الثلاثاء، 18 مارس 2008

اشتراكية أم دولنة للإنتاج

اشتراكية أم دولنة للإنتاج ؟
سامح سعيد عبود

لاحظ المصريون أن الكلام فى كثير من الأحيان لا يكلفهم شيئا ، فأطلقوا مثلا دارجا هو " أن الكلام معلوهش جمرك " ، فقل ما شاء لك الهوى ، فلن يحاسبك أحد على ما تقول ، ولما كان إطلاق الكلام على عواهنه هو الشائع بين الناس على اختلافاتهم ، فتخفف إذن كيفما شئت من أى موضوعية تقيدك ، وحيث لن يوجد من يلزمك بالدقة العلمية ، فصف أى ظاهرة واقعية بعشرات من الصفات المتناقضة ، وسمها بما شئت من أسماء ، إلا أن الواقع لا تغير من حقائقه الكلمات مهما ابتعدت أو اقتربت من التعبير عنها ، فيستطيع الدجال إيهام الضحية بأن ما البحر إلا طحينة ، إلا أن هذا لن يغير من حقيقة البحر ، وكذب الدجال ، وغفلة الضحية .
أما إذا شئنا لحديثنا أن يتطابق مع الواقع ، فعلينا أن نلجأ للعلم ومنهجه وأسلوبه فى التعبير ، حيث العلم هو محاولة للاقتراب بدقة أكثر من فهم ظواهر الواقع المختلفة ، والتعبير الأدق عنها بعيدا كل البعد عن ما قد يمارسه البشر أحيانا من دردشة حرة لا تتوخى الدقة ، أو تشويه متعمد لحقائق الواقع أحيانا أخرى ، أو تفسيرات ذاتية لها ، تنبع من الرغبات والأهداف والمصالح أحيانا أخرى .
وإذا كان العلم فى أحد جوانبه ، هو البحث عن ما هو مشترك فى العديد من الظواهر المتشابهة فى بعض جوانبها والمختلفة فى بعضها الآخر ، فإن ما سيتم اتباعه فى هذا المقال ، هو متابعة دور الدولة فى عملية الإنتاج خلال المائتى عام السابقة ، عبر العالم كله ، فى محاولة لاكتشاف ما هو مشترك فى أشكال هذا التدخل المتباينة ، فلعل فى هذا إجابة على التساؤل المعنون به المقال ، ولعل هذا يقربنا من فهم طبيعة النظم التى ظهرت فى خلال هذه الفترة ، وهل اختلفت نوعيا عن الرأسمالية الأصلية ، أم هى مجرد اختلافات فى الدرجة ؟ وهل هى ألحان مختلفة أم تنويعات على اللحن الأصلى ؟ وهل تحققت يوما ما الاشتراكية التى التصقت باسمها تلك النظم ، وذلك على افتراض أن الاشتراكية هى تخلص قوى العمل من عبودية العمل الأجير ، وهو الأمر الذى لا يمكن أن يتم إلا بسيطرة تلك القوى على وسائل الإنتاج ؟. أم أن تلك الاشتراكية لازالت مجرد واحدة من عدة إمكانيات لم تتحقق فى الواقع بعد ، والإجابة هى ما يمكن أن تتأكد منها من خلال هذا السرد التاريخى لما حدث ؟ ولماذا حدث ؟
اللحن الأصيل أو الرأسمالية التقليدية :
أخذت البورجوازية فى عدد من البلدان الإقطاعية فى غرب أوروبا " إنجلترا، فرنسا ، هولندا ، بلجيكا " تكدس الثروات فيما عرف بالتراكم البدائى لرأس المال ، وقد ساعدها فى هذا الكشوف الجغرافية الكبرى ، والنهب الواسع للمستعمرات ، وأخذت توسع من سيطرتها على عمليات الإنتاج ، وتسيد علاقات الإنتاج الرأسمالية الأكثر كفاءة تدريجيا ، وفى النهاية لما استطاعت البورجوازية فى نهاية الأمر أن تسيطر على كل عمليات الإنتاج استولت على السلطة السياسية فى تلك البلدان لتستكمل ما تبقى من مهامها التاريخية . فلكل طبقة فى التاريخ عدد من المهام التى تلقى على عاتقها ، وقد كانت البورجوازية فى البلدان سالفة الذكر قوية بما فيه الكفاية لكى تحقق كافة مهامها وبمفردها ، وذلك فى شكل نموذجى لم يتكرر بعدها.
فعلى البورجوازية أن تحطم علاقات الإنتاج الإقطاعية ، بكل ما تعنيه من قيود على حركة تداول السلع ورأس المال بما فيها الملكية العقارية ، وعليها التخلص من كافة أشكال التبعية الشخصية ، والطائفية والمحلية ليتحول الأقنان والحرفيين المفلسين وصبيانهم إلى عمال مأجورين.
وعلى البورجوازية أيضا أن توحد السوق القومى (1) . حيث تتيح لنفسها السيطرة الكاملة عليه بمفردها عبر المنافسة الحرة . وذلك بإرساء مبدأ " دعه يعمل " دعه يمر "، وإذا كانت البورجوازية نتاج لتطور ما فى قوى الإنتاج ، فإن أهم مهامها التاريخية ، هى تطوير قوى الإنتاج أيضا ، بما فيها إنتاج نقيضها الطبقى ألا وهى الطبقة العاملة الحديثة ، وأخيرا فإن الحرية الفردية التى ترسى قواعدها البورجوازية فى عمليات الإنتاج ، تعنى تعميمها على كل أو معظم العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، إلا أن هذه الحريات لم تستمتع بها الطبقة العاملة بشكل قانونى ، إلا بعد فترة من الوقت، ونتيجة انتزاعها لها عبر نضالاتها ، إلا أننا نلاحظ أيضا أن هذه المهمة تتخلى عنها البورجوازية فى لحظات ضعفها، ووقوعها تحت تهديد طبقة عاملة قوية.
وإذا كان من المعروف أنه فى خلال هذه الفترة، لم تتدخل الدولة فى عمليات الإنتاج بشكل مباشر ، باعتبارها دولة حارسة تقتصر مهامها على الدفاع والأمن والقضاء والتمثيل الخارجى ، إلا أن عملية التحول الرأسمالى لم تتم بعيدا عن الدولة تماما ، (فلقد آن الأوان أن تدفن نهائيا تلك الخرافة الشائعة فى مصر ، خرافة أن الرأسمالية الغريبة ، فى أية لحظة من لحظات حياتها ، وفى أى بلد ، كانت بعيدة عن تدخل الدولة ورعايتها ، وأن ندرك إنه إذا كان النمط الرأسمالى للإنتاج قد نشأ بشكل تلقائى من داخل المجتمع الإقطاعى السابق عليه وكنتيجة لتناقضاته ، فإن بناء الرأسمالية كتكوين اقتصادى اجتماعى كان مشروعا قوميا) (2)ساندته الدولة عبر التدخل إلا أن أشكال هذا التدخل كانت قاصرة على التشريعات وأجهزة تنفيذ تلك التشريعات ، التى لا تستهدف إلا الحفاظ على مصالح البورجوازية المنتصرة ، والحفاظ على استمرار وإعادة إنتاج أسلوب الإنتاج الرأسمالى (حيث نقترب تدريجيا من النموذج العالمى " لأمة – الدولة " المحددة إقليميا ، والمزودة بدستور يضمن الملكية والحقوق المدنية ، وبمجالس تمثيلية منتخبة وحكومات مسئولة أمامها ، وتفسح المجال أحيانا حتى لعامة الناس كى يشاركوا فى الحياة السياسية ، ولكن ضمن حدود مرسومة على نحو يضمن سلامة النظام الاجتماعى البورجوازي ، ويبعد خطر الإطاحة به ) (3) . كانت بلاد الموجة الرأسمالية الأولى ، بلاد الرأسمالية التقليدية فى صورتها النقية من أى شوائب ، والواضحة للجميع ، فى نفس الوقت هى البلاد التى استطاعت أن تحوز قبل غيرها على أكبر ما يمكن من مستعمرات مما أتاح لها فرصا أعظم فى تطوير قوى إنتاجها ، أتاح لها أسواقا لمنتجاتها ومصادر أولية لصناعتها وهو الأمر الذى لم يتاح لبلاد الموجات الرأسمالية التالية إلا فى حدود ضيقة للغاية ، مما أثر فى تاريخ النصف الأول من القرن العشرين أكبر الأثر بعد ذلك .
التنويعة الأولى على اللحن الأصيل (محمد على، بسمارك، الميجى) :
أدى محمد على فى مصر العديد من مهام البورجوازية فى تجربة فريدة لم تشأ لها الظروف الدولية أن تكتمل ، فقد استطاع أن ينشى دولة قومية حديثة ، وأن يدفع بقوى الإنتاج خطوات هائلة للأمام ، وذلك من خلال تملك الدولة متجسدة فى شخصه لكل الأراضي المصرية ، وبالتالى تمكنه من انتزاع فائض عمل الفلاحين لكى ينشا قطاع صناعى حديث مملوك للدولة ، وأن ينشأ العديد من مشاريع البنية الأساسية كالقناطر الخيرية وحفر عدد من الترع واستصلاح مساحات جديدة من الأراضي ، وشق الطرق ، وأخيرا إنشاء المدارس الحديثة لخلق الكوادر الفنية والعلمية . مما أحدث طفرة هائلة نقلت مصر من نمط إنتاجها القديم إلى مشارف الرأسمالية وأن لم تبلغها تماما إلا بعد أكثر من مائة عام على الأقل ..بل أن محمد على سعى لإقامة إمبراطورية استعمارية على حساب الإمبراطورية العثمانية ، وذلك لتوسيع فرص التراكم البدائى لرأسالمال . وقد تكررت المحاولة فى عهد الخديوى إسماعيل ، ولكنه وإن كان أحدث قدرا كبيرا من التحديث ، إلا أن حظه من النجاح كان أقل ، وقد أدى فشله إلى الاحتلال البريطانى لمصر ، الذى ربطها بعجلة الرأسمالية العالمية ، وأخذ التطور الرأسمالى مسارا مشوها بعد ذلك ، وتمت محاولات لتطوير قوى الإنتاج على يد بنك مصر بقيادة طلعت حرب و انتهت هى أيضا إلى نجاح محدود لا يتناسب مع الأحلام العظام التى تخيلها مؤسسوه ، وتكررت المحاولة بشكل أعمق فى العهد الناصرى ، وقد أدت لتطوير ملحوظ فى قوى الإنتاج ، إلا أنها انتهت هى الأخرى لما انتهت إليه محاولة محمد على المبكرة ، وذلك بعهد الانفتاح الاقتصادى الذى تميز بمرحلتين أحدثتا تطورات حادة فى التطور الرأسمالى فى مصر حتى أكتمل هذا النمو كانت المرحلة الأولى انتهت بإحداث تراكم رأسمالى ، والثانية بموجة أخرى من التصنيع .
فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر لم تستطع بعض البورجوازيات المحلية الضعيفة فى العديد من بلدان العالم أن تكرر ما فعلته زميلاتها القوية فى البلدان الأخرى .. ففى ألمانيا وجدت بورجوازية عاجزة تماما عن أداء مهامها ، وفى نفس الوقت وجدت حركة عمالية قوية أخذت تهدد وجود هذه البورجوازية الضعيفة نفسها ، تلك البورجوازية التى أخذت تعزف اللحن الأصيل بقدر من التعديلات التى تناسب ظروفها ، وذلك تحت قيادة بسمارك الذى أخذت حكومته على عاتقها أداء مهام البورجوازية عبر ما سمى باشتراكية الدولة ( فكثيرا ما يشار إلى تشريعات بسمارك الاجتماعية على أنها اشتراكية الدولة ، ولقد كان لتعبير اشتراكية الدولة كثير من المعانى فى السنوات الماضية . فقد استخدم هذا التعبير لوصف برنامج التشريعات الاجتماعية الذى أعده بسمارك ، وهو برنامج لم يكن هدفه إعادة بناء النظام القائم ، و إنما التخفيف من مساوئ الرأسمالية عن طريق التأمين الاجتماعى ضد البطالة والمرض والشيخوخة ، وعن طريق تملك الدولة للمنافع العامة مثل السكك الحديدية ، وعن طريق القيود واللوائح العامة (5) ، وقد تحدد كل هذا على محورين أولهما إصدار القوانين الصارمة لمواجهة الاشتراكية ، والحركة العمالية سنة 1878وإدخال سلسلة من قوانين العمل والتأمين الاجتماعى سنة 1883 لإضعاف النزعة الاشتراكية المتنامية وهو أمر مفيد للغاية من أحد جوانبه فى عملية تطوير قوى الإنتاج ، حيث يوسع من إمكانية سوق الاستهلاك الداخلى للبورجوازية المحلية مما يدفعها للنمو المطرد . والمحور الثانى هو تدخل الدولة لبناء عدد من مشاريع البنية الأساسية ، وتملكها أولا ثم بيعها بعد ذلك للرأسماليين ، والسيطرة على العديد من قطاعات ومراحل الإنتاج وتملكها كقطاع للدولة ، وذلك لدعم البورجوازية الأضعف من مباشرتها ، ودفعها للنمو فى قطاعات أخرى ، وقد استطاع بسمارك بذلك أن يزعزع علاقات الإنتاج الإقطاعية ممهدا لإنهائها التام عام 1918، وأن يطور من قوى الإنتاج إلى أن تصدرت ألمانيا قائمة الدول الصناعية ، ثم أخذت تبحث لمنتجاتها عن أسواق خارجية عبر سلسلة من الفتوحات والغزوات مكونة إمبراطورية قصيرة الأجل من المستعمرات انتهت فى 1918 ، حيث لم تجد الكثير من بلاد الأطراف مما لم يستعمر بعد ، مما احتجز هذا النمو لسنوات طويلة بعده أسيرا للسوق القومى الضـيق.
وفى اليابان أخذت حكومة الميجى بدءا من عام 1868 على عاتقها إنهاء الإقطاع التقليدى ، وتركيز رأسالمال بالصورة التى مكنت الدولة من توجيه النشاط الاقتصادى نحو التحول التدريجى إلى الصناعة ، فقد تحالفت الدولة مع البيوت المالية ، والتى تدعمت بدورها بفضل جهود الدولة لحماية رأسالمال وتهيئة ظروف النمو له ، وقد أخذ التحالف الوليد يمول خطة التصنيع التى بدأتها الحكومة فيما سمى بالقطاع العام الصناعى ، الذى سلمته الدولة فيما بعد للشركات التى تسيطر عليها البيوت المالية ، مقابل تسهيلات فى عملية البيع والسداد ، وفى نفس الوقت فأن الكثير من الصناعات الاستراتيجية ظلت مملوكة للدولة (6) . وفى حين قدمت الحكومة شتى التسهيلات الممكنة لنمو البورجوازية فأننا نجد أن هذا قد جاء على حساب الطبقة العاملة الصناعية الوليدة . وذلك بعكس التجربة الألمانية لضعف كل من الحركتين الاشتراكية والعمالية فى الأولى وقوتهما فى الثانية .
غير أن الرواج الذى أصاب الإنتاج الصناعى عن طريق الدعم الحكومى المباشر وغير المباشر تم على حساب العمل والعمال ، فلم تهتم الحكومة بتحسين ظروف العمل وشروطه ، وتغاضت عن الجور الذى عاناه العمال على أيدى أصحاب الأعمال ، وأصمت آذانها عن سماع شكواهم وأنينهم ، بعد ما وجدت أن إتاحة فرصة التراكم الرأسمالى الوطنى ضرورة قومية يجب أن تتحقق ولو كان ذلك على حساب العمل والطبقة العاملة (7) .
غالبا ما يشبه بعضهم اليابان ببروسيا . فالرأسمالية فى كلا البلدين ،لم تنشأ رسميا عن طريق ثورة بورجوازية بل عن طريق نظام بيروقراطى وأرستقراطى سابق ، أدرك أنه لا يستطيع البقاء ما لم يفعل ذلك ، ففى بروسيا كما فى اليابان ، أحتفظ النظام الاقتصادى -السياسى الجديد بكثير من الملامح التى كانت تميز النظام السابق (8) .
وقد تكررت تجارب شبيه فى تركيا وعلى يد مؤسس دولتها الحديثة كمال أتاتورك وذلك بدءا من عشرينيات هذا القرن ، وفى إيطاليا بعد تحقق وحدتها فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ، ويلاحظ أن الإمبراطوريات على الطراز القديم كأسبانيا والبرتغال وتركيا وروسيا لم يحدث بها تطور هائل كالذى شهدته ألمانيا وإيطاليا واليابان رغم تملكها لمستعمرات هائلة ربما لافتقادها فى تلك اللحظة التاريخية المناسبة لدور مؤثر للدولة لصالح البورجوازية ، وضد مصالح الأرستقراطيات السائدة من أجل تطوير قوى الإنتاج فى الاتجاه الصحيح .
وهكذا نرى مدى أهمية دور الدولة فى أداء مهام البورجوازية التاريخية بدءا من هذه الفترة ، فقد ظلت الدولة على مدى حوالى مائة عام تساعد فى إحداث تسارع تراكم رأسالمال من أجل مساعدته على النمو وحمايته من أزماته و أمراضه ، وإيجاد أسواق لمنتجاته ، ودعمه فى منافسته الخارجية ، وذلك عبر السياسة الاستعمارية ، ويلاحظ أن ما عانته كل من ألمانيا واليابان وإيطاليا من نمو رأسمالى محاصر بالجوع للمستعمرات والأسواق الخارجية كان له ابلغ الأثر فى قيام حربين عالميتين فى النصف الأول من القرن العشرين.
التنويعة الثانية: الستالينية وسقوطها:-
بدأ عزف هذا اللحن من مقام مختلف ، إلا أنه بعد لحظة لم يطاوع العازفون الأداء ، فأخذ منهم آخرون آلات العزف ، ثم انقلبوا يعزفون اللحن الأصلى (الرأسمالى ) معزوفا بصوت خافت شديد العمق ، مغلفا بأصوات زائفة من اللحن الاشتراكى الجديد معزوفا بصخب عال شديد السطحية . فكيف حدثت تلك القصة ؟ قد كانت روسيا القيصرية إمبراطورية من الطراز القديم لحق التطور الرأسمالى ببعض أجزاءها و تكونت بها قطاعات حديثة متطورة فوق القطاعات المتخلفة ولم تكن القيصرية فى حنكة الأرستقراطية الإنجليزية أو الألمانية حتى تدعم اتجاهات التطور فى المجتمع مما أورث النظام القيصرى أزمته التى انتهت بالثورة عليه ، كما كانت البورجوازية الروسية عاجزة عن قيادة التطور اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ذلك لأنها كانت مقموعة من أعلى بالأرستقراطية الإقطاعية ، وخائفة من الثورية المتزايدة للطبقة العاملة من أسفل . وقد كانت الثورة البلشفية تجسيدا واقعيا لكيف تقود القطاعات المتطورة القطاعات المتخلفة من أجل التغيير الاجتماعى كما كانت فى نفس الوقت تجسيدا واقعيا للإمكانية التى اكتشفتها الماركسية ، إمكانية أن تحرر الطبقة العاملة نفسها من الاستغلال والقهر والاغتراب ، ومحررة البشرية معها من كل هذا ..كان الجنين الذى أنجبته الثورة هو الخطوة الأولى نحو الاشتراكية الحقيقية من حيث هى سيطرة العمال وإدارتهم لوسائل الإنتاج ، وبالتالى تحكمهم فى ظروف حياتهم وعملهم ، إلا أن هذا الوليد لم تشأ له الظروف القاهرة أن يحيا طويلا ، فما لبث أن ولد حتى مات .
فخلال الفترة من 1917إلى 1928 أخذت سيطرة العمال على كل من السلطة السياسية ووسائل الإنتاج تقل تدريجيا حتى تلاشت تماما فى نهاية الفترة ، ووقع العمال فيما سبق وقد تحرروا منه للحظات ، و فى نفس الوقت التى أخذت تزداد سيطرة البيروقراطية على كل من الحزب والدولة والإنتاج تدريجيا ، حتى وصلت فى تلك الفترة إلى الاحتكار الكامل لكل السلطات ..(فهل يمكن توصيف نظام ستالين باعتباره انقلابا أو طريقة لاغتصاب ستالين وزملائه لسلطة العمال ؟ لقد أجاب الفيلسوف أناتولى يوتينكوف مثلا على ذلك السؤال بالإيجاب .
وتوصل علماء آخرون إلى الاستنتاج التالى : " وعلى الباحثين أن يستكشفوا الآن أى نوع من النظام الاشتراكى كان قائما فى سياق من الثورة المضادة لاشك فيه ، وانقلاب معادى للاشتراكية مسلم به قام به ستالين فى الفترة التى بدأت مع الجماعية وانتهت فى مؤتمر الحزب الثامن عشر (9) .
كان هذا الانقلاب تجسيدا لتولى طبقة جديدة للسلطة فى المجتمع ، حيث تحولت البيروقراطية من مجرد فئة طبقية فى خدمة طبقة أخرى إلى طبقة منفصلة تماما عن الطبقة العاملة ، وقد أصبح لها مصالحها المتميزة فى تعظيم دور الدولة بدلا من تقليصه ، كما كانت تفترض الماركسية ، والتى أكدت أدبياتها الكلاسيكية على أن الدولة التى تؤسسها الثورة العمالية هى دولة مضمحلة.. ومن هنا سيدت الستالينية فكرة أن الاشتراكية هى ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وفى المقابل تقليص دور الأفراد والجماعات المختلفة اقتصاديا وبالتبعية سياسيا . وهذا بالطبع يأتى من حقيقة أن سيطرتها على الدولة هى مصدر ما يتمتع به أفرادها وأسرهم من امتيازات مادية وأدبية ، والتى أصبح عليها الحفاظ عليها فى مواجهة الطبقة العاملة التى استمرت فى عبوديتها للعمل المأجور ، وبالتالى انتزاع فائض العمل منها لصالح البيروقراطية ، وبالتالى استمرار اغترابها وانفصالها عن وسائل الإنتاج ، فقد ظل الإنتاج يلبى احتياجات الدولة لا احتياجات العمال ، وقد ظلت آلة الإنتاج تدور من أجل إحداث التراكم من أجل التراكم ، وتطوير قوى الإنتاج،والمنافسة العسكرية والاقتصادية مع العالم الخارجى ، مما أستدعى سياسة خارجية ذات طابع إمبريالى فى كثير من مظاهرها.
فقد أخذت البيروقراطية على عاتقها إنجاز كافة مهام البورجوازية فبعد أن ركزت كافة وسائل الإنتاج وأخضعتها لسيطرتها الجماعية المطلقة ، أخذت بمنهج اللحاق بالغرب(10) ، وذلك بدفع قوى الإنتاج خطوات هائلة للإمام ، وبنجاح منقطع النظير حتى أواخر الخمسينات ، تفوقت فيه على الغرب نفسه ، ولم يكن هذا فحسب على مستوى خلق طبقة عاملة حديثة ، وقوى عمل على أعلى مستوى من التطور ، إلا أن البيروقراطية أحدثت العديد من الإصلاحات الاجتماعية لرفع مستوى المعيشة نسبيا ، وذلك لسببين أحدهما وهو الأهم توسيع القدرات الاستهلاكية كعامل هام فى دفع عملية تطوير قوى الإنتاج ، والثانى شكل تبرير زائف للشرعية التى استندت إليها البيروقراطية ، والتى ظلت ترتدى القناع الاشتراكى الزائف وتروج لنموذجها الذى ساد بعد الحرب العالمية الثانية ثلث المعمورة ، وخضع له نصف سكان الأرض حتى الأعوام القليلة الماضية..والتى ظلت فيه الطبقة العاملة مستمرة فى اغترابها عن وسائل الإنتاج ، مع إحساس المواطنين بالعجز والقهر فى مواجهة الجبروت الهائل للدولة ، ومواجهة ظروف الواقع التى تتحكم فى تفاصيله الأجهزة الرسمية ومن يسيطرون عليها . أضف إلى ذلك إحساسهم بالحرمان من الحرية والرفاهية النسبيتان التى كان يتمتع بهما الإنسان فى الغرب الرأسمالى عموما دون أثقـال الوهم والبوليسية اللذان كانا يلهبان الظهور للتفانى فى العمل وعبـادة النظام.
ولأن كل هذه المهام والعمليات سالفة الذكر ، والتى شكلت الأساسي المادى للنظام ، كان يعوزها التراكم الأولى لرأسالمال ، فقد كان على البيروقراطية إن تستفيد من سيطرتها المركزية لانتزاع فائض العمل من الفلاحيين خلال عملية التجميع القسرى (11) فضلا عن انتزاع فائض العمل من العمال الذين كانوا يتعرضون للعمل فى معسكرات العمل والمعتقلات للعمل فى ظل ظروف تشبه ظروف العبيد وهو الأمر الذى انتهى بموت ستالين على أى حال . لتحسن ظروف العمال نسبيا ماديا ومعنويا . ولأن الأنظمة الستالينية قامت غالبا ـ مع استثناءات قليلة فى ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ـ فى بلدان متخلفة كانت تعوزها كل من بورجوازية قوية وطبقة عاملة قوية وتسعى لتطوير قوى الإنتاج وأداء مهام البورجوازية التقليدية ، فقد كان تقدم الاشتراكية فيها يقاس بتطور مجال الإنتاج وبظهور فروع جديدة فى الصناعة (12) .وليس بالمدى التى وصلت إليه حرية البشر وتحكمهم فى ظروف حياتهم ، وعلى رأس هذا وكبداية له نفى العمل المأجور ، بما يعنيه من انتزاع لفائض العمل والقيمة لصالح من يسيطرون على قوة العمل . وباستثناء يوغوسلافيا التى تميزت عن هذا النموذج بأسلوب الإدارة الذاتية ، فأن الفروق بين كوريا الشمالية وكوبا والصين وبولندا ورومانيا لم تكن جوهرية كما هى الخلافات بين فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة . وقد ساد النموذج كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية ، وتنامى حركة التحرر الوطنى التى جاءت على أثرها والتى تصدت لقيادتها الأحزاب اللينينية الستالينية.
هناك مجموعة من العوامل التى أدت إلى هذه النهاية ، فقد كان حصاد الحرب العالمية الأولى 1918:1914، وحروب التدخل 1920:1918. هو التدمير الكامل لكافة عناصر قوى الإنتاج المتخلفة أصلا فى الدولة العمالية الوليدة ، بما فى ذلك الطبقة العاملة الحديثة الواعية المنظمة ، التى قادت بفعلها الجماعى ثورة ذات قاعدة فلاحية ، وبرنامج فلاحى فى الأساس نظرا لضآلة حجم البروليتاريا الصناعية بالنسبة للفلاحين فى روسيا القيصرية . كان تدمير البروليتاريا المتقدمة يعنى حلول عمال جدد بدلا منهم من أصول فلاحية ،ويحملون كل التراث المتخلف للريف الروسى كان آباءهم يحملون آثار القنانة التى كانت تثقل ظهورهم من عقود قليلة مضت ، وبالطبع فأن أمثال هؤلاء كان من السهل خداعهم بأن المجتمع الذى أصبحوا فيه ما هو إلا الاشتراكية الموعودة التى تساوى الجنة على الأرض حتى خدع أبناءهم بأن الجنة توجد فى الغرب لا فى الشرق بعد عقود قليلة أخرى . وكانوا بالطبع يفتقدون ما يؤهلهم للسيطرة الفعلية على الدولة والمجتمع من وعى وتنظيم ضرورين.
أما على الجانب الآخر فأن بقايا الأرستقراطية والبورجوازية الروسيتان المهزومتان أصبحتا من الضعف بحيث لم تستطيعا استرداد سلطتهما ونفوذهما وامتيازاتهما ، وفى وضع كهذا كان يجب أن تظهر طبقة جديدة وجدت أصولها فى بقايا الجهاز البيروقراطى للدولة الروسية وبيروقراطية الحزب والمنظمات العمالية والشعبية المختلفة ، وكان يجب على هذه الطبقة الجديدة أن تحتفظ بالرطانة الماركسية كمبرر لسيطرتها وامتيازاتها ، وأن تتحول الماركسية على يدها لمجرد أداة فى صراعها وتنافسها مع الإمبرياليات الغربية..ومن هنا تم إلحاق كم من التشويه بها ليتناسب مع دورها الجديد كأيديولوجيا طبقة حاكمة مستغلة جديدة بدلا من كونها منهجية علمية لطبقة ثورية .
كان فشل الثورة العمالية فى أعوام ما بعد الحرب العالمية الأولى ، يعنى سقوط الدولة العمالية فى حالة حصار من عالم معادى ، وهذا أدى بدوره بالضرورة إلى الاعتماد المتزايد للدولة على مجموعة من الأجهزة البيروقراطية ، تؤمن قدرة الدولة على مقاومة حالة الحصار ، وللأهمية الحيوية لدور هذه الأجهزة ، فأنها كانت تحصل هى ومن يديرونها ويعملون بها على امتيازات غير عادية ، وسلطات استثنائية ، وأهم هذه المؤسسات هى :-
1. الجيش المحترف بديلا عن المليشيات العمالية المسلحة ، هذا الجيش المثقل بالبيروقراطية كى يصبح أكثر قدرة على مقاومة الغرب ليس ذلك فحسب بل والتفوق علية عبر سباق مجنون فى التسلح .
2. المجمع الصناعى العسكرى الغارق فى سباق عنيف ومنافسة حادة مع الدول الرأسمالية ، وفى حين كان العمال وسائر المواطنين يرزحون فى مستويات معيشة تتدنى باطراد بالنسبة للمواطنين فى الغرب الرأسمالى ، كان كل من سباقى غزو الفضاء والتسلح يهدران موارد لا حد لها من البشر والطبيعة ، ويستنزفان أفضل الطاقات فى المجتمع دون ما قدرة لعكس هذا التقدم المذهل على تحسين أحوال المواطنين المعيشية مثلما أدى نفس السباقان لنتيجة عكسية فى الغـرب.
3. جهاز الأمن بفروعه المختلفة ، الذى حل محل الرقابة العمالية ، والمليشيات المسلحة ، والذى انتقلت إليه كل السلطات الفعلية فى الحزب والدولة والإنتاج ، والذى حول الدولة إلى دولة بوليسية استبدادية ، وفى الحقيقة أن المؤسسات الأخرى كالحزب و المجالس السوفيتية والنقابات وغيرها لم تكن إلا مؤسسات ثانوية خاضعة للمؤسسات الأولى و من يسيطرون عليها ، وإن كانت تتصدر السلطة من الناحية الرسمية .
والباحثون ينقسمون حول طبيعة المجتمعات التى كانت تدعى بالاشتراكية ، فالباحثون البورجوازيون يرون بالطبع أنها هى الاشتراكية التى تحمل عوامل فنائها المحتوم ، أما الباحثون الماركسيون فينقسمون حول طبيعة هذه المجتمعات إلى الاتجاه الستالينى التقليدى الذى مازال يؤكد طبيعتها الاشتراكية ، مع تأكيد الأكثر راديكالية منهم على طابعها المشوه والمنحرف ، و إلى الاتجاه التروتسكى التقليدى الذى يؤكد على كونها مجتمعات عمالية مشوهة بيروقراطيا ، واتجاه الاشتراكية الثورية الأممية ( اتجاه تونى كليف فى كتاب رأسمالية الدولة فى روسيا ) الذى يصفها برأسمالية الدولة البيروقراطية ، واتجاهات أخرى تصنفها كمجتمعات بيروقراطية جماعية (مثل شاخت مان فى الولايات المتحدة وحزب العمل الاشتراكى الأمريكى ) وعادل العمرى وشريف يونس فى مصر:كتاب الراية العربية العدد الثالث ) والبعض الآخر يعرفها بأنها نمط إنتاج سوفيتى ، وأخيرا د.سمير أمين الذى يعرف ظاهرة تلك المجتمعات بالدولنة.
على أنى أرى أن ما كان هناك لم يكن أبدا الاشتراكية كنمط إنتاج يحقق فيه البشر درجة أعلى من الحرية والعدالة والعقلانية والكفاءة الاقتصادية عما قد حققته الرأسمالية للبشر حتى الآن..وإذا كان تعريف هذه الأنظمة هو محل لخلاف ، فأن هذا الخلاف راجع فى رأيى من أن الثورة التى انتهت إلى هذا النظام لم تكن أبدا ثورة بورجوازية ، بل أنها أتت بقوى اجتماعية مختلفة وبأيديولوجيا معادية للرأسمالية ، إلا أنه لظروف تاريخية وموضوعية محددة حدثت ردة صامتة دشنت علاقات إنتاج معينة لم تكن معروفة من قبل ، لا هى بالرأسمالية تماما و لا بالاشتراكية مطلقا ، كانت هذه العلاقات تتناسب ولفترة تاريخية محددة فى التطور الرأسمالى العالمى مع طابع قوى الإنتاج السائدة بما فيها قوة العمل التى العلاقات بالطابع الاستغلالى حيث حلت فيه الدولة وأجهزتها محل المؤسسات الرأسمالية التقليدية وعلى نحو كامل ، وحلت فيه طبقة مستغلة جديدة من أشباه العمال محل البروليتاريا الحديثة، وحلت فيه البيروقراطية محل البورجوازية التقليدية على نحو كامل .
وأخيرا فأن أمثال هذه المجتمعات مثل الحلقات الوسيطة الانتقالية تتميز بعدم الاستقرار ومن ثم العمر القصير والاستثنائية ، فهى مجرد لحظة تاريخية فى التطور الرأسمالى تتغير فيها أشكال الإنتاج والسلطة وإن لم يتغير الجوهر ، و تنشأ بهدف الاستجابة للضرورة الاجتماعية الحاكمة فى التطور الاجتماعى ، وهى تطوير قوى الإنتاج ومجمل البنى الاجتماعية واللحاق بركب التقدم ، التى تعجز البورجوازية فى الظروف التقليدية عن أداءها .وتموت عندما تعجز عن تحقيق هذا الهدف ، أو عندما تنجح فى تحقيقه إلى الحد الذى يجعل المجتمعات المنتظمة بها تتخلى عن حالتها الاستثنائية والانتقالية للحالة التقليدية فى التطور الرأسمالى.
أن معرفة حقيقة هذه المجتمعات ولماذا سقطت ؟ لابد وأن تنطلق من الالتزام بالقانون الأكثر أهمية التى اكتشفته الماركسية وهو ما يميزها عن غيرها من الحركات الاشتراكية والمدارس الاجتماعية ، وهو الأمر الذى أعطاها صفة العلمية ، وهو قانون ضرورة تطابق قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج ، ولعلنا سنرى أن معظم من رفعوا راية الماركسية اتخذوها مجرد تمائم مقدسة لا علاقة لها بممارستهم العملية و لا تحليلاتهم النظرية فمعظم هؤلاء لم ينطلق من مفهوم أسلوب الإنتاج وما يحمله من مفاهيم داخلية وما يحكم تطوره من تناقضات وما يوجده من عمليات لكى يحلل طبيعة هذه المجتمعات تحليلا علميا ..فهل لاحظ معظمهم أن إقامة الاشتراكية على بنية تخلف فوق أنها عملية مستحيلة عمليا وعمليا هى أيضا ضرب من الطوباوية يتناقض مع أهم قوانين الماركسية التى يتخذونها عقيدة لهم وهذا ما استنتجه كل من عادل العمرى وشريف يونس ( هل يمكن إقامة الاشتراكية بكل ما تحمله الكلمة من معنى على أساس هذا الفقر الاقتصادى والتخلف الثقافى ذاته . أى أن إقامة نمط إنتاج أعلى من الرأسمالية لا يستلزم بالضرورة مطلقا قوى لإنتاج أعلى أو حتى مساوية لقوى الإنتاج الرأسمالية ، وبذلك تنهار النظرية الماركسية من أساسها)14 .
التنويعة الثالثة:الأزمة الرأسمالية والحل الكينزى/الاشتراكى الديمقراطى:-
عرفت البلدان الرأسمالية دائما أزمات كساد دورية تتلوها فترات من الازدهار . إلا أن ما عرفته هذه البلاد من كساد فى ثلاثينات القرن العشرين كاد أن يهدد وجود أسلوب الإنتاج الرأسمالى نفسه ، وذلك قبيل الحرب العالمية الثانية . ولذلك عرف الحل الكينزى فى بلاد الموجة الأولى ( إنجلترا ،فرنسا ،هولندا ،بلجيكا ) وهى بلاد كانت تملك من المستعمرات مما ساعدها دائما على إيجاد أسواق لمنتجاتها ومواد أولية وأيدى عاملة رخيصة لصناعتها ، وباختصار كان لديها القدرة المادية على تجاوز أزمات الكساد من الفائض المتراكم لديها من نهب المستعمرات ، وكان أحد العوامل التى ساعدت على رفع مستوى معيشة الطبقة العاملة ، وبالتالى تخفيف حدة الصراع الطبقى ، فيما يعرف برشوة الطبقة العاملة وعبر الحركات الإصلاحية وعلى رأسها الاشتراكية الديمقراطية ، ولذلك اتخذت أزمة الكساد منحنى مختلف ، فى بلاد الموجــة الثانية ( ألمانيا وإيطاليا و اليابان ) التى كانت تفتقر للمستعمرات أو كانت تملك منها القليل الغير كافى ، وبالتالى كانت تجد صعوبة فى تصريف منتجاتها ، وإيجاد مصادر أولية وأيدى عاملة رخيصة لصناعتها ، ومن ثم تفتقر لأى قدرة مالية على تجاوز أزمة الكساد ، فلم يكن لديها فائض هائل من نهب المستعمرات ، وبالتالى لم يكن لديها القدرة على تخفيف حدة الصراع الطبقى برفع مستوى المعيشة ، وتشجيع الإصلاحية فى الحركة العمالية ، وهو الأمر الذى انعكس على زيادة حدة الصراع الطبقى ، وازدهار الثورية فى الحركات العمالية ..ونظرا لاختلاف الظروف فقد أخذ حل الأزمة شكلا مختلفا فى كلا القسمين وذلك قبل الحرب العالمية الثانية ، ومن هنا عرفت بلاد الموجة الأولى الحل الكينزى الذى تبنته الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ، واتخذته منهجا لسياستها ، وكان يتلخص فى ضرورة تدخل الدولة لزيادة الطلب العام . من خلال عمليتين:
1. زيادة الإنفاق الحكومى العام على الضمان الاجتماعى فى العلاج والتعليم والسكن ..الخ فيما عرف بنموذج دوله الرفاهية.
2. التدخل المباشر فى عمليات الإنتاج والتوزيع والتبادل من خلال سياسات التأميم الواسعة والإشراف والتخطيط ودعم السلع والخدمات و التسعير الجبرى.
وقد سادت الاشتراكية الديمقراطية بدرجات متفاوتة غرب أوروبا وأثرت إلى حد كبير فى شمال القارة الأمريكية واستراليا بعد الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينات من القرن العشرين ، ومما لاشك فيه أن الحل الكينزى كان حلا ناجحا لمشكلات الكساد الدورية إلا أنه فقد قيمته مع أواخر السبعينات ، حيث عرفت الرأسمالية العالمية أزمة ركود تضخمى أصبحت معها الحلول الكينزية بلا جدوى ومن ثم كان سقوط الاشتراكية الديمقراطية فى خانة الليبرالية حتى ولو كانت أحزابها مازلت تتمسك بنفس الأسماء القديمة أو تبنت ما يعرف الآن بالطريق الثالث الذى هو نفسه الاشتراكية الديمقراطية وقد أصابها الهزال الشديد .ومع افتراض إخلاص تلك الأحزاب لأيديولوجيتها القديمة فأنها فى حالة وصولها للسلطة ستصبح مغلولة اليد فى ممارسة السلطة بسبب ديكتاتورية سوق المال العالمى على السياسات الاقتصادية التى ينحو بها نحو الليبرللية المتطرفة.
التنويعة الرابعة : الفاشية وأشباهها:-
أما بلاد الموجة الثانية فقد عرفت الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية حلا لمشكلات بورجوازيتها ، و أزمات نموها وتعرضها لأخطار الصراع الطبقى، والفاشية هى تدخل واضح وسافر للدولة والحركات الفاشية من أجل دعم البورجوازية الحاكمة المتميزة بالضعف والعجز والمعرضة لأزمات ، وأخطار تهدد وجودها وسلطتها ونفوذها وخصوصا فى مواجهة حركة عمالية أو شعبية قوية ، وهى تسعى من خلال برامج ذات بريق شعبوى أن تطور قوى الإنتاج وحل الأزمة الرأسمالية . و تدجين الحركة الشعبية والعمالية من خلال آليات الديكتاتورية الصريحة والإرهاب البوليسى والعنف من جانب ومن خلال آليات غسل العقول بالدعاية الديماجوجية و المظاهر الاستعراضية والصخب الخطابى ، ورفع أيديولوجيات تقدس من دور الدولة والصفوة وفى نفس الوقت تحمل قدرا من الأحلام الجماهيرية ، وهى تستند لأساطير قومية أو دينية أو عنصرية قادرة على حشد الجماهير خلفها وذلك من جانب آخر . وهى تستغل أسوء ما فى الجماهير وهو سهولة إثارة عواطفهم وخداعهم بالإيحاء والدعاية النارية.
والفاشية التاريخية كما ظهرت فى ألمانيا وإيطاليا واليابان كانت ذات طابع توسعى شبق للمستعمرات نظرا لحرمان بورجوازيات تلك البلاد منها ، ومن أجل اللحاق ببلاد الموجة الأولى ، إلا أن التاريخ عرف أيضا وفى نفس الفترة وما تلاها أنظمة فاشية ، ونظرا للظروف الدولية وأسباب أخرى لم تتحرك من أجل التوسع الاستعمارى ، وذلك فى أسبانيا والبرتغال على سبيل المثال ، والتى سقطت الفاشية فيها مع السبعينات من القرن العشرين
وقد عرفت أمريكا اللاتينية واليونان وكوريا الجنوبية والعديد من بلدان العالم الثالث حركات وأنظمة فاشية وشبه فاشية سواء كانت ذات طابع قومى أو دينى ..الخ إلا أن بعضها تميز بسمات خاصة معادية للإمبريالية العالمية من منطلقات تحررية عنصرية تحمل فى طياتها إمكانيات إمبرياليات بديلة لم يمكنها التحقق فى أرض الواقع فحسب ، وكل هذه السمات تجعلها ذات جاذبية خاصة لقطاعات واسعة من الإنتلجنسيا المعادية للإمبريالية ، وذلك انبهارا بالشعارات القومية أو الدينية العلمية والعنصرية فى نفس الوقت فهى تطالب بحريتها كما تطالب باستعباد الآخرين وعن طريقه ، وتختلط تلك الشعارات بشعارات شعبية ، ولا تنخدع فى ذلك فحسب الطبقات الشعبية ، بل حتى الإنتلجنسيا التى ترفع الشعارات الاشتراكية والقومية . فنجد حتى اللينينون بفرقهم المختلفة يتحالفون مع أنظمة وحركات ذات طابع فاشى تحت مسميات الجبهة الوطنية ، وشعارات التحرر الوطنى الطامس للتحرر الطبقى والإنسانى ، ومن أجل إعلاء الصراع القومى فوق الصراع الطبقى ، و خصوصا وعلى حد علمى فى المنطقة العربية فى مصر وسوريا والعراق على سبيل المثال .
التنويعة السادسة:أنظمة التحرر الوطنى فى العالم الثالث:-
شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحرر المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة ، وانحسار الاستعمار بصيغته القديمة تمهيدا لظهور نوع جديد من الإمبريالية لا تعتمد على الاحتلال العسكرى المباشر ، وإنما تعتمد على العلاقة البنيوية بين الاقتصاد الرأسمالى المتقدم والاقتصاديات المتخلفة بدرجات تشوهها المختلفة ، فى المجتمعات المستعمرة القديمة . و وجدت بعض الدول الحديثة الاستقلال التى دخلت المجتمع الدولى نفسها تعانى من أوضاع التخلف والتبعية الفعلية للسادة القدامى التى تتباين فى الدرجة من بلد إلى آخر ، فبعضها كان يفتقد لبورجوازية محلية ، والبعض الآخر إن وجدت لديه فهى ضعيفة وعاجزة عن تحقيق مهام البورجوازية التقليدية ، ولأن التنمية المستقلة شرط للتخلص من التبعية ، فكان لابد وأن تحل الدولة وبيروقراطيتها محل البورجوازية لإنجاز كافة المهام التاريخية ، ومن هنا شهدت معظم تلك البلدان أنظمة رأسمالية دولة ذات سياسات اجتماعية ، تحقق رفع مستوى معيشة الشعب ، وتمنحه بعض المكاسب من خلال توسيع قاعدة الملكية الزراعية بسياسات الإصلاح الزراعى ، والتصنيع من خلال قطاع الدولة لتنويع مصادر الدخل وهكذا .كانت بعض هذه الأنظمة ترفع راية الماركسية الملونة قوميا ، وبعضها كان يرتدى مسوح اشتراكيات قومية ودينية متنوعة ، هى مزيج من السياسات الإصلاحية والفاشية والنماذج الماركسية الستالينية وما شابهها بدرجات متفاوتة .
وقد حققت بعض هذه الأنظمة قدرا من النجاح وفشل بعضها الآخر فى تحقيق أى نجاح ، إلا أن الجميع سقط فى النهاية فى هاوية التبعية ولم يخرج إلا فيما ندر من دائرة التخلف وفى ظل الصراع بين المعسكرين الشرقى والغربى فقد تحالفت بعض هذه الدول مع المعسكر الشرقى كمصر وسوريا وبعضها تحالف مع المعسكر الغربى كتايوان وكوريا الجنوبية اللتان لم تنفصل تجربة نهضتهما عن تدخل الدولة المباشر وغير المباشر من أجل التنمية . وأن اختلفت أشكال التدخل من بلد لآخر .
التسعينات :الجميع يعودون لعزف اللحن الأصيل:-
شهد العالم منذ السبعينات من القرن العشرين ظروفا جديدة أدت إلى سقوط كافة أشكال تدخل الدولة المباشر فى عملية الإنتاج ، فقد شهدت الرأسمالية أزمة ركود تضخمى أصبحت معها السياسات الكينزية غير صالحة ، وهو ما أدى إما إلى سقوط الحكومات الاشتراكية الديمقراطية أو تحولها هى وأحزابها إلى سياسات أقرب ما تكون لسياسات الأحزاب الليبرالية ..وأخيرا صعود السياسات الليبرالية المتطرفة فى الحكومات والأحزاب المحافظة..ومع تحول عملية الإنتاج إلى العالمية تماما ، بسيطرة الشركات المتعددة الجنسية على 70% من مجمل الإنتاج العالمى ، ومع حقيقة حرمان المجتمعات التى كانت تدعى بالاشتراكية من الإمكانيات الكاملة للسوق العالمى ، كانت لابد وأن تسقط هى وأنظمة رأسمالية الدولة الوطنية فى بلاد العالم الثالث التى كانت تتبنى سياسات تنمية مستقلة ..وسقطت معظم الأنظمة الفاشية وشبه الفاشية فى أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
ومع التسعينات أخذ الجميع يعودون لعزف اللحن الأصيل بصوت عال وواضح لا لبس فيه ، ففى شتى بقاع الأرض تنتشر عملية الخصخصة ، وهى تحويل القطاع العام لقطاع خاص ، وتخلى الدولة عن دورها المباشر فى عملية الإنتاج ، وفى كل بلاد العالم شرقه وغربه ، شماله وجنوبه ، يتم سحب كافة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى حصلت عليها الطبقات العاملة والشعبية خلال المائة وخمسون عاما الماضية ،وعودة الوجه الأصلى والقبيح للرأسمالية،وهو الأمر الذى يؤكده تقرير منظمة العمل الدولية بجنيف عام 1993، وذلك بسبب ضعف الحركة العمالية نقابيا وسياسيا ، وبسبب الطبيعة العالمية للإنتاج ، التى تتخلف عنها حركة الطبقة العاملة .
الخلاصة
بعد هذا السرد التاريخى الموجز نستطيع أن نستخلص النتائج التالية:-
ـ أنه عند عجز أو ضعف البورجوازية عن أداء مهامها التاريخية وعلى رأسها تطوير قوى الإنتاج ، أو عند وقوع هذه البورجوازية فى أزمة ما تهدد وجودها ذاته ، فإن الدولة تتدخل بطرق متباينة ، لتؤدى بعض المهام ، آو لحل أزمة تلك البورجوازية .
ـ إن أشكال تدخل الدولة أيا ما كانت هى ذات طبيعة مؤقتة ، أو هى مرحلة انتقالية بين مرحلتين فى إطار النمو الرأسمالى ، وغالبا ما ينتهى شكل التدخل نفسه من خلال نفس البيروقراطية التى حلت محل البورجوازية ، فنجد قطاعا منها هو الذى يقود عملية التحول إلى الخصخصة وانتزاع المكاسب الاجتماعية من الطبقات الشعبية (جوربا تشوف فى الاتحاد السوفيتى- السادات فى مصر- دينج هيسياو بنج فى الصين ).
ـ إن ظروف الإنتاج الرأسمالى مع نهاية القرن العشرين قد تجاوزت أطر الدولة القومية ، مما ساعد على زوال كافة أشكال تدخل الدولة ، باعتبار أنها أشكال تجاوزها التاريخ ، وإلا كان هذا السقوط المدوى لمعظم هذه الأشكال ، وتأزم بعضها ، والتحول الجوهرى للأخرى بالرغم من استمرارها فى رفع نفس الشعارات القديمة ، هو على سبيل القدر المأساوى غير المفسر ، فهل يسير التاريخ وفق قوانين موضوعية أم وفق عبث لا ضابط له ولا رابط ، أو من خلال التآمر الخيانى . إن هذا التزامن العجيب مع وجود تفسير واضح يؤكد صحة الاستنتاج.
ـ إن الاشتراكية الحقيقية هى إمكانية موضوعية ، لا تتحقق إلا على أساس مستوى عال من تطور قوى الإنتاج ، وأى محاولة لإقامتها على بنية تخلف هى محاولة خيالية ستنتهى لشكل من المجتمع لا هو بالاشتراكى أو بالرأسمالى.
الهوامش
1-د.فوزى منصور ،لا تطور الرأسمالية المصرية ، قضايا فكرية ، الكتاب الثالث والرابع ، الثقافة الجديدة ، القاهرة.
2- المصدر نفسه، 27.
3- أريك هوبساوم ، عصر رأسالمال ، دار الفارابى ،بيروت،ترجمة د.مصطفى كريم ، ص9.
4-هارى . ر .ليدلر ، الحركات الاشتراكية ، الجزء الثانى ، ترجمة محمد ماهر نور ، الدار المصرية للتأليف والنشر ـ ص1170.
5-الموسوعة الثقافية ، دار الشعب ،ا لفقرة الخاصة ببسمارك.
6-اليابانيون سلسلة كتاب عالم المعرفة ، الكويت.
7-د.رؤوف عباس ،حقيقة المعجزة اليابانية ، كتاب قضايا فكرية ، ص170. 8-أريك هوبسباوم - مصدر سابق - ص185.
9- عصام فوزى،ثلاث قراءات سوفيتية فى البيروسترويكا ، مركز البحوث العربية، ص84 .
10-د.سمير أمين ، من نقد الدولة الوطنية إلى نقد الدولة السوفيتية ، مركز البحوث العربية .
11-عصام فوزى ، مصدر سابق.
12-سلسلة كتاب الراية العربية،العدد الثالث،ص 16.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية