ملاحظات على التجربة
ملاحظات على التجربة
سامح سعيد عبود
هذا المقال فى حقيقته هو النتيجة المنطقية لمقال آخر تناولت فيه سرد تجربتى الشخصية فى حركة اليسار الماركسى على مدى ما يقرب من عشرين عاما ، إلا أنى لاحظت أن المقال المنوه عنه ،ما هو سوى تجسيد لقصة الفشل المزمن ،وتعبر من ضمن ما تعبر عن فشل الحركة الماركسية التى ولدت مع أواخر الستينات من القرن العشرين لتموت مع أواخر ثمانيناته ..ومن هنا رأيت أن أتأمل و ادعوا القارئ أن يتأمل معى التجربة ،لنفهم سر هذا الفشل المثير بلا شك للإحباط ،وذلك بصرف النظر عن الظروف الموضوعية التى أدت لصعود تلك الحركة وانهيارها ،أى أن ما سوف أهتم به هنا ،ما هو ذاتى فحسب ويرتبط بأداء اليسار الماركسى فى النظرية والممارسة العملية .
تدعى الحركة اليسارية المصرية أنها حركة للتغيير الاجتماعى ،تستند فى رؤيتها النظرية ،وممارستها العملية ،إلى المنهج العلمى فى طريقها لتغيير الواقع الاجتماعى إلى الاشتراكية .فهل اتفق تاريخ هذه الحركة ،وهذا الإدعاء ؟ فالإنسان يغير أشياء الطبيعة من حوله عبر عملية العمل التى تؤدى إلى التراكم المعرفى(العلم)، وعبر عملية التأثير المتبادل بين العلم والعمل تتسع قدرة الإنسان على التأثير فى الأشياء من حوله ،لتحويلها إلى ما يريد من أشياء أخرى ،تجسد هدفه من عملية العمل .
أساس عملية العمل هى قوة العمل البشرية التى تستخدم وسائل العمل فى التأثير على موضوع العمل أى الشىء المراد تغييره ،وتحكم موضوع العمل وعملية تحوله ضرورات لابد و أن يفهمها من يمارسون التأثير عليه .وتتسع قدرة قوة العمل على التأثير كلما اتسعت خبراتها وازدادت مهاراتها ،وتنظيمها للعمل وتراكمت لديها المعارف . ويكون من محصلة هذا قدرة متزايدة على تحويل وتغيير الأشياء ،وفق الغايات المحددة سلفا من قبل القائمين بعملية العمل .
ولما كان المجتمع المصرى هو شىء من أشياء الوجود أو موضوع العمل الذى يبغى اليسار تغييره ،وقد حاول ذلك وفشل ،أليس من المنطقى أن يكون سر هذا الفشل ،هو افتقاد اليسار الماركسى للوسائل الملائمة للتأثير فى المجتمع وبما يتفق مع الغاية من تغييره ،وبما يتناسب مع ما يراد أن يتحول إليه ، بناء على هذا التأثير ،هذا الفرض هو ما سأحاول إثباته عبر هذا المقال.
أولا:- النظرية وفهم الضرورة .
عثرت القطاعات الأكثر ثورية من المثقفين المصريين على الماركسية ،إلا أنهم لم يتعاملوا معها كنظرية علمية تساعدهم على فهم الضرورات التى تحكم الواقع وتغيره ،وإنما تعاملوا معها كدين من أديان التمرد ،ومن ثم فقد تعامل منظروها مع نصوصها الكلاسيكية كما يتعامل الفقهاء مع النصوص المقدسة لأديانهم ،بنفس العقلية النقلية التى تقدس النص ،وترفض وتنفى كل ما يتعارض ،ليس مع النص فحسب ،بل ومع تفسيراتهم الخاصة للنص ،ومن هنا أصيبوا بالجمود ، وما لبثت مقولاتهم أن تحطمت على صخرة الواقع الذى لا يرحم .
على سبيل المثال فقد رأى بعضهم ،أن مصر والصين تتماثلان تاريخيا واجتماعيا من أوجه عديدة ،وبالمطابقة فقد رأوا أن طبيعة المرحلة الثورية الراهنة فى مصر،و كما كان ينص عليها برنامج الحزب الشيوعى الصينى،لابد وأن تكون وطنية ديمقراطية بقيادة الطبقة العاملة ،والطبقة العاملة هنا ما هى سوى رمز دينى يربطهم بالماركسية ،إلا أنهم فى الممارسة العملية مثلهم فى ذلك مثل (ماو) لم يقتربوا منها على الإطلاق ..وإذا كانت الصين قد حققت ثورتها العلمية عبر حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد ،فليكن هذا هو الشعار المرفوع فى مصر ،والذى لم تتم ممارسته فى الواقع العملى ،ولم يتساءل أحد ،هل يمكن ممارسة هذا الشعار فى ظل الظروف المصرية التى تتميز بلا شك عن ظروف الصين فى أوجه عديدة ،دع عنك اللحظة التاريخية التى مورس أثناءها الشعار فى الصين ،أو ليس غريبا وصف حرب التحرير الشعبية بأنها طويلة الأمد ،أو لو كانت قصيرة الأمد فأنها لن تصلح فى التغيير الاجتماعى ،أم ستخدش قداسة التابو ،أو تنتهك حرمة النص المقدس .
يلاحظ أن من كان يردد مثل هذه المقولات النظرية ،هو مجرد هيكل تنظيمى محدود العدد ،ومعزول تماما ،الغالبية الساحقة من أفراده من المهنيين والطلبة والموظفين ،ينحصر نشاطهم الرئيسى فى أوساط طلبة الجامعة ومراكز الشباب والأحياء الشعبية والنقابات المهنية ،وهم لم يمارسوا فى أى من أنشطتهم ما يقربهم من ممارسة تلك الشعارات على أى نحو من الجدية .
وأذكر له كذلك تقرير معنون بتقرير مارس 1983.والذى قسم البورجوازية المصرية لشرائح ،واختار لكل شريحة حزبا من الأحزاب العلنية ،كمعبر عن هذه الشريحة ،ولما كانت البورجوازية المصرية وفق مدرسة التبعية تابعة ،فقد اختار لكل شريحة من هذه الشرائح ،ومن ثم الحزب الذى يعبر عنها ،قسما من أقسام الرأسمالية العالمية ،اليابان،أوروبا الغربية ،الولايات المتحدة الأمريكية ،الكتلة المصرفية العربية !!،ليعلن أن كل شريحة من تلك الشرائح وحزبها تابعة لأى منها ،وأخذ يرهق ذهنه و ذهن القارىْ فى البرهنة على هذه الروابط بين تلك الأشياء الوهمية ( شرائح الطبقة وفق ما تمارسه كل منها من نشاط ،ووفق علاقاتها بأقسام الرأسمالية العالمية ،والأحزاب العلنية من وطنى ووفد وأحرار وعمل ،والتى لا تقل ورقية عن التنظيم الذى صدر عنه التقرير )،فقد أعتبر كل الأحزاب فى مصر أحزابا حقيقية ،بما فيها حتى الحلقات التى لم تتجاوز فى أفضل التقديرات بضعة مئات ،دع عنك العشرات والآحاد. و أخذ يرصها كقطع الشطرنج ،فى تحالفات وجبهات ،إستراتيجية وتكتيكية ،على جانبى الصراع المفترض ،حاليا كان أو مستقبلا .وكأن كل طبقة فى مصر تعى ذاتها ،وتنظم أفرادها فى مؤسسات مختلفة ،فى تمايز عن الطبقات الأخرى ،وكأن هناك حقا حياة سياسية ،تشمل أحزابا حقيقية ،وتمارس صراعا حقيقيا سواء عبر صناديق الانتخابات ،أو عبر العنف المسلح وغير المسلح أو حتى العصيان المدنى ووسائله.
وهكذا بدلا من محاولة الفهم العلمى للواقع المراد تغييره ،انغمس الماركسيون فى مجادلات بيزنطية ،حول قضايا لا علاقة لها بالواقع ،وقد تبعثروا منذ البداية إلى مجموعات لا تمل ولا تكل من الانشقاقات و الانقسامات ،وقد ظنت كل مجموعة أصلية أو فرعية ،أنها حقا قوى سياسية ذات بال ،وأنها بمفردها وعبر النمو الذاتى ستصل للنجاح الذى وصل إليه البلاشفة ،وهم الذين وبعكس البلاشفة لم يعرفوا يوما طعم الجماهيرية خارج أسوار الجامعة ، تلك الجماهيرية المستندة على قضية وطنية ملتهبة سرعان ما فقدوها بخمود تلك القضية .دع عنك القصور الحاد فى فهم الآليات التى تتغير بها المجتمعات ،والتى لا علاقة لها بالنموذج الساذج ،للحزب الثورى (العصبة المؤمنة )،والتى تقود الطبقة أو الجماهير لكى تضعها فى السلطة محققة التغيير الاجتماعى المنشود ،ربما يصلح هذا النموذج للتمردات والانقلابات ،أما التغيير الاجتماعى من نمط إنتاج لنمط آخر فتلك قصة أخرى لم تستهويهم حقا.
وكان تاريخ تلك المجادلات ،هو تاريخ الصراعات الشللية ،التى ظلت أطرافها تتبادل المواقع الفكرية .فى جدال لا ينقطع حول طبيعة المرحلة الثورية ،أشبه بالجدال حول طبيعة المسيح الذى سار بين الطوائف المسيحية فى القرون الميلادية الأولى ،فكلا الجدالين ينتميان للاهوت ،ويستندان لنفس المنهج الغيبى ،فلم يستند الصراع الطويل بين المنظمات الماركسية على محاولات فهم علمى للمجتمع المصرى أولا ،والمجتمع المصرى كجزء من المجتمع العالمى ثانيا إنما بناء على حرب النصوص والنصوص المضادة.
فما هو علمى فى الماركسية ،أشبه بالنظرية الطبيعية التى تتحدث عن إمكانية تحويل الحركة الميكانيكية إلى تيار كهربى والعكس صحيح .ففى الحالة الأولى تطبق النظرية فى الدينامو ،وفى الحالة الثانية تطبق فى الموتور ،فى الأولى نقطع المجال المغناطيسى بحركة ميكانيكية فيسرى تيار كهربى فى الملف ،وفى الثانية نقطع المجال المغناطيسى بتيار كهربى فتحدث حركة ميكانيكية .إلا أنك لو فتحت أى دينامو أو موتور ،فستجد الملفات النحاسية ،وقطع من المغناطيس ومحاور ومسامير وأشياء كثيرة مترابطة ،يتوقف عمل الموتور أو الدينامو لو تعطل أى منها .و لن تكفيك على الإطلاق معرفتك بالنظرية ،لكى تعرف كيف تصنع موتورا أو دينامو ،أو أن تصلحهما ،أو حتى أن تفهم كيفية عملهما أو تشغيلهما ،وبالمثل فقد توقف الماركسيون المصريون تماما عند حدود فهم مشوه للنظرية ،دون محاولة تطبيقها على المجتمع المصرى .
ثانيا :-قوة العمل (الماركسيون ومنظماتهم).
سأتناول هنا ظاهرة تاريخية قلما تناولها الاشتراكيون ،وقد كان إهمالهم لها بالدراسة سببا من أسباب أزمتهم الراهنة ،وستظل جرثومة هذا الإهمال ،تنخر فى قواهم ما لم ينتبهوا إليها ،فكل جماعة بشرية عبر التاريخ ،سواء أكانت ثورية أم إصلاحية ،وسواء أكانت سياسية أم دينية أم ثقافية أم اجتماعية .تبدأها مجموعة صغيرة جدا من البشر الذين يتميزون بسمات شخصية معينة ،أهمها تجاوز المصالح الفردية والذاتية الضيقة ،والتمسك الصلب بالمبادىْ والمثل التى يناضلون من أجلها ،فضلا عن الإخلاص والتفانى والجدية والجلد والحماس ،إلا أنهم عند تحقيق قدر من النجاح يتحولون لقطب اجتماعى ذو جاذبية ما ،فيتقاطر نحوهم الأفاقين والانتهازيين الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف ،وتزداد تلك الجاذبية كلما زاد النجاح ،وتقادم بالحركة العمر،وبلغت بعضا من أهدافها.فالنمو السريع فى العضوية،غير المختارة على أسس جيدة ،وغير المعدة و لا المدربة على نحو جيد يعنى أيضا تضخم الحركة بأعضاء لم يتخلصوا من التشوهات النفسية والسلوكية والأخلاقية والفكرية ،أى لم يتخلصوا تماما من التناقضات ما بين مبادىْ ومثل وقيم الحركة الجديدة ،والمثل والقيم و المبادىْ التى قامت الحركة الجديدة كنقيض لها ،وسرعان ما يتبوأ قيادة الحركة ،ويجرفونها بعيدا عن أهدافها وقيمها ومثلها ،وعبر تاريخ أى حركة ،يعمل هؤلاء وهؤلاء ،بعمد أم بغير عمد على تخريب الحركة وإفسادها ،وعرقلة نموها ونجاحها بدرجات متباينة..وفى مواجهة كل هذا ،تنشأ الانقسامات والانشقاقات فى الحركة حتى تتحول لحركات فرعية متصارعة.
وقد تكرر هذا السيناريو بتلوينات مختلفة ،وتنويعات متباينة عبر كل التاريخ البشرى ؟ فإن كان علينا ألا نغفل بالطبع الظروف الاجتماعية التى تفرز هذه الظاهرة فإن علينا أيضا ألا نغفل دور الأفراد بكل تنويعاتهم اللانهائية ،وتذبذباتهم التى لا تنتهى ،وذلك باعتبارهم أفراد يؤثرون بدورهم فى مسارات الحركة المختلفة ،فيما تحققه من نجاح ،وفيما يعتريها من فشل .وهو الأمر الذى لم يهتم به الاشتراكيون كثيرا اعتمادا على فهم مبتذل للمادية التاريخية ،وبفهم قاصر ومبتسر للشيوعية أو الاشتراكية ،بأنها مجرد برنامج سياسى ،وليست تغييرا جذريا يحدث للمجتمع ببنيته التحتية والفوقية ،وهو وإن كان محكوما بشكل أساسى بتغيير الوجود الاجتماعى ،إلا أنه يتأثر أيضا بالوعى الاجتماعى،وإن يكن بشكل نسبى .
عند نمو الحركة تتحول لجماعة بشرية مستقلة نسبيا عن المجتمع ،وكأى جماعة بشرية ،تعتبر السلطة التى تحكم هذه الجماعة داخليا ،وتحدد علاقاتها بالجماعات الأخرى ،هى المسألة الأكثر أهمية وحيوية فى حياة الحركة ،بصرف النظر عن كون هذه السلطة ديمقراطية أم غير ديمقراطية .وكأى جماعة بشرية حديثة أيضا ،فأنها تحتاج لجهاز إدارى محترف ،ومتفرغ لإدارة حياتها اليومية ،يزداد تضخمه بزيادة حجم الجماعة وأنشطتها ،ويظل من يشغلون مراكز السلطة والإدارة يملكون النفوذ والقدرة على التحكم فى نشاط الجماعة ،ويحصلون على الامتيازات ولو فى حدود المعنويات التى يضفيها المنصب على من يشغله ،فما يملكوه من إمكانيات المعرفة والتأثير ،يحولهم هم ومناصبهم ،لمركز جذب للأفاقين والانتهازيين ،الذين يجيدون الطاعة لمن هم أعلى ،والتسلط على من هم أدنى ،والاستفادة مما يشغلوه من مناصب ومراكز ،والتزاحم والتنافس على هذه المراكز بأشد الطرق ميكافيلية ،والدفاع عن أنفسهم وشللهم ومناصبهم وامتيازاتهم بكل الطرق الشريفة وغير الشريفة.عبر التآمرية والتشهير بالخصوم ،ومن خلال النفاق وتدمير المنافسين ،وبآليات الشللية والمحسوبية ،وتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة ،وشراء البعض وإفسادهم وإذلالهم،ورمى الشرفاء والأنقياء إلى خارج الحلبة ،مرغمين أو مستسلمين ،ليبقوا هم وحدهم فى النهاية .
وهكذا نرى أن كلتا الضرورتين (السلطة والإدارة ) ينبع منهما الفساد والانحراف ومن ثم الفشل .ولن يجوز لنا دفن رؤوسنا فى الرمال ،ونتبنى تلك النظرة التفاؤلية الساذجة ،وأن نفترض بناء عليها أن هناك إمكانية لوجود بشر كالملائكة ،يحتكرون مراكز السلطة والإدارة فى الجماعة البشرية مما يضمن حمايتها الدائمة من الفساد والتحلل ،وهو فرض خيالى للغاية،فلم يتوافر لدينا الملائكة بعد على الأرض ،كما لا يتوافر لدينا الشياطين ،وإنما لا يوجد سوى البشر ،والذين تتحكم فيهم فى النهاية غرائزهم وعواطفهم النابعة من فرديتهم جنبا إلى جنب مع القيم والمثل العليا النابعة من اجتماعيتهم ،وقد يتغلب أحيانا جانب على الجانب الآخر،إلا أنهما يتلازمان طول الوقت ،فلم ولن يوجد هؤلاء البشر الذين ستظل تحكمهم مثلهم العليا إلى النهاية ،أو تحكمهم فحسب غرائزهم وعواطفهم الفردية كل لحظة ،وإننا حتى لو افترضنا وجود أعداد وافرة من هؤلاء البشر القريبى الشبه بالملائكة ،فأننا يجب أن لا ننسى أن السلطة مفسدة ،والسلطة المطلقة فساد مطلق.فالسلطة وما يلازمها من امتيازات أدبية ومادية وإمكانيات ونفوذ كفيلة بإفساد الملائكة ،فما بالك بالبشر.
وأخيرا فإننا لا يمكن أن نغفل عن دور الجماعات والمؤسسات المعادية ،رسمية وغير رسمية ،فى اختراق أى حركة سرية أو علنية ،وإفسادها من الداخل ،وتخريبها بشراء العملاء ،وإفساد الأفراد بشتى الوسائل الممكنة ،والتى تتلخص فى استغلال احتياجات الأفراد المختلفة ،واللعب على أوتار فرديتهم وسذاجتهم ،وهو الأمر الذى تزداد خطورته فى الحركات الثورية السرية منها والعلنية على حد السواء .
وهكذا لم يحاول الماركسيون خلق جهاز مناعة طبيعية داخل حركتهم ،يحميهم من الآثار الضارة لهذه الظواهر الاجتماعية ،بل ارتكبوا كل ما من شأنه تعرضهم لكل آثارها الضارة،ومن ثم كان فشلهم المزرى فى الواقع المصرى خصوصا مع الضعف الشديد فى جماهيريتهم ،وذلك رغم إدعاء العلمية ،التى لا تعنى لديهم سوى زائدة شرفية.فإذا كانت قوى العمل تعنى العناصر البشرية العاملة ،والتى تزداد قدرتها حسب درجة تقسيم العمل فيما بينها ،والتنظيم الذى ينظم عملها ويديره ،فإن العناصر البشرية لا تختار فى الحركة الماركسية إلا على أساس الولاء الفكرى ،الذى لا يعنى سوى قبول الخط السياسى ،وطاعة القيادة ،فإذا كانت أبسط الأعمال البشرية تفترض نوعا من الاختيار على أساس الكفاءة ،ولابد من أن يتم إعداد من يمارسها وتعليمه وتدريبه وإكسابه الخبرة الملائمة للعمل ،فإن من يمارس تغيير المجتمع هنا ،لا يشترط فيه سوى الثقة ،ويترك بلا تربية و لا تثقيف ويؤمر أن يعمل بلا إعداد أو خبرة ،وينتظر منه التأثير فى الجماهير ،فلا يبقى له إلا الفشل الذى يليه الإحباط .وقد ازدحمت ذاكرتى بخبرات تعلمت منها أن معظم الأعمال التى اشتركت فيها ما فشلت إلا لسببين ذاتيين:-1-افتقاد الإعداد والخبرة والتدريب والكفاءة سواء لدى أو لدى من شاركتهم هذه الأعمال ،فقد كنا نلقى لأعمال لا نعرف كيف نستفيد منها أو نطورها،و لا نعرف كيف نتعامل مع ما كلفنا به 2-اتسام الكثير من العناصر الذى عملت معها بسوء السلوك والأخلاق وطريقة التفكير وعيوب أخرى ،أدت فى النهاية لفشل الجميع .وذلك لغياب الآليات الجماعية الكفيلة بالتزام الجميع بنسق أخلاقى وسلوكى يضمن نجاح العمل الجماعى ،وهو الأمر الذى يعنى ضرورة الاهتمام بالتربية والتدريب والتثقيف العام الجماعى بهدف التخلص من آثار المناهج غير العلمية فى التفكير ،والأخلاقيات والسلوكيات التى لا تتوافق والمثل العليا الجماعية ،وبهدف تعديل السلوكيات و الأخلاقيات بما يتوافق وهذه المثل .مع العلم أن هذا لا يمكن أن يحدث دون بنية وعلاقات داخلية تساعد العناصر الداخلة فى البنية على التخلص من التشوهات الناتجة عن آثار البنية البورجوازية .
إن الشروط المثلى لمثل هذه البنية تتلخص من وجهه نظرى ،فى السلطة الديمقراطية المباشرة باعتبار الديمقراطية المباشرة أفضل طريقة ممكنة لممارسة السلطة ،والإدارة اللامركزية لأقصى حد ممكن الأمر الذى يحميها من التبقرط ،ويمنحها الكفاءة ،ويبعدها عن الفساد .وأخيرا تحول الحركة كجماعة بشرية لنموذج جنينى لمجتمع المستقبل الشيوعى بكل ما يعنيه من مثل وقيم وممارسات ،وبما يعنى من تحول الحركة ،لآلية تحمى أعضاءها بقدر المستطاع من تأثيرات التشيؤ والاغتراب فى المجتمع البورجوازى الذى تعمل لتغييره.
إلا أننا يجب أن نقر من البداية أنه لا توجد حماية أو مناعة مطلقة ،فالأمل فى هذا والارتكان إليه لهو من قبيل الأوهام المثالية ،والتى لا يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع ،إلا أننا يمكن أن نوفر فحسب أعلى ما يمكن من درجات المناعة ،وبأقصى ما يمكن من الضمانات ،والتى تنقسم إلى ضمانات لى مستوى البنية أى الحركة ككل باعتبار تأثير البنية على العناصر المكونة لها،وضمانات على مستوى العناصر باعتبار تأثير العنصر على البنية.
ثالثا:-وسائل العمل .
يمكنك أن تفرغ عربة من الرمل بملعقة صغيرة للشاى ،كما يمكنك أن تفرغها بجاروف ،والفرق بين الطريقتين هو ما ستستغرقه من زمن ،وما ستبذله من جهد ،ومن هنا فالتاريخ البشرى فى هذا المجال ما هو إلا تطوير لوسائل العمل من أجل إنتاجية أفضل فى زمن أقل ،وبجهد أقل .أما تاريخ الماركسيين المصريين فى محاولتهم التأثير على المجتمع المصرى فهو الإصرار على استخدام الوسائل الأقل إنتاجية،والتى تستغرق وقتا وجهدا لا يتناسب مع ما ينتظر من ثمار ،فى حين أن المعسكر الآخر سواء الدولة أو قوى المعارضة البورجوازية فإنها تحتكر وحدها الوسائل الأكثر إنتاجية سواء فى مجال تسيد رسالتها الدعائية أو فى مجال قدرتها على حشد الجماهير وراء شعاراتها .ومن ثم يصبح تأثيرها فى الحفاظ على الوضع القائم أو تغييره فى الاتجاه المضاد أعلى بكثير وبما لا يقاس بقدرة قوى اليسار.
يتميز الماركسيون المصريون ،أفرادا ومنظمات ،بالقدرة المحدودة للغاية على الدعاية بأنواعها المختلفة ،وإن تميزت قدرة بعضهم أحيانا على التحريض بالقوة ،التى تساعدها فى ذلك مناسبة التحريض ،أكثر من أى شىْ آخر .فقد لاحظت أن من يتمتع بقدرة دعائية جيدة على مستوى الدعاية للأفكار ،وتبسيط الوعى والقدرة على الإقناع ،سواء شفاهه أو كتابة ،هم قلة محدودة للغاية ،تعتمد على مواهبها الفردية،غير المصقولة بالتدريب والممارسة. فلم أعرف على الإطلاق ،أن هناك توجه جدى للأفراد أو المنظمات ،من أجل زيادة تلك القدرات وتنميتها بالتثقيف سواء العام أو الماركسى .كما لم يسع أحد بجدية نحو توفير وسائل مكتوبة أو مسموعة إلا فيما ندر سواء على مستوى الإعلام أو التثقيف ،تساعد الماركسيين فى ممارسة دورهم الدعائى على النحو الأمثل .فالكتب التى تبسط الماركسية وتشرحها هى غالبا مطبوعات سوفيتية مترجمة بكل مدرسيتها التى تعيق الفهم الصحيح ،أما المطبوعات المصرية التى تربط المعارف النظرية بتطبيقها على الواقع العينى فهى فى ندرة الخل الوفى .
ولما كان الماركسيون قد تربوا فى ظل حركة هى انعكاس واقع لا يحترم المعرفة والثقافة والعلم بقدر ما يحترم أشياء أخرى ،فقد اكتسبوا لغة خاصة ،جعلتهم عندما يلتحمون بالجماهير التى لا تعرف لغتهم ومصطلحاتهم الغريبة ، عاجزين على شرح أفكارهم بلغة تفهمها تلك الجماهير على النحو الصحيح ،والذين إما يخلطون تماما بين الماركسية والحس الوطنى الشعبوى الجذرى المصحوب بالتعاطف مع الفقراء والكادحين ، وإما كمجرد إلحاد عدمى بسيط عند آخرين ،تاركين البناء الفكرى والعلمى الضخم والمركب للماركسية محنطا بين دفاف الكتب ،و دع عنك نقص الخبرة والمعرفة والتدريب مما أصابهم بالعجز عن ربط هذا التراث والجماهير .
وتتمثل الكارثة فى أنه بدلا من أن يطور الماركسيون قدراتهم على الدعاية بشقيها التحريضى والتثقيفى ،سواء بالتدريب أو بالممارسة العملية ،فأنهم يهدرون جل طاقتهم فى أنشطة لا علاقة لها بالدور الرئيسى والجوهرى فى التأثير على المجتمعات بهدف تغييرها وهو الدعاية ،هذا الدور المهمل تماما ،لصالح أنشطة أخرى لاعلاقة لها بالتغيير الاجتماعى الذى ينشده الشيوعيون وفق نظريتهم ،وهو الأمر الذى ينفى عنهم صحة هذا النسب .
إذ ينخرطون ويغرقون فى أنشطة خدمية وفنية وشبابية ونخبوية ووطنية تبعدهم عن الصراع الوحيد ،والذى وفق نظريتهم المعلنة هو محرك التاريخ مما انعكس على جماهيرتهم الضحلة التى لم تتجاوز حدود الجامعة .
ولو بحثنا عن حقيقة هذا التوجه ،فسنجده فى أنهم يطرحون أنفسهم كبديل للسلطة الحاكمة ،سواء باكتساب ثقة الجماهير ،وكسب من يثقوا فيهم إلى صفوفهم تحت وهم النمو الذاتى ،وذلك بدلا من التغيير الجذرى لوعى الجماهير الثورية سواء بالدعاية أو بالتحريض الذى يستهدف أن تنظم هذه الجماهير نفسها لانتزاع مطالبها ،والثقة فيما ستفرزه هذه الجماهير بنفسها من منظمات وقيادات بناء على وعيها الجديد ،ولكن لأنهم يعتبرون أنفسهم التجسيد الفعلى للجماهير والطبقة ،وأن الثورة لا تعنى سوى توليهم السلطة ،فأنهم يطرحون أنفسهم كبديل للسلطة الحاكمة من خلال ما يسمونه بالعمل الجماهيرى ،متوهمين أنهم بأسلحتهم البدائية ،وإمكانياتهم الفقيرة ،يستطيعون منافسة السلطة بكل إمكانياتها الهائلة وأسلحتها الأرقى بما لا يقاس.
إنك تستطيع أن تلاحظ بنظرة واحدة ،التناسب الواضح ،بين القوى السياسية المختلفة وبين ما تطرحه من دعاية ،وما تستخدمه من وسائل .فإزاء محطات الإذاعة والتليفزيون وملايين الصحف والمطبوعات المختلفة ،لا يستخدم اليسار إلا عددا محدودا للغاية من المطبوعات ضعيفة التأثير .والتى لا تصل إلا للوسط الماركسى ومن حوله من علاقات قليلة مستهدفة للتجنيد بشرط الثقة فيها والقبول الكامل للخط الفكرى والسياسى.
يوجه اليسار دعايته طالما ظل محجوبا عن الشرعية ،و بالرغم من الإمكانيات المتاحة حاليا للدعاية العلنية،من خلال المطبوعات السرية التى لاتصل إلا لمن يستهدفوا تنظيمهم ،ففكرة الدعاية الواسعة تستبعد تماما ،فالمهم هو بناء التنظيم الذى سيقود عندما ينمو ذاتيا إلى حد كاف قطعان الجماهير كى يضعوه فى السلطة ،و ليس بأى حال أن تتولى تلك الجماهير السلطة ،فلو كان هذا هو الهدف الحقيقى،فإن ما يتناسب معه من وسائل ،هو الدعاية الواسعة النطاق عبر أكثر الطرق إنتاجية .والتى لا تستهدف أحد بذاته بقدر ما تستهدف الجماهير عموما ،فكيف للقطعان الجاهلة أن تحكم نفسها إلا لو امتلكت الوعى الضرورى لكى تمارس السلطة .
فالبشر هم الكائنات المادية الوحيدة القادرة على التأثير فى الطبيعة ،والمجتمع ،وفق أهداف مسبقة ،أى وعى بضرورة التغيير وشروطه ،ومن هنا يصبح الوعى هو العملية الرئيسية فى التغيير الاجتماعى ،وهو العملية المهملة بشكل فاضح فى الحركة الماركسية ،ومن هنا كان عجزها المزمن على التأثير فى المجتمع.
فإنتاج الوعى أى الفهم النظرى للضرورات التى تحكم الواقع ،ونقل هذا الوعى للمعنيين بتغيير الواقع ،وهم حسب الفهم الماركسى "الطبقة العاملة "،ودفع هؤلاء المعنيين للفعل الاقتصادى أو السياسى بناء على هذا الوعى فى تعينه العملى ،هى عمليات هامشية فى الممارسة العملية للحركة الشيوعية المصرية ،بالرغم من كونها العنصر الجوهرى فى التغيير الاجتماعى ،وفى حين ينقلب لدى هذه الحركة كل ما هو هامشى فعلا بالنسبة للتغيير الاجتماعى إلى العملية الجوهرية فى حياة الحركة ،وبالرغم من أن هذه العمليات ما هى إلا هياكل وموصلات من الممكن استبدالها بهياكل وموصلات أخرى ،تخدم الدور الجوهرى لأى حركة ثورية حقا .إلا أن التنظيم واتساعه ووحدته الصلدة عند البعض ،وخدمة الجماهير كالمرسل المسيحى للشعوب غير المسيحية عند البعض الآخر، انتظارا لمن يقبل أن يستمع لكلمات البيان الشيوعى بدلا من الإنجيل،كانت تلك التوجهات ومازالت هى جوهر العمل الثورى .حتى ولو لم تؤدى دورها بكفاءة.
بلا شك توجد أسباب موضوعية لصعود وهبوط الحركة الشيوعية المصرية ،كما توجد أسباب فيما تداولته من أفكار نظرية ، وأسباب أخرى تتعلق بما تبنته فعليا فى الممارسة من شعارات .إلا أن هذا لم يكن موضوع هذا المقال .فقد ركزت فحسب على بضعة أسباب ذاتية خاصة بممارسات تلك الحركة ،كفيلة حتى مع توافر الشروط الموضوعية للنجاح والصعود أن تفشل أى حركة أو تصيبها بالتدهور .
تدعى الحركة اليسارية المصرية أنها حركة للتغيير الاجتماعى ،تستند فى رؤيتها النظرية ،وممارستها العملية ،إلى المنهج العلمى فى طريقها لتغيير الواقع الاجتماعى إلى الاشتراكية .فهل اتفق تاريخ هذه الحركة ،وهذا الإدعاء ؟ فالإنسان يغير أشياء الطبيعة من حوله عبر عملية العمل التى تؤدى إلى التراكم المعرفى(العلم)، وعبر عملية التأثير المتبادل بين العلم والعمل تتسع قدرة الإنسان على التأثير فى الأشياء من حوله ،لتحويلها إلى ما يريد من أشياء أخرى ،تجسد هدفه من عملية العمل .
أساس عملية العمل هى قوة العمل البشرية التى تستخدم وسائل العمل فى التأثير على موضوع العمل أى الشىء المراد تغييره ،وتحكم موضوع العمل وعملية تحوله ضرورات لابد و أن يفهمها من يمارسون التأثير عليه .وتتسع قدرة قوة العمل على التأثير كلما اتسعت خبراتها وازدادت مهاراتها ،وتنظيمها للعمل وتراكمت لديها المعارف . ويكون من محصلة هذا قدرة متزايدة على تحويل وتغيير الأشياء ،وفق الغايات المحددة سلفا من قبل القائمين بعملية العمل .
ولما كان المجتمع المصرى هو شىء من أشياء الوجود أو موضوع العمل الذى يبغى اليسار تغييره ،وقد حاول ذلك وفشل ،أليس من المنطقى أن يكون سر هذا الفشل ،هو افتقاد اليسار الماركسى للوسائل الملائمة للتأثير فى المجتمع وبما يتفق مع الغاية من تغييره ،وبما يتناسب مع ما يراد أن يتحول إليه ، بناء على هذا التأثير ،هذا الفرض هو ما سأحاول إثباته عبر هذا المقال.
أولا:- النظرية وفهم الضرورة .
عثرت القطاعات الأكثر ثورية من المثقفين المصريين على الماركسية ،إلا أنهم لم يتعاملوا معها كنظرية علمية تساعدهم على فهم الضرورات التى تحكم الواقع وتغيره ،وإنما تعاملوا معها كدين من أديان التمرد ،ومن ثم فقد تعامل منظروها مع نصوصها الكلاسيكية كما يتعامل الفقهاء مع النصوص المقدسة لأديانهم ،بنفس العقلية النقلية التى تقدس النص ،وترفض وتنفى كل ما يتعارض ،ليس مع النص فحسب ،بل ومع تفسيراتهم الخاصة للنص ،ومن هنا أصيبوا بالجمود ، وما لبثت مقولاتهم أن تحطمت على صخرة الواقع الذى لا يرحم .
على سبيل المثال فقد رأى بعضهم ،أن مصر والصين تتماثلان تاريخيا واجتماعيا من أوجه عديدة ،وبالمطابقة فقد رأوا أن طبيعة المرحلة الثورية الراهنة فى مصر،و كما كان ينص عليها برنامج الحزب الشيوعى الصينى،لابد وأن تكون وطنية ديمقراطية بقيادة الطبقة العاملة ،والطبقة العاملة هنا ما هى سوى رمز دينى يربطهم بالماركسية ،إلا أنهم فى الممارسة العملية مثلهم فى ذلك مثل (ماو) لم يقتربوا منها على الإطلاق ..وإذا كانت الصين قد حققت ثورتها العلمية عبر حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد ،فليكن هذا هو الشعار المرفوع فى مصر ،والذى لم تتم ممارسته فى الواقع العملى ،ولم يتساءل أحد ،هل يمكن ممارسة هذا الشعار فى ظل الظروف المصرية التى تتميز بلا شك عن ظروف الصين فى أوجه عديدة ،دع عنك اللحظة التاريخية التى مورس أثناءها الشعار فى الصين ،أو ليس غريبا وصف حرب التحرير الشعبية بأنها طويلة الأمد ،أو لو كانت قصيرة الأمد فأنها لن تصلح فى التغيير الاجتماعى ،أم ستخدش قداسة التابو ،أو تنتهك حرمة النص المقدس .
يلاحظ أن من كان يردد مثل هذه المقولات النظرية ،هو مجرد هيكل تنظيمى محدود العدد ،ومعزول تماما ،الغالبية الساحقة من أفراده من المهنيين والطلبة والموظفين ،ينحصر نشاطهم الرئيسى فى أوساط طلبة الجامعة ومراكز الشباب والأحياء الشعبية والنقابات المهنية ،وهم لم يمارسوا فى أى من أنشطتهم ما يقربهم من ممارسة تلك الشعارات على أى نحو من الجدية .
وأذكر له كذلك تقرير معنون بتقرير مارس 1983.والذى قسم البورجوازية المصرية لشرائح ،واختار لكل شريحة حزبا من الأحزاب العلنية ،كمعبر عن هذه الشريحة ،ولما كانت البورجوازية المصرية وفق مدرسة التبعية تابعة ،فقد اختار لكل شريحة من هذه الشرائح ،ومن ثم الحزب الذى يعبر عنها ،قسما من أقسام الرأسمالية العالمية ،اليابان،أوروبا الغربية ،الولايات المتحدة الأمريكية ،الكتلة المصرفية العربية !!،ليعلن أن كل شريحة من تلك الشرائح وحزبها تابعة لأى منها ،وأخذ يرهق ذهنه و ذهن القارىْ فى البرهنة على هذه الروابط بين تلك الأشياء الوهمية ( شرائح الطبقة وفق ما تمارسه كل منها من نشاط ،ووفق علاقاتها بأقسام الرأسمالية العالمية ،والأحزاب العلنية من وطنى ووفد وأحرار وعمل ،والتى لا تقل ورقية عن التنظيم الذى صدر عنه التقرير )،فقد أعتبر كل الأحزاب فى مصر أحزابا حقيقية ،بما فيها حتى الحلقات التى لم تتجاوز فى أفضل التقديرات بضعة مئات ،دع عنك العشرات والآحاد. و أخذ يرصها كقطع الشطرنج ،فى تحالفات وجبهات ،إستراتيجية وتكتيكية ،على جانبى الصراع المفترض ،حاليا كان أو مستقبلا .وكأن كل طبقة فى مصر تعى ذاتها ،وتنظم أفرادها فى مؤسسات مختلفة ،فى تمايز عن الطبقات الأخرى ،وكأن هناك حقا حياة سياسية ،تشمل أحزابا حقيقية ،وتمارس صراعا حقيقيا سواء عبر صناديق الانتخابات ،أو عبر العنف المسلح وغير المسلح أو حتى العصيان المدنى ووسائله.
وهكذا بدلا من محاولة الفهم العلمى للواقع المراد تغييره ،انغمس الماركسيون فى مجادلات بيزنطية ،حول قضايا لا علاقة لها بالواقع ،وقد تبعثروا منذ البداية إلى مجموعات لا تمل ولا تكل من الانشقاقات و الانقسامات ،وقد ظنت كل مجموعة أصلية أو فرعية ،أنها حقا قوى سياسية ذات بال ،وأنها بمفردها وعبر النمو الذاتى ستصل للنجاح الذى وصل إليه البلاشفة ،وهم الذين وبعكس البلاشفة لم يعرفوا يوما طعم الجماهيرية خارج أسوار الجامعة ، تلك الجماهيرية المستندة على قضية وطنية ملتهبة سرعان ما فقدوها بخمود تلك القضية .دع عنك القصور الحاد فى فهم الآليات التى تتغير بها المجتمعات ،والتى لا علاقة لها بالنموذج الساذج ،للحزب الثورى (العصبة المؤمنة )،والتى تقود الطبقة أو الجماهير لكى تضعها فى السلطة محققة التغيير الاجتماعى المنشود ،ربما يصلح هذا النموذج للتمردات والانقلابات ،أما التغيير الاجتماعى من نمط إنتاج لنمط آخر فتلك قصة أخرى لم تستهويهم حقا.
وكان تاريخ تلك المجادلات ،هو تاريخ الصراعات الشللية ،التى ظلت أطرافها تتبادل المواقع الفكرية .فى جدال لا ينقطع حول طبيعة المرحلة الثورية ،أشبه بالجدال حول طبيعة المسيح الذى سار بين الطوائف المسيحية فى القرون الميلادية الأولى ،فكلا الجدالين ينتميان للاهوت ،ويستندان لنفس المنهج الغيبى ،فلم يستند الصراع الطويل بين المنظمات الماركسية على محاولات فهم علمى للمجتمع المصرى أولا ،والمجتمع المصرى كجزء من المجتمع العالمى ثانيا إنما بناء على حرب النصوص والنصوص المضادة.
فما هو علمى فى الماركسية ،أشبه بالنظرية الطبيعية التى تتحدث عن إمكانية تحويل الحركة الميكانيكية إلى تيار كهربى والعكس صحيح .ففى الحالة الأولى تطبق النظرية فى الدينامو ،وفى الحالة الثانية تطبق فى الموتور ،فى الأولى نقطع المجال المغناطيسى بحركة ميكانيكية فيسرى تيار كهربى فى الملف ،وفى الثانية نقطع المجال المغناطيسى بتيار كهربى فتحدث حركة ميكانيكية .إلا أنك لو فتحت أى دينامو أو موتور ،فستجد الملفات النحاسية ،وقطع من المغناطيس ومحاور ومسامير وأشياء كثيرة مترابطة ،يتوقف عمل الموتور أو الدينامو لو تعطل أى منها .و لن تكفيك على الإطلاق معرفتك بالنظرية ،لكى تعرف كيف تصنع موتورا أو دينامو ،أو أن تصلحهما ،أو حتى أن تفهم كيفية عملهما أو تشغيلهما ،وبالمثل فقد توقف الماركسيون المصريون تماما عند حدود فهم مشوه للنظرية ،دون محاولة تطبيقها على المجتمع المصرى .
ثانيا :-قوة العمل (الماركسيون ومنظماتهم).
سأتناول هنا ظاهرة تاريخية قلما تناولها الاشتراكيون ،وقد كان إهمالهم لها بالدراسة سببا من أسباب أزمتهم الراهنة ،وستظل جرثومة هذا الإهمال ،تنخر فى قواهم ما لم ينتبهوا إليها ،فكل جماعة بشرية عبر التاريخ ،سواء أكانت ثورية أم إصلاحية ،وسواء أكانت سياسية أم دينية أم ثقافية أم اجتماعية .تبدأها مجموعة صغيرة جدا من البشر الذين يتميزون بسمات شخصية معينة ،أهمها تجاوز المصالح الفردية والذاتية الضيقة ،والتمسك الصلب بالمبادىْ والمثل التى يناضلون من أجلها ،فضلا عن الإخلاص والتفانى والجدية والجلد والحماس ،إلا أنهم عند تحقيق قدر من النجاح يتحولون لقطب اجتماعى ذو جاذبية ما ،فيتقاطر نحوهم الأفاقين والانتهازيين الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف ،وتزداد تلك الجاذبية كلما زاد النجاح ،وتقادم بالحركة العمر،وبلغت بعضا من أهدافها.فالنمو السريع فى العضوية،غير المختارة على أسس جيدة ،وغير المعدة و لا المدربة على نحو جيد يعنى أيضا تضخم الحركة بأعضاء لم يتخلصوا من التشوهات النفسية والسلوكية والأخلاقية والفكرية ،أى لم يتخلصوا تماما من التناقضات ما بين مبادىْ ومثل وقيم الحركة الجديدة ،والمثل والقيم و المبادىْ التى قامت الحركة الجديدة كنقيض لها ،وسرعان ما يتبوأ قيادة الحركة ،ويجرفونها بعيدا عن أهدافها وقيمها ومثلها ،وعبر تاريخ أى حركة ،يعمل هؤلاء وهؤلاء ،بعمد أم بغير عمد على تخريب الحركة وإفسادها ،وعرقلة نموها ونجاحها بدرجات متباينة..وفى مواجهة كل هذا ،تنشأ الانقسامات والانشقاقات فى الحركة حتى تتحول لحركات فرعية متصارعة.
وقد تكرر هذا السيناريو بتلوينات مختلفة ،وتنويعات متباينة عبر كل التاريخ البشرى ؟ فإن كان علينا ألا نغفل بالطبع الظروف الاجتماعية التى تفرز هذه الظاهرة فإن علينا أيضا ألا نغفل دور الأفراد بكل تنويعاتهم اللانهائية ،وتذبذباتهم التى لا تنتهى ،وذلك باعتبارهم أفراد يؤثرون بدورهم فى مسارات الحركة المختلفة ،فيما تحققه من نجاح ،وفيما يعتريها من فشل .وهو الأمر الذى لم يهتم به الاشتراكيون كثيرا اعتمادا على فهم مبتذل للمادية التاريخية ،وبفهم قاصر ومبتسر للشيوعية أو الاشتراكية ،بأنها مجرد برنامج سياسى ،وليست تغييرا جذريا يحدث للمجتمع ببنيته التحتية والفوقية ،وهو وإن كان محكوما بشكل أساسى بتغيير الوجود الاجتماعى ،إلا أنه يتأثر أيضا بالوعى الاجتماعى،وإن يكن بشكل نسبى .
عند نمو الحركة تتحول لجماعة بشرية مستقلة نسبيا عن المجتمع ،وكأى جماعة بشرية ،تعتبر السلطة التى تحكم هذه الجماعة داخليا ،وتحدد علاقاتها بالجماعات الأخرى ،هى المسألة الأكثر أهمية وحيوية فى حياة الحركة ،بصرف النظر عن كون هذه السلطة ديمقراطية أم غير ديمقراطية .وكأى جماعة بشرية حديثة أيضا ،فأنها تحتاج لجهاز إدارى محترف ،ومتفرغ لإدارة حياتها اليومية ،يزداد تضخمه بزيادة حجم الجماعة وأنشطتها ،ويظل من يشغلون مراكز السلطة والإدارة يملكون النفوذ والقدرة على التحكم فى نشاط الجماعة ،ويحصلون على الامتيازات ولو فى حدود المعنويات التى يضفيها المنصب على من يشغله ،فما يملكوه من إمكانيات المعرفة والتأثير ،يحولهم هم ومناصبهم ،لمركز جذب للأفاقين والانتهازيين ،الذين يجيدون الطاعة لمن هم أعلى ،والتسلط على من هم أدنى ،والاستفادة مما يشغلوه من مناصب ومراكز ،والتزاحم والتنافس على هذه المراكز بأشد الطرق ميكافيلية ،والدفاع عن أنفسهم وشللهم ومناصبهم وامتيازاتهم بكل الطرق الشريفة وغير الشريفة.عبر التآمرية والتشهير بالخصوم ،ومن خلال النفاق وتدمير المنافسين ،وبآليات الشللية والمحسوبية ،وتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة ،وشراء البعض وإفسادهم وإذلالهم،ورمى الشرفاء والأنقياء إلى خارج الحلبة ،مرغمين أو مستسلمين ،ليبقوا هم وحدهم فى النهاية .
وهكذا نرى أن كلتا الضرورتين (السلطة والإدارة ) ينبع منهما الفساد والانحراف ومن ثم الفشل .ولن يجوز لنا دفن رؤوسنا فى الرمال ،ونتبنى تلك النظرة التفاؤلية الساذجة ،وأن نفترض بناء عليها أن هناك إمكانية لوجود بشر كالملائكة ،يحتكرون مراكز السلطة والإدارة فى الجماعة البشرية مما يضمن حمايتها الدائمة من الفساد والتحلل ،وهو فرض خيالى للغاية،فلم يتوافر لدينا الملائكة بعد على الأرض ،كما لا يتوافر لدينا الشياطين ،وإنما لا يوجد سوى البشر ،والذين تتحكم فيهم فى النهاية غرائزهم وعواطفهم النابعة من فرديتهم جنبا إلى جنب مع القيم والمثل العليا النابعة من اجتماعيتهم ،وقد يتغلب أحيانا جانب على الجانب الآخر،إلا أنهما يتلازمان طول الوقت ،فلم ولن يوجد هؤلاء البشر الذين ستظل تحكمهم مثلهم العليا إلى النهاية ،أو تحكمهم فحسب غرائزهم وعواطفهم الفردية كل لحظة ،وإننا حتى لو افترضنا وجود أعداد وافرة من هؤلاء البشر القريبى الشبه بالملائكة ،فأننا يجب أن لا ننسى أن السلطة مفسدة ،والسلطة المطلقة فساد مطلق.فالسلطة وما يلازمها من امتيازات أدبية ومادية وإمكانيات ونفوذ كفيلة بإفساد الملائكة ،فما بالك بالبشر.
وأخيرا فإننا لا يمكن أن نغفل عن دور الجماعات والمؤسسات المعادية ،رسمية وغير رسمية ،فى اختراق أى حركة سرية أو علنية ،وإفسادها من الداخل ،وتخريبها بشراء العملاء ،وإفساد الأفراد بشتى الوسائل الممكنة ،والتى تتلخص فى استغلال احتياجات الأفراد المختلفة ،واللعب على أوتار فرديتهم وسذاجتهم ،وهو الأمر الذى تزداد خطورته فى الحركات الثورية السرية منها والعلنية على حد السواء .
وهكذا لم يحاول الماركسيون خلق جهاز مناعة طبيعية داخل حركتهم ،يحميهم من الآثار الضارة لهذه الظواهر الاجتماعية ،بل ارتكبوا كل ما من شأنه تعرضهم لكل آثارها الضارة،ومن ثم كان فشلهم المزرى فى الواقع المصرى خصوصا مع الضعف الشديد فى جماهيريتهم ،وذلك رغم إدعاء العلمية ،التى لا تعنى لديهم سوى زائدة شرفية.فإذا كانت قوى العمل تعنى العناصر البشرية العاملة ،والتى تزداد قدرتها حسب درجة تقسيم العمل فيما بينها ،والتنظيم الذى ينظم عملها ويديره ،فإن العناصر البشرية لا تختار فى الحركة الماركسية إلا على أساس الولاء الفكرى ،الذى لا يعنى سوى قبول الخط السياسى ،وطاعة القيادة ،فإذا كانت أبسط الأعمال البشرية تفترض نوعا من الاختيار على أساس الكفاءة ،ولابد من أن يتم إعداد من يمارسها وتعليمه وتدريبه وإكسابه الخبرة الملائمة للعمل ،فإن من يمارس تغيير المجتمع هنا ،لا يشترط فيه سوى الثقة ،ويترك بلا تربية و لا تثقيف ويؤمر أن يعمل بلا إعداد أو خبرة ،وينتظر منه التأثير فى الجماهير ،فلا يبقى له إلا الفشل الذى يليه الإحباط .وقد ازدحمت ذاكرتى بخبرات تعلمت منها أن معظم الأعمال التى اشتركت فيها ما فشلت إلا لسببين ذاتيين:-1-افتقاد الإعداد والخبرة والتدريب والكفاءة سواء لدى أو لدى من شاركتهم هذه الأعمال ،فقد كنا نلقى لأعمال لا نعرف كيف نستفيد منها أو نطورها،و لا نعرف كيف نتعامل مع ما كلفنا به 2-اتسام الكثير من العناصر الذى عملت معها بسوء السلوك والأخلاق وطريقة التفكير وعيوب أخرى ،أدت فى النهاية لفشل الجميع .وذلك لغياب الآليات الجماعية الكفيلة بالتزام الجميع بنسق أخلاقى وسلوكى يضمن نجاح العمل الجماعى ،وهو الأمر الذى يعنى ضرورة الاهتمام بالتربية والتدريب والتثقيف العام الجماعى بهدف التخلص من آثار المناهج غير العلمية فى التفكير ،والأخلاقيات والسلوكيات التى لا تتوافق والمثل العليا الجماعية ،وبهدف تعديل السلوكيات و الأخلاقيات بما يتوافق وهذه المثل .مع العلم أن هذا لا يمكن أن يحدث دون بنية وعلاقات داخلية تساعد العناصر الداخلة فى البنية على التخلص من التشوهات الناتجة عن آثار البنية البورجوازية .
إن الشروط المثلى لمثل هذه البنية تتلخص من وجهه نظرى ،فى السلطة الديمقراطية المباشرة باعتبار الديمقراطية المباشرة أفضل طريقة ممكنة لممارسة السلطة ،والإدارة اللامركزية لأقصى حد ممكن الأمر الذى يحميها من التبقرط ،ويمنحها الكفاءة ،ويبعدها عن الفساد .وأخيرا تحول الحركة كجماعة بشرية لنموذج جنينى لمجتمع المستقبل الشيوعى بكل ما يعنيه من مثل وقيم وممارسات ،وبما يعنى من تحول الحركة ،لآلية تحمى أعضاءها بقدر المستطاع من تأثيرات التشيؤ والاغتراب فى المجتمع البورجوازى الذى تعمل لتغييره.
إلا أننا يجب أن نقر من البداية أنه لا توجد حماية أو مناعة مطلقة ،فالأمل فى هذا والارتكان إليه لهو من قبيل الأوهام المثالية ،والتى لا يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع ،إلا أننا يمكن أن نوفر فحسب أعلى ما يمكن من درجات المناعة ،وبأقصى ما يمكن من الضمانات ،والتى تنقسم إلى ضمانات لى مستوى البنية أى الحركة ككل باعتبار تأثير البنية على العناصر المكونة لها،وضمانات على مستوى العناصر باعتبار تأثير العنصر على البنية.
ثالثا:-وسائل العمل .
يمكنك أن تفرغ عربة من الرمل بملعقة صغيرة للشاى ،كما يمكنك أن تفرغها بجاروف ،والفرق بين الطريقتين هو ما ستستغرقه من زمن ،وما ستبذله من جهد ،ومن هنا فالتاريخ البشرى فى هذا المجال ما هو إلا تطوير لوسائل العمل من أجل إنتاجية أفضل فى زمن أقل ،وبجهد أقل .أما تاريخ الماركسيين المصريين فى محاولتهم التأثير على المجتمع المصرى فهو الإصرار على استخدام الوسائل الأقل إنتاجية،والتى تستغرق وقتا وجهدا لا يتناسب مع ما ينتظر من ثمار ،فى حين أن المعسكر الآخر سواء الدولة أو قوى المعارضة البورجوازية فإنها تحتكر وحدها الوسائل الأكثر إنتاجية سواء فى مجال تسيد رسالتها الدعائية أو فى مجال قدرتها على حشد الجماهير وراء شعاراتها .ومن ثم يصبح تأثيرها فى الحفاظ على الوضع القائم أو تغييره فى الاتجاه المضاد أعلى بكثير وبما لا يقاس بقدرة قوى اليسار.
يتميز الماركسيون المصريون ،أفرادا ومنظمات ،بالقدرة المحدودة للغاية على الدعاية بأنواعها المختلفة ،وإن تميزت قدرة بعضهم أحيانا على التحريض بالقوة ،التى تساعدها فى ذلك مناسبة التحريض ،أكثر من أى شىْ آخر .فقد لاحظت أن من يتمتع بقدرة دعائية جيدة على مستوى الدعاية للأفكار ،وتبسيط الوعى والقدرة على الإقناع ،سواء شفاهه أو كتابة ،هم قلة محدودة للغاية ،تعتمد على مواهبها الفردية،غير المصقولة بالتدريب والممارسة. فلم أعرف على الإطلاق ،أن هناك توجه جدى للأفراد أو المنظمات ،من أجل زيادة تلك القدرات وتنميتها بالتثقيف سواء العام أو الماركسى .كما لم يسع أحد بجدية نحو توفير وسائل مكتوبة أو مسموعة إلا فيما ندر سواء على مستوى الإعلام أو التثقيف ،تساعد الماركسيين فى ممارسة دورهم الدعائى على النحو الأمثل .فالكتب التى تبسط الماركسية وتشرحها هى غالبا مطبوعات سوفيتية مترجمة بكل مدرسيتها التى تعيق الفهم الصحيح ،أما المطبوعات المصرية التى تربط المعارف النظرية بتطبيقها على الواقع العينى فهى فى ندرة الخل الوفى .
ولما كان الماركسيون قد تربوا فى ظل حركة هى انعكاس واقع لا يحترم المعرفة والثقافة والعلم بقدر ما يحترم أشياء أخرى ،فقد اكتسبوا لغة خاصة ،جعلتهم عندما يلتحمون بالجماهير التى لا تعرف لغتهم ومصطلحاتهم الغريبة ، عاجزين على شرح أفكارهم بلغة تفهمها تلك الجماهير على النحو الصحيح ،والذين إما يخلطون تماما بين الماركسية والحس الوطنى الشعبوى الجذرى المصحوب بالتعاطف مع الفقراء والكادحين ، وإما كمجرد إلحاد عدمى بسيط عند آخرين ،تاركين البناء الفكرى والعلمى الضخم والمركب للماركسية محنطا بين دفاف الكتب ،و دع عنك نقص الخبرة والمعرفة والتدريب مما أصابهم بالعجز عن ربط هذا التراث والجماهير .
وتتمثل الكارثة فى أنه بدلا من أن يطور الماركسيون قدراتهم على الدعاية بشقيها التحريضى والتثقيفى ،سواء بالتدريب أو بالممارسة العملية ،فأنهم يهدرون جل طاقتهم فى أنشطة لا علاقة لها بالدور الرئيسى والجوهرى فى التأثير على المجتمعات بهدف تغييرها وهو الدعاية ،هذا الدور المهمل تماما ،لصالح أنشطة أخرى لاعلاقة لها بالتغيير الاجتماعى الذى ينشده الشيوعيون وفق نظريتهم ،وهو الأمر الذى ينفى عنهم صحة هذا النسب .
إذ ينخرطون ويغرقون فى أنشطة خدمية وفنية وشبابية ونخبوية ووطنية تبعدهم عن الصراع الوحيد ،والذى وفق نظريتهم المعلنة هو محرك التاريخ مما انعكس على جماهيرتهم الضحلة التى لم تتجاوز حدود الجامعة .
ولو بحثنا عن حقيقة هذا التوجه ،فسنجده فى أنهم يطرحون أنفسهم كبديل للسلطة الحاكمة ،سواء باكتساب ثقة الجماهير ،وكسب من يثقوا فيهم إلى صفوفهم تحت وهم النمو الذاتى ،وذلك بدلا من التغيير الجذرى لوعى الجماهير الثورية سواء بالدعاية أو بالتحريض الذى يستهدف أن تنظم هذه الجماهير نفسها لانتزاع مطالبها ،والثقة فيما ستفرزه هذه الجماهير بنفسها من منظمات وقيادات بناء على وعيها الجديد ،ولكن لأنهم يعتبرون أنفسهم التجسيد الفعلى للجماهير والطبقة ،وأن الثورة لا تعنى سوى توليهم السلطة ،فأنهم يطرحون أنفسهم كبديل للسلطة الحاكمة من خلال ما يسمونه بالعمل الجماهيرى ،متوهمين أنهم بأسلحتهم البدائية ،وإمكانياتهم الفقيرة ،يستطيعون منافسة السلطة بكل إمكانياتها الهائلة وأسلحتها الأرقى بما لا يقاس.
إنك تستطيع أن تلاحظ بنظرة واحدة ،التناسب الواضح ،بين القوى السياسية المختلفة وبين ما تطرحه من دعاية ،وما تستخدمه من وسائل .فإزاء محطات الإذاعة والتليفزيون وملايين الصحف والمطبوعات المختلفة ،لا يستخدم اليسار إلا عددا محدودا للغاية من المطبوعات ضعيفة التأثير .والتى لا تصل إلا للوسط الماركسى ومن حوله من علاقات قليلة مستهدفة للتجنيد بشرط الثقة فيها والقبول الكامل للخط الفكرى والسياسى.
يوجه اليسار دعايته طالما ظل محجوبا عن الشرعية ،و بالرغم من الإمكانيات المتاحة حاليا للدعاية العلنية،من خلال المطبوعات السرية التى لاتصل إلا لمن يستهدفوا تنظيمهم ،ففكرة الدعاية الواسعة تستبعد تماما ،فالمهم هو بناء التنظيم الذى سيقود عندما ينمو ذاتيا إلى حد كاف قطعان الجماهير كى يضعوه فى السلطة ،و ليس بأى حال أن تتولى تلك الجماهير السلطة ،فلو كان هذا هو الهدف الحقيقى،فإن ما يتناسب معه من وسائل ،هو الدعاية الواسعة النطاق عبر أكثر الطرق إنتاجية .والتى لا تستهدف أحد بذاته بقدر ما تستهدف الجماهير عموما ،فكيف للقطعان الجاهلة أن تحكم نفسها إلا لو امتلكت الوعى الضرورى لكى تمارس السلطة .
فالبشر هم الكائنات المادية الوحيدة القادرة على التأثير فى الطبيعة ،والمجتمع ،وفق أهداف مسبقة ،أى وعى بضرورة التغيير وشروطه ،ومن هنا يصبح الوعى هو العملية الرئيسية فى التغيير الاجتماعى ،وهو العملية المهملة بشكل فاضح فى الحركة الماركسية ،ومن هنا كان عجزها المزمن على التأثير فى المجتمع.
فإنتاج الوعى أى الفهم النظرى للضرورات التى تحكم الواقع ،ونقل هذا الوعى للمعنيين بتغيير الواقع ،وهم حسب الفهم الماركسى "الطبقة العاملة "،ودفع هؤلاء المعنيين للفعل الاقتصادى أو السياسى بناء على هذا الوعى فى تعينه العملى ،هى عمليات هامشية فى الممارسة العملية للحركة الشيوعية المصرية ،بالرغم من كونها العنصر الجوهرى فى التغيير الاجتماعى ،وفى حين ينقلب لدى هذه الحركة كل ما هو هامشى فعلا بالنسبة للتغيير الاجتماعى إلى العملية الجوهرية فى حياة الحركة ،وبالرغم من أن هذه العمليات ما هى إلا هياكل وموصلات من الممكن استبدالها بهياكل وموصلات أخرى ،تخدم الدور الجوهرى لأى حركة ثورية حقا .إلا أن التنظيم واتساعه ووحدته الصلدة عند البعض ،وخدمة الجماهير كالمرسل المسيحى للشعوب غير المسيحية عند البعض الآخر، انتظارا لمن يقبل أن يستمع لكلمات البيان الشيوعى بدلا من الإنجيل،كانت تلك التوجهات ومازالت هى جوهر العمل الثورى .حتى ولو لم تؤدى دورها بكفاءة.
بلا شك توجد أسباب موضوعية لصعود وهبوط الحركة الشيوعية المصرية ،كما توجد أسباب فيما تداولته من أفكار نظرية ، وأسباب أخرى تتعلق بما تبنته فعليا فى الممارسة من شعارات .إلا أن هذا لم يكن موضوع هذا المقال .فقد ركزت فحسب على بضعة أسباب ذاتية خاصة بممارسات تلك الحركة ،كفيلة حتى مع توافر الشروط الموضوعية للنجاح والصعود أن تفشل أى حركة أو تصيبها بالتدهور .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية