الجمعة، 11 أبريل 2008

حوار القوى الأصولية أم المحتجة

حوار القوى الأصولية أم المحتجة
سامح سعيد عبود
مازلت أعتقد أن حوارا ما حول الديمقراطية ، أو أى مسألة أخرى بين التيارات الرئيسية الأربعة فى مصر ( الماركسية ، الليبرالية ، الإسلامية ، القومية ) فى طبعاتها الأصولية الأرثوذكسية ( مستقيمة الرأى ) هو من قبيل العبث أو إزجاء وقت الفراغ ، ويتفاقم الوضع بالطبع لو تم الحوار حول الديمقراطية ، فلا يمكن لتيار من هذه التيارات الأربعة أن يصبح تيارا ديمقراطيا إلا إذا خرج عن أصوله الفكرية الأصولية ، أو أصبح تيارا بروتستانتيا ( محتجا ) متحررا من هذه الأصول فى أحسن الأحوال .
فالحركات الماركسية فى طبعتها اللينينية و ما تفرع عنها من طبعات ، ووفقا لتمسكها بمبدأ التمثيل الوحيد سواء للطبقة العاملة أو للحقيقة العلمية الوحيدة . لا يمكن أن تملك التسامح الكافى تجاه التيارات الأخرى الجدير بحركة ديمقراطية . صحيح أن هذه الحركات تعترف نظريا بسعيها لتحقق مرحلة يتحرر فيها البشر من كافة أشكال القهر والاستغلال وتتحقق فيها الحرية والمساواة الكاملتين لكل البشر ، إلا أن هذا مشروط بمرحلة سابقة هى مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا .
والليبرالية الأصولية ترتبط ببنية اجتماعية اقتصادية محددة لا تعنى إلا بالحرية الشكلية والمساواة القانونية وهى وفقا لهذا الفهم لا تسعى إن لم تقاوم فعليا السعى لتحقيق درجة أعلى من الحرية والمساواة الحقيقتين وهى لا تفهم الحقوق الإنسانية إلا فى الإطار السياسى والمدنى دون الأطر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .
والناصرية أو أخواتها القومية شأنها شأن أى حركة سياسية تتحدث باسم هوية جماعية وتدعى التمثيل الوحيد لخصوصية جماعية ما ، هى القومية العربية فى هذه الحالة لابد وأن تتسم بالاستبداد ؛ حيث يتم قمع بعض طبقات المجتمع باسم ذات المجتمع فكل غير المنتمين للقومية أو رؤى الممثلين للقومية _ إن شئنا الدقة _ معرضون للاستبداد والإرهاب والقمع وانتقاص الحقوق . كما أننا لا يمكن أن نفهم الناصرية إلا انطلاقا من وثائقها الأساسية الناقدة للتعددية السياسية والداعية لحكم تحالف قوى الشعب العامل من خلال التنظيم السياسى الواحد ، وفى إطار الممارسة العملية فالناصرية وشبيهاتها ، لم تعرف الديمقراطية حيث صادرت الحريات السياسية والمدنية .
أما عن التيار الإسلامى حيث يتعاظم مبدأ التمثيل الوحيد للحقيقة المقدسة ، والذى تتعاظم خطورته لكونه مستندا إلى الدين بكل ما له من قداسة تمنع النقد والاختلاف الذى لا يمكن حسمه إلا بالعنف أو النفى للآخر الذى لا يعرف معنى للتسامح إلا فى أضيق الحدود بما لا يتناسب مع الديمقراطية كما ينبغى أن تكون . فالديمقراطية التى يتحدث عنها الإسلاميون مكبلة فى أحسن الأحوال بقواعد الشريعة الغراء وفق مبدأ الحاكمية فى أفضل تفسيراته ، ومن ثم فأن هذا التيار هو الأبعد عن الديمقراطية ، كما أن الحركة الإسلامية تستند لخصوصية جماعية متنافية مع فكرة الدولة القومية الحديثة المرتبطة بمجموعة من الخصائص التى لا تتفق مع تقسيم العالم لدار الإسلام ودار الحرب ، والتوحد بين المسلمون كجماعة دينية والشكل السياسى الذى ينضوون فيه الأمر الذى لابد أن ينتقص من حقوق الأقليات الموجودة فى دار الإسلام حيث لا يتم منحهم حقوق المواطنة الكاملة وهم فى أحسن الأحوال أهل ذمة أى مواطنين من الدرجة الثانية ، وهو وضع لا يتفق و الدولة الحديثة فى القانونين الدستورى والدولى .
ومن ثم فأنى أرى أن هذا الحوار القائم ليس قائما بين هذه التيارات الأصولية ، وإنما بين عناصر ومجموعات متمردة ومحتجة على الأصول الفكرية لتياراتها الأصلية . ولهذا أسبابه الذاتية المتعلقة بتلك العناصر والمجموعات . وأسبابا موضوعية تتعلق بما يتعرض معه العالم كله ومصر والعالم العربى بالضرورة من تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية أصبحت معه كل الأيديولوجيات القديمة فى طبعاتها الأصولية غير قادرة على الاستمرار والوجود والتأثير فى مجريات الواقع من خلال الجماعات السياسية التى تتبناها . ومن ثم كان التمرد والاحتجاج ومحاولة التكيف مع هذه التغيرات . وهو الأمر الذى يشى بإمكانية أن تتفتح طرقا جديدة لأيديولوجيات جديدة تتناسب مع تلك التغيرات مع استمرار حركة النقد والتمرد والاحتجاج إلى أن تتبلور عبر الزمن بعد أن تتحدد ملامحها من خلال الصراع مع الأصوليون داخل تيارها من جهة ، و مع التيارات الأخرى من جهة أخرى . وهو فى النهاية أمر يستوجب التحية .
فى هذا الإطار وحده يمكن أن أفهم الحوار القائم هذا إذا تمسكنا بحسن النية تجاه الأطراف المتحاورة ، ولم نعتمد التفسيرات المتشككة القائمة على أن لدى هذه التيارات فى أصولها الفكرية نزعات جوهرية معادية للديمقراطية ، وأن الديمقراطية لديها ليست سوى وسيلة للوصول للحكم ثم الانفراد به وسحق كل التيارات الأخرى . وأن الديمقراطية لدى هذه التيارات مجرد شعار تتجمع حوله قوى المعارضة الذى لاشك فى هزالها وضعفها لمواجهة الحكومة ليس بسبب القمع الحكومى بل لهشاشتها هى جوهريا.. فلنتمسك بدلا من ذلك بحسن النية والتفسير الظاهرى للحوار المدعوم برغبة المتحاورين فى الوصول لتفاهم حول آرائهم فى الديمقراطية .
وحتى على هذا المستوى المعقول فقد أثبتت الكثير من الأوراق الواردة فى العدد الأول من المجلة صحة المخاوف من لا ديمقراطية بعض هؤلاء الذين وصفناهم بالاحتجاج والتمرد على والنقد للأصول الفكرية لتياراتها الأصلية والمشتركين فى الحوار برغم ما قد حققوه من تقدم نحو درجة ما غير كافية من الديمقراطية . حيث لم يتحرروا بعد بالشكل الكافى من أسر المرجعيات القديمة والتعلق بالأيديولوجيات التى فقدت صلاحيتها .
فالاستخدام السياسى لفكرة الخصوصية الجماعية سواء أكانت دينية أم ثقافية أم قومية أم حضارية لا يعنى سوى انتهاك وانتقاص حقوق الآخرين فى الحرية والمساواة من غير المنتمين للخصوصية الجماعية .
فضلا عن أن التمسك بادعاء التمثيل الوحيد سواء للحقيقة العلمية أم للإيمان الديني أم لطبقة ما أم لأمة أو شعب بعينه أم حتى للعقل يعنى نفى وإرهاب وقمع المتمردين و المتشككين و الناقدين و المعارضين سواء لمدعى التمثيل الوحيد أو أحد المتنازعين على التمثيل الوحيد . ومن ثم فأن هذا النقد وذاك التحفظ يمسان كل القوى السياسية التى مازلت تتمسك بالاستناد لخصوصية جماعية ما ، أو مازلت تدعى كونها الممثلة الوحيدة لفكرة ما أو خصوصية جماعية ما .
ترتبط الديمقراطية كما أعرفها وبشكل جوهرى بإطار أوسع نوعيا من العلمانية كما تعرفها الدولة القومية الحديثة التى رسخت علمانية منقوصة تتناسب مع وظيفتها فى إطار التطور الرأسمالى فى مراحله الأولى . والتى أسست وجودها على خصوصية جماعية جديدة هى( القومية) بدلا من الخصوصية الدينية القديمة.. العلمانية المطلوبة الآن وهذا ليس بالتطرف أو المزايدة ، علمانية تتعامل مع البشر بصفتهم البشرية بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو القومية أو الثقافية أو الحضارية..علمانية تفصل تماما بين الإطار السياسى والإدارى للمجتمع و بين كل خصوصية جماعية ، وبالتالى تتيح المساواة والحرية الكاملتين لكل المواطنين فى الحقوق والواجبات .
وهذه العلمانية لا تعنى بالطبع الفصل بين المجتمع وأفراده والدولة وبين القيم الإنسانية العليا التى تشكل الضمير الجماعى للبشرية ، هذا الضمير المنفصل عن المعتقدات والأديان . هذا الضمير الناتج عن عملية التطور البشرى عبر التاريخ والذى لا يجسر إلا المعتوهين و العدميين فحسب على عدم وضعه فى الاعتبار حيث يشكل ضرورة لوجود المجتمع البشرى وتماسكه ، هذا الضمير سوف يستنكر الكذب والغش والرشوة والتزوير والعنف إلى آخر القيم الإنسانية المنحطة .
هذا هو الضمان الوحيد لتسامح القوى السياسية إزاء بعضها البعض لو وصلت إحداها إلى السلطة والضمان بأن تتيح للقوى المعارضة كامل الحرية فى الحركة السياسية السلمية ، وبالتالى إمكانية استمرار تداول السلطة مرهون بأن تهبط القوى السياسية من عالم التعبير والاستناد على الخصوصية الجماعية وفكرة التمثيل الوحيد ، إلى التعبير المباشر عن المصالح الاجتماعية المختلفة بعيدا عن الصخب الإنشائى ، وطرح الحلول العملية لمشكلات الواقع الاجتماعى بعيدا عن الشعارات الديماجوجية ، والرضوخ فى النهاية لحل الصراعات بينها سلميا بالوسائل الديمقراطية .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية