الديمقراطية وقوى غير ديمقراطية
الديمقراطية وقوى غير ديمقراطية
سامح سعيد عبود
لعله من البديهى أن الديمقراطية باعتبارها نمط حياة اجتماعى لا يمكن أن يوجد إلا عندما يتمسك أفراد يمارسون هذا النمط بمنهج تفكير وسلوك يتوائم وهذه الديمقراطية ، وإلا فإنها ستصبح فى هذه الحالة مجرد صنم من التشريعات التى لا تغنى ولا تسمن من جوع .
وأول ما يلفت الانتباه فى هذا المنهج هو القبول بالآخر وتمثله وهو الأمر الذى لم تتمتع به أى من القوى السياسية التى عرفتها الحياة السياسية المصرية فى عصرنا الحديث . فحزب الوفد أكثر الأحزاب ليبرالية فى تاريخ مصر المعاصر لم يخجل من أن يقلد الحركات الفاشية فأرتدى أعضاءه القمصان الزرق فى مواجهة القمصان الخضر لمصر الفتاة ،وقد سحقت حكومته الحزب الشيوعى المصرى واتحاد العمال المصرى عام 1924بشتى وسائل التنكيل ، ومازال هذا الحزب فى عهده الجديد لا يدافع عن الحريات السياسية بنفس الصلابة التى يدافع بها عن الحريات الاقتصادية ،كما تحالف مع الأخوان المسلمين فى خطوة مخالفة لتاريخه العلمانى .
ومن اللافت للنظر أن الخلافات داخل المنظمة المصرية لحقوق الإنسان حسمت بوسائل فاشية تتنافى وأبسط قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان وذلك فى انتخاباتها السابقة وتسيطر عليها القوى القومية الفاشية التى لا علاقة لها بحقوق الإنسان إلا كوسيلة للارتزاق ،كما لم تعرف أى من أحزابنا العلنية أو السرية فى ممارستها الداخلية الديمقراطية الحقيقية دع عنك ممارستها مع الأحزاب الأخرى داخل وخارج نفس معسكرها . فنفى الآخر ورفضه والتآمر عليه هو الفكر والممارسة التى لا تعرف سواهما تلك الأحزاب والحركات.
والأمر لا يتعلق بسوء تفكير أو سلوك منحرف شمل الحياة السياسية المصرية ، وإنما هناك من الجذور الاجتماعية والثقافية العميقة فى نسيج المجتمع المصرى ما يتنافى والديمقراطية الصحيحة . فنحن لا نعرف الديمقراطية فى الأسرة والمدرسة والعمل والثقافة ولا يمكن أن تستثنى الحياة السياسية بالتبعية . فالعقل السائد عقل نقلى محافظ يقدس الموروث الثقافى ، من ثم نافى للآخر والمبدع متهما إياه بالخيانة أو الكفر أو الجهل طالما يخالفه الرأى . وينتج عن ذلك جمود فكرى لا يعرف التطور إلا بشق الأنفس ، والعقل السائد لا يعرف الموضوعية فى حكمه على الأشياء والأفكار ولا يحترم العلم منهجا و حقائقا وسلوكا حتى لدى أشد من يرفعون رايته خفاقة بل وفى مراكز البحث العلمى نفسه ، فنحن نغلب العواطف والمشاعر على كل ما سواها ولا نعرف سوى لغة الشعر ، و لانطرب سوى للخطابة الجوفاء ، ومن ثم لا نعرف سوى التعصب الأعمى والانفعال حبا وكرها ، والعنف الذى ليس من الضرورى أن يكون دمويا على الإطلاق . فمجرد نفى حق الآخر فى الوجود والتعبير هو شكل من أشكال العنف . ومجرد كيل الاتهامات لكل من يخالفنا الرأى هو نوع من أنواع العنف . إن هذا العقل بكل سماته المذكورة وغير المذكورة السائد بين شتى فئات المجتمع يخلق مناخا لاعقلاني فى كل مجالات الحياة ، يعلو فيه الصراخ الخطابى والهلوسة الفكرية والعنف ، فلا مكان فيه للحقيقة والحكمة والحوار الموضوعى ، فالفكر لدينا مخلوطا بالشعر والخطابة ومن ثم يغلب أسلوبهما بما فيهما من تصوير أدبى وفنى على موضوعية الفكر ودقته .
ومن ثم لا يمكن فى هذا المناخ أن توجد ديمقراطية حقيقية حتى لو وضعنا أشد الدساتير ليبرالية ، فسنستطيع بكل ما لدينا من قدرات أن نحول الديمقراطية السويسرية شبه المباشرة إلى مهرجان زائف من الديمقراطية يخفى بريقه وضجيجه الزائف الديكتاتورية العميقة للنخب الأكثر قدرة على استخدام العنف والإثارة ، و الأكثر سيطرة على وسائل الإعلام والأكثر غوغائية.
فالمسألة إذن لا تكمن فى صراع من أجل تغيير النظام السياسى . فما أسهل هذا التغيير وإنما إذا شئنا ديمقراطية حقيقية فلابد أن يحدث تحول جذرى فى الثقافة والوعى والبنية الاجتماعية الاقتصادية بمجملها . وهى عملية صعبة وطويلة الأمد وإن كان هذا لا يعنى عدم المطالبة بالديمقراطية السياسية بأعلى درجاتها وعلى الفور ، ففى ظلها فحسب يمكن أن يتم التحول الجذرى المطلوب ففى المجتمع الديمقراطى يخلق الإنسان الديمقراطى والوعى الديمقراطى ، كما أن الإنسان الديمقراطى هو القادر على خلق المجتمع الديمقراطى ، فهى إذن عملية جدلية لا تكتمل إلا بطرفيها . فعندما نمارس الديمقراطية فى شتى علاقتنا ولو بقدر قليل فى الأسرة والمدرسة والعمل والسياسة والثقافة فسنتحول تدريجيا وعبر الزمن إلى ديمقراطيين . أما إذا ما استمر نفس مناخ الاستبداد القائم فنستمر إما قاهرين أو مقهورين . وفى الحالتين لن يمكن لنا أن نتطور إلى أن نملك الوعى والسلوك الديمقراطيين مما يطيل من أمد الوضع الذى خلقه التاريخ الطويل من الاستبداد والقهر ، وما خلفه من ثقافة عميقة الجذور لم يجسر أحد أن يشك فيها أو ينقدها أو يتمرد عليها بقدر من الجذرية يتناسب مع عمقها ومع ما تمثله من تأثير معوق للتطور الاجتماعى والسياسى والاقتصادى والثقافى فى بلادنا . ذلك أن كل من سعوا أو يسعون للتغيير الاجتماعى فى مصر يمينا أو يسارا . حملوا من الأفكار ما اعتبروها الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولأنهم حملة ورسل الفكر الصحيح فعلى كل الآخرين أن يتبعوهم إلى الطريق الوحيد والصحيح إلى الجنة ، ومن ثم فلم ير أيا منهم ضرورة لمواجهة جذرية مع ما هو سائد من وعى ، بل وعلى العكس استغلوا أسوء ما فى هذا الوعى وتلك الثقافة ليخلقوا اتباعهم المطيعين الذين لم يتعودوا على التفكير والنقد والشك والتمرد والإبداع ، والذين لا يعرفون من العلم إلا استهلاك منتجاته ، ولا يعرفون من السلوك إلا قهر من هم أدنى وطاعة من هم أعلى . وعدم الاستماع إلى وفهم الآخر لمجرد أنه مختلف والقبول بالحوار من منطلق إقناع الآخر بشتى الوسائل فحسب ، وليس التوصل للحقيقة عبر هذا الحوار .
الديمقراطية كما أعرفها هى شكل لتنظيم العلاقات الاجتماعية يتاح لمن يدخلون فيها قدر من الحرية فى ممارسة هذه العلاقة على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى ، والنموذج البورجوازى للديمقراطية لا يتفق والمثل الأعلى للديمقراطية كما أتصورها ، وإن كان مرحلة مهمة فى تطور المجتمع البشرى هى أفضل ما أمكن للبشر تحقيقه من الديمقراطية على الأقل فى تاريخهم المكتوب ، وإن ما يمكن توجيهه من نقد لهذا النموذج من الديمقراطية ويمكن قبوله من وجهة نظرى هو النقد من أجل المزيد من الديمقراطية ، وليس النقد من أجل تقليص مساحة ما يتيحه هذا النموذج من حريات للبشر حتى ولو كانت شكلية فى كثير من الأحيان فالمطلوب ليس إلغائها لأنها شكلية بل تحويلها لحقيقية ، ولاشك أن النقد الماركسى لهذا النموذج مازال صحيحا فى مجمله ، والذى يتلخص فى شكليه المساواة القانونية وفى شكلية هذه الديمقراطية طالما ظلت البنية الاجتماعية الرأسمالية هى السائدة ، والتى تفرغ هذه الديمقراطية من مضمونها . ومن ثم فالمثل الأعلى للديمقراطية لن يوجد إلا فى إطار بنية اجتماعية مختلفة تتيح حرية ومساواة حقيقية للبشر فى إطار علاقاتهم الاجتماعية المختلفة . ولأن هذه البنية لم تتوافر لدينا حتى الآن لحين إشعار آخر ، فسيظل النموذج البورجوازى هو أفضل ما هو متاح ، وإن كان يمكن تطويره إلى المزيد من الديمقراطية ، ويمكن لهذا التطوير أن يأتى بديمقراطية شبه مباشرة، وبضمان حقيقى لكافة حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بل ولمزيد منها كلما أمكن . ويمكن أيضا أن نقترب من المثل الأعلى للديمقراطية بمقرطة العلاقات الاجتماعية فى الأسرة والتعليم والعمل وفى شتى مجالات الحياة المختلفة . هذا هو الحد الأقصى الممكن والمتاح فى ظل البنية الاجتماعية الاقتصادية الحالية .
ومن ثم ووفقا لهذه الرؤية فإن فتح الباب لجميع التيارات السياسية والفكرية لكى تمارس حريتها فى التعبير والعمل على قدم المساواة وبلا استثناء هو جزء لا يتجزأ من الديمقراطية كما أتصورها ، وهو ما يستدعى بالضرورة الفصل الكامل بين كل من جهاز الدولة والتعليم العام ، وبين الدين والعنصر والجنس واللون والقومية والثقافة . ففى هذه الحالة ستصبح الدولة شكلا للتنظيم السياسى الذى يتيح لكل المواطنين ممارسة حريتهم على قدم المساواة بصرف النظر عن أديانهم وأجناسهم و ألوانهم... الخ.
ومن ثم فأى حديث عن الخصوصية الجماعية كأساس لحركة سياسية أو كمبرر لخلق نموذج خاص بالديمقراطية هو اعتداء على الديمقراطية كما ينبغى أن تكون، فالحديث عن الخصوصية يعنى نفى كل من لا يتمتعون بها ، يعنى تقييد حريتهم ويعنى عدم معاملتهم على قدم المساواة مع من يتمتعون بها ، وهو ما يتنافى وبالضرورة مع الديمقراطية كما سبق تعريفها . وهو ارتداد عن الخطوة التقدمية التى اجترحتها البورجوازية الليبرالية بافتراض الإنسان المجرد كوحدة بناء أساسية فى المجتمع البشرى بالرغم من النقد التقدمى لهذا المفهوم . فالخصوصية الإسلامية تنفى وبالضرورة غير المسلمين ولا تعطيهم نفس حقوق المسلمين ، والخصوصية القومية تنفى بالضرورة كل من لا ينتمون للقومية ، و فى الحالتين تعنى علاقات اجتماعية غير قائمة على المساواة ومن ثم متنافية مع الديمقراطية .
والحديث عن ضمان استمرار تداول السلطة يتضمن ضمانات تشريعية ليست كافية فى ظل بنية اجتماعية متخلفة . فالتقدم الشامل للمجتمع هو الضمان الوحيد لاستمرار تداول السلطة وبدون هذا فالضمانات التشريعية سوف تكون مجرد حبر على ورق ما لم تجد القوة البشرية القادرة على تنفيذها ، وهى القوى الاجتماعية الفاعلة فى المجتمع صاحبه المصلحة فى استمرار النظام الديمقراطى . ولكى تكون هذه القوى قادرة على حماية جوهر الديمقراطية لابد وأن تتمتع بوعى ديمقراطى ليس منصوصا عليه فى البرامج والتشريعات فحسب بل و متغلغل فى أعماق الوعى الاجتماعى والثقافة السائدة والعقل السائد ، وهو الأمر الذى مازلنا بعيدين عنه كل البعد . وهو ميدان المعركة الحقيقية للقوى الجنينية الديمقراطية الموجودة فى المجتمع المصرى .
وأول ما يلفت الانتباه فى هذا المنهج هو القبول بالآخر وتمثله وهو الأمر الذى لم تتمتع به أى من القوى السياسية التى عرفتها الحياة السياسية المصرية فى عصرنا الحديث . فحزب الوفد أكثر الأحزاب ليبرالية فى تاريخ مصر المعاصر لم يخجل من أن يقلد الحركات الفاشية فأرتدى أعضاءه القمصان الزرق فى مواجهة القمصان الخضر لمصر الفتاة ،وقد سحقت حكومته الحزب الشيوعى المصرى واتحاد العمال المصرى عام 1924بشتى وسائل التنكيل ، ومازال هذا الحزب فى عهده الجديد لا يدافع عن الحريات السياسية بنفس الصلابة التى يدافع بها عن الحريات الاقتصادية ،كما تحالف مع الأخوان المسلمين فى خطوة مخالفة لتاريخه العلمانى .
ومن اللافت للنظر أن الخلافات داخل المنظمة المصرية لحقوق الإنسان حسمت بوسائل فاشية تتنافى وأبسط قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان وذلك فى انتخاباتها السابقة وتسيطر عليها القوى القومية الفاشية التى لا علاقة لها بحقوق الإنسان إلا كوسيلة للارتزاق ،كما لم تعرف أى من أحزابنا العلنية أو السرية فى ممارستها الداخلية الديمقراطية الحقيقية دع عنك ممارستها مع الأحزاب الأخرى داخل وخارج نفس معسكرها . فنفى الآخر ورفضه والتآمر عليه هو الفكر والممارسة التى لا تعرف سواهما تلك الأحزاب والحركات.
والأمر لا يتعلق بسوء تفكير أو سلوك منحرف شمل الحياة السياسية المصرية ، وإنما هناك من الجذور الاجتماعية والثقافية العميقة فى نسيج المجتمع المصرى ما يتنافى والديمقراطية الصحيحة . فنحن لا نعرف الديمقراطية فى الأسرة والمدرسة والعمل والثقافة ولا يمكن أن تستثنى الحياة السياسية بالتبعية . فالعقل السائد عقل نقلى محافظ يقدس الموروث الثقافى ، من ثم نافى للآخر والمبدع متهما إياه بالخيانة أو الكفر أو الجهل طالما يخالفه الرأى . وينتج عن ذلك جمود فكرى لا يعرف التطور إلا بشق الأنفس ، والعقل السائد لا يعرف الموضوعية فى حكمه على الأشياء والأفكار ولا يحترم العلم منهجا و حقائقا وسلوكا حتى لدى أشد من يرفعون رايته خفاقة بل وفى مراكز البحث العلمى نفسه ، فنحن نغلب العواطف والمشاعر على كل ما سواها ولا نعرف سوى لغة الشعر ، و لانطرب سوى للخطابة الجوفاء ، ومن ثم لا نعرف سوى التعصب الأعمى والانفعال حبا وكرها ، والعنف الذى ليس من الضرورى أن يكون دمويا على الإطلاق . فمجرد نفى حق الآخر فى الوجود والتعبير هو شكل من أشكال العنف . ومجرد كيل الاتهامات لكل من يخالفنا الرأى هو نوع من أنواع العنف . إن هذا العقل بكل سماته المذكورة وغير المذكورة السائد بين شتى فئات المجتمع يخلق مناخا لاعقلاني فى كل مجالات الحياة ، يعلو فيه الصراخ الخطابى والهلوسة الفكرية والعنف ، فلا مكان فيه للحقيقة والحكمة والحوار الموضوعى ، فالفكر لدينا مخلوطا بالشعر والخطابة ومن ثم يغلب أسلوبهما بما فيهما من تصوير أدبى وفنى على موضوعية الفكر ودقته .
ومن ثم لا يمكن فى هذا المناخ أن توجد ديمقراطية حقيقية حتى لو وضعنا أشد الدساتير ليبرالية ، فسنستطيع بكل ما لدينا من قدرات أن نحول الديمقراطية السويسرية شبه المباشرة إلى مهرجان زائف من الديمقراطية يخفى بريقه وضجيجه الزائف الديكتاتورية العميقة للنخب الأكثر قدرة على استخدام العنف والإثارة ، و الأكثر سيطرة على وسائل الإعلام والأكثر غوغائية.
فالمسألة إذن لا تكمن فى صراع من أجل تغيير النظام السياسى . فما أسهل هذا التغيير وإنما إذا شئنا ديمقراطية حقيقية فلابد أن يحدث تحول جذرى فى الثقافة والوعى والبنية الاجتماعية الاقتصادية بمجملها . وهى عملية صعبة وطويلة الأمد وإن كان هذا لا يعنى عدم المطالبة بالديمقراطية السياسية بأعلى درجاتها وعلى الفور ، ففى ظلها فحسب يمكن أن يتم التحول الجذرى المطلوب ففى المجتمع الديمقراطى يخلق الإنسان الديمقراطى والوعى الديمقراطى ، كما أن الإنسان الديمقراطى هو القادر على خلق المجتمع الديمقراطى ، فهى إذن عملية جدلية لا تكتمل إلا بطرفيها . فعندما نمارس الديمقراطية فى شتى علاقتنا ولو بقدر قليل فى الأسرة والمدرسة والعمل والسياسة والثقافة فسنتحول تدريجيا وعبر الزمن إلى ديمقراطيين . أما إذا ما استمر نفس مناخ الاستبداد القائم فنستمر إما قاهرين أو مقهورين . وفى الحالتين لن يمكن لنا أن نتطور إلى أن نملك الوعى والسلوك الديمقراطيين مما يطيل من أمد الوضع الذى خلقه التاريخ الطويل من الاستبداد والقهر ، وما خلفه من ثقافة عميقة الجذور لم يجسر أحد أن يشك فيها أو ينقدها أو يتمرد عليها بقدر من الجذرية يتناسب مع عمقها ومع ما تمثله من تأثير معوق للتطور الاجتماعى والسياسى والاقتصادى والثقافى فى بلادنا . ذلك أن كل من سعوا أو يسعون للتغيير الاجتماعى فى مصر يمينا أو يسارا . حملوا من الأفكار ما اعتبروها الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولأنهم حملة ورسل الفكر الصحيح فعلى كل الآخرين أن يتبعوهم إلى الطريق الوحيد والصحيح إلى الجنة ، ومن ثم فلم ير أيا منهم ضرورة لمواجهة جذرية مع ما هو سائد من وعى ، بل وعلى العكس استغلوا أسوء ما فى هذا الوعى وتلك الثقافة ليخلقوا اتباعهم المطيعين الذين لم يتعودوا على التفكير والنقد والشك والتمرد والإبداع ، والذين لا يعرفون من العلم إلا استهلاك منتجاته ، ولا يعرفون من السلوك إلا قهر من هم أدنى وطاعة من هم أعلى . وعدم الاستماع إلى وفهم الآخر لمجرد أنه مختلف والقبول بالحوار من منطلق إقناع الآخر بشتى الوسائل فحسب ، وليس التوصل للحقيقة عبر هذا الحوار .
الديمقراطية كما أعرفها هى شكل لتنظيم العلاقات الاجتماعية يتاح لمن يدخلون فيها قدر من الحرية فى ممارسة هذه العلاقة على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى ، والنموذج البورجوازى للديمقراطية لا يتفق والمثل الأعلى للديمقراطية كما أتصورها ، وإن كان مرحلة مهمة فى تطور المجتمع البشرى هى أفضل ما أمكن للبشر تحقيقه من الديمقراطية على الأقل فى تاريخهم المكتوب ، وإن ما يمكن توجيهه من نقد لهذا النموذج من الديمقراطية ويمكن قبوله من وجهة نظرى هو النقد من أجل المزيد من الديمقراطية ، وليس النقد من أجل تقليص مساحة ما يتيحه هذا النموذج من حريات للبشر حتى ولو كانت شكلية فى كثير من الأحيان فالمطلوب ليس إلغائها لأنها شكلية بل تحويلها لحقيقية ، ولاشك أن النقد الماركسى لهذا النموذج مازال صحيحا فى مجمله ، والذى يتلخص فى شكليه المساواة القانونية وفى شكلية هذه الديمقراطية طالما ظلت البنية الاجتماعية الرأسمالية هى السائدة ، والتى تفرغ هذه الديمقراطية من مضمونها . ومن ثم فالمثل الأعلى للديمقراطية لن يوجد إلا فى إطار بنية اجتماعية مختلفة تتيح حرية ومساواة حقيقية للبشر فى إطار علاقاتهم الاجتماعية المختلفة . ولأن هذه البنية لم تتوافر لدينا حتى الآن لحين إشعار آخر ، فسيظل النموذج البورجوازى هو أفضل ما هو متاح ، وإن كان يمكن تطويره إلى المزيد من الديمقراطية ، ويمكن لهذا التطوير أن يأتى بديمقراطية شبه مباشرة، وبضمان حقيقى لكافة حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بل ولمزيد منها كلما أمكن . ويمكن أيضا أن نقترب من المثل الأعلى للديمقراطية بمقرطة العلاقات الاجتماعية فى الأسرة والتعليم والعمل وفى شتى مجالات الحياة المختلفة . هذا هو الحد الأقصى الممكن والمتاح فى ظل البنية الاجتماعية الاقتصادية الحالية .
ومن ثم ووفقا لهذه الرؤية فإن فتح الباب لجميع التيارات السياسية والفكرية لكى تمارس حريتها فى التعبير والعمل على قدم المساواة وبلا استثناء هو جزء لا يتجزأ من الديمقراطية كما أتصورها ، وهو ما يستدعى بالضرورة الفصل الكامل بين كل من جهاز الدولة والتعليم العام ، وبين الدين والعنصر والجنس واللون والقومية والثقافة . ففى هذه الحالة ستصبح الدولة شكلا للتنظيم السياسى الذى يتيح لكل المواطنين ممارسة حريتهم على قدم المساواة بصرف النظر عن أديانهم وأجناسهم و ألوانهم... الخ.
ومن ثم فأى حديث عن الخصوصية الجماعية كأساس لحركة سياسية أو كمبرر لخلق نموذج خاص بالديمقراطية هو اعتداء على الديمقراطية كما ينبغى أن تكون، فالحديث عن الخصوصية يعنى نفى كل من لا يتمتعون بها ، يعنى تقييد حريتهم ويعنى عدم معاملتهم على قدم المساواة مع من يتمتعون بها ، وهو ما يتنافى وبالضرورة مع الديمقراطية كما سبق تعريفها . وهو ارتداد عن الخطوة التقدمية التى اجترحتها البورجوازية الليبرالية بافتراض الإنسان المجرد كوحدة بناء أساسية فى المجتمع البشرى بالرغم من النقد التقدمى لهذا المفهوم . فالخصوصية الإسلامية تنفى وبالضرورة غير المسلمين ولا تعطيهم نفس حقوق المسلمين ، والخصوصية القومية تنفى بالضرورة كل من لا ينتمون للقومية ، و فى الحالتين تعنى علاقات اجتماعية غير قائمة على المساواة ومن ثم متنافية مع الديمقراطية .
والحديث عن ضمان استمرار تداول السلطة يتضمن ضمانات تشريعية ليست كافية فى ظل بنية اجتماعية متخلفة . فالتقدم الشامل للمجتمع هو الضمان الوحيد لاستمرار تداول السلطة وبدون هذا فالضمانات التشريعية سوف تكون مجرد حبر على ورق ما لم تجد القوة البشرية القادرة على تنفيذها ، وهى القوى الاجتماعية الفاعلة فى المجتمع صاحبه المصلحة فى استمرار النظام الديمقراطى . ولكى تكون هذه القوى قادرة على حماية جوهر الديمقراطية لابد وأن تتمتع بوعى ديمقراطى ليس منصوصا عليه فى البرامج والتشريعات فحسب بل و متغلغل فى أعماق الوعى الاجتماعى والثقافة السائدة والعقل السائد ، وهو الأمر الذى مازلنا بعيدين عنه كل البعد . وهو ميدان المعركة الحقيقية للقوى الجنينية الديمقراطية الموجودة فى المجتمع المصرى .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية