معالم اليسار اللاسلطوى الجديد
معالم اليسار اللاسلطوى الجديد
سامح سعيد عبود
هناك يسار سلطوى قديم مشكوك فى صحة نسبه لليسار، و هذا اليسار يعانى من سكرات الموت منذ زمن طويل، وقد فات الآن أوان التحدث عن أزمته ، أو البحث عن علاج لها، وما علينا سوى انتظار أن يلفظ أنفاسه لنودعه إلى قبره غير مأسوفا عليه، و هناك يسار لا سلطوى جديد ولد من قلب المأساة التى أفاقتنى من أوهامى التى غرقت فيها معظم سنوات العمر، و إلى هذا اليسار اللاسلطوى الجديد أنتمى معلنا انفصالى الحاد عن اليسار السلطوى القديم المحتضر الذى لوث معنى اليسار وقيمه بفكره السقيم وممارسته المريضة، والذى أعلن على نحو صارم عن عدم انتمائى له، وأننا لا يمكن أن نلتقى معا من بعيد أو قريب، فقد تفرقت بنا السبل إلى غير ما رجعة، و سوف أشرح ملامح اليسار اللاسلطوى الجديد لعل يتعرف عليه فى نفسه و فى غيره فنلتقى سويا لنناضل معا.أيديولوجية اليسار اللاسلطوى الجديد إنسانية تستند على تحقيق مصالح البروليتاريا باعتبارها طبقة عالمية، فى مواجهة البرجوازية باعتبارها أيضا طبقة عالمية، وهى أيديولوجية أممية و علمانية جذريا بطبيعتها و لا علاقة لها بالخصوصية أو الهوية الجماعية القائمة على القومية واللغة والثقافة والدين والطائفة والجنس والعرق واللون، و لا علاقة لها بعقليات القطيع القبلية والعنصرية السائدة فى أوساط اليسار السلطوى القديم، فالثورية الحقيقية لا تكمن إطلاقا فى تذيل تخلف الغالبية وجهلها وعنصريتها، بل إجلاء الطابع الإنسانى والتقدمى الكامن فيها، بطرحه بقوة وإصرار كبديل يحقق مصالحها الحقيقية لا ما توهمها به البرجوازية من مصالح. فالبديل الوحيد المقبول هو الطرح الثورى لأممية إنسانية جديدة كمفهوم مناقض للهيمنة الرأسمالية العالمية، والذى يستوعب كل البشر بصفتهم البشرية وفقط فى حضارة عالمية جديدة أكثر عقلانية وحرية وعدالة اجتماعية وكفاءة اقتصادية، والتى تكفل لهم كل الحقوق و الحريات الإنسانية باعتبارهم بشر بصرف النظر عن كل ما يميز بعضهم عن غيرهم من البشر. فقد آن الأوان أن يدفن البشر الدولة الوطنية والقومية والدينية كما دفنوا فيما مضى وكشرط لبنائهم حضارات أكثر تقدما العشائرية والقبلية والطائفية والإقليمية.يهدف اليسار اللاسلطوى الجديد إلى تحقيق الحد الأقصى الممكن من حرية الفرد من حيث كونه فرد دون أى قيد عليه سوى حقوق وحريات الأفراد الآخرين، والمقصود بالحرية هو تحرر الفرد من كل أشكال السلطة المنفصلة عن إرادته الطوعية الحرة من أى قيد، وتحرره من أى سلطة متعالية عليه تحت عناوين الهويات الجماعية المختلفة، وهذا يعنى النضال من أجل أن ينتظم المجتمع وجماعاته المختلفة على أساس تلبية المصالح المشتركة للأفراد، وعلى أساس اختيارهم الطوعى الحر، بعيدا عن الهويات أو السلطات الوطنية والقومية والدينية والعنصرية وغيرها، ليصبح انتماء الفرد لتلك الهويات وممارسته لما تمليه عليه من سلوكيات خاضع لاختياره الحر، وأن يتحمل مسئولية ممارسته لها فقط لو تعدت على حقوق وحريات الآخرين، وأن يكون الانتماء لتلك الهويات محض سلوك و نشاط شخصى وبين المنتمين لتلك الهوية لا علاقة له بالمجتمع وجماعاته المختلفة، و من هنا فاليسار اللاسلطوى الجديد يعادى أى حركة ترفع رايات القومية والوطنية والدينية والعنصرية حتى و لو رفعت شعارات يسارية، و يرفض اليسار اللاسلطوى الجديد الانخراط فى الصراعات القائمة على أساس الهوية الجماعية الوطنية والقومية والدينية والعنصرية وغيرها، ومن ثم يدين كل أشكال العنف على أساس الهوية الجماعية الوطنية والقومية والدينية والعنصرية. و لا ينخرط اليسار اللاسلطوى الجديد إلا بالصراعات الاجتماعية المختلفة، وفى اللب منها الصراع الطبقى للقضاء على العلاقات الاجتماعية المختلفة ذات الطبيعة التسلطية و اللامساواتية والظالمة، و استبدالها بعلاقات تحررية ومساواتية وعادلة، وهو فى هذا ينحاز لكل الذين يتم استغلالهم وقهرهم واضطهادهم فى العلاقات الاجتماعية المختلفة من أجل تحررهم من القهر والاستغلال و الاضطهاد. و من هنا فالمقصود بالحرية بالضرورة النضال من أجل تحرير الفرد من عبودية العمل المأجور سواء للدولة أو رأسالمال، و هو ما لا يتحقق إلا فى نمط الإنتاج التعاونى ونمط الإنتاج الفردى، وإدارة العاملين الذاتية لوحدات العمل لصالحهم، وهذا يعنى العداء الجذرى للرأسمالية ولكل أشكال العمل الجبرى والمجانى، و العداء بدرجة أكثر شراسة لاشتراكيات أو رأسماليات الدولة المختلفة التى تنتسب لليسار السلطوى القديم، ومن هنا لا يدافع اليسار اللاسلطوى الجديد عن القطاع العام، بل يناضل من أجل إدارة العاملين الذاتية لوحداته. ويناضل من أجل حصر دور الدولة فى المهام السيادية (الأمن والدفاع والخارجية والعدل والمالية العامة) فقط ، وهو من هنا يرفض الدولة التدخلية القوية، ويناضل من أجل إضعافها، و تقليص صلاحياتها لأقصى حد ممكن.يناضل اليسار اللاسلطوى الجديد من أجل المساواة الفعلية بين هؤلاء الأفراد فى تمتعهم بالحرية الفعلية، وتحملهم للمسئولية الاجتماعية لاختياراتهم وسلوكياتهم، الأمر الذى لا يتحقق إلا بسيطرتهم الجماعية على قدم المساواة فى الدولة والمجتمع والجماعات التى يمارسون عبرها أنشطتهم على كل مصادر السلطة المادية المشتركة من ثروة وعنف ومعرفة، وبالطبع فإن مساواتهم تعنى مساواتهم فى فرص استثمار كفاءاتهم وقدراتهم الإنسانية لاثبات ذواتهم الفردية دون قيد عليهم من ثروة، أو نفوذ ، أو مرتبة اجتماعية، أو منصب، أو أصل اجتماعى، أو نوع أو عقيدة أو ثقافة أو قومية أو مذهب أو عنصر، تلك المساواة التى تعترف بتفاوت كفاءات و قدرات البشر لا مساواتهم فى كل ظروف الحياة، التى تساوى بينهم رغم هذا التفاوت، وليس المقصود بالمساواة تلك المساواة التى وصفها جورج أوريل بأن كل الحيوانات متساوين إلا أن بعضهم أكثر مساواة من الآخرين، ساخرا من أمتيازات أعضاء الحزب الشيوعى السوفيتى والبيروقراطية السوفيتية واستبدادهم بالشعب السوفيتى واهدارهم المأساوى لثرواته الهائلة التى صنعها على مدى سبعين عاما بجهود أسطورية ليسلموها فى النهاية إلى اللصوص، ومن هنا يرفض اليسار اللاسلطوى الجديد النوازع السلطوية والنخبوية والتمييزية و التمثيلية لليسار السلطوى القديم والتى أسوءها عبادة الفرد وتقديس النصوص والأشخاص، وامتيازات الحزب الطليعى وقياداته التى وصلت إلى حد توريث الحكم والقيادة فى سخرية مريرة لا حد لها للقدر من أحزاب ترفع كذبا رايات الحرية والمساواة.ويناضل اليسار اللاسلطوى من أجل العلاقات الاجتماعية الأكثر تحقيقا لدرجة أعلى من التقدم الاجتماعى، سواء على مستوى العلاقات الاقتصادية حيث ينحاز لخيارات التعاونيات والتشاركيات والإدارة الذاتية للعاملين لوحدات العمل.وعلى مستوى البنية السياسية للمجتمع ينحاز للديمقراطية المباشرة كلما أمكن، وآليات ديمقراطية المشاركة شبه المباشرة كسلطة أعلى من مؤسسات الديمقراطية التمثيلية، ومع الفصل الكامل بين السلطات العامة، والحد الأقصى الممكن من اللامركزية الإدارية و الفيدرالية داخل الدولة، و يناضل اليسار اللاسلطوى من أجل مجتمع مدنى قوى و ديمقراطى و طوعى و حر و مستقل تماما عن السلطات العامة و يحل محلها فى أنشطتها غير السيادية المختلفة ليغطى هو و التعاونيات والتشاركيات كل أنشطة المجتمع غير السيادية التى يناضل من أجل أن تسحب من السلطات الاجتماعية العامة للدولة التى يناضل من أجل أن تكون منفصلة تماما ومستقلة تماما عن كل ما يفرق بين مواطنيها الذين تمثلهم مثل الدين أو الطائفة أو القومية أو العنصر أو الثقافة أو اللون أو الجنس أو العرق أو النوع أو اللغة الأم أو الأصل الاجتماعى. يعتقد اليسار اللاسلطوى أن تحقيق برنامجه و رؤيته لن يتم إلا تدريجيا دون انتظار ثورة سياسية تعيد إنتاج الاستبداد والاستغلال والطبقية مجددا كما يرى اليسار الثورى، ودون تقوية الدولة القائمة وزيادة قدرتها التدخلية وقوة جهازها البيروقراطى كما يرى اليسار الإصلاحى، وإنما يرى أن التغيير الاجتماعى يتم مثلما ظل يتحقق فعليا فى التاريخ الإنسانى، ليس انطلاقا من هندسة اجتماعية أو نماذج خيالية يتم فرضها على المجتمع مما يستدعى الاستبداد بالضرورة، و إنما إنطلاقا مما يمكن أن يحدث من تطورات فى البنية التحتية الاقتصادية الاجتماعية نفسها، و هو من هنا يعتمد على دعم وتقوية، ومن ثم تحقيق انتصار ما هو موجود بالفعل من علاقات اجتماعية هامشية تتميز بالعدالة والمساواة والتحرر على ما هو موجود بالفعل من علاقات اجتماعية سائدة تتميز بالظلم واللامساواة والقهر، و نموذجه الأهم فى هذه الحالة التعاونيات اللاسلطوية والتشاركيات القائمة بالفعل أو التى يمكن إقامتها ودعمها والتى ليست ناتجة عن هندسة اجتماعية ما بل ناتجة عن تلبية احتياجات بشرية واقعية، ومن هنا يركز اليسار اللاسلطوى فى نضاله اليومى على بناء مجتمع المستقبل من قلب وهامش المجتمع القديم من أجل هزيمة كل من الرأسمالية و البيروقراطية على السواء من جذورهما الاقتصادية الاجتماعية، فى معركة يعرف أنها طويلة تبدأ ببناء علاقات مجتمع المستقبل هامشيا مما هو موجود بالفعل من علاقات فى المجتمع، و تنتهى بالانتصار عندما تصبح تلك العلاقات هى السائدة فى المجتمع، ولتتحول الرأسمالية والبيروقراطية لعلاقات هامشية ليمكن عندئذ إزاحتهما بسهولة. يناضل اليسار اللاسلطوى ليس من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية بأى شكل بقدر ما يركز على تحقيق رؤيته للبنية السياسية للدولة السابق ذكرها مستندا على الضغط السلمىاستنادا قواعد اجتماعية من تعاونيات ونقابات و مؤسسات مجتمع مدنى وجماعات ضغط لأصحاب المصلحة فى تلك التعديلات من أجل إحداث تلك التعديلات، ليس لنخب سياسية معزولة كما تفعل النخب السياسية فى بلادنا، واضعا فى الاعتبار أن استقلال وحرية كل مؤسسات المجتمع المدنى و فى القلب منها التعاونيات والنقابات و تقويتها فى مواجهة الدولة و رأسالمال هو الخطوة الأهم من أجل دعمه فى معركته الرئيسية على مستوى البنية الاقتصادية الاجتماعية.يتميز اليسار السلطوى القديم بأنه ظاهرة صوتية كلامية تناضل فقط على مستوى البنية الفوقية التى نعرف جميعا أنها نتاج لتطور البنية التحية الاقتصادية الاجتماعية والتى لاتغير فى حد ذاتها تلك البنية، ومن هنا مثاليته وخياليته المفرطة، ومن هنا أيضا غوغائيته التى قد تنجحه أحيانا فى الاستيلاء على السلطة ليشرب كأس الفشل ، ومن هنا كذلك جموده العقائدى الذى يعزله عن فهم الواقع، والثابت أن اليسار القديم السلطوى لا يجيد إلا الخروج فى المظاهرات وإقامة الندوات و المؤتمرات وإصدار البيانات و تدبيج المقالات وتدبير المؤامرات، أو الانخراط المهووس بالمناقشات البيزنطية التى لا تنتهى للأنه ليس مهموما سوى بالكلام..إلا أن اليسار اللاسلطوى الجديد يتميز بتركيز نضاله على تغيير البنية التحتية الاقتصادية الاجتماعية ومن هنا ماديته وواقعيته وعمليته، و هو لا يستند على الغوغائية لأنه لا يستهدف الركوب على أكتاف جهل وعاطفية الجماهير ليصل إلى السلطة ،وإنما يستند على مساعدتها فى أن تحرر نفسها ذاتيا إنطلاقا من تلبية مصالحها المباشرة وغير المباشرة، ومن هنا تأتى مرونة اليسار اللاسلطوى وانغماسه فى الواقع الاجتماعى وفهمه، وتغييره إنطلاقا من فهمه، لا من النظريات المجردة والمسبقة. فالمساعدة فى تحرير أعداد و لو محدودة من البشر ذاتيا من القهر والاستغلال طالما كان تحريرهم جميعا بالضربة القاضية الفنية مستحيلا، أفضل و أجدى من عشرات المظاهرات وحفلات الصراخ والهتاف التى لا تنتهى و لا تؤدى إلى شىء مالم تكن مستندة على قواعد اجتماعية صاحبة مصلحة حقيقية لا مجرد نخب معزولة عن أى قواعد اجتماعية.بناء على تطبيق المعايير سالفة الذكر، فسيتضح لدينا أن ما كنا نظنه يسارا ما هو فى حقيقته إلا يمين مغلف برطانة يسارية، و العكس صحيح فما كنا نظنه يمينا قد يكون أقرب لليسارية .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية