الأربعاء، 26 مارس 2008

هرم السلطة وذرات المقهورين

هرم السلطة وذرات المقهورين
سامح سعيد عبود
عرفت البشرية نوعان من المجتمعات ،مجتمعات بدائية بسيطة التركيب ،يتساوى جميع أفرادها فى سيطرتهم على مصادر السلطة المادية، ومن ثم لاينقسمون فيما بينهم لطبقات و لا يعرفون لذلك السبب السلطة القمعية فيما بينهم ، وهى مجتمعات مشاعية لا تعرف الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والعنف والمعرفة ، وتقوم على أساس التعاون بين أفرادها لسد احتياجاتهم المشتركة ، وقد تمتع أفرادها بدرجة عالية من الحرية والمساواة والأخاء فيما بينهم ،وقد انقرضت هذه المجتمعات تقريبا الآن . أما النوع الذى ظهر لاحقا فى التاريخ البشرى ، فهى مجتمعات على درجات متفاوتة من التقدم والتعقد فى تركيبها ، تنقسم بين من يسيطرون على مصادر السلطة المادية فى المجتمع وهى الثروة ووسائل كل من العنف والمعرفة ، والمحرومين من تلك الوسائل ،و يمارس الطرف الأول السلطة القمعية على الطرف الثانى ويستغله بما يسيطر عليه من مصادر السلطة المادية ، وهى مجتمعات تعرف السيطرة الشخصية أو المؤسساتية على مصادر الثروة سواء فى شكل ملكية كاملة أو ملكية منقوصة بمعنى حقى الحيازة و الانتفاع دون حق الرقبة ، وحتى نصل لمجرد مستوى السيطرة الإدارية ومن ثم الانتفاع والسيطرة من موقع الإدارة لا من موقع الملكية أو الحيازة . وتقوم هذه المجتمعات على أساس الصراع فيما بين أفراد المجتمع وجماعاته المختلفة ، و لا يتمتع أفراد هذه المجتمعات إلا بمستويات متدنية وأحيانا منعدمة من الحرية والمساواة و الأخاء فيما بينهم ، وقد تطورت هذه المجتمعات عبر التاريخ المكتوب لأشكال متنوعة فى نفس الإطار القائم على الاستغلال والقهر ، وقد انتهى بها التطور إلى النمط الرأسمالى فى الإنتاج أكثر هذه الأنماط تقدما وتعقدا .
والتركيب المعقد للمجتمعات التسلطية يأخذ الشكل الهرمى .أسفل القاعدة السفلى من الهرم يوجد المحرومين من أى من مصادر للسلطة المادية ، ومن قاعدة هرم السلطة إلى قمته أفراد و شرائح وطبقات تملك أو تحوز أو تسيطر على أجزاء متفاوتة من مصادر السلطة المادية الثروة أو العنف أو المعرفة ، ويترتبون و يتداخلون فيما بينهم فى علاقات معقدة ، متعددة الاتجاهات والتنوعات ، يتبادلون الاستغلال والقهر على نحو نسبى فيما بينهم، فالأعلى فى هرم السلطة يقهر ويستغل من هو أسفل وهذا فحسب لمجرد التبسيط لا للوصف التفصيلى ، كما يشتركون فى استغلال وقهر المحرومين من مصادر السلطة المادية، والمسحوقين أسفل الهرم .
وطوال التاريخ البشرى المكتوب كان القاهرين ينتظمون فيما بينهم فى أشكال اجتماعية منظمة أو يستخدمونها ويستندون عليها ، من أجل أن تتيح لهم قهر واستغلال المقهورين الذين كانوا مجرد كم من الأفراد يسهل شراءه و حشده وتضليله لا لمصلحته ولكن وفقا لمصلحة أطراف الصراع داخل هرم السلطة ، ومن ثم كان التاريخ البشرى المكتوب هو تاريخ للتغير داخل هرم السلطة نفسه ، بمعنى إحلال نخب وشرائح وطبقات و أفراد محل نخب و شرائح وطبقات وأفراد محل أخرى ، من أعلى إلى أسفل أو بالعكس ، بالابادة أو السيطرة أو الاستيعاب ، فقد حل النبلاء الاقطاعيين محل ملاك العبيد ،وحل الرأسماليون محل هؤلاء النبلاء ،وحل البيروقراطيين محل هؤلاء الرأسماليين فى المجتمعات التى عرفت بالاشتراكية ،ولم يستطع المقهورين تحرير أنفسهم من ثقل السلطة الراسخ على كاهلهم عبر كل هذا التاريخ ،لأنهم كانوا يفتقدون القدرة على التنظيم ، ومن ثم العمل المنظم ، وبالتالى القدرة على التأثير على هرم السلطة ، وبرغم كل قوتهم الكامنة باعتبارهم الأغلبية وباعتبارهم منتجى الثروة البشرية الفعليين ، إلا أنهم مجرد ذرات من الرمال ، لا جامع بينها ولا رابط سوى وضعهم أسفل الهرم وخضوعهم للقهر والاستغلال وفقدانهم الحرية والمساواة الفعلية مع من ينتظمون فى هرم السلطة من ملاك الثروة والبيروقراطيين والعسكريين والساسة . وعبر آلاف السنين الذى شهدها التاريخ المكتوب كانت تلك الأغلبية المسحوقة وقود للحروب والثورات لمصلحة الأطراف المختلفة و المتصارعة داخل هرم السلطة ، فبدمائهم وعرقهم وسواعدهم تغير التاريخ بمعنى أنه تغير بتعاقب أنواع مختلفة من المتسلطين عليهم انتصروا وصعدوا عبر هرم السلطة على جثثهم وأكتافهم ، فكل ما حدث هو تعاقب أنظمة متباينة فى طرق استغلالهم وقهرهم . وكان و بناء على هذا التغير تتغير صفاتهم ومسمايتهم وفق هذه الأنظمة من عبيد إلى أقنان وأخيرا العمال . هذا هو التطور العام للتاريخ ..
ومع منتصف القرن التاسع عشر ظهرت الماركسية وقررت فيما قررت أن العمال تلك الطبقة الجديدة الرئيسية فى طبقات المقهورين ، و فى وضعهم الجديد التى خلقتهم عليه الرأسمالية ، هم الطبقة المقهورة الوحيدة عبر التاريخ ، القادرة على تحرير نفسها وقيادة البشرية بأسرها نحو التحرر ، وقد برهنت الماركسية على ذلك بأن هؤلاء المقهورين هم الصنف الوحيد من المقهورين هم القادرين وحدهم على تنظيم أنفسهم دون سائر المقهورين عبر التاريخ ، ذلك لأن العمال يتركزون بالمئات واللآلاف فى مكان واحد هو المصنع الحديث ،ويخضعون لظروف واحدة من القهر والاستغلال ، كما أن تعاملهم مع أحدث وسائل الإنتاج يتيح لهم اتساع الأفق و القدرة على خلق وعيهم الثورى الخاص بهم ، والمنفصل عن وعى الطبقة البورجوازية السائدة .وكانت المؤشرات فى ذلك الوقت تشير إلى صحة كل هذه الاستنتاجات ، فقد ظهرت حركة عمالية قوية هددت بقوة لا بمجرد قلب هرم السلطة ، و إنما بتحطيمه ، إلا أن التنظيمات العمالية المختلفة ، وعندما ظهرت فيها السلطة البيروقراطيةسواء للقادة العماليين فى النقابات أ والقادة السياسيين فى الأحزاب ، تحولت فى فرعها الإصلاحى إلى الاندماج تدريجيا فى هرم السلطة الرأسمالية ، وفقدت طابعها التحررى والثورى ، و فى فرعها الثورى أدت لأنظمة تكونت هى أيضا من الانقسام بين هرم السلطة الذى شغله البيروقراطيين والعسكريين والساسة الحزبيين ، وذرات من المقهورين من أشباه العمال الذين فقدوا حتى قدرتهم على الكفاح النقابى والسياسى ضد هرم السلطة الرأسمالية التى ظل يتمتع بها العمال فى البلاد الرأسمالية .
أما ونحن فى أوائل القرن الحادى والعشرين ، فقد تعقدت بنية المجتمع الرأسمالى ولم تصبح بنفس تلك البساطة التى تمتعت بها فى منتصف القرن التاسع عشر ، فقد اتسع جيش البروليتاريا حتى اتسع ليشمل فئات جديدة من المهنيين والباحثين والعلماء باعتبارهم من العاملين الذين لا يملكون إلا قوة عملهم الذهنية و اليدوية ويبيعونها كسلعة فى سوق العمل ، ويخلقون بابداعهم الذهنى واليدوى القيمة المضافة على نحو متزايد ، ومعرضون فى إطار ظروف عملهم للقهر والاستغلال والتبعية لسلطة رأسالمال و آلة العنف ، فليس بيدهم أى سلطة لاتخاذ القرار وخاضعين تماما فى ظروف عملهم لإرادة الرأسماليين .وفى نفس الوقت الذى اتسع فيه جيش البروليتاريا ، فأنه ينقسم لكتلة تتسع باضطراد من العاطلين عن العمل و المهمشين ، وقلة تضيق باضطراد من العاملين بالفعل ، ومن ناحية أخرى ينقسم جيش البروليتاريا بين قلة تنخفض باستمرار من المنظمين نقابيا تتمتع بظروف عمل أفضل وغالبية تزداد باستمرار وغير منظمة نقابيا محرومة من الامتيازات والامكانيات التى تتمتع بها الفئة الأولى ، ومن ناحية ثالثة ينقسم جيش العمل بين من يعملون بوسائل إنتاج أكثر تطورا وبين من يعملون بأخرى أقل تطورا ،ومن ناحية أخرى تتفاوت عائدات العمل وظروف العمل ومستوى المعيشة على نحو صارخ بين العمال عبر العالم ، ما بين العمال فى الشمال الغنى والعمال فى الجنوب الفقير ، بل وتتفاوت الظروف بين الفئات المتنوعة من العامليين بأجر فى البلد الواحد بين المواطنيين و وبين الأجانب والمهاجرين ، وبين النقابيين وغير النقابيين ، وبين اليدويين والذهنيين ، وهذا بلاشك يخلق حالة من عدم التجانس بل والتناقضات والصراعات بين صفوف المقهورين ، مما قد يصعب تصور تجاوزه فى ظل هذه الظروف .إلا أن ما يجب أن نعلمه هو أن القوى الاجتماعية القادرة على إحداث التغيير الاجتماعى وقيادة المجتمع االبشرى نحوه لابد وأن تتصف بمجموعة من الخصائص ليس من بينها البؤس بلا شك ، هذه الخصائص هى:
أولا :- قدرتها على العمل الجماعى المنظم ومن ثم الخروج من الحالة الرملية الهشة إلى الحالة الصخرية الصلبة التى تؤثر عند نضالها فى هرم السلطة و من ثم تملك امكانية تحطيمه .
ثانيا:_ أن تكون مرتبطة بالعمل على وسائل الإنتاج الأكثر تقدما ومن ثم الأكثر إنتاجية ، وأن تكون صاحبة مصلحة مؤكدة فى تطوير هذه الوسائل فى نفس الوقت الذى تعوق فيه القوى المتسلطة هذا التطوير .
ثالثا :_أن تكون محرومة من تملك وحيازة و إدارة مصادر السلطة المادية من ثروة وعنف ومعرفة وهذا الشرط ليس لازما عبر التطور التاريخى عموما طالما يحدث التغيير داخل هرم السلطة نفسه ، وهو ما يمكن أن يحدث لاحقا إن لم تتوافر الشروط الضرورية لتحرر المقهورين ، لكنه لزومى لتحقيق التحرر النهائى لكل البشرية .
رابعا:_ أن تملك وعيا تحرريا يهدف لخلق علاقات إنتاج تتواءم مع قوى الإنتاج الأكثر تقدما .
وهذه الشروط لا تنطبق بالضرورة على كل المقهورين ، و إنما على قطاعات محددة منهم تتوافر فيها الشروط سالفة الذكر ، وهى ليست بالضرورة البروليتاريا التقليدية كما عرفت فى القرن التاسع عشر ، هذه القطاعات ستكون بتنظيماتها اللاسلطوية الأنوية التى تتشكل حولها خلايا المجتمع اللاسلطوى من سائر المقهورين والمحرومين ليفتتوا هرم السلطة

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية