توضيح لمعالم اليسار اللاسلطوى-2
توضيح لمعالم اليسار اللاسلطوى-2
سامح سعيد عبود
أعتقد أن انتقالى مما يسمى نفسه باليسار الثورى إلى اليسار اللاسلطوى لم يكن نتيجة أى انبهار بأى بريق للفوضوية إن كان لها أى بريق فى بيئات لا يزدهر فيها سوى الغوغائيين و السلطويين والشعبويين والفاشيين، وإنما كان الانتقال نتيجة ما اعتقد أنه فهم أعمق للواقع الاجتماعى، بالإضافة لإداركى للتغيرات الواقعية التى حدثت بذلك الواقع فى العقود الأخيرة، مما استلزم ضرورة مراجعة كل الأفكار القديمة و الحديثة، وليس المفاضلة بينها على أساس قيمى أو أخلاقى أو عاطفى وإنما على أسس واقعية وعملية.تنبأ ماركس بأن الطبقة العاملة هى الطبقة المؤهلة لإزاحة آخر أشكال الاستغلال والقهر فى العلاقات الاجتماعية عبر ثورة سياسية تستولى فيها على السلطة السياسية مؤقتا،ولم يكن هذا نتيجة مجرد تعاطف رومانسى مع قضيتها، ولكن نتيجة ملاحظة علمية عبقرية لفاعليتها المادية التى تجلت أمام عينيه الثاقبة ، تلك الفاعلية التى أعطتها ميزة عن الأقنان والعبيد كانت نتيجة لتركزها بكثافة فى المصانع مما سهل من عملية تنظيمها لنفسها نقابيا وسياسيا وتكون وعيها الطبقى، وهو ما أعطاها قوة ضغط مادية هائلة. ولم تخيب الطبقة العاملة فى الحقيقة ظن ماركس على الإطلاق، فقد حاولت بالفعل ونظرا لفاعليتها المادية التى رصدها ماركس فى الواقع و لم يصنعها، الاستيلاء على السلطة السياسية عدة مرات، ولكنها فشلت كطبقة وفق تحليل "منصور حكمت" مؤسس الشيوعية العمالية فى إقامة علاقات إنتاج اشتراكية، وليس لمجرد غياب الديمقراطية أو الردة الستالينية، ونظرا لفاعلية الطبقة العاملة المتصاعدة استطاعت أن تفرض على الرأسمالية والبيروقراطية العديد من التنازلات الإصلاحية، حتى أن الرأسمالية نفسها كنمط إنتاج تقلصت مؤقتا أمام هذا الضغط الهائل لصالح صعود نمط الإنتاج البيروقراطي طوال القرن العشرين، ولكن فى العقود الثلاث الأخيرة حدثت ثلاث تحولات هامة، فقد تقلص نمط الإنتاج البيروقراطى بشدة ، و ذابت البيروقراطية فى يد الرأسمالية التى إزدادت قوة و تمددا و انتشارا نتيجة تغيرات فى تكوينها وتوزيعها، أهمها أن الكتلة الأعظم من القيمة المضافة أصبح يصب فى جيب الرأسمال التجارى والمالى والمضارب على نطاق عالمى، مما جعل حتى التحركات العمالية النقابية ضد الرأسمال الصناعى والخدمى والزراعى أضعف فى ضغطها عليهم و العكس كان هو الصحيح عندما كان الجزء الأعظم من القيمة المضافة يصب فى جيوب الرأسمال الصناعى والخدمى والزراعى، فى نفس الوقت التى أخذت فيه الطبقة العاملة تفقد فاعليتها المادية نتيجة تغيرات أيضا فى تكوينها وتوزيعها، فقد فقدت الطبقة العاملة ميزة تركزها بكثافة فى المصانع، و ازداد تفتتها فى وحدات عمل صغيرة الحجم و متباعدة، وانتقلت كتلتها الرئيسية من الصناعة والزراعة إلى التجارة و الخدمات، وأخذت تفقد ما سبق وقد حصلت عليه من بين أنياب البيروقراطية والرأسمالية، والمطلوب أن تسترد الطبقة العاملة فاعليتها المادية فى ضوء تلك التغيرات فى بنيتها وبنية عدويها الرأسمالية والبيروقراطية، ونريد بهذا الخصوص حلولا عملية واقعية إذا كنا مخلصين حقا لقضية الطبقة العاملة،لا مجرد حلول نظرية رومانسية تستهل استرجاع التجارب التاريخية على أن تبدع ما يتوافق مع الواقع الحالى.الطبقة العاملة لم تختف بالطبع كما يروج البعض، وستظل موجودة طالما استمر نمطى الإنتاج الرأسمالى والبيروقراطى، ففى بلد كمصر يشكل المنخرطون فى نمط الإنتاج الفردى العائلى ما يقل عن خمسة ملايين فقط ، ونمط الإنتاج التعاونى ما يقل عن مئة ألف، والعاملون فى الحكومة نحو خمسة ملايين، ومن يعملون فى نمط الإنتاج البيروقراطى ما يقل عن المليون، وهم يتميزون بأنهم أكثر كثافة وتركزا فى المنشئات و إن كانوا أقل عددا فى نفس الوقت من العاملين فى نمط الإنتاج الرأسمالى الذين يتجاوزون 12 مليون وهذا وفق الاحصائيات الرسمية فقط إلا أن العدد الحقيقى أكبر من ذلك بكثير، وهم منقسمون لنحو خمسة ملايين يعملون فى المنشئات و 80% من هؤلاء يعملون فى منشأت صغيرة لا يتجاوز العاملين فيها عشر عمال، و هؤلاء لا يمكنهم عمليا تنظيم أنفسهم فى مواجهة صاحب العمل و لا الضغط عليه،و يعمل 10% منهم فى منشئات لا يتجاوز العاملين فيها خمسين عامل وهؤلاء يصعب عليهم تنظيم أنفسهم فى مواجهة صاحب العمل والضغط عليه، و يعمل نحو سبعة ملايين على نحو غير منظم ومستقر خارج المنشئات مما لا يمكنهم من تنظيم أنفسهم أصلا فى مواجهة صاحب العمل.و إزاء هذا يفترض البعض أن النضال النقابى والبرلمانى على النسق الاشتراكى الديمقراطى قادر على اكتساب إصلاحات للطبقة العاملة ،كما يصر البعض أن الطبقة العاملة فى وضعها المفتت الحالى قادرة على الاستيلاء على السلطة السياسية وفق النسق الثورى بقيادة حزب ثورى قادر على حشدها وراءه، و لو صرفنا النظر عن أن حلول التقليديين التى أسفرت فى التحليل الأخير عن تضخم البيروقراطية كنمط إنتاج طوال القرن العشرين على حساب تحرر الطبقة العاملة من عبودية العمل المأجور، واضعاف الطبقة العاملة وتسليمها منزوعة القوة للرأسمالية التى انتزعت مجددا مكاسب الطبقة العاملة بسهولة نظرا لضعفها، فأننا لا يمكنا صرف النظر أيضا عن كلا الطريقين الإصلاحى والثورى السلطويين قد اختفت الشروط الموضوعية التى جعلتهما مزدهرين فى الفترة من أواخر القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين. والاصرار عليهما هو إصرار على التعلق بفكرة مثالية غير عملية منبتة الصلة بالواقع لمجرد أنها تعجبنا لا غير ، ومن يتبنون تلك الحلول لا يرون الواقع فى الشارع الذى يدعون وجودهم فيه لمجرد أنهم يتجمعون للتظاهر فيه ، فبرغم حالة التحريض الواسعة النطاق التى شهدتها مصر منذ عام 2004 وحتى الآن لأحداث تغيير سياسى محدود فأنها لم تسفر فضلا عن إحداث التغيير السياسى عن أى تحركات اجتماعية واسعة خارج إطار النخب السياسية، و بالرغم من أن المادة المنشورة أسبوعيا فى جريدة كالدستور كفيلة باشعال عشر ثورات من طراز الثورة الفرنسية، وخصوصا فى ظل واقع غاية فى التردى، إلا أن الجماهير تلك المعبودة الشعبوية و برغم سوء أحوالها الذى لا تخطئه عين، مازالت صامتة يشاهد بعضها ما يحدث حولها من صراعات الساسة فى الحكم والمعارضة كما يشاهدون مباريات الكرة، وقد يشجع بعضها فريق دون آخر، إلا أن غالبيتها فى الغالب غير مبالية بما يحدث.وانطلاقا من هذا الوضع الاجتماعى وبهدف استعادة القوة والفاعلية للطبقة العاملة وإضعاف عدويها الرأسمالى والبيروقراطى، يطرح اللاسلطويون فى العالم تكتيك التحرر الذاتى إنطلاقا من المساعدة فى تنظيم الناس لتلبية مصالح ومنافع عملية مباشرة يستطيعون تحقيقها فعليا، وهم بنجاحهم فى تحقيقها يكسبون قدر من الحرية والمساواة من بين أيدى الدولة ورأسالمال فى نفس الوقت الذى يلحقون بهما الضعف ، ويتعلمون من التجربة العملية ومن الممارسة التى هى خير معلم كيف يتفادون الفشل الذى لحقهم فى القرن العشرين فى صنع علاقات إنتاج اشتراكية برغم وصولهم للسلطة السياسية.ودور اللاسلطويين ليس مجرد إرساء بذور المجتمع اللاطبقي لتثمر وحدها بعشم كبير في ديناميكيتها الذاتية؟ كما يظن خالد الصاوى،فاللاسلطوية حركة عالمية منظمة على أسس اتحادية غير مركزية تعمل على أساس شبكى من داخل التعاونيات والنقابات وجماعات الضغط والجمعيات الأهلية و هى تنخرط فى النضال الديمقراطى ضد السلطة السياسية؟ من أجل ديمقراطية المشاركة و تقوية واستقلال و حرية المجتمع المدنى فضلا عن دعم تجارب الإدارة الذاتية للعمال للمنشئات التى يحتلونها عفويا بعد هجر الرأسماليين لها، أو مساعدتهم فى إنشاء تعاونيات وتشاركيات، ونجاحهم الأهم الآن فى أمريكا اللاتينية من الدرجة الأولى وأوروبا إلى حد ما؟ وهذا المسار المقترح يسرى بهدوء من تحت الجلد دون ضجيج، ومن يقترحوه يعلمون أن الطريق للهدف النهائى ربما سيكون طويلا جدا، واللا سلطويون ليسوا ضد التنظيم كما يحاول ايهامنا خالد الصاوى بل أنهم مع ادارة ديمقراطية مرنة الحركة بحيث تعزل بحرية من لا يؤدون المطلوب منهم بكفاءة وتعين بدلا منهم بحرية أيضا، الأمر الذى يشير إليه باعتبار أن هذا هو ما ترفضه اللاسلطوية. والغريب أن خالد الصاوى يدعى أنه لا وجود لنمط إنتاج تعاونى قائم يحتاج لدعم وتقوية وتحرير واستقلال، والحقيقة هى أن هذا النمط الذى ظهر عالميا فى القرن التاسع عشر، و إن كان محدود للغاية فى بلد كمصر إلا أنه واسع الانتشار عالميا، ،أما عن الإدارة الذاتية للعمال للمصانع فهى وإن كانت نادرة جدا فى مصر حيث أننا لم نرصد سوى تجربة واحدة فى العاشر من رمضان، إلا أن الأرجنتين تشهد نموا ملحوظا لها منذ سنوات و ينخرط اللاسلطويون فى تطويرها ودعمها حتى لاتنحرف فى الطريق الرأسمالى والبيروقراطى؟ أما بخصوص التطور غير المتكافيء بين عمال النفط في السعودية واتحاد منتجي الدواجن الحر في ناميبيا مثلا؟ فما لا يعلمه خالد الصاوى أو يتجاهله أن الحركة التعاونية العالمية تقر بمجموعة من المبادىء من بينها التعاون بين التعاونيات أى أن العلاقة بين التعاونيات ليست علاقة تبادل تنافسية تستهدف الربح عبر التنافس والتبادل، وهى تتحد وتنسق فيما بينها من أسفل لأعلى على عكس المشاريع الرأسمالية، وهو فى هذا يحتاج لقراءة مقال التعاونيات كأداة للتحرر الذاتى ليفهم ما هو التعاون.أعتقد أن ماركس رصد بعلمية صارمة ما يحدث من حركة فى الواقع مصرحا بما يمكن أن يتطور إليه،ونحن نحاول أن نرصد بنفس العلمية ما يحدث فى الواقع وما يمكن أن يتطور إليه ، فإذا كانت التكنولوجيا الحديثة تميل للكثافة الشديدة، وتتفتت الطبقة العمالة بسببها وتتقلص كثافتها فى المنشئات، ويتقلص استقرارها فى العمل، فأنه تزدهر فى نفس الوقت صناعة المعرفة والمعلومات والخدمات والصناعات الخفيفة والصغيرة، و هى صناعات ليست كثيفة رأسالمال، و من ثم فإنه يمكن تنظيم العمال المفتتين فى تعاونيات متكاملة فى هذه الصناعات يمكن أن تمدهم بقوة مادية تساعدهم فى هزيمة الرأسمالية، وإذا كان الرأسمال التجارى يستحوز على جزء كبير متزايد من القيمة المضافة مسببا قوة لمجمل الطبقة الرأسمالية فى مواجهة الطبقة العاملة ، فإن تنظيم حركة تعاونية استهلاكية قوية كفيلة بأن تصيب هذا الرأسمال بالضعف.و فى الختام لا بد وأن نقر أنه برغم انسحاب الدولة لصالح رأسالمال فى مصر،فإن مصر ومنطقتنا الشرق أوسطية ما زالت أبعد ما يكون عمليا عن ما يتم طرحه، وهو ما يحتاج لمبادرة اليسار ، فما عادت هناك حتى فرصة لاستعادة دور الدولة البيروقراطية فى حماية العناصر الضعيفة اجتماعيا.و ما بقى لها إلا تحمى نفسها وتدافع عن مصالحها بالطريقة التعاونية.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية