جذور الاستبداد فى اللينينية
جذور الاستبداد فى اللينينية
سامح سعيد عبود
تستند العلاقات الاستبدادية فيما بين البشر على أسس مادية ، فللسلطة القمعية جذور مادية ، منفصلة عن كل من إرادة و وعى الممارسين للسلطة أو الخاضعين لتلك السلطة ، فالسلطة القمعية ليست قيمة سلوكية أخلاقية ترجع لسوء أو حسن سلوك من يمارسها ، ربما تتدخل الأخلاق فحسب فى مدى سوء أو حسن استخدام السلطة القمعية ، وإنما ترجع السلطة القمعية بصرف النظر عن حسن ممارستها أو سوءها ، للسيطرة على مصادر السلطة المادية واحتكارها من الطرف الممارس للسلطة ، وحرمان الخاضع لها من تلك المصادر .والمسألة ليست معقدة و إنما يفهمها ويلاحظها كل إنسان ، فمن يملك الطعام قادر على إجبار الجائع على تنفيذ ما يريده هو لا ما يريد الجائع ، و الذى لابد وأن يقبل شروط مالك الطعام حتى يعطيه ما يملأ معدته ، ويستطيع الجائع أن يخدع نفسه بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، و هذا صحيح ، ولكن بشرط توافر الخبز أولا ، فحتى يستطيع الإنسان ممارسة أى نشاط آخر غير الأكل ، عليه أولا أن يملأ معدته بالطعام ، و إلا لن يكون باستطاعته الحياة ليمارس أى نشاط .ومن يملك وسائل العنف سواء كانت قوة عضلية أو سلاح قادر على إجبار الأضعف عضليا أو الأضعف تسليحا أو الأعزل على تنفيذ ما يريد ، وليس على الضعيف أو الأعزل إلا أن يستجيب لإرادة الأقوى لو أراد لنفسه الحياة والسلامة ، ومن يملك المعرفة والوعى على نحو أكبر أو يحتكرها لنفسه ، قادر على السيطرة على من لا يملك منها إلا القليل أو لا يملكها على الإطلاق ، فشخص يعرف الطريق لابد و أن يقود من لا يعرفه للسير فيه ، وما دمت لا تعرف إلى أين تتجه فما عليك سوى الاستجابة لنصيحة من يعرف . وهكذا . هذه هى الجذور المادية للاستبداد .و لا يمكن أن تقام علاقات اجتماعية تخلو من الاستبداد إلا إذا تساوى الداخلين فى تلك العلاقة فى سيطرتهم على مصادر السلطة الثلاثة على نحو متساو ، فطالما سيطر أحد أطراف العلاقة على أى من هذه المصادر فأنه لا مناص من استبداده بالآخرين وهى عملية منفصلة عن نية وأخلاق من يمارسها ، ورغم أن هذه بديهيات لا تحتاج للبرهنة ، إلا أننا مضطرين لتوضيحها دائما ، لأن القوى السياسية التسلطية المختلفة ،تصدر خطابها الدعائى دائما ، بامكانية تحقيق الحرية والأخاء والمساواة دون القضاء على انقسام المجتمع بين من يسيطرون على مصادر السلطة المادية وبين من لا يسيطرون عليها .
هذا المدخل العام ضرورى لمناقشة الجذور الاستبدادية فى الفكر اللينينى ، ذلك أن التروتسكيين يحاولون وضع خط فاصل سميك بينهم وبين الستالينيين ،لينفوا عن أنفسهم وعن لينين بالطبع التسلطية الستالينية ، و لكى يصوروا مافعله ستالين والستالينية كما لو كان فساد شخص وخيانته لقيم الثورة ومبادئها ، وسوء تصرف وسلوك تتبرأ منه اللينينية وبالطبع التروتسكية ، و يتحدثون عن وصية لينين الأخيرة التى تناولت نقد لينين لسلوك ستالين الفظ ، والحقيقة أن المواقف اللينينية كانت تتذبذب بين التحررية والتسلطية ، ومن ثم فالفروع الستالينية والتروتسكية على السواء تنبع من الجذر اللينينى تحديدا ، وليس فحسب من تراث الشرق الاستبدادى ، و تخلف الواقع الروسى ، و حالة الحصار والانهيار الكامل الذى وجد الاتحاد السوفيتى نفسه فيها . ولو فسرنا التاريخ تفسيرا أخلاقيا يتبنى نظريات الخيانة والانحراف والمؤامرة لخرجنا تماما من التفسير المادى للتاريخ ، ومن ثم عن جوهر الماركسية نفسها ، وهو ما يحاول باستماتة التروتسكيون باعتبارهم الطرف المهزوم تاريخيا فى الصراع بين النخب البلشفية أن يفعلوه رغم تمسكهم بالماركسية ، والتروتسكيون بعثوا للحياة بعد انهيار الطرف الستالينى المنتصر تاريخيا ، وذلك بانكشاف الجرائم الستالينية و بسقوط الاتحاد السوفيتى واتباعه . فهم يبررون ما حدث بأنه الخيانة و الانحراف من قبل ستالين وطغمته ، أو يفسرون ما حدث على نحو مادى مبتذل بأنه حدث كنتيجة للظروف الاقتصادية فى روسيا بعد الثورة فحسب دون التفات للجـذور الاستبدادية فى اللينينية نفسها التى لم تكن أقل تأثيرا فى الأحداث عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية وهم فى هذا الصدد يركزون على المواقف التحررية للينين .
تؤسس الفكرة اللينينية على أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تصل للاشتراكية بنفسها ، وانها لو تركت لنشاطها العفوى فأن أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو الإصلاحية ، وهذه الفرضية مغلوطة تماما ، فقد تحركت الطبقة العاملة على نحو ثورى وتلقائى فى كوميونة باريس 1871 التى تعلم منها ماركس كيف يكون شكل السلطة العمالية ، وفى روسيا 1905و1917و قد انتجت بمبادرة عفوية منها نموذج السوفيتات دون تدخل من البلاشفة ، و فى كرونشتاد 1921تحرك العمال عفويا فى مواجهة الثورة المضادة التى قادتها البيروقراطية البلشفية فى روسيا والتى سلبتهم عمليا الحق فى إدارة مصانعهم ذاتيا وتشكيل سوفيتاتهم بعيدا عن اشراف الحزب ، وهو ما قامت على أساسه ثورة نوفمبر 1917، وفى شمال إيطاليا عندما احتل العمال المصانع عام 1920 ، و فى أسبانيا 1936، وكان ذلك عندما كانت ظروف الواقع تسمح بذلك وتفرضه ،كما انها سارت فى طريق الإصلاحية عندما كانت ظروف الواقع لا تسمح سوى بالإصلاحية .
وبناء على تلك الفرضية الخاطئة تماما ، أفترض لينين ضرورة قيام حزب طليعى يكون دوره هو التبشير بالاشتراكية وحملها للطبقة العاملة ،حزب هو بمثابة الكنيسة للمسيحين ، يقوم على محترفين للعمل السياسى ،كما يحترف الكهنة العمل الدينى ، و يقوم بالتكريز بملكوت الطبقة العاملة كما تكرز الكنيسة بملكوت الرب ، و ينصب نفسه متحدثا باسم الطبقة العاملة كما تنصب الكنيسة نفسها متحدثة باسم الرب ،وتتشابه كل من الكنيسة والحزب اللينينى فى الخصائص الجوهرية للتنظيم والممارسة ، فإذا كانت الكنيسة هى الأكليروس المكون من هرم الكهنة على رأسهم البابا الذى يمارس على الكهنة وعلى شعب الكنيسة سلطته الروحية المستبدة بحكم احتكاره للحقيقة الدينية وتفسيرها ، فأن الحزب مكون من الأعضاء المؤمنين بالحقيقة العلمية التى يجسدها الحزب ، و الذين يرأسهم سكرتير عام الحزب والذى يمارس أيضا نفس سلطة البابا فى الحزب كما يمارسها البابا فى الكنيسة ، وكما أن الكهنة يحتكرون معرفة الحقيقة الدينية وتفسيرها فكذلك كوادر الحزب وقياداته يحتكرون الحقيقة الماركسية باعتبارها العلم ، وكما أن البابا وحده يحتكر المعرفة الروحية الأصح ، يحتكر السكرتير العام التفسير الأكثر صحة للماركسية إن لم يكن التفسير الوحيد الصحيح ، ومن ثم يستبد الكهنة بالمسيحين ، ويستبد الحزب اللينينى بالطبقة العاملة ، و ويل لمن يتمرد على سياسة الحزب أو يخالفها كما هو الويل لمن يخالف مشيئة الكنيسة وتعاليمها.
تحولت الماركسية على يد لينين من نظرية علمية قابلة للنقد والتطوير والدحض ، إلى دين يحتكر معرفته و تفسيره الكهنة من أعضاء الحزب كل وفق موقعه فى الهرم الحزبى ، وهم يدعون احتكارهم للحقيقة الوحيدة المطلقة دون سواهم ، ويمارسون باسم هذه المعرفة الإدعاء بالحق المطلق فى تمثيل الطبقة العاملة ، وقيادة البشرية فى طريق تحررها ، ومن ثم فقد وضع لينين وليس ستالين كما يشيع التروتسكين القواعد التنظيمية للحزب الثورى المعروفة بالمركزية الديمقراطية ، التى تعنى خضوع المستوى الأدنى للمستوى الأعلى ، وخضوع الأقلية للأغلبية ، وخضوع كافة أعضاء الحزب للجنته المركزية ، وليس ذلك فحسب فالالتزام الحزبى يعنى الانضباط الحديدى والطاعة المطلقة لمشيئة القيادة العليا للحزب التى هى مشيئة زعيمه .
كانت هذه هى النظرية اللينينية ، والتى تلاحمت مع الواقع ، لتشكل ما عرف بالستالينية التى لم يكن لها أن تصل لما نعرف عنها سوى بتلك الجذور النظرية ، وقد تفاعلت مع واقع اجتماعى متخلف اتاح لها التحقق على هذا النحو ، فى حين لم تتحقق نظريات أخرى لأنها افتقدت للظروف الاجتماعية التى تساعدها على التحقق.
كانت الثورة الروسية قد قامت لتحقق برنامج تحررى مكون من ثلاث أهداف هى 1ـ كل السلطة للسوفيتات وهى مجالس أنشأها العمال والفلاحين والجنود من خلال انتخاب مندوبين لهم يتم تكليفهم وعزلهم من قبل ناخبيهم أثناء ثورتى 1905 و 1917 2ـ والرقابة العمالية على المصانع 3ـ والأرض للفلاحيين .ولكن البلاشفة حولوا عملية تشكيل السوفيتات ولجان المصانع وتجمعات الفلاحين ، لعملية شكلية يسيطر عليها أعضاء الحزب الخاضعين لقواعد المركزية الديمقراطية تنظيميا مما يعنى خضوعهم للقيادة المركزية ، وتحولت السلطة السوفيتية والإدارة العمالية والتعاونيات لمجرد غطاء للسلطة الحزبية المتمركزة فى يد سكرتير عام الحزب ، و هكذا ظهر النموذج الستالينى من أحشاء الحزب اللينينى ، فكان من الطبيعى على من يدعون التمثيل الوحيد للطبقة العاملة ومحتكرى التحدث باسمها ، أن يحاربوا بشراسة كل ممارسة خارج إرادة الحزب ، وكل مبادرة خارج مخطط الحزب ، وأن لا يسمحوا بأى فكر مخالف لما تراه قيادة الحزب ، وهو ما انتهى بالتنكيل بالمعارضة اليسارية والتروتسكين فى الحزب البلشفى كما تم التنكيل بكل أشكال المعارضة الأخرى خارج الحزب . و قد تم إخضاع إدارة المصانع للإدارة البيروقراطية المركزية التى كان يمثلها المجلس الاقتصادى المركزى ،وكان ذلك ليس من قبل ستالين كما هو شائع ، ولكن من قبل لينين نفسه ،كما تم قمع التحرك العفوى والثورى الخارج عن سيطرة الحزب والمتمرد على سلطته على نحو دموى فى كل من كرونشتاد و جنوب أوكرانيا بواسطة الجيش الأحمر بقيادة تروتسكى ومباركة لينين ، وليس بفعل ستالين الذى لم يكن بعد زعيما للحزب .
قد تتساءل ما هى العلاقة بين المقدمة السابقة وما تحدثت عنه ، والعلاقة واضحة ، فالاستبداد اللينينى ينبع و لاشك من محافظته على الانقسام الاجتماعى بين من يحتكرون الحقيقة ويمثلونها من أعضاء الحزب الخاضعين لقيادته فيستبدون بمن لا يملكونها و لا يدعون احتكارها من اللاحزبيين ، ومحافظته على استمرار الانقسام الاجتماعى بين من يسيطرون فعليا على إدارة الإنتاج من البيروقراطيين ،و من ثم سيطرتهم على الثروة فعليا ، وبين العمال المحرومين من السيطرة الفعلية على الإنتاج وظروف عملهم ، ومن ثم المضطرين للخضوع لإرادة البيروقراطيين بحكم احتياجهم لتوفير ضرورات الحياة ، ، كما أن النموذج اللينينى يبقى على احتكار وسائل العنف لقلة فى المجتمع دون الآخرين ،ومن الطبيعى أن يخضع من لا يسيطرون على وسائل العنف لمن يسيطرون عليها ، و من ثم كان لابد و أن يستمر الاستبداد والقهر طالما استمر هذا الانقسام الاجتماعى بين من يسيطرون فعليا على مصادر السلطة المادية وبين من لا يسيطرون عليها، و هذا ما حدث بالفعل . فالموضوع لا يحتاج للمزيد من البرهنة .
هذا المدخل العام ضرورى لمناقشة الجذور الاستبدادية فى الفكر اللينينى ، ذلك أن التروتسكيين يحاولون وضع خط فاصل سميك بينهم وبين الستالينيين ،لينفوا عن أنفسهم وعن لينين بالطبع التسلطية الستالينية ، و لكى يصوروا مافعله ستالين والستالينية كما لو كان فساد شخص وخيانته لقيم الثورة ومبادئها ، وسوء تصرف وسلوك تتبرأ منه اللينينية وبالطبع التروتسكية ، و يتحدثون عن وصية لينين الأخيرة التى تناولت نقد لينين لسلوك ستالين الفظ ، والحقيقة أن المواقف اللينينية كانت تتذبذب بين التحررية والتسلطية ، ومن ثم فالفروع الستالينية والتروتسكية على السواء تنبع من الجذر اللينينى تحديدا ، وليس فحسب من تراث الشرق الاستبدادى ، و تخلف الواقع الروسى ، و حالة الحصار والانهيار الكامل الذى وجد الاتحاد السوفيتى نفسه فيها . ولو فسرنا التاريخ تفسيرا أخلاقيا يتبنى نظريات الخيانة والانحراف والمؤامرة لخرجنا تماما من التفسير المادى للتاريخ ، ومن ثم عن جوهر الماركسية نفسها ، وهو ما يحاول باستماتة التروتسكيون باعتبارهم الطرف المهزوم تاريخيا فى الصراع بين النخب البلشفية أن يفعلوه رغم تمسكهم بالماركسية ، والتروتسكيون بعثوا للحياة بعد انهيار الطرف الستالينى المنتصر تاريخيا ، وذلك بانكشاف الجرائم الستالينية و بسقوط الاتحاد السوفيتى واتباعه . فهم يبررون ما حدث بأنه الخيانة و الانحراف من قبل ستالين وطغمته ، أو يفسرون ما حدث على نحو مادى مبتذل بأنه حدث كنتيجة للظروف الاقتصادية فى روسيا بعد الثورة فحسب دون التفات للجـذور الاستبدادية فى اللينينية نفسها التى لم تكن أقل تأثيرا فى الأحداث عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية وهم فى هذا الصدد يركزون على المواقف التحررية للينين .
تؤسس الفكرة اللينينية على أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تصل للاشتراكية بنفسها ، وانها لو تركت لنشاطها العفوى فأن أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو الإصلاحية ، وهذه الفرضية مغلوطة تماما ، فقد تحركت الطبقة العاملة على نحو ثورى وتلقائى فى كوميونة باريس 1871 التى تعلم منها ماركس كيف يكون شكل السلطة العمالية ، وفى روسيا 1905و1917و قد انتجت بمبادرة عفوية منها نموذج السوفيتات دون تدخل من البلاشفة ، و فى كرونشتاد 1921تحرك العمال عفويا فى مواجهة الثورة المضادة التى قادتها البيروقراطية البلشفية فى روسيا والتى سلبتهم عمليا الحق فى إدارة مصانعهم ذاتيا وتشكيل سوفيتاتهم بعيدا عن اشراف الحزب ، وهو ما قامت على أساسه ثورة نوفمبر 1917، وفى شمال إيطاليا عندما احتل العمال المصانع عام 1920 ، و فى أسبانيا 1936، وكان ذلك عندما كانت ظروف الواقع تسمح بذلك وتفرضه ،كما انها سارت فى طريق الإصلاحية عندما كانت ظروف الواقع لا تسمح سوى بالإصلاحية .
وبناء على تلك الفرضية الخاطئة تماما ، أفترض لينين ضرورة قيام حزب طليعى يكون دوره هو التبشير بالاشتراكية وحملها للطبقة العاملة ،حزب هو بمثابة الكنيسة للمسيحين ، يقوم على محترفين للعمل السياسى ،كما يحترف الكهنة العمل الدينى ، و يقوم بالتكريز بملكوت الطبقة العاملة كما تكرز الكنيسة بملكوت الرب ، و ينصب نفسه متحدثا باسم الطبقة العاملة كما تنصب الكنيسة نفسها متحدثة باسم الرب ،وتتشابه كل من الكنيسة والحزب اللينينى فى الخصائص الجوهرية للتنظيم والممارسة ، فإذا كانت الكنيسة هى الأكليروس المكون من هرم الكهنة على رأسهم البابا الذى يمارس على الكهنة وعلى شعب الكنيسة سلطته الروحية المستبدة بحكم احتكاره للحقيقة الدينية وتفسيرها ، فأن الحزب مكون من الأعضاء المؤمنين بالحقيقة العلمية التى يجسدها الحزب ، و الذين يرأسهم سكرتير عام الحزب والذى يمارس أيضا نفس سلطة البابا فى الحزب كما يمارسها البابا فى الكنيسة ، وكما أن الكهنة يحتكرون معرفة الحقيقة الدينية وتفسيرها فكذلك كوادر الحزب وقياداته يحتكرون الحقيقة الماركسية باعتبارها العلم ، وكما أن البابا وحده يحتكر المعرفة الروحية الأصح ، يحتكر السكرتير العام التفسير الأكثر صحة للماركسية إن لم يكن التفسير الوحيد الصحيح ، ومن ثم يستبد الكهنة بالمسيحين ، ويستبد الحزب اللينينى بالطبقة العاملة ، و ويل لمن يتمرد على سياسة الحزب أو يخالفها كما هو الويل لمن يخالف مشيئة الكنيسة وتعاليمها.
تحولت الماركسية على يد لينين من نظرية علمية قابلة للنقد والتطوير والدحض ، إلى دين يحتكر معرفته و تفسيره الكهنة من أعضاء الحزب كل وفق موقعه فى الهرم الحزبى ، وهم يدعون احتكارهم للحقيقة الوحيدة المطلقة دون سواهم ، ويمارسون باسم هذه المعرفة الإدعاء بالحق المطلق فى تمثيل الطبقة العاملة ، وقيادة البشرية فى طريق تحررها ، ومن ثم فقد وضع لينين وليس ستالين كما يشيع التروتسكين القواعد التنظيمية للحزب الثورى المعروفة بالمركزية الديمقراطية ، التى تعنى خضوع المستوى الأدنى للمستوى الأعلى ، وخضوع الأقلية للأغلبية ، وخضوع كافة أعضاء الحزب للجنته المركزية ، وليس ذلك فحسب فالالتزام الحزبى يعنى الانضباط الحديدى والطاعة المطلقة لمشيئة القيادة العليا للحزب التى هى مشيئة زعيمه .
كانت هذه هى النظرية اللينينية ، والتى تلاحمت مع الواقع ، لتشكل ما عرف بالستالينية التى لم يكن لها أن تصل لما نعرف عنها سوى بتلك الجذور النظرية ، وقد تفاعلت مع واقع اجتماعى متخلف اتاح لها التحقق على هذا النحو ، فى حين لم تتحقق نظريات أخرى لأنها افتقدت للظروف الاجتماعية التى تساعدها على التحقق.
كانت الثورة الروسية قد قامت لتحقق برنامج تحررى مكون من ثلاث أهداف هى 1ـ كل السلطة للسوفيتات وهى مجالس أنشأها العمال والفلاحين والجنود من خلال انتخاب مندوبين لهم يتم تكليفهم وعزلهم من قبل ناخبيهم أثناء ثورتى 1905 و 1917 2ـ والرقابة العمالية على المصانع 3ـ والأرض للفلاحيين .ولكن البلاشفة حولوا عملية تشكيل السوفيتات ولجان المصانع وتجمعات الفلاحين ، لعملية شكلية يسيطر عليها أعضاء الحزب الخاضعين لقواعد المركزية الديمقراطية تنظيميا مما يعنى خضوعهم للقيادة المركزية ، وتحولت السلطة السوفيتية والإدارة العمالية والتعاونيات لمجرد غطاء للسلطة الحزبية المتمركزة فى يد سكرتير عام الحزب ، و هكذا ظهر النموذج الستالينى من أحشاء الحزب اللينينى ، فكان من الطبيعى على من يدعون التمثيل الوحيد للطبقة العاملة ومحتكرى التحدث باسمها ، أن يحاربوا بشراسة كل ممارسة خارج إرادة الحزب ، وكل مبادرة خارج مخطط الحزب ، وأن لا يسمحوا بأى فكر مخالف لما تراه قيادة الحزب ، وهو ما انتهى بالتنكيل بالمعارضة اليسارية والتروتسكين فى الحزب البلشفى كما تم التنكيل بكل أشكال المعارضة الأخرى خارج الحزب . و قد تم إخضاع إدارة المصانع للإدارة البيروقراطية المركزية التى كان يمثلها المجلس الاقتصادى المركزى ،وكان ذلك ليس من قبل ستالين كما هو شائع ، ولكن من قبل لينين نفسه ،كما تم قمع التحرك العفوى والثورى الخارج عن سيطرة الحزب والمتمرد على سلطته على نحو دموى فى كل من كرونشتاد و جنوب أوكرانيا بواسطة الجيش الأحمر بقيادة تروتسكى ومباركة لينين ، وليس بفعل ستالين الذى لم يكن بعد زعيما للحزب .
قد تتساءل ما هى العلاقة بين المقدمة السابقة وما تحدثت عنه ، والعلاقة واضحة ، فالاستبداد اللينينى ينبع و لاشك من محافظته على الانقسام الاجتماعى بين من يحتكرون الحقيقة ويمثلونها من أعضاء الحزب الخاضعين لقيادته فيستبدون بمن لا يملكونها و لا يدعون احتكارها من اللاحزبيين ، ومحافظته على استمرار الانقسام الاجتماعى بين من يسيطرون فعليا على إدارة الإنتاج من البيروقراطيين ،و من ثم سيطرتهم على الثروة فعليا ، وبين العمال المحرومين من السيطرة الفعلية على الإنتاج وظروف عملهم ، ومن ثم المضطرين للخضوع لإرادة البيروقراطيين بحكم احتياجهم لتوفير ضرورات الحياة ، ، كما أن النموذج اللينينى يبقى على احتكار وسائل العنف لقلة فى المجتمع دون الآخرين ،ومن الطبيعى أن يخضع من لا يسيطرون على وسائل العنف لمن يسيطرون عليها ، و من ثم كان لابد و أن يستمر الاستبداد والقهر طالما استمر هذا الانقسام الاجتماعى بين من يسيطرون فعليا على مصادر السلطة المادية وبين من لا يسيطرون عليها، و هذا ما حدث بالفعل . فالموضوع لا يحتاج للمزيد من البرهنة .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية