدى إليه من تعاظم التكوين العضوى لرأسالمال ( زيادة قيمة الرأسمال الميت وهو وسائل الإنتاج على الرأسمال الحى وهو قوة العمل) ، وخصوصا تلك التى توفر الجهد البشرى
ثانيا:ـ الخوف من تهديد فرص تسويق منتجاتها بالمنتجات الجديدة التى توفرها التكنولوجيا الحديثة ، ويظهر هذا بوضوح فى مجالات الطاقة ووسائط النقل من قبل شركات السيارات البترول .
ثالثا:_ عدم القدرة على توفير استثمارات لتحويل تلك الإنجازات لسلع فى مجال الإنتاج بسبب البنية الاقتصادية الرأسمالية فى العالم التى تعتمد على المنافسة والمبادرة الفرديتين ، ويظهر هذا فى مجالات الأتمتة والذكاء الصناعى خوفا من الارتفاع غير المحتمل فى معدلات البطالة الهيكلية مما يعنى انخفاض الإنفاق الاستهلاكى وزيادة المخزون السلعى ، انخفاض معدلات الربح بالتالى وذلك فى الوقت الذى يزداد فيه التضخم بسبب الأوضاع الاحتكارية للرأسمالية العالمية.
رابعا :_ الطريقة الانتقائية التى يتم بها تمويل ومن ثم توجيه كل من البحث العلمى والابتكار التكنولوجى فيما يفيد زيادة أرباح الرأسمالية العالمية دون النظر لتوفير الاحتياجات الضرورية لغالبية البشر ، ونجد ذلك فى إنتاج السلع الترفيه والسلاح . * أن الحكومات ومن وراءها المؤسسات العسكرية تحتكر البحوث العلمية من أجل زيادة هيبة الدولة القومية بزيادة إنفاقها العسكرى وتطويرها لقدراتها العسكرية ، وكذلك الأمر مع شركات السلاح التى تسيطر على البحث العلمى من أجل الفوز بأكبر نصيب ممكن من سوق السلاح العالمى ، وخصوصا فى مناطق النزاع المسلح فى العالم فى حين لا يوجه هذا الإنفاق و لا تلك البحوث فى سبيل إشباع الاحتياجات الإنسانية الضرورية فى ظل بيروقراطيات ونخب حاكمة تفضل المدفع على الزبد للدفاع عن سلطاتها ، ومبرر وجودها ، ومشروعية حكمها ، كما قال الزعيم النازى جورنج " المدفع قبل الزبد " وهو المعروف فى نفس الوقت بعشقه للترف ، حيث تتكلف صناعة الأسلحة المختلفة زبدة الإنتاج العالمى عبر العالم إنتاجا واستهلاكا ، و التى تترك غالبا للصدأ ولكى يتم استبدالها دائما بالأحدث والذى يأكله الصدأ هو الآخر فى فترات السلام وهكذا ، ويتكلف التدريب على استخدامها أكثر مما يتكلف التدريب على وسائل الإنتاج المدنية ، وأخيرا تهدر قوة العمل المتدربة على استخدامها سواء فى السلم بعدم الإنتاج أو فى الحرب بالإهلاك ، رغم ما تتميز به من الكفاءة الأعلى من قوة العمل المدنية غالبا ، و التى يستنفد أفضل ما فيها من كفاءات هى الأخرى فى صناعة السلاح باعتبارها صناعة استراتيجية للأمن القومى تستقطب أفضل المهارات ، وحين تستخدم الأسلحة ومن يعملون عليها لحماية الحدود القومية أو الهجوم على الحدود القومية للآخرين ، فأنها لا تسبب سوى الضرر والدمار للبشر والموارد الطبيعية وتلويث البيئة ، فضلا عن إهلاك قوتى العمل العسكرية والمدنية لطرفى الصراع المنتصر والمهزوم ، ..ولا مجال هنا لكى أورد مقارنات بين ما تتكلفه تلك الصناعة وما تهدره من إمكانيات وموارد طبيعية وبشرية وفرص للنمو والرفاهية ، وبين ما يمكن أن يوفره هذا الإنفاق المروع فى توفير التعليم والثقافة والعلاج والسكن والطعام ..الخ لبلايين البشر المحرومين من ضروريات الحياة بسبب المصالح الضيقة للبيروقراطيات الحاكمة ، والمؤسسات العسكرية ، وشركات السلاح . وبين ما يمكن أن يحدث من تقدم هائل لو أتجه البحث العلمى والإنتاج والتعليم والتدريب العسكرى للأغراض السلمية بدلا من العسكرية من أجل رفاهية البشر ، وتلبية احتياجاتهم الإنسانية المشروعة . تلك النتيجة التى ستوفر الأساس لسلام فعلى بين البشر الذين لا تجد غالبيتهم الساحقة ـ لو كان لها أن تقرر ـ أى مبرر للانخراط فى الصراعات المسلحة وممارسة العنف فيما بينهم ، إلا حينما تتعرض مصالحهم المادية للخطر ، وحين يحرمون من تلك الاحتياجات الضرورية للحياة ، وحين تنتهك حقوقهم المشروعة . وكأنما هى حلقة خبيثة يتورط فيها البشر الآن ، فالإنفاق على التسلح والعسكرة يعنى حرمان غالبية البشر من ضروريات الحياة مما يدفع المحرومين للتسلح من أجل التخلص من هذا الحرمان ، وهو يدفع المترفين لحماية رفاهيتهم من تهديد المحرومين ، فى حين أن توفير هذا الإنفاق العبثى نفسه وتوجيهه لرفاهية المحرومين كفيل بالتخلص من سفه هذا الإنفاق من كلا الطرفين ، وهو ما يمكن إنجازه بزوال الحدود بين الشعوب مما تتحول معه الجيوش لزائدة لا معنى لها ، وهى التى ما وجدت إلا لكى تحميها .
* لاشك أن استمرار الدولة القومية وراء الكثير من الظواهر التى تعيق التطور البشرى فى تلك المرحلة ومنها الإهدار الهائل للموارد الطبيعية والبشرية من أجل استمرار البيروقراطيات والنخب الحاكمة فى السلطة ، والدفاع عن مصالحها ليس فحسب فى ترسيخ الانقسام الرأسمالى ما بين رأسماليات قومية تجد الدولة فى وجودها مبرر لاستمرارها وأخرى عالمية تمارس ديكتاتورية السوق على نفس الدول ، بل والانقسام فى قوة العمل ما بين عالية الدخل فى العالم القسم المتقدم ، ومنخفضة الدخل فى القسم المتخلف ، و الذى من خلاله يتم نزح الفرق بين الدخلين إلى العالم المتقدم .
* أصبحت الديمقراطية فى العالم بكل أبعادها وبكل تلويناتها لا تنطلى إلا على السذج ، فالمشاركة فى الانتخابات العامة تتدهور بمعدلات عالية فى كل بقاع العالم ،فالأحزاب فضلا عن تدهور عضويتها فأنها فعليا تصل إلى السلطة فى أكثر البلدان ديمقراطية بنسب متدنية من أصوات من يحق لهم الانتخاب ، كما تتقلص عضوية النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية بمعدلات مذهلة ، مما يجزم بضعف المشاركة والثقة الشعبيتين فى تلك اللعبة التى تمارسها النخب الحاكمة والسياسية والبيروقراطيات الحكومية والحزبية والنقابية مما يفقدها حتى فى أكثر البلدان ديمقراطية مشروعيتها ، وفى نفس الوقت تتشكل المنظمات الدولية و الإقليمية من ممثلين بيروقراطيين لتلك الحكومات المتفاوتة فى طريقة تمثيلها لشعوبها ما بين الديمقراطية والديكتاتورية ، وتتخذ القرارات التى تمس مصالح سكان الأرض دون إرادتهم ، ووفق آليات غير ديمقراطية تعتمد على موازين القوى الدولية .وحيث أن القرارات ذات الطابع التنفيذى أو التشريعى أو القضائى لتلك المنظمات تتعلق بمصالح سكان الأرض فلابد ووفقا لدواعى الديمقراطية أن يسأل فيها هؤلاء السكان ، وأن تتشكل تلك المنظمات طالما تمتلك السلطة وفق آليات ديمقراطية يمثل فيها السكان لا الحكومات . بمعنى ضرورة وجود تنظيم سياسى ديمقراطى عام للمجتمع البشرى .
ومن المؤشرات التى تؤكد على لا ديمقراطية النظام السياسى العالمى استبداد الشركات المتعدية الجنسية بأحوال البشر بعيدا عن الرقابة الشعبية والرأى العام ، فتستطيع شركة ميكروسوفت مثلا أن تقرر عدم السماح بإنزال برامجها على أجهزة الكومبيوتر من إنتاج شركة آى بى إم ، ولك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث فى العالم الذى أصبح معتمدا فى إدارة شتى أمور حياته على استخدام برامج الويندوز و الأوفس التى تنتجها ميكروسوفت ، والتى تباع مع أجهزة آى بى إم الأصلية والغير أصلية ، وبالرغم من خطورة القرار الذى يشبه فى أثره قرار تدمير العالم بالأسلحة النووية فأن من فى إمكانه أن يقرره هو مجرد رجل أعمال لا علاقة له بالسياسة المباشرة ، أو أجهزة الدولة القومية أو المنظمات العالمية ولم يختاره سوى المساهمين بالشركة ، و أن من يمكن أن يحاسبه على قراره هذا هم هؤلاء المساهمين بالشركة ، بعيدا عن إرادة المستهلكين ، فضلا عن أن الشركة تحمل جنسية الولايات المتحدة وتخضع لسلطتها القضائية إذا ما خالفت القوانين الأمريكية فى حين أن سلوكها يمتد تأثيره إلى ما وراء الحدود الأمريكية . وتستطيع منظمة الدول المصدرة للنفط رفع أو خفض إنتاج البترول وسعره فى السوق فيتأثر الاقتصاد العالمى انكماشا أو توسعا وفى مثل هذا النظام العالمى لا يمكن الحديث عن الديمقراطية أو الحرية طالما أن غالبية سكان الأرض تتخذ بشأنهم قرارات تؤثر فى حياتهم دون أن يحق لهم الاعتراض أو التأثير فى متخذى القرار ومنفذيه. وتستطيع الشركات المتعدية الجنسية نقل استثماراتها والرأسماليون الماليون فى نقل الأموال عبر العالم بلا قيود ، مما يؤثر على الاقتصاديات فى الدول القومية المختلفة انكماشا وتوسعا ،وبطالة وتوظفا، بعيدا عن إرادة المواطنين .مما يرغم الحكومات على التسابق على إرضائها بالإعفاءات الضريبية والجمركية ، وتخفيض الإنفاق الاجتماعى.بعكس رغبة الناخبين .و أخيرا قالت لى ذات يوم إحدى قيادات الحركة الماركسية القومية تعليقا على العالمية التى أمثلها ،أنكم عاجزون أن تفعلوا شيئا هنا فتعلقتوا بالعالم هربا من تغيير الواقع المحلى ، والحقيقة أن أى معارضة فى العالم لن تفعل خير مما تفعله أى حكومة قومية فى العالم الآن مهما تحسنت نواياها تجاه شعوبها وأيما كانت برامجها ، فستفاجأ حين تصل إلى دست الحكم أنها مقيدة بأوامر ديكتاتورية أسواق المال العالمية والتى يجسدها الرأسماليون العالميون التى تنتقل أموالهم وسلعهم عبر العالم بلا قيود ، ومن ثم فالتأميم وفرض الضرائب على الأرباح ورأسالمال ،و الإنفاق الاجتماعى وضمان حقوق الإنسان الاجتماعية والثقافية بما فيها حقوق الإضراب ، و تكوين النقابات هى أمور غير مسموح بها فى ظل هذه السلطة الأممية التى تجاوزت منذ زمن الحدود الدولية و الولاءات العاطفية ،وهى تمارس ديكتاتوريتها الشمولية عبر وسائل غير دموية ، فقهرها ينبع من احتياج دول العالم لما فى يدها ، و من ثم يجب استرضاءها حتى تأتى ، ومن هنا لا إمكانية لمقاومتها إلا عبر العالم .
وبناء على كل هذه الدفوع وغيرها يصبح الحديث عن ضرورة إعادة بناء المجتمع البشرى على أساس الهوية البشرية فحسب ضرورة يفرضها الواقع برغم كل ما قد يكتنف تلك العملية من صعوبات ، فعوائق اللغة لم تحطم الوحدة السويسرية المستمرة لثمانى قرون فى ظل نظام هو الأكثر ديمقراطية نسبيا فى العالم ، واختلاف العادات والتقاليد والعقائد والثقافات لم تكن عائق على استقرار الدولة الهندية على مدى نصف قرن ، ولم تكن تعددية القوميات واللغات والثقافات سببا فى انهيار الاتحاد السوفيتى بل القهر الستالينى القومى و أوهام النهضة على الأسس القومية بعض من أسبابه . فمادامت البنية الاجتماعية قائمة على احترام الاختلافات بين البشر والمساواة بينهم رغم الاختلافات ، ومادامت البنية السياسية والإدارية للمجتمع منفصلة تماما عن تلك الاختلافات التى تتحول من فرصة لإثراء الحياة البشرية بالتفاعل الحى بين البشر المختلفين ، إلى سببا فى تدمير المجتمع فحسب حين تتخذ مبررا للتفرقة وعدم العدالة والتحيز والتعصب ونفى الآخر ، مما يولد الصراع والعنف ويؤدى إلى تفكك المجتمع الذى يتماسك فقط عندما يتمتع جميع أعضاءه بالعدالة والمساواة وكافة حقوق الإنسان .
و فى الحقيقة فأنى لا أملك إزاء كل هذه الاتهامات المسبقة إلا أن أضع أمام قرائن الاتهام تلك الدفوع :ـ
* أن العالمية ظاهرة تاريخية بدأت منذ فجر التاريخ إلا أن نموها مرتبط بزيادة قدرة البشر على إقامة الاتصالات فيما بينهم ، والتى ازدادت مع الثورة الصناعية ، وما عرفته من تكنولوجيا المواصلات البخارية والكهربية ووسائل الاتصال الحديثة حتى وصلت إلى ما نعرفه الآن عبر الإنترنت والأقمار الصناعية ، حتى أن شابا من تايوان ، وآخر من الفلبين استطاعا صنع فيروسين للكومبيوتر أثرا ببثهما عبر الإنترنت فى اقتصاديات العالم كله ، واستطاع ملياردير بالمضاربة فى البورصة عبر الإنترنت أن يلحق التدمير باقتصاديات النمور الآسيوية ، واستطاع آخرون الدخول على شبكات أجهزة المخابرات ، ووزارات الدفاع ، و القواعد العسكرية والبنوك وفك الشفرات والإطلاع على الملفات . فأصبح لا أمن ولا سرية و لا رقابة و لا حدود قومية فى عالم اليوم ، وكل ذلك بضغطة على أزار الكومبيوتر التى تستطيع أن تبث من خلالها كل ما تريد إلى كل بقاع الأرض فى لحظات و أن تنقل أى كميات من النقود من مكان لمكان ، كما يمكنك أن تستقبل منها كل ما تتخيله من مواد مسموعة ومرئية ومقروءة دون أى إمكانية للرقابة الفعالة من قبل الدولة التى تقيم فيها .والغريب أنه منذ أربعة عشر قرنا من الزمان أمر النبى محمد اتباعه ، وكانوا مجرد قلة قليلة مضطهدة ، أن يهاجروا إلى الحبشة لأن بها ملك لا يظلم عنده أحد على بعد آلاف الكيلومترات من مكان إقامته فى مكة تلك المدينة الصحراوية ، والتى كانت تشكل معبر للتجارة بين شمال وجنوب الجزيرة العربية بالإضافة لكونها مركز دينى للقبائل العربية البدوية فى الجزيرة العربية ، وما إن استتب له الأمر فى الجزيرة العربية حتى أرسل رسله إلى حكام الدول المجاورة ، ونسب إليه حديثا يقول خذوا العلم ولو فى الصين .وبعد سنوات قليلة أرسى أتباعه إمبراطورية ضخمة امتدت من حدود الصين الغربية وحتى أسبانيا ،وقبله بألف عام حاول الإسكندر الأكبر توحيد العالم الذى كان معروفا لديه تحت حكمه برغم عدم توافر أى من وسائل الاتصال والتواصل المستعملة الآن ، والتى اكتشفتها البشرية خلال النصف قرن الماضية.
* الحقيقة التى يتم تغافلها من الكثيرين أن الرأسمالية كنمط إنتاج تختلف عن ما قبلها من أنماط إنتاج فى كونها ظاهرة عالمية منذ اللحظات الأولى لميلادها بعكس الأنماط الأخرى والتى سبقتها ، والقائمة غالبا على الاكتفاء الذاتى ، والسبب فى ذلك كامن فى ميل الرأسمالية المستمر للتوسع فى الأسواق بحثا عن المستهلكين وقوة العمل والمواد الخام ..الخ ، وذلك هربا من ميل معدل الربح للانخفاض ، وقد أخذ هذا الميل للتوسع عبر العالم فى دفع الرأسمالية عبر مراحل تطورها المختلفة ، يأخذ أشكالا مختلفة تتناسب مع كل مرحلة ومع نوع ومدى احتياجات الرأسمالية من التوسع ، فكانت الرأسمالية التجارية ثم الاستعمار و أخيرا الكوكبية المسماة بالعولمة كمرحلة أخيرة فى ظاهرة عالمية الرأسمالية . وكما كانت الرأسمالية ظاهرة عالمية ، فالقومية والدولة القومية ظاهرتين رأسماليتين حديثتين فى التاريخ البشرى ، فقد كانت الدول فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية لا تؤسس على أساس الهوية الجماعية أيا ما كانت قومية أ غير قومية ، بل على أساس التبعية الشخصية للحاكم من رعاياه أيا ما كان لقبه ، و المعتمد على ما يملكه من قوة عسكرية فى إخضاع رعاياه ، و بصرف النظر عن ما كان ينتمى إليه هؤلاء الرعايا والتابعين من ثقافات و شعوب وما يستخدموه من لغات ولهجات وما يعتنقوه من أديان ، وما يمارسوه من عادات وتقاليد ، وكانت العلاقة بين الحاكمين والرعايا ، تتلخص فى جوهرها فى دفع الرعايا أنواع من الالتزامات النقدية والعينية للحاكم بما يعينه على حمايتهم من نهب الحكام الآخرين ، وحماية سلطته عليهم من المتنافسين على نهب الرعايا ، وكان جوهر مطالب المحكومين هو عدم المبالغة فى الضرائب والجزية والمكوس والالتزامات العينية الأخرى ، وعدم التعنت فى تحصيلها حيث كان يتحدد موقف الرعايا من الحكام وفق سلوكهم فى فرض الالتزام وتحصيله ، بصرف النظر عن جنسية الحاكمين التى كانت لا تهم الرعايا . وكان تأسيس الدولة القومية الحديثة هو هدف نضالى بورجوازى ضد الامتيازات الإقطاعية فى غرب أوربا من أجل توحيد السوق القومى ، و إزالة معوقات النمو الرأسمالى الذى كانت تحده تلك الامتيازات ، ومن ثم كانت الهوية الجماعية ، و من ثم دولتها صناعة رأسمالية انتقلت للبلدان المستعمرة فى غمرة مطالبتها بالاستقلال عن الدول الاستعمارية ، ومن هنا نشأ مفهوم المواطن المنتمى للهوية للجماعية للدولة التى تجسدها . وانتهى مفهوم التابع للحاكم والدولة التى تتجسد فى الحاكم . ومن ثم كان تأسيس الدولة على مفهوم الهوية الجماعية المتميزة عن غيرها من الهويات الجماعية ، هدف استدعته و خلقته البنية الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية ،و قد استدعى معه خلق بنية متكاملة من الوعى الاجتماعى القائم على فكرة الهوية الجماعية مازال عميقا بلا شك ، واستدعى تأصيل ذلك فلسفيا عبر العديد من الفلاسفة والمفكرين الكبار فى القسم المتقدم من العالم من هيجل وحتى هتنجتون ، وقلدهم العديد فى بلاد القسم المتخلف ، فى بلادنا العربية أمثال ساطع الحصرى للقومية العربية ، وسيد قطب للأصولية الإسلامية وغيرهم ، وقامت حركات سياسية واجتماعية وثقافية ، وتكونت أيديولوجيات على هذا الأساس ،والتى ما زالت هى الأقوى برغم ما تخلخل تحتها من أساس مادى ، وما أصابها من شروخ ، مما تسبب فى هشاشتها ، ومن ثم أصبحت آيلة للسقوط رغم كل الصخب الغوغائى الذى تحدثه من حولها ، مما يوحى باستمرار صلابتها وقوتها . وربما كان هذا الصخب الشديد ناتج عن إحساسها بالحصار الذى كلما استحكمت حلقاته كلما كانت أكثر شراسة فى محاولة إنقاذ نفسها من الاحتضار بسببه بالمزيد من المهاترات البيزنطية.
* شهد التطور الجديد فى ظاهرة الكوكبية الرأسمالية فى الربع الأخير من القرن العشرين ظاهرتين لم تكونا معروفتين بهذه الحدة من قبل الأولى سيادة كوكبية الإنتاج المادى على الإنتاج المحلى ، وفى نفس الوقت استمرار الدولة القومية ، وازدهار الحركات السياسية القائمة على أساس الخصوصية الجماعية .. ذلك لأن الكثير من قطاعات الرأسمالية الصغيرة التى تعمل فى الزراعة والصناعات الصغيرة أو القطاعات التى كانت تتمتع بأوضاع احتكارية أو شبه احتكارية داخل الحدود القومية ، أو تلك التى خسرت ما كانت تتمتع به منتجاتها بالحماية الجمركية أصبحت تتضرر من جراء حرية التجارة ، و عجزها عن المنافسة عبر العالم . كما أن قطاعات من الطبقة العاملة فى القسم الغنى من العالم أصبحت تتضرر من منافسة ذلك القسم من العمالة الرخيصة المهاجرة لها فى الوقت الذى تتعرض فيه لازدياد معدلات البطالة ، وهو ما أدى إلى الظاهرة الثانية فبر غم من القبول الواسع بحرية تداول السلع وانتقال رأسالمال عبر العالم إلا أن الحظر يزداد على انتقال قوة العمل كسلعة عبر العالم حتى أصبح انتقال العمالة من بلاد العالم النامى والمتخلف لبلاد العالم المتقدم والغنى محاصرا بشتى أنواع القيود الذى تصل لحد المنع ، و من ثم ازداد تفاوت عائد العمل من مكان لمكان على الإنتاجية الواحدة .
* كان السبب فى انهيار وذبول دور الدولة القومية ، والشروخ التى أصابت فكرة السيادة الوطنية كما كانت تطرحها أيديولوجيات الهوية الجماعية فى أصولها هى أن السلعة أصبحت منتج عالمى برغم ما قد تحمله فى السوق من جنسية قومية محددة ، و أن سقوط الدول التى حاولت الاستقلال عن السوق العالمى هو بسبب عدم كفاءة إنتاجها السلعى إزاء السلع المنتجة عالميا ، وعدم قدرتها بالتالى على إشباع احتياجات مواطنيها من السلع والخدمات المختلفة . وكان هذا هو السر فى سقوط نظريات الاكتفاء الذاتى والتنمية المستقلة التى لا تعنى سوى عدم الاستفادة من حقيقة المزايا النسبية للمناطق المختلفة من العالم فى إنتاج السلع المختلفة ، والذى يعنى إنتاج سلع بتكلفة أعلى و أسوء فى خصائصها و أقل قدرة على الإشباع ، فى حين استفادت من حقيقة المزايا النسبية الدول التى اندمجت فى السوق العالمى فانخفضت التكلفة الفعلية للسلع وازدادت جودتها وقدرتها على الإشباع .
* أصبحت قضية المحافظة على البيئة قضية عالمية لا يمكن تناولها بالحل إلا عبر العالم ، وخصوصا فى ضوء ما تحاوله الرأسمالية العالمية من تصدير الصناعات ، والمنتجات الملوثة للبيئة إلى العالم النامى والمتخلف ، ومحاولة دفن النفايات النووية وغير النووية ، فتلويث نهر فى دول المنبع يعنى انتقال التلوث لدول المصب ، وانفجار مفاعل نووى فى بلد ما يعنى انتقال الإشعاع للبلاد المجاورة فالرياح لا تعرف الحدود ، ومن هنا لا سيادة للدولة مطلقة على حدودها القومية ، وأن للآخرين أن يتدخلوا إذا ما مست تلك السيادة سلامة البيئة لديهم بل أصبحت المحافظة على بيئتهم المشتركة دافع للتعاون المشترك فيما بينهم ، مما يعنى اتخاذ قرارات جماعية ، والالتزام بقواعد محددة فى التعامل مع البيئة مما يحفظ سلامتها للجميع .
* بلغ التطور العلمى والتكنولوجى حدا يسمح بتوفير الرفاهية الفعلية لأضعاف سكان الأرض ، والقضاء على الندرة فى ضروريات الحياة ، سواء على مستوى الإنجاز الفعلى الذى لا تستمتع به ولا تستفيد منه إلا قلة من المترفين فى العالم بسبب سوء التوزيع ، أو إمكانيات الإنجاز المكبوتة بسبب السيطرة علي البحث العلمى والإبداع التكنولوجى من قبل الشركات المتعدية الجنسية خاصة ، و الرأسمالية عامة ، وذلك لأسباب متعددة منها
أولا:ـ الخوف من أن تؤدى هذه الإمكانيات المنجزة أو المكبوتة إلى زيادة معدل ميل معدل الربح للانخفاض بسبب ما قد تؤدى إليه من تعاظم التكوين العضوى لرأسالمال ( زيادة قيمة الرأسمال الميت وهو وسائل الإنتاج على الرأسمال الحى وهو قوة العمل) ، وخصوصا تلك التى توفر الجهد البشرى
ثانيا:ـ الخوف من تهديد فرص تسويق منتجاتها بالمنتجات الجديدة التى توفرها التكنولوجيا الحديثة ، ويظهر هذا بوضوح فى مجالات الطاقة ووسائط النقل من قبل شركات السيارات البترول .
ثالثا:_ عدم القدرة على توفير استثمارات لتحويل تلك الإنجازات لسلع فى مجال الإنتاج بسبب البنية الاقتصادية الرأسمالية فى العالم التى تعتمد على المنافسة والمبادرة الفرديتين ، ويظهر هذا فى مجالات الأتمتة والذكاء الصناعى خوفا من الارتفاع غير المحتمل فى معدلات البطالة الهيكلية مما يعنى انخفاض الإنفاق الاستهلاكى وزيادة المخزون السلعى ، انخفاض معدلات الربح بالتالى وذلك فى الوقت الذى يزداد فيه التضخم بسبب الأوضاع الاحتكارية للرأسمالية العالمية.
رابعا :_ الطريقة الانتقائية التى يتم بها تمويل ومن ثم توجيه كل من البحث العلمى والابتكار التكنولوجى فيما يفيد زيادة أرباح الرأسمالية العالمية دون النظر لتوفير الاحتياجات الضرورية لغالبية البشر ، ونجد ذلك فى إنتاج السلع الترفيه والسلاح . * أن الحكومات ومن وراءها المؤسسات العسكرية تحتكر البحوث العلمية من أجل زيادة هيبة الدولة القومية بزيادة إنفاقها العسكرى وتطويرها لقدراتها العسكرية ، وكذلك الأمر مع شركات السلاح التى تسيطر على البحث العلمى من أجل الفوز بأكبر نصيب ممكن من سوق السلاح العالمى ، وخصوصا فى مناطق النزاع المسلح فى العالم فى حين لا يوجه هذا الإنفاق و لا تلك البحوث فى سبيل إشباع الاحتياجات الإنسانية الضرورية فى ظل بيروقراطيات ونخب حاكمة تفضل المدفع على الزبد للدفاع عن سلطاتها ، ومبرر وجودها ، ومشروعية حكمها ، كما قال الزعيم النازى جورنج " المدفع قبل الزبد " وهو المعروف فى نفس الوقت بعشقه للترف ، حيث تتكلف صناعة الأسلحة المختلفة زبدة الإنتاج العالمى عبر العالم إنتاجا واستهلاكا ، و التى تترك غالبا للصدأ ولكى يتم استبدالها دائما بالأحدث والذى يأكله الصدأ هو الآخر فى فترات السلام وهكذا ، ويتكلف التدريب على استخدامها أكثر مما يتكلف التدريب على وسائل الإنتاج المدنية ، وأخيرا تهدر قوة العمل المتدربة على استخدامها سواء فى السلم بعدم الإنتاج أو فى الحرب بالإهلاك ، رغم ما تتميز به من الكفاءة الأعلى من قوة العمل المدنية غالبا ، و التى يستنفد أفضل ما فيها من كفاءات هى الأخرى فى صناعة السلاح باعتبارها صناعة استراتيجية للأمن القومى تستقطب أفضل المهارات ، وحين تستخدم الأسلحة ومن يعملون عليها لحماية الحدود القومية أو الهجوم على الحدود القومية للآخرين ، فأنها لا تسبب سوى الضرر والدمار للبشر والموارد الطبيعية وتلويث البيئة ، فضلا عن إهلاك قوتى العمل العسكرية والمدنية لطرفى الصراع المنتصر والمهزوم ، ..ولا مجال هنا لكى أورد مقارنات بين ما تتكلفه تلك الصناعة وما تهدره من إمكانيات وموارد طبيعية وبشرية وفرص للنمو والرفاهية ، وبين ما يمكن أن يوفره هذا الإنفاق المروع فى توفير التعليم والثقافة والعلاج والسكن والطعام ..الخ لبلايين البشر المحرومين من ضروريات الحياة بسبب المصالح الضيقة للبيروقراطيات الحاكمة ، والمؤسسات العسكرية ، وشركات السلاح . وبين ما يمكن أن يحدث من تقدم هائل لو أتجه البحث العلمى والإنتاج والتعليم والتدريب العسكرى للأغراض السلمية بدلا من العسكرية من أجل رفاهية البشر ، وتلبية احتياجاتهم الإنسانية المشروعة . تلك النتيجة التى ستوفر الأساس لسلام فعلى بين البشر الذين لا تجد غالبيتهم الساحقة ـ لو كان لها أن تقرر ـ أى مبرر للانخراط فى الصراعات المسلحة وممارسة العنف فيما بينهم ، إلا حينما تتعرض مصالحهم المادية للخطر ، وحين يحرمون من تلك الاحتياجات الضرورية للحياة ، وحين تنتهك حقوقهم المشروعة . وكأنما هى حلقة خبيثة يتورط فيها البشر الآن ، فالإنفاق على التسلح والعسكرة يعنى حرمان غالبية البشر من ضروريات الحياة مما يدفع المحرومين للتسلح من أجل التخلص من هذا الحرمان ، وهو يدفع المترفين لحماية رفاهيتهم من تهديد المحرومين ، فى حين أن توفير هذا الإنفاق العبثى نفسه وتوجيهه لرفاهية المحرومين كفيل بالتخلص من سفه هذا الإنفاق من كلا الطرفين ، وهو ما يمكن إنجازه بزوال الحدود بين الشعوب مما تتحول معه الجيوش لزائدة لا معنى لها ، وهى التى ما وجدت إلا لكى تحميها .
* لاشك أن استمرار الدولة القومية وراء الكثير من الظواهر التى تعيق التطور البشرى فى تلك المرحلة ومنها الإهدار الهائل للموارد الطبيعية والبشرية من أجل استمرار البيروقراطيات والنخب الحاكمة فى السلطة ، والدفاع عن مصالحها ليس فحسب فى ترسيخ الانقسام الرأسمالى ما بين رأسماليات قومية تجد الدولة فى وجودها مبرر لاستمرارها وأخرى عالمية تمارس ديكتاتورية السوق على نفس الدول ، بل والانقسام فى قوة العمل ما بين عالية الدخل فى العالم القسم المتقدم ، ومنخفضة الدخل فى القسم المتخلف ، و الذى من خلاله يتم نزح الفرق بين الدخلين إلى العالم المتقدم .
* أصبحت الديمقراطية فى العالم بكل أبعادها وبكل تلويناتها لا تنطلى إلا على السذج ، فالمشاركة فى الانتخابات العامة تتدهور بمعدلات عالية فى كل بقاع العالم ،فالأحزاب فضلا عن تدهور عضويتها فأنها فعليا تصل إلى السلطة فى أكثر البلدان ديمقراطية بنسب متدنية من أصوات من يحق لهم الانتخاب ، كما تتقلص عضوية النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية بمعدلات مذهلة ، مما يجزم بضعف المشاركة والثقة الشعبيتين فى تلك اللعبة التى تمارسها النخب الحاكمة والسياسية والبيروقراطيات الحكومية والحزبية والنقابية مما يفقدها حتى فى أكثر البلدان ديمقراطية مشروعيتها ، وفى نفس الوقت تتشكل المنظمات الدولية و الإقليمية من ممثلين بيروقراطيين لتلك الحكومات المتفاوتة فى طريقة تمثيلها لشعوبها ما بين الديمقراطية والديكتاتورية ، وتتخذ القرارات التى تمس مصالح سكان الأرض دون إرادتهم ، ووفق آليات غير ديمقراطية تعتمد على موازين القوى الدولية .وحيث أن القرارات ذات الطابع التنفيذى أو التشريعى أو القضائى لتلك المنظمات تتعلق بمصالح سكان الأرض فلابد ووفقا لدواعى الديمقراطية أن يسأل فيها هؤلاء السكان ، وأن تتشكل تلك المنظمات طالما تمتلك السلطة وفق آليات ديمقراطية يمثل فيها السكان لا الحكومات . بمعنى ضرورة وجود تنظيم سياسى ديمقراطى عام للمجتمع البشرى .
ومن المؤشرات التى تؤكد على لا ديمقراطية النظام السياسى العالمى استبداد الشركات المتعدية الجنسية بأحوال البشر بعيدا عن الرقابة الشعبية والرأى العام ، فتستطيع شركة ميكروسوفت مثلا أن تقرر عدم السماح بإنزال برامجها على أجهزة الكومبيوتر من إنتاج شركة آى بى إم ، ولك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث فى العالم الذى أصبح معتمدا فى إدارة شتى أمور حياته على استخدام برامج الويندوز و الأوفس التى تنتجها ميكروسوفت ، والتى تباع مع أجهزة آى بى إم الأصلية والغير أصلية ، وبالرغم من خطورة القرار الذى يشبه فى أثره قرار تدمير العالم بالأسلحة النووية فأن من فى إمكانه أن يقرره هو مجرد رجل أعمال لا علاقة له بالسياسة المباشرة ، أو أجهزة الدولة القومية أو المنظمات العالمية ولم يختاره سوى المساهمين بالشركة ، و أن من يمكن أن يحاسبه على قراره هذا هم هؤلاء المساهمين بالشركة ، بعيدا عن إرادة المستهلكين ، فضلا عن أن الشركة تحمل جنسية الولايات المتحدة وتخضع لسلطتها القضائية إذا ما خالفت القوانين الأمريكية فى حين أن سلوكها يمتد تأثيره إلى ما وراء الحدود الأمريكية . وتستطيع منظمة الدول المصدرة للنفط رفع أو خفض إنتاج البترول وسعره فى السوق فيتأثر الاقتصاد العالمى انكماشا أو توسعا وفى مثل هذا النظام العالمى لا يمكن الحديث عن الديمقراطية أو الحرية طالما أن غالبية سكان الأرض تتخذ بشأنهم قرارات تؤثر فى حياتهم دون أن يحق لهم الاعتراض أو التأثير فى متخذى القرار ومنفذيه. وتستطيع الشركات المتعدية الجنسية نقل استثماراتها والرأسماليون الماليون فى نقل الأموال عبر العالم بلا قيود ، مما يؤثر على الاقتصاديات فى الدول القومية المختلفة انكماشا وتوسعا ،وبطالة وتوظفا، بعيدا عن إرادة المواطنين .مما يرغم الحكومات على التسابق على إرضائها بالإعفاءات الضريبية والجمركية ، وتخفيض الإنفاق الاجتماعى.بعكس رغبة الناخبين .و أخيرا قالت لى ذات يوم إحدى قيادات الحركة الماركسية القومية تعليقا على العالمية التى أمثلها ،أنكم عاجزون أن تفعلوا شيئا هنا فتعلقتوا بالعالم هربا من تغيير الواقع المحلى ، والحقيقة أن أى معارضة فى العالم لن تفعل خير مما تفعله أى حكومة قومية فى العالم الآن مهما تحسنت نواياها تجاه شعوبها وأيما كانت برامجها ، فستفاجأ حين تصل إلى دست الحكم أنها مقيدة بأوامر ديكتاتورية أسواق المال العالمية والتى يجسدها الرأسماليون العالميون التى تنتقل أموالهم وسلعهم عبر العالم بلا قيود ، ومن ثم فالتأميم وفرض الضرائب على الأرباح ورأسالمال ،و الإنفاق الاجتماعى وضمان حقوق الإنسان الاجتماعية والثقافية بما فيها حقوق الإضراب ، و تكوين النقابات هى أمور غير مسموح بها فى ظل هذه السلطة الأممية التى تجاوزت منذ زمن الحدود الدولية و الولاءات العاطفية ،وهى تمارس ديكتاتوريتها الشمولية عبر وسائل غير دموية ، فقهرها ينبع من احتياج دول العالم لما فى يدها ، و من ثم يجب استرضاءها حتى تأتى ، ومن هنا لا إمكانية لمقاومتها إلا عبر العالم .
وبناء على كل هذه الدفوع وغيرها يصبح الحديث عن ضرورة إعادة بناء المجتمع البشرى على أساس الهوية البشرية فحسب ضرورة يفرضها الواقع برغم كل ما قد يكتنف تلك العملية من صعوبات ، فعوائق اللغة لم تحطم الوحدة السويسرية المستمرة لثمانى قرون فى ظل نظام هو الأكثر ديمقراطية نسبيا فى العالم ، واختلاف العادات والتقاليد والعقائد والثقافات لم تكن عائق على استقرار الدولة الهندية على مدى نصف قرن ، ولم تكن تعددية القوميات واللغات والثقافات سببا فى انهيار الاتحاد السوفيتى بل القهر الستالينى القومى و أوهام النهضة على الأسس القومية بعض من أسبابه . فمادامت البنية الاجتماعية قائمة على احترام الاختلافات بين البشر والمساواة بينهم رغم الاختلافات ، ومادامت البنية السياسية والإدارية للمجتمع منفصلة تماما عن تلك الاختلافات التى تتحول من فرصة لإثراء الحياة البشرية بالتفاعل الحى بين البشر المختلفين ، إلى سببا فى تدمير المجتمع فحسب حين تتخذ مبررا للتفرقة وعدم العدالة والتحيز والتعصب ونفى الآخر ، مما يولد الصراع والعنف ويؤدى إلى تفكك المجتمع الذى يتماسك فقط عندما يتمتع جميع أعضاءه بالعدالة والمساواة وكافة حقوق الإنسان .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية