اللاسلطوية والصحة العقلية
اللاسلطوية والصحة العقلية
سامح سعيد عبود
الرأسمالية نظام اجتماعى غير صحى للغاية ، فالتلوث الصناعى ليس الشىء الوحيد الذى تسببه الرأسمالية ويلوث حياتنا ،فحتى مفهوم الصحة العقلية نفسه هو جزء من التلوث الذى يسمم حياتنا .بالطبع هناك الكثير من المشكلات العقلية تكون مرتبطة بالصحة الجسمانية ، فالإنسان الجائع أو المتألم بشدة لا يؤدى وظائفه العقلية على النحو الأفضل .كما أن المشكلات الصحية لأنسجة المخ على نحو خاص قادرة على أن تؤدى حتى للخبل العقلى .لكن النسبة الغالبة من المشكلات التى ينظر لها " كمشكلات عقلية " تكون مشكلات نفسية حقيقية .فالنظام النفسى للكائن البشرى هو بمثابة المركز لوجوده البيولوجى.فالطريق الطبيعى الذى شكل نوعنا الإنسانى هو كل ما نفعله من سلوك ،سواء بناء على ما نشعر به أو لما نريد أو أن نتوقع أن نشعر به . وتأتى المشاكل النفسية للبشر المعاصرين ،من أن العلاقات فيما بين الأفراد أصبحت منحرفة كثيرا جدا عن التكوين الطبيعى لنظامنا النفسى كبشر .فالإنسان تم تكوينه النفسى فى نظام تضامن عشائرى نبع من العائلة الممتدة. إلا أننا على العكس الآن عادة ما لا نقابل يوميا بشر يعتنون ويهتمون بنا بشكل حقيقى بعيدا عن المنفعة الشخصية .ولا نجد فيمن نلتقى بهم سواء فى العمل أو فى الشارع الاهتمام والحب والاحترام.
غالبية المشاعر الأساسية سواء المتولدة عن رعاية الفرد أو أنشطته الراقية تكون محبطة أيضا ،فنحن لا نشعر بحماية الآخرين، فوق أننا مجبرين على العمل حتى الاجهاد ، وفى كل لحظة من عمرنا نكون مجبرين على تطويع إرادتنا وفق مشيئة القوى المتسلطة اجتماعيا .ونحن لا يسمح لنا حتى بالتعبير بشكل حر عن مشاعرنا الغاضبة والتعيسة الناتجة عن الاحباط
يستطيع مدربوا السيرك أن يجعلوا الحيوانات تفعل الكثير من الأفعال المدهشة لنا، لكن هذا لا يعنى أن تكون هذه الحيوانات كائنات سعيدة برغم كل ما تفعله ، كذلك عملية الترويض الاجتماعى للبشر حتى يمارسوا انشطتهم الاجتماعية المختلفة وفق إرادة المروضين.ففى طريق كل منا فى الحياة ، يوجد رجل شرطة مزروع عبر التربية والتعليم والإعلام ، يتوسط بين نشاطنا الاجتماعى ونشاطنا العقلى ،فيشجع أو يحبط نشاطنا الملموس لا وفق إرادتنا التى يحددها النشاط العقلى ،بل وفق إرادة القوى المتسلطة فى المجتمع .
إريك فروم كتب فى هذا الموضوع فى كتابه "الفرار من الحرية" برغم قضبان أقفاص الطيور المحبوس داخلها البشر تكون غير مرئية .إلا أننا نسلك بشكل مشابه جدا للحيوانات الحبيسة فى حديقة الحيوان .
النظام الاجتماعى اللاسلطوي سيضع نهاية لغالبية القيود على الحرية ،وسيضع نهاية للمنافسة المهلكة بين البشر .وهذا لن يجعلنا نشعر ونسلك كمتنافسين فى الحياة ،أنه سيبنى المجتمع مرة أخرى كوحدة اجتماعية متضامنة ، وهو ما سيوفر الدعم والتلاحم والدفء العاطفى مثلما كانت توفرهم العائلة العشائرية الممتدة . فعندما لا نكون ملجمين كالجياد فى الطاحونة الرأسمالية ،ومن ثم نعيش فى مجتمعات أخوية ،سوف يكون لدينا الكثير من المشاعر النفسية السارة ،ولن نكون مهددين بالخوف والغربة والوحدة والكره أو الغضب الحبيس.
الاكتئاب هو المشكلة النفسية الكبرى التى يعانيها البشر بشكل عام فى النظام الرأسمالى المعاصر .والناتج عن نقص التغذية العاطفية من البشر المحيطين بنا ،وهو ما يجعل البشر يبحثون عن بدائل زائفة لهذا الجوع العاطفى ،فيتعاطون العقاقير والمخدرات والخمور وبدائل أخرى .كما أننا نعيش الحياة على نحو ممل للغاية مقيدين بالروتين اليومى ،ومن ثم يلجأ البشر لكسر الملل بوسائل خطرة ،فالمقامرة واحدة من وسائل عديدة للفرار من هذا الملل ،التوجس والحذر المتوتر الذى نجبر أنفسنا علي الالتزام به طوال الوقت ،بدافع الخشية من الأخطار المحيطة بنا ،يستنزف قدراتنا النفسية والعقلية ،وهى ما لا تستطيع العقاقير أن تعوضها أو أن تعالج استنزافها.
فالكائن البشرى القادر على أن يكون سعيد وسليم صحيا معظم الوقت هو القادر على تحقيق أى من الخيارات المفتوحة أمامه ،وهو أمر نكون محرومون منه غالبا فى المجتمع السلطوى.
المشاكل العقلية لا تنبع من أنفسنا بل هى مشاكل النظام الرأسمالى بكل ما يسببه من اغتراب ،والذى يحرمنا من إشباع احتياجتنا العاطفية ومن حريتنا الحقيقية ،نحن نعيش فى جوع دائم لمجتمع لاطبقى لاسلطوى أخوى يستطيع أن يشبعنا نفسيا . وفى حين أن أخصائيوا الصحة العقلية والنفسية يحاولون مساعدة البشر على التكيف مع قضبان الأقفاص العقلية والشعورية التى يعيشون فيها..المجتمع اللاسلطوي سيحررنا من هذه الأقفاص.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية