الفاشية تهدد العالم بالبربرية
الفاشية تهدد العالم بالبربرية
سامح سعيد عبود
فى فترات الأزمات الاجتماعية يزداد الاستقطاب السياسى فى المجتمع، نحو أقصى قطبى الخريطة السياسية اليسار و اليمين فى حين تضعف تيارات الوسط ، و على العكس ففى لحظات الاستقرار تقوى تيارات الوسط على حساب القطبين اليسارى و اليمينى ، وكلما استفحلت الأزمة و اشتدت ، ازدادت قوة كلا من اليسار الراديكالى و اليمين المتطرف ، و تقلص أنصار الوسط بتحول معظمهم إما نحو اليسار أو نحو اليمين ، وهذا ما يمكن أن نلاحظه بوضوح فى لحظتنا التاريخية الراهنة ،التى هى لحظة تنبئ بتحولات تاريخية كبرى ، ناتجة عن أزمة عامة لنمط الإنتاج الرأسمالى بأشكاله المختلفة ، فما نلاحظه من تطورات حادة فى قوى الإنتاج ينبئ بتغيرات جذرية فى علاقات الإنتاج . اشتداد الأزمة قد يؤدى فى المستقبل القريب لزيادة حدة الاستقطاب السياسى إلى حد الانقسام الاجتماعى الحاد بين معسكرين أساسيين متميزين بوضوح اليسار الراديكالى و اليمين الفاشى ، و سيحسم الصراع بينهما فى النهاية قدرة أى طرف منهما على جذب المتمسكين بخيار الوسط إلى معسكره .
يمكن أن نرسم خريطة عامة للقوى السياسية فى عالمنا المعاصر من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ، برغم أن عيب هذه الخريطة أنها ستعانى فى حالة مقال صغير كهذا المقال ، مشكلة كل تبسيط من حيث إخلاله بالتفاصيل ، كما أنها ستعانى الانقياد للاتفاق العام حتى ولو كان هذا الاتفاق العام تنقصه الدقة ، فالحقيقة أن هناك تداخلات وعلاقات معقدة بين قوى الخريطة السياسية ، و تقاطعات بين تلك القوى ، تعبر عن تغيرات موضوعية قد حدثت فى الثلاث عقود الأخيرة فى شكل النظام الرأسمالى السائد عالميا ، أحدثت تغييرات فى مواقع القوى السياسية فى تلك الخريطة ، فمثلا إذا كان البعض يعتبر الستالينيين و الماويين ومن لف لفهم يسارا تقليديا ، فأن تحليلا أكثر دقة يضعهم فى معسكر اليمين ، و إذا كان البعض مازال يضع الحركات القومية أو الدينية المعادية للإمبريالية فى العالم الثالث باعتبارها حركات تحرر وطنى فى معسكر اليسار والتقدم ، إلا أن تحليلات أخرى لخطابهم السياسى و ممارستهم السياسية تضعهم فى معسكر اليمين الفاشى ، ذلك لأن مفهوم اليسار و اليمين الذى نرسم على أساسه الخريطة السياسية مفهوم نسبى و متغير عبر الزمن . فضلا على أن القوى السياسية قد تعتمد فى برامجها السياسية على خلطات من أهداف يمينية و يسارية فى نفس الوقت فتجدها فى مواقف معينة أقرب لليسار فى حين تجدها فى مواقف أخرى أقرب لليمين ، كما أن الكثير من القوى تحمل أصول فكرية قد تضعها فى قطب أقصى اليسار فى حين أن برامجها العملية وممارستها السياسية تضعها فى أقصى الجانب الآخر من الخريطة .
فإذا اتفقنا على أن المعيار الذى نحدد على أساسه ، مدى اقتراب قوى سياسية معينة من اليسار هو مدى اقتراب خطابها السياسى من تحقيق الحد الأقصى لمفاهيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية ، وإذا اتفقنا على أن المعيار الذى نحدد على أساسه مدى اقتراب قوى سياسية معينة من اليمين هو مدى اقتراب خطابها السياسى من ترسيخ وتعميق علاقات القهر و اللامساواة و الظلم الاجتماعي ، فسيتضح لدينا أن ما كنا نظنه يسارا ما هو فى حقيقته إلا يمين مغلف برطانة يسارية ، و العكس صحيح فما كنا نظنه يمينا قد يكون أقرب لليسارية .
ويعيب هذا المعيار من وجهة نظر البعض أنه معيار مثالى ، فالمعيار الصحيح لو أخذنا بحرفية التفسير المادى للتاريخ ، هو مدى تعبير القوى السياسية عن متطلبات التقدم الاجتماعي ، و فى اللب منه التقدم الاقتصادى ، فإذا عبرت عن متطلبات التقدم فهى تقترب من اليسار ، وإذا حافظت على التخلف أو نشدته فهى تقترب من اليمين.
وفى الحقيقة أن الفصل بين عناصر التقدم الاجتماعى ما بين مادية أى علاقات الإنتاج و مثالية أى النظام السياسى والقانونى والأخلاقى والسلوكى والإبداعى والعقائدى ، هو فصل متعسف ينسف جوهر التفسير المادى نفسه ، الذى يعتبر أن البنية التحتية وهى علاقات الإنتاج تحدد عناصر البنية الفوقية ، أى النظام السياسى و الأخلاقى و القانونى والسلوكى والإبداعى والعقائدى ، فلا يعقل أن توجد علاقات إنتاج متقدمة تؤسس بنية فوقية متخلفة والعكس صحيح .
ولإيضاح ذلك فأننا نعلم أن إنتاجية العبيد الذين هم الأكثر خضوعا للظلم الاجتماعى ، والأقل تمتعا بالحرية والمساواة ، هى الأقل إنتاجية من إنتاجية العمال المأجورين المتمتعين بحرية ومساواة أكثر نسبيا من العبيد ، و لاشك أن العمال المأجورين لدى الرأسماليين التقليدين أكثر تمتعا بالحرية والمساواة و من ثم الأكثر إنتاجية من العمال المأجورين لدى الدولة فى ظل أشكال رأسمالية الدولة المختلفة ، و لاشك أن نظاما تعاونيا بين المنتجين الأحرار سيكون أكثر تقدما على مستوى علاقات الإنتاج و وسائله ومن ثم أكثر إنتاجية ، وفى نفس الوقت أكثر تحقيقا للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية من أى أنظمة أخرى بما فيها النظام الرأسمالى ، فمما لاشك فيه أن المنتجين الأحرار المتعاونين فيما بينهم سيكونون أكثر إنتاجية من العمال المأجورين سواء لدى الدولة أو رأسالمال و أكثر تمتعا بالحرية والمساواة فى نفس الوقت .
وبناء على ما سبق لابد وأن نعيد النظر فى تصنيف القوى السياسية ما بين قطبى اليسار واليمين ،حسب رؤية تلك القوى لعلاقات الإنتاج التى تهدف إليها ، و النظم السياسية والقانونية والأخلاقية التى تستهدفها ، و مدى تلائمها مع متطلبات التقدم الاقتصادى ، وفى اللب من ذلك مدى إجابتها على الأزمة الحالية للرأسمالية ، بصرف النظر عن الرطانة الفارغة التى ترددها فى إطار الدعاية لنفسها ، والقاعدة الاجتماعية الحقيقية لأفكارها ، لا ما قد تزعمه هى كقاعدة اجتماعية لها ، و بصرف النظر عما تدعيه عن نفسها بادئين من اليسار إلى اليمين على النحو التالى :
اللاسلطويون أقصى اليسار الراديكالى الأممى الذى يجيب على الأزمة الرأسمالية بضرورة الثورة الاجتماعية العمالية العالمية ضد كل من الرأسمالية والدولة ، لبناء مجتمع شيوعى لا سلطوى عالمى فورا ، وهم يرفضون التفسير السلطوى للماركسية ومجمل التراث اللينينى فى الفكر و الممارسة السياسية ، بما فى ذلك أفكار المركزية الديمقراطية ، وطليعية الحزب الثورى وتمثيله للطبقة العاملة ،والدولة الاشتراكية كمرحلة انتقالية نحو المجتمع الشيوعى ، و الإرادية فى الممارسة السياسية ، و استبدال الجماهير بالحزب والطليعة ، وهم يرفضون الدولة كمؤسسة لممارسة السلطة المنفصلة عن الجماهير ، و يرفضون مركزية التنظيم الاجتماعى ، ومن ثم يسعون لمجتمع قائم على أساس وحدات اجتماعية منظمة على أساس التعاون الطوعى و الديمقراطية المباشرة ، تتحد فيما بينها مع احتفاظها بحق الانفصال ، من أسفل لأعلى على أساس مجالس للمندوبين عن الوحدات و الاتحادات الأدنى ، كما يرفضون تأسيس هذا المجتمع على أساس أى هوية جماعية ، دينا كانت أم قومية أم عنصر ، ومن ثم يعادون أى حركة سياسية قائمة على أساس القومية أو الدين أو العنصر ، وهم على وجه العموم يمرون بمرحلة صعود قوية فى كل البلاد الرأسمالية المتقدمة منذ سنوات قليلة، تتجلى فى وجودهم الفعال فى حركة معارضة العولمة ، و هم هامشيين و معزولين فى معظم بلاد العالم حتى الآن ، و يعيبهم غياب التنظيم الفعال لقواهم.
التروتسكيون ما يطلق عليهم اليسار الراديكالى الأممى الذى يجيب على الأزمة الرأسمالية العالمية بضرورة الثورة السياسية العالمية العمالية ضد الرأسمالية لبناء دولة ديكتاتورية البروليتاريا العالمية كمرحلة انتقالية للمجتمع الشيوعى ، الذى هو الهدف النهائى المشترك لكل من الماركسيين و اللاسلطويين ، وهم طالما لم يتخلصوا من التأثيرات اللينينية السلطوية فى الماركسية ، و سائر التفسيرات السلطوية للماركسية عموما، فأن يساريتهم الراديكالية المزعومة ستظل مشكوكا فيها ، فبرغم نقد التروتسكيين للستالينية و الماوية فهم لم يمدوا نقدهم لجذور الاستبداد و اللامساواة فى اللينينية ذاتها وما تفرع منها من مدارس و تيارات ، وبرغم أمميتهم المعلنة فهم لم يتورعوا عن الممارسة والتفكير من منطلقات قومية و وطنية فى كثير من المواقف و التحليلات وخصوصا من بشروا منهم بالعالم ثالثية وغيرهم . ويلاحظ مرور هذا التيار بلحظة مد و تصاعد قوى فى معظم البلاد الرأسمالية المتقدمة ، والذى تجلى فى الانتخابات الفرنسية الأخيرة و وجوده الفعال فى حركة معارضة العولمة إلا أنه مازال هامشي ومعزول إلى حد كبير فى معظم بلاد العالم .
الشيوعيون الستالينيون و الماويون و أمثالهم ، وهم ما يطلق عليهم اليسار التقليدى و هؤلاء هم اليسار الزائف طالما تمسكوا بالتسلطية و البيروقراطية و القومية وسائر العناصر الاستبدادية العالقة بالماركسية ، فباعتبارهم ماركسيين كما يدعون ، فهم يتفقون نظريا على الهدف الاستراتيجى النهائى لكل الشيوعيين بالطبع ، إلا أنهم على مستوى الممارسة يعرقلون الوصول لهذا الهدف بشتى الوسائل ، فما يطرحوه من برامج سياسية و أساليب للعمل ، يضعهم فى الحقيقة قريبا جدا من معسكر أقصى اليمين لا اليسار وفق المعايير سالفة الذكر من حيث تعبيرهم الفعلى عن مصالح بيروقراطية رأسمالية الدولة ، و ليس تعبيرهم النظرى عن الطبقة العاملة ، بصرف النظر عن رطانتهم الماركسية و الثورية ، فهم يسعون لتقوية الدولة وبيروقراطيتها بدلا من اضعافهما أو إزالتهما ، ولا يسعون لتحرير الطبقة العاملة من عبودية العمل المأجور بقدر ما يسعون لترسيخها بتحويل العمال لعبيد مأجورين للدولة لصالح البيروقراطية ، وهم فى العالم الثالث مجرد يسار الحركات القومية ، والحلفاء الحميمين للتيارات القومية ، بل وحتى الإسلامية أحيانا فى الشرق الأوسط ، والمتفقين معهم فى رؤاهم و ممارساتهم الفاشية .
وأحزاب و أنصار هذا المعسكر فى انحسار متزايد منذ سقوط الكتلة الاشتراكية ، فهو معسكر و إن كان مازال قويا فى كثير من بلاد العالم إلا أنه فى نفس الوقت يتقلص بعنف ، إما لصالح اليسار الراديكالى أو الإصلاحى أو التيارات الفاشية القومية أو الدينية ، ويقل أنصاره و أعضائه فى أوساط الأجيال الشابة بعد أن تكشفت عوراته الفكرية وجرائمه فى الممارسة السياسية سواء وقت أن كان فى الحكم أو فى المعارضة ، مما قد يهدده بالاختفاء بعد سنوات قليلة ، إلا أن السبب الأكثر أهمية من ذلك هو اختفاء الأساس المادى للصعود المدوى لهذا اليسار الزائف طوال القرن العشرين ، وهو الاحتياج الملح فى البلدان الرأسمالية المتخلفة لتجاوز أزمات النمو عبر رأسمالية الدولة القومية الاستبدادية والشمولية أيما كانت اللافتة التى تحملها تلك الدول ماركسية أو قومية أو وطنية .
الإصلاحيون هذا هو معسكر الوسط الذى يضم الاشتراكيين الديمقراطيين أو يسار الوسط والديمقراطيين الاشتراكيين أو يمين الوسط ، وهو المعسكر المنحاز نظريا للحريات والحقوق الإنسانية السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعبر عن مصالح الطبقة الوسطى، و المستند عمليا إلى السياسات الكينزية فى ضرورة زيادة الإنفاق الاجتماعى العام عبر توسيع القطاع العام (رأسمالية الدولة ) و تدخل الدولة لصالح تحسين شروط الحياة والعمل للطبقة العاملة والطبقة الوسطى ، ومن ثم فهم أنصار تقوية دور الدولة و بيروقراطيتها و تدخلها المباشر فى الإنتاج والخدمات ، و قد شهد هذا المعسكر ذروة تألقه فى فترة ربع القرن المجيد التالى للحرب العالمية الثانية فى غرب أوروبا ،إلا أنه مع بزوغ فجر الرأسمالية الكوكبية و ديكتاتورية أسواق المال ،مالت سياساته وبرامجه نحو اليمين الليبرالى ،وفقد تميزه عن الأحزاب الليبرالية ، ذلك لأن الوسط عموما مأزوم بسبب الأزمة الحالية للرأسمالية، وتعجز برامجه عن حلها على المستوى القومى فى ظل كوكبية الإنتاج و التوزيع و التبادل ، إلا أن هذه البرامج قد تكون ممكنة التحقق على مستوى عالمى فى ظل دولة عالمية وذلك نظريا على الأقل ، ومن ثم ينحصر أنصار الوسط الإصلاحى لصالح اليمين الليبرالى أو اليسار الراديكالى على جانبى الخريطة السياسية عمليا حتى و لو ظلت لافتاتهم المعلنة تحمل عناوين الاشتراكية الديمقراطية ،و لا ينبغى أن يغيب عن أذهاننا أن هذا التيار الذى يحلو لنفسه أن ينتسب لليسار قد أنحاز عمليا لمعسكر اليمين فى السياسة الدولية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن ، و دافع عن السياسات القومية والاستعمارية لرأسماليات فرنسا و بريطانيا العظمى ، و متحالف ومتواطأ مع الحركة الصهيونية و إسرائيل ، و يكفى أن الدولية الاشتراكية التى تنظمه عالميا تضم حزب العمل الإسرائيلى رائد الاستعمار الاستيطانى فى فلسطين ، و الحزب الوطنى الديمقراطى المصرى لنعرف أى نوع من اليسار هذا الذى يدعون .
الليبراليون هو معسكر الرأسمالية التنافسية فى حالتها النظرية النقية من حيث كفالة الحقوق والحريات الإنسانية السياسية والمدنية ، هم دعاة انحسار دور الدولة فى حدود مهامها السيادية التقليدية وهى الدفاع والأمن والعدل والتمثيل الخارجى والمالية ، و من ثم إطلاق الحرية لرأسالمال فى العمل و التنافس الحر ، ومن ثم فهم يعادون الشكلين الاحتكارى و الدولتى فى الرأسمالية باعتبارهما متناقضان مع حرية المنافسة ، فالليبرالية هى التيار المعبر عن الرأسمالية التنافسية فى حالات الاستقرار و من ثم العاجز تماما عن حل أزماتها الدورية والعامة ، وهو يحافظ على قوته وجاذبيته السياسية حتى الآن ، لأن الفاشيون والمحافظون فحسب لم ينجحوا فى جذب أنصاره إلى معسكرهم ، ولأن البديل الفاشى والمحافظ لا يتفق ومصالح الرأسماليين الذين يعبرون عنهم ، وهم حين يتطلعون يسارا نحو الوسط الإصلاحى ، فأنهم يجدوه مأزوما مثلهم و قد رفع شعاراتهم نفسها. إلا أن هذا لن يستمر طويلا فمع ازدياد معدلات التهميش والبطالة ، ستزداد معدلات الجريمة والافتقاد للأمن ،فضلا على تصاعد قوى اليسار الراديكالى والتحركات العمالية وحركات الاحتجاج المختلفة ،ومن هنا سيحدث تحول لأنصار هذا التيار نحو المحافظية و الفاشية.
المحافظون هم أقصى اليمين التقليدى ، الأقل تمسكا بالحريات والحقوق الإنسانية السياسية والمدنية و المعادي للحقوق والحريات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للطبقتين العاملة و الوسطى ،هم المعبرون عن مصالح الرأسماليين الكبار ضد كل منافسيهم بما فيهم الرأسماليين الأقل قوة ، و المدافعين عن مصالح الرأسمالية الاحتكارية ، والشركات المتعدية الجنسية ، هو معسكر الرأسمالية الكوكبية المتوحشة المتزايدة النمو والقوة عبر العالم .
الفاشيون هو تيار يمكن أن يتسع أو يضيق وفق تعريفنا للفاشية ؟ من حيث هى قطب أقصى اليمين ،الذى يهدد العالم بالبربرية ، والذى لوحظ فى الفترة الأخيرة تزايد قوته ونفوذه . فالبعض يقصر تعريفه للفاشية على أساس التجربة التاريخية السابقة للحرب العالمية الثانية فى الدول الرأسمالية الكبيرة على أساس تعبير الفاشية عن الميول الاستعمارية و العنصرية والاستبدادية للرأسمالية الكبرى فى هذه البلاد ، و هو تعريف يعفى الكثير من التيارات والحركات السياسية والأنظمة الحاكمة فى العالم الثالث من هذه الوصمة ، و يعطى الفرصة للبعض من من ينتمون زورا لليسار للتعاطف والتحالف معها على أساس معاداتها للاستعمار فى بلدان العالم الثالث ، مثلما تكرر ذلك كثيرا فى العالم العربى بالنسبة لليسار التقليدى الزائف مع البعثيين والناصريين و أشباههم و حتى التيارات الإسلامية الدينية أحيانا لمجرد عدائها للأنظمة القائمة و الامبريالية .
الفاشية معسكر يضم العديد من الحركات والأحزاب المتنوعة من حيث برامجها وشعاراتها ورؤاها للعالم ، فنجدها متصارعة أحيانا و متحالفة أحيانا أخرى ، بينها من عناصر الاختلاف والاتفاق الشىء الكثير ، و ما يجمع بين كل هذه الحركات المتناقضة والمتشابهة والمتقاتلة أحيانا والمتحالفة أحيانا أخرى ، ويميزها ويجمعها فى معسكر واحد ، هى أنها تهدف برغم كل الاختلافات و التناقضات الظاهرية فيما بينها إلى اشتراكها فى جوهر واحد هو إخماد الصراع الطبقى داخل المجتمع الرأسمالى، وذلك من خلال ترويض الطبقة العاملة ، و إفقادها أسلحتها النضالية فى مواجهة الرأسمالية ، و لكى ترضى بعبوديتها المأجورة للأبد سواء لصالح رأسالمال أو بيروقراطية الدولة . ويتم ذلك بالوسائل التالية :
الإرهاب الفكرى المتضمن التخوين الوطنى و القومى أو التكفير الدينى لكل المعارضين لها.
الديكتاتورية و القهر و العنف البدنى لقمع الحركات العمالية واليسارية والليبرالية والإصلاحية.
غسيل عقول المواطنين بالأساطير السياسية وغير السياسية و الدعاية الديماجوجية و الغوغائية ،و اشعال العواطف الدينية أو القومية أو العنصرية و محاربة و اخماد الوعى الطبقى .
استرضاء العمال والمهمشين والطبقة الوسطى بمنح أفرادها بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشكلية من خلال جهاز الدولة البيروقراطى .
حرمان العمال والمهنيين من حرية العمل النقابى والسياسى المنفصل والمستقل عن الدولة و رأسالمال ، وذلك كى تكف الطبقة العاملة عن نضالها الاقتصادى والسياسى ضد الرأسمالية و الدولة . تمجيد وتقديس الدولة المجسدة لأساطيرها الدعائية و تقويتها فى مواجهة كل مؤسسات المجتمع المدنى وكل الحريات والحقوق الإنسانية سواء الفردية منها أو الجماعية .
تمجيد هوية جماعية ما والإدعاء بتمثيلها أو تجسيدها ،سواء أكانت قومية أو دين أو عنصر أو طائفة أو عرق أو ثقافة ، و إعلاءها مقاما وحقوقا على غيرها من الهويات الجماعية الأخرى بهدف طمس الصراع الطبقى داخل الهوية الجماعية التى يعلنون تمثيلها وتجسيدها ، و نفي الصراع الطبقى فى الهويات الجماعية الأخرى.
اعتماد صراع الهويات الجماعية ، الأديان والقوميات والأعراق والثقافات والحضارات كأساس أيديولوجى لها.
تمجيد وتقديس الزعامة والقيادة والسلطة التى تجسد الهوية الجماعية ، وترسيخ فكرة عصمتها من الخطأ ، و طاعتها العمياء ، و إطفاء صفات القداسة و العبقرية عليها ،وتكريس التراتبية العسكرية فى كل من التنظيم الفاشى والدولة والمجتمع .الجذور الشعبوية للفاشية و هذا يطفى على شعاراتها مسحة يسارية مضللة و تحررية زائفة ، تعطيها الكثير من الجاذبية الشعبية فى أوساط المهمشين و المتعطلين عن العمل والبورجوازية الصغيرة لتخفى وجهها القبيح و خصوصا فى بلاد العالم الثالث ، وهذا لا ينفى حقيقة نفس الطابع الشعبوى للفاشية التاريخية لدى موسولينى و هتلر و فرانكو.
النزعة العدوانية والتوسعية و الاستعمارية و العنصرية ضد الشعوب و الهويات الجماعية الأخرى ، إلا أنها فى حالة الدول الكبرى كألمانيا وإيطاليا واليابان فأنها قد ظهرت للعيان بسبب إمكانيات تلك الدول و الظروف الدولية فى ذلك الوقت ، أما فى حالة الدول أو الحركات الصغرى والضعيفة فأن هذه النزعات تظل كامنة بسبب ضعف إمكانياتها لاغير ، أو قوة الذين تستهدفهم بالعدوان فقط ، ولأن ما ترفعه هذه القوى من مطالب فى حالة ضعفها هو فقط التحرر من سيطرة الأقوياء مخفية إيمانها بحقها فى السيطرة على الآخرين ،فأنه يطفى عليها هالة من طابع تحررى زائف ، و فى نفس الوقت يخفى هذا الخطاب المعادى للاستعمار والإمبريالية ، نوازعها العنصرية والعدوانية والتوسعية والاستعمارية الكامنة في صميم أيديولوجيتها.
وتبقى ملاحظتان
أن الفاشية و لأنها تعتمد وتستند على الأساطير والخرافات ،فأنها تجد مناخ نموها الخصب كلما اتسعت القطاعات المتخلفة و الظلامية والمتعصبة و محدودة الثقافة والأفق فى المجتمع ، و يساعد على نمو هذه القطاعات مع تقلص القطاعات المتقدمة والمستنيرة وغير المتعصبة وواسعة الثقافة و الأفق فى نفس الوقت ، أنظمة التربية و التعليم فى كل بلاد العالم التى تخلق شخصيات تتسم بالنقلية و كره الآخر والجمود و الذاتية و الرومانسية و اللاتاريخية و المثالية و الإطلاقية و المحافظة وهو ما يؤهلها للانجذاب للفاشية ، فضلا عن مؤسسات الثقافة و الإعلام التى تغرق الناس فى التفاهات و الخرافات و ثقافة الاستهلاك و تتلاعب بالعقول وتغسلها و تقولبها لتستجيب للغوغائية الفاشية بسهولة .
أن الكثير من القوى الماركسية اللينينية ، تتعاطف فى كثير من الأحيان مع الجوانب التحررية القومية و الشعبوية اليسارية الزائفة فى فاشية العالم الثالث ، ومن ثم تطرح نفسها دائما حتى ولو لم يطلب منها ذلك كحليف معها ، و تتورط معها فى كل جرائمها كما حدث فى عالمنا العربى ،ليس ذلك وحسب بل وتتشابه معها فى الكثير من سماتها و ممارساتها سالفة الذكر مما يجعلها قوى شبه فاشية ، برغم الجذور النظرية والفكرية المختلفة جذريا بالطبع ، ولك أن تتخيل الحال الذى سيكون عليه ماركس من الحسرة و الدهشة والإحباط ، لو نهض من قبره ليشاهد من ينتسبون إليه وهم يتحالفون مع فاشيون من أمثال ناصر مصر وصدام العراق وأسد سوريا ، بل وأن يشاهد أمثال بول بوت و كيم إيل سونج و ماو تسى تونج و تشاوشيسكو و ستالين وهم يرفعون رايته خفاقة ليغرسوها فى أوحال العار الفاشى.
ولأن الرأسمالية فى ظل أزمتها الحالية يهددها تصاعد ملحوظ فى الاحتجاجات العمالية وحركة مناهضة العولمة و قوى اليسار الراديكالى ، و فائض المهمشين و المتعطلين القابل للانفجار فى وجهها ، فأنها ستجد ملاذها الأخير فى الفاشية بكل قواها المتناقضة والمتصارعة ، لكى تشعل الحروب العنصرية والقومية والدينية عبر العالم ، و هو ما يهدد العالم بالفعل بالبربرية ، ولكل هذه الأسباب فالفاشيون سوف يدخلون شعوب العالم فى صراعات دموية فيما بينهم مورطين شعوبهم فى تلك الصراعات ، طامسين الصراع الطبقى باسم صراعات الهويات والثقافات والحضارات ،أنه صراع يعنى المزيد من الإنفاق العسكرى والخراب وإهدار الموارد و تدمير البيئة ، و يعنى المذابح المروعة و التطهير العرقى ، بغرض واحد فقط هو الإبقاء على نمط الإنتاج الرأسمالى فى أحط أشكاله وأكثرها بربرية ،نظرة واحدة سريعة لما حدث خلال العشر سنوات الماضية فى بورندى ويوغوسلافيا السابقة والهند وباكستان وأفغانستان وفلسطين والصومال والكونغو ومذابح المشردين فى البرازيل ومجاعات الأرجنتين ، سيعطينا صورة مبدئية عن البربرية التى تهددنا بها الفاشية .
يمكنا تخيل أممية فاشية أيضا موجهة ضد الحركة العمالية واليسارية والاحتجاجية المتصاعدة فى المستقبل القريب تقودها الحكومات الرأسمالية الكبرى ، وهو تطور غير مستبعد الحدوث إن لم يكن قد حدث فعلا تحت حجة محاربة الإرهاب .
إزاء هذا الخطر الماثل أمامنا ،يسهل على البعض بعد فحصهم لمدى قوة ونفوذ القوى السياسية المختلفة ، أن يطرحوا تحالف واسع من قوى اليسار و وقوى الوسط الإصلاحي والليبرالية فى مواجهة الفاشية والمحافظة ، و هذا يبدو صحيحا ، طالما نتحدث عن تحالفات بين القوى السياسية المكونة من نخب مؤدلجة و متخندقة فى معسكراتها والتى تضم قلة من السكان ، و بعض هذه القوى لأسباب كثيرة قادر على كسب النفوذ الجماهيرى الواسع لامتلاكها وسائل الدعاية و التنظيم ، و يبدو اليسار الراديكالى بين هذه القوى هامشيا ومعزولا وعاجزا على كسب مثل هذا النفوذ فى غالب الأحوال لعدم امتلاكه مثل تلك الوسائل، ومن ثم فهو يسعى للتحالف مع تلك النخب السياسية القوية للاستقواء بها فى مواجهة الفاشية و المحافظة ، وبسبب من ذلك فأنه بدلا من أن يتوجه بخطابه إلى الغالبية الجماهيرية غير المؤدلجة ليكسبها لخطابه السياسى الأصيل فأنه يقدم تنازلات فى هذا الخطاب من أجل التحالف السياسى مع قوى الوسط من أجل دحر الفاشية والمحافظة ، وتأجيل هدف القضاء على الرأسمالية لأجل غير مسمى .
ويعيب هذا الطرح تغافله عن حقيقة اجتماعية جوهرية هى أن الكتلة الساحقة من الجماهير غير مؤدلجة مثلما هى النخب السياسية ، فهى قد تنحاز لهذا الطرف ثم قد تنقلب عليه مقدمة دعمها لطرف أخر على النقيض ، وذلك كرد فعل لتغيرات مفاجئة قد حدثت موضوعيا ، والتاريخ ملىء بالأمثلة فى هذا الشأن فى ألمانيا وإيطاليا العشرينات والثلاثينات على سبيل المثال ، فالجماهير العريضة تغير توجهاتها جذريا وعلى نحو مفاجئ حسب تغيرات الأحوال و وفق ما يلقى عليها من خطابات سياسية قد تجد لها هوى فى نفسها أو لا تجد ، و وفق شروط موضوعية وذاتية كثيرة لا مجال لذكرها الآن ، ومن ثم يراهن اليسار الراديكالى على إمكانية كسب تلك الكتل غير المؤدلجة لخطابه السياسى الأصيل دون تنازلات، غير ملتفتا فى ذلك لمدى قوة النخب السياسية ونفوذها بين تلك الجماهير فى الوقت الراهن ومدى هامشيته و ضعفه ، و من ثم فهو لا يسعى للتحالف مع الوسط بقدر ما يسعى لزيادة حدة الاستقطاب الاجتماعى و إفراغ كلا من الوسط واليسار الزائف من أنصارهما لصالح خطاب اليسار الراديكالى و ذلك بفضح كلا من الوسط واليسار الزائف و ممارساتهما وخصوصا فى جوانبهما المتشابكة والمتشابهة مع الفاشية ، و توضيح عجزهما عن تجاوز الأزمة الرأسمالية ، و من ثم طرح البديل الجذرى المضاد للرأسمالية والدولة .
يمكن أن نرسم خريطة عامة للقوى السياسية فى عالمنا المعاصر من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ، برغم أن عيب هذه الخريطة أنها ستعانى فى حالة مقال صغير كهذا المقال ، مشكلة كل تبسيط من حيث إخلاله بالتفاصيل ، كما أنها ستعانى الانقياد للاتفاق العام حتى ولو كان هذا الاتفاق العام تنقصه الدقة ، فالحقيقة أن هناك تداخلات وعلاقات معقدة بين قوى الخريطة السياسية ، و تقاطعات بين تلك القوى ، تعبر عن تغيرات موضوعية قد حدثت فى الثلاث عقود الأخيرة فى شكل النظام الرأسمالى السائد عالميا ، أحدثت تغييرات فى مواقع القوى السياسية فى تلك الخريطة ، فمثلا إذا كان البعض يعتبر الستالينيين و الماويين ومن لف لفهم يسارا تقليديا ، فأن تحليلا أكثر دقة يضعهم فى معسكر اليمين ، و إذا كان البعض مازال يضع الحركات القومية أو الدينية المعادية للإمبريالية فى العالم الثالث باعتبارها حركات تحرر وطنى فى معسكر اليسار والتقدم ، إلا أن تحليلات أخرى لخطابهم السياسى و ممارستهم السياسية تضعهم فى معسكر اليمين الفاشى ، ذلك لأن مفهوم اليسار و اليمين الذى نرسم على أساسه الخريطة السياسية مفهوم نسبى و متغير عبر الزمن . فضلا على أن القوى السياسية قد تعتمد فى برامجها السياسية على خلطات من أهداف يمينية و يسارية فى نفس الوقت فتجدها فى مواقف معينة أقرب لليسار فى حين تجدها فى مواقف أخرى أقرب لليمين ، كما أن الكثير من القوى تحمل أصول فكرية قد تضعها فى قطب أقصى اليسار فى حين أن برامجها العملية وممارستها السياسية تضعها فى أقصى الجانب الآخر من الخريطة .
فإذا اتفقنا على أن المعيار الذى نحدد على أساسه ، مدى اقتراب قوى سياسية معينة من اليسار هو مدى اقتراب خطابها السياسى من تحقيق الحد الأقصى لمفاهيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية ، وإذا اتفقنا على أن المعيار الذى نحدد على أساسه مدى اقتراب قوى سياسية معينة من اليمين هو مدى اقتراب خطابها السياسى من ترسيخ وتعميق علاقات القهر و اللامساواة و الظلم الاجتماعي ، فسيتضح لدينا أن ما كنا نظنه يسارا ما هو فى حقيقته إلا يمين مغلف برطانة يسارية ، و العكس صحيح فما كنا نظنه يمينا قد يكون أقرب لليسارية .
ويعيب هذا المعيار من وجهة نظر البعض أنه معيار مثالى ، فالمعيار الصحيح لو أخذنا بحرفية التفسير المادى للتاريخ ، هو مدى تعبير القوى السياسية عن متطلبات التقدم الاجتماعي ، و فى اللب منه التقدم الاقتصادى ، فإذا عبرت عن متطلبات التقدم فهى تقترب من اليسار ، وإذا حافظت على التخلف أو نشدته فهى تقترب من اليمين.
وفى الحقيقة أن الفصل بين عناصر التقدم الاجتماعى ما بين مادية أى علاقات الإنتاج و مثالية أى النظام السياسى والقانونى والأخلاقى والسلوكى والإبداعى والعقائدى ، هو فصل متعسف ينسف جوهر التفسير المادى نفسه ، الذى يعتبر أن البنية التحتية وهى علاقات الإنتاج تحدد عناصر البنية الفوقية ، أى النظام السياسى و الأخلاقى و القانونى والسلوكى والإبداعى والعقائدى ، فلا يعقل أن توجد علاقات إنتاج متقدمة تؤسس بنية فوقية متخلفة والعكس صحيح .
ولإيضاح ذلك فأننا نعلم أن إنتاجية العبيد الذين هم الأكثر خضوعا للظلم الاجتماعى ، والأقل تمتعا بالحرية والمساواة ، هى الأقل إنتاجية من إنتاجية العمال المأجورين المتمتعين بحرية ومساواة أكثر نسبيا من العبيد ، و لاشك أن العمال المأجورين لدى الرأسماليين التقليدين أكثر تمتعا بالحرية والمساواة و من ثم الأكثر إنتاجية من العمال المأجورين لدى الدولة فى ظل أشكال رأسمالية الدولة المختلفة ، و لاشك أن نظاما تعاونيا بين المنتجين الأحرار سيكون أكثر تقدما على مستوى علاقات الإنتاج و وسائله ومن ثم أكثر إنتاجية ، وفى نفس الوقت أكثر تحقيقا للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية من أى أنظمة أخرى بما فيها النظام الرأسمالى ، فمما لاشك فيه أن المنتجين الأحرار المتعاونين فيما بينهم سيكونون أكثر إنتاجية من العمال المأجورين سواء لدى الدولة أو رأسالمال و أكثر تمتعا بالحرية والمساواة فى نفس الوقت .
وبناء على ما سبق لابد وأن نعيد النظر فى تصنيف القوى السياسية ما بين قطبى اليسار واليمين ،حسب رؤية تلك القوى لعلاقات الإنتاج التى تهدف إليها ، و النظم السياسية والقانونية والأخلاقية التى تستهدفها ، و مدى تلائمها مع متطلبات التقدم الاقتصادى ، وفى اللب من ذلك مدى إجابتها على الأزمة الحالية للرأسمالية ، بصرف النظر عن الرطانة الفارغة التى ترددها فى إطار الدعاية لنفسها ، والقاعدة الاجتماعية الحقيقية لأفكارها ، لا ما قد تزعمه هى كقاعدة اجتماعية لها ، و بصرف النظر عما تدعيه عن نفسها بادئين من اليسار إلى اليمين على النحو التالى :
اللاسلطويون أقصى اليسار الراديكالى الأممى الذى يجيب على الأزمة الرأسمالية بضرورة الثورة الاجتماعية العمالية العالمية ضد كل من الرأسمالية والدولة ، لبناء مجتمع شيوعى لا سلطوى عالمى فورا ، وهم يرفضون التفسير السلطوى للماركسية ومجمل التراث اللينينى فى الفكر و الممارسة السياسية ، بما فى ذلك أفكار المركزية الديمقراطية ، وطليعية الحزب الثورى وتمثيله للطبقة العاملة ،والدولة الاشتراكية كمرحلة انتقالية نحو المجتمع الشيوعى ، و الإرادية فى الممارسة السياسية ، و استبدال الجماهير بالحزب والطليعة ، وهم يرفضون الدولة كمؤسسة لممارسة السلطة المنفصلة عن الجماهير ، و يرفضون مركزية التنظيم الاجتماعى ، ومن ثم يسعون لمجتمع قائم على أساس وحدات اجتماعية منظمة على أساس التعاون الطوعى و الديمقراطية المباشرة ، تتحد فيما بينها مع احتفاظها بحق الانفصال ، من أسفل لأعلى على أساس مجالس للمندوبين عن الوحدات و الاتحادات الأدنى ، كما يرفضون تأسيس هذا المجتمع على أساس أى هوية جماعية ، دينا كانت أم قومية أم عنصر ، ومن ثم يعادون أى حركة سياسية قائمة على أساس القومية أو الدين أو العنصر ، وهم على وجه العموم يمرون بمرحلة صعود قوية فى كل البلاد الرأسمالية المتقدمة منذ سنوات قليلة، تتجلى فى وجودهم الفعال فى حركة معارضة العولمة ، و هم هامشيين و معزولين فى معظم بلاد العالم حتى الآن ، و يعيبهم غياب التنظيم الفعال لقواهم.
التروتسكيون ما يطلق عليهم اليسار الراديكالى الأممى الذى يجيب على الأزمة الرأسمالية العالمية بضرورة الثورة السياسية العالمية العمالية ضد الرأسمالية لبناء دولة ديكتاتورية البروليتاريا العالمية كمرحلة انتقالية للمجتمع الشيوعى ، الذى هو الهدف النهائى المشترك لكل من الماركسيين و اللاسلطويين ، وهم طالما لم يتخلصوا من التأثيرات اللينينية السلطوية فى الماركسية ، و سائر التفسيرات السلطوية للماركسية عموما، فأن يساريتهم الراديكالية المزعومة ستظل مشكوكا فيها ، فبرغم نقد التروتسكيين للستالينية و الماوية فهم لم يمدوا نقدهم لجذور الاستبداد و اللامساواة فى اللينينية ذاتها وما تفرع منها من مدارس و تيارات ، وبرغم أمميتهم المعلنة فهم لم يتورعوا عن الممارسة والتفكير من منطلقات قومية و وطنية فى كثير من المواقف و التحليلات وخصوصا من بشروا منهم بالعالم ثالثية وغيرهم . ويلاحظ مرور هذا التيار بلحظة مد و تصاعد قوى فى معظم البلاد الرأسمالية المتقدمة ، والذى تجلى فى الانتخابات الفرنسية الأخيرة و وجوده الفعال فى حركة معارضة العولمة إلا أنه مازال هامشي ومعزول إلى حد كبير فى معظم بلاد العالم .
الشيوعيون الستالينيون و الماويون و أمثالهم ، وهم ما يطلق عليهم اليسار التقليدى و هؤلاء هم اليسار الزائف طالما تمسكوا بالتسلطية و البيروقراطية و القومية وسائر العناصر الاستبدادية العالقة بالماركسية ، فباعتبارهم ماركسيين كما يدعون ، فهم يتفقون نظريا على الهدف الاستراتيجى النهائى لكل الشيوعيين بالطبع ، إلا أنهم على مستوى الممارسة يعرقلون الوصول لهذا الهدف بشتى الوسائل ، فما يطرحوه من برامج سياسية و أساليب للعمل ، يضعهم فى الحقيقة قريبا جدا من معسكر أقصى اليمين لا اليسار وفق المعايير سالفة الذكر من حيث تعبيرهم الفعلى عن مصالح بيروقراطية رأسمالية الدولة ، و ليس تعبيرهم النظرى عن الطبقة العاملة ، بصرف النظر عن رطانتهم الماركسية و الثورية ، فهم يسعون لتقوية الدولة وبيروقراطيتها بدلا من اضعافهما أو إزالتهما ، ولا يسعون لتحرير الطبقة العاملة من عبودية العمل المأجور بقدر ما يسعون لترسيخها بتحويل العمال لعبيد مأجورين للدولة لصالح البيروقراطية ، وهم فى العالم الثالث مجرد يسار الحركات القومية ، والحلفاء الحميمين للتيارات القومية ، بل وحتى الإسلامية أحيانا فى الشرق الأوسط ، والمتفقين معهم فى رؤاهم و ممارساتهم الفاشية .
وأحزاب و أنصار هذا المعسكر فى انحسار متزايد منذ سقوط الكتلة الاشتراكية ، فهو معسكر و إن كان مازال قويا فى كثير من بلاد العالم إلا أنه فى نفس الوقت يتقلص بعنف ، إما لصالح اليسار الراديكالى أو الإصلاحى أو التيارات الفاشية القومية أو الدينية ، ويقل أنصاره و أعضائه فى أوساط الأجيال الشابة بعد أن تكشفت عوراته الفكرية وجرائمه فى الممارسة السياسية سواء وقت أن كان فى الحكم أو فى المعارضة ، مما قد يهدده بالاختفاء بعد سنوات قليلة ، إلا أن السبب الأكثر أهمية من ذلك هو اختفاء الأساس المادى للصعود المدوى لهذا اليسار الزائف طوال القرن العشرين ، وهو الاحتياج الملح فى البلدان الرأسمالية المتخلفة لتجاوز أزمات النمو عبر رأسمالية الدولة القومية الاستبدادية والشمولية أيما كانت اللافتة التى تحملها تلك الدول ماركسية أو قومية أو وطنية .
الإصلاحيون هذا هو معسكر الوسط الذى يضم الاشتراكيين الديمقراطيين أو يسار الوسط والديمقراطيين الاشتراكيين أو يمين الوسط ، وهو المعسكر المنحاز نظريا للحريات والحقوق الإنسانية السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعبر عن مصالح الطبقة الوسطى، و المستند عمليا إلى السياسات الكينزية فى ضرورة زيادة الإنفاق الاجتماعى العام عبر توسيع القطاع العام (رأسمالية الدولة ) و تدخل الدولة لصالح تحسين شروط الحياة والعمل للطبقة العاملة والطبقة الوسطى ، ومن ثم فهم أنصار تقوية دور الدولة و بيروقراطيتها و تدخلها المباشر فى الإنتاج والخدمات ، و قد شهد هذا المعسكر ذروة تألقه فى فترة ربع القرن المجيد التالى للحرب العالمية الثانية فى غرب أوروبا ،إلا أنه مع بزوغ فجر الرأسمالية الكوكبية و ديكتاتورية أسواق المال ،مالت سياساته وبرامجه نحو اليمين الليبرالى ،وفقد تميزه عن الأحزاب الليبرالية ، ذلك لأن الوسط عموما مأزوم بسبب الأزمة الحالية للرأسمالية، وتعجز برامجه عن حلها على المستوى القومى فى ظل كوكبية الإنتاج و التوزيع و التبادل ، إلا أن هذه البرامج قد تكون ممكنة التحقق على مستوى عالمى فى ظل دولة عالمية وذلك نظريا على الأقل ، ومن ثم ينحصر أنصار الوسط الإصلاحى لصالح اليمين الليبرالى أو اليسار الراديكالى على جانبى الخريطة السياسية عمليا حتى و لو ظلت لافتاتهم المعلنة تحمل عناوين الاشتراكية الديمقراطية ،و لا ينبغى أن يغيب عن أذهاننا أن هذا التيار الذى يحلو لنفسه أن ينتسب لليسار قد أنحاز عمليا لمعسكر اليمين فى السياسة الدولية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن ، و دافع عن السياسات القومية والاستعمارية لرأسماليات فرنسا و بريطانيا العظمى ، و متحالف ومتواطأ مع الحركة الصهيونية و إسرائيل ، و يكفى أن الدولية الاشتراكية التى تنظمه عالميا تضم حزب العمل الإسرائيلى رائد الاستعمار الاستيطانى فى فلسطين ، و الحزب الوطنى الديمقراطى المصرى لنعرف أى نوع من اليسار هذا الذى يدعون .
الليبراليون هو معسكر الرأسمالية التنافسية فى حالتها النظرية النقية من حيث كفالة الحقوق والحريات الإنسانية السياسية والمدنية ، هم دعاة انحسار دور الدولة فى حدود مهامها السيادية التقليدية وهى الدفاع والأمن والعدل والتمثيل الخارجى والمالية ، و من ثم إطلاق الحرية لرأسالمال فى العمل و التنافس الحر ، ومن ثم فهم يعادون الشكلين الاحتكارى و الدولتى فى الرأسمالية باعتبارهما متناقضان مع حرية المنافسة ، فالليبرالية هى التيار المعبر عن الرأسمالية التنافسية فى حالات الاستقرار و من ثم العاجز تماما عن حل أزماتها الدورية والعامة ، وهو يحافظ على قوته وجاذبيته السياسية حتى الآن ، لأن الفاشيون والمحافظون فحسب لم ينجحوا فى جذب أنصاره إلى معسكرهم ، ولأن البديل الفاشى والمحافظ لا يتفق ومصالح الرأسماليين الذين يعبرون عنهم ، وهم حين يتطلعون يسارا نحو الوسط الإصلاحى ، فأنهم يجدوه مأزوما مثلهم و قد رفع شعاراتهم نفسها. إلا أن هذا لن يستمر طويلا فمع ازدياد معدلات التهميش والبطالة ، ستزداد معدلات الجريمة والافتقاد للأمن ،فضلا على تصاعد قوى اليسار الراديكالى والتحركات العمالية وحركات الاحتجاج المختلفة ،ومن هنا سيحدث تحول لأنصار هذا التيار نحو المحافظية و الفاشية.
المحافظون هم أقصى اليمين التقليدى ، الأقل تمسكا بالحريات والحقوق الإنسانية السياسية والمدنية و المعادي للحقوق والحريات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للطبقتين العاملة و الوسطى ،هم المعبرون عن مصالح الرأسماليين الكبار ضد كل منافسيهم بما فيهم الرأسماليين الأقل قوة ، و المدافعين عن مصالح الرأسمالية الاحتكارية ، والشركات المتعدية الجنسية ، هو معسكر الرأسمالية الكوكبية المتوحشة المتزايدة النمو والقوة عبر العالم .
الفاشيون هو تيار يمكن أن يتسع أو يضيق وفق تعريفنا للفاشية ؟ من حيث هى قطب أقصى اليمين ،الذى يهدد العالم بالبربرية ، والذى لوحظ فى الفترة الأخيرة تزايد قوته ونفوذه . فالبعض يقصر تعريفه للفاشية على أساس التجربة التاريخية السابقة للحرب العالمية الثانية فى الدول الرأسمالية الكبيرة على أساس تعبير الفاشية عن الميول الاستعمارية و العنصرية والاستبدادية للرأسمالية الكبرى فى هذه البلاد ، و هو تعريف يعفى الكثير من التيارات والحركات السياسية والأنظمة الحاكمة فى العالم الثالث من هذه الوصمة ، و يعطى الفرصة للبعض من من ينتمون زورا لليسار للتعاطف والتحالف معها على أساس معاداتها للاستعمار فى بلدان العالم الثالث ، مثلما تكرر ذلك كثيرا فى العالم العربى بالنسبة لليسار التقليدى الزائف مع البعثيين والناصريين و أشباههم و حتى التيارات الإسلامية الدينية أحيانا لمجرد عدائها للأنظمة القائمة و الامبريالية .
الفاشية معسكر يضم العديد من الحركات والأحزاب المتنوعة من حيث برامجها وشعاراتها ورؤاها للعالم ، فنجدها متصارعة أحيانا و متحالفة أحيانا أخرى ، بينها من عناصر الاختلاف والاتفاق الشىء الكثير ، و ما يجمع بين كل هذه الحركات المتناقضة والمتشابهة والمتقاتلة أحيانا والمتحالفة أحيانا أخرى ، ويميزها ويجمعها فى معسكر واحد ، هى أنها تهدف برغم كل الاختلافات و التناقضات الظاهرية فيما بينها إلى اشتراكها فى جوهر واحد هو إخماد الصراع الطبقى داخل المجتمع الرأسمالى، وذلك من خلال ترويض الطبقة العاملة ، و إفقادها أسلحتها النضالية فى مواجهة الرأسمالية ، و لكى ترضى بعبوديتها المأجورة للأبد سواء لصالح رأسالمال أو بيروقراطية الدولة . ويتم ذلك بالوسائل التالية :
الإرهاب الفكرى المتضمن التخوين الوطنى و القومى أو التكفير الدينى لكل المعارضين لها.
الديكتاتورية و القهر و العنف البدنى لقمع الحركات العمالية واليسارية والليبرالية والإصلاحية.
غسيل عقول المواطنين بالأساطير السياسية وغير السياسية و الدعاية الديماجوجية و الغوغائية ،و اشعال العواطف الدينية أو القومية أو العنصرية و محاربة و اخماد الوعى الطبقى .
استرضاء العمال والمهمشين والطبقة الوسطى بمنح أفرادها بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشكلية من خلال جهاز الدولة البيروقراطى .
حرمان العمال والمهنيين من حرية العمل النقابى والسياسى المنفصل والمستقل عن الدولة و رأسالمال ، وذلك كى تكف الطبقة العاملة عن نضالها الاقتصادى والسياسى ضد الرأسمالية و الدولة . تمجيد وتقديس الدولة المجسدة لأساطيرها الدعائية و تقويتها فى مواجهة كل مؤسسات المجتمع المدنى وكل الحريات والحقوق الإنسانية سواء الفردية منها أو الجماعية .
تمجيد هوية جماعية ما والإدعاء بتمثيلها أو تجسيدها ،سواء أكانت قومية أو دين أو عنصر أو طائفة أو عرق أو ثقافة ، و إعلاءها مقاما وحقوقا على غيرها من الهويات الجماعية الأخرى بهدف طمس الصراع الطبقى داخل الهوية الجماعية التى يعلنون تمثيلها وتجسيدها ، و نفي الصراع الطبقى فى الهويات الجماعية الأخرى.
اعتماد صراع الهويات الجماعية ، الأديان والقوميات والأعراق والثقافات والحضارات كأساس أيديولوجى لها.
تمجيد وتقديس الزعامة والقيادة والسلطة التى تجسد الهوية الجماعية ، وترسيخ فكرة عصمتها من الخطأ ، و طاعتها العمياء ، و إطفاء صفات القداسة و العبقرية عليها ،وتكريس التراتبية العسكرية فى كل من التنظيم الفاشى والدولة والمجتمع .الجذور الشعبوية للفاشية و هذا يطفى على شعاراتها مسحة يسارية مضللة و تحررية زائفة ، تعطيها الكثير من الجاذبية الشعبية فى أوساط المهمشين و المتعطلين عن العمل والبورجوازية الصغيرة لتخفى وجهها القبيح و خصوصا فى بلاد العالم الثالث ، وهذا لا ينفى حقيقة نفس الطابع الشعبوى للفاشية التاريخية لدى موسولينى و هتلر و فرانكو.
النزعة العدوانية والتوسعية و الاستعمارية و العنصرية ضد الشعوب و الهويات الجماعية الأخرى ، إلا أنها فى حالة الدول الكبرى كألمانيا وإيطاليا واليابان فأنها قد ظهرت للعيان بسبب إمكانيات تلك الدول و الظروف الدولية فى ذلك الوقت ، أما فى حالة الدول أو الحركات الصغرى والضعيفة فأن هذه النزعات تظل كامنة بسبب ضعف إمكانياتها لاغير ، أو قوة الذين تستهدفهم بالعدوان فقط ، ولأن ما ترفعه هذه القوى من مطالب فى حالة ضعفها هو فقط التحرر من سيطرة الأقوياء مخفية إيمانها بحقها فى السيطرة على الآخرين ،فأنه يطفى عليها هالة من طابع تحررى زائف ، و فى نفس الوقت يخفى هذا الخطاب المعادى للاستعمار والإمبريالية ، نوازعها العنصرية والعدوانية والتوسعية والاستعمارية الكامنة في صميم أيديولوجيتها.
وتبقى ملاحظتان
أن الفاشية و لأنها تعتمد وتستند على الأساطير والخرافات ،فأنها تجد مناخ نموها الخصب كلما اتسعت القطاعات المتخلفة و الظلامية والمتعصبة و محدودة الثقافة والأفق فى المجتمع ، و يساعد على نمو هذه القطاعات مع تقلص القطاعات المتقدمة والمستنيرة وغير المتعصبة وواسعة الثقافة و الأفق فى نفس الوقت ، أنظمة التربية و التعليم فى كل بلاد العالم التى تخلق شخصيات تتسم بالنقلية و كره الآخر والجمود و الذاتية و الرومانسية و اللاتاريخية و المثالية و الإطلاقية و المحافظة وهو ما يؤهلها للانجذاب للفاشية ، فضلا عن مؤسسات الثقافة و الإعلام التى تغرق الناس فى التفاهات و الخرافات و ثقافة الاستهلاك و تتلاعب بالعقول وتغسلها و تقولبها لتستجيب للغوغائية الفاشية بسهولة .
أن الكثير من القوى الماركسية اللينينية ، تتعاطف فى كثير من الأحيان مع الجوانب التحررية القومية و الشعبوية اليسارية الزائفة فى فاشية العالم الثالث ، ومن ثم تطرح نفسها دائما حتى ولو لم يطلب منها ذلك كحليف معها ، و تتورط معها فى كل جرائمها كما حدث فى عالمنا العربى ،ليس ذلك وحسب بل وتتشابه معها فى الكثير من سماتها و ممارساتها سالفة الذكر مما يجعلها قوى شبه فاشية ، برغم الجذور النظرية والفكرية المختلفة جذريا بالطبع ، ولك أن تتخيل الحال الذى سيكون عليه ماركس من الحسرة و الدهشة والإحباط ، لو نهض من قبره ليشاهد من ينتسبون إليه وهم يتحالفون مع فاشيون من أمثال ناصر مصر وصدام العراق وأسد سوريا ، بل وأن يشاهد أمثال بول بوت و كيم إيل سونج و ماو تسى تونج و تشاوشيسكو و ستالين وهم يرفعون رايته خفاقة ليغرسوها فى أوحال العار الفاشى.
ولأن الرأسمالية فى ظل أزمتها الحالية يهددها تصاعد ملحوظ فى الاحتجاجات العمالية وحركة مناهضة العولمة و قوى اليسار الراديكالى ، و فائض المهمشين و المتعطلين القابل للانفجار فى وجهها ، فأنها ستجد ملاذها الأخير فى الفاشية بكل قواها المتناقضة والمتصارعة ، لكى تشعل الحروب العنصرية والقومية والدينية عبر العالم ، و هو ما يهدد العالم بالفعل بالبربرية ، ولكل هذه الأسباب فالفاشيون سوف يدخلون شعوب العالم فى صراعات دموية فيما بينهم مورطين شعوبهم فى تلك الصراعات ، طامسين الصراع الطبقى باسم صراعات الهويات والثقافات والحضارات ،أنه صراع يعنى المزيد من الإنفاق العسكرى والخراب وإهدار الموارد و تدمير البيئة ، و يعنى المذابح المروعة و التطهير العرقى ، بغرض واحد فقط هو الإبقاء على نمط الإنتاج الرأسمالى فى أحط أشكاله وأكثرها بربرية ،نظرة واحدة سريعة لما حدث خلال العشر سنوات الماضية فى بورندى ويوغوسلافيا السابقة والهند وباكستان وأفغانستان وفلسطين والصومال والكونغو ومذابح المشردين فى البرازيل ومجاعات الأرجنتين ، سيعطينا صورة مبدئية عن البربرية التى تهددنا بها الفاشية .
يمكنا تخيل أممية فاشية أيضا موجهة ضد الحركة العمالية واليسارية والاحتجاجية المتصاعدة فى المستقبل القريب تقودها الحكومات الرأسمالية الكبرى ، وهو تطور غير مستبعد الحدوث إن لم يكن قد حدث فعلا تحت حجة محاربة الإرهاب .
إزاء هذا الخطر الماثل أمامنا ،يسهل على البعض بعد فحصهم لمدى قوة ونفوذ القوى السياسية المختلفة ، أن يطرحوا تحالف واسع من قوى اليسار و وقوى الوسط الإصلاحي والليبرالية فى مواجهة الفاشية والمحافظة ، و هذا يبدو صحيحا ، طالما نتحدث عن تحالفات بين القوى السياسية المكونة من نخب مؤدلجة و متخندقة فى معسكراتها والتى تضم قلة من السكان ، و بعض هذه القوى لأسباب كثيرة قادر على كسب النفوذ الجماهيرى الواسع لامتلاكها وسائل الدعاية و التنظيم ، و يبدو اليسار الراديكالى بين هذه القوى هامشيا ومعزولا وعاجزا على كسب مثل هذا النفوذ فى غالب الأحوال لعدم امتلاكه مثل تلك الوسائل، ومن ثم فهو يسعى للتحالف مع تلك النخب السياسية القوية للاستقواء بها فى مواجهة الفاشية و المحافظة ، وبسبب من ذلك فأنه بدلا من أن يتوجه بخطابه إلى الغالبية الجماهيرية غير المؤدلجة ليكسبها لخطابه السياسى الأصيل فأنه يقدم تنازلات فى هذا الخطاب من أجل التحالف السياسى مع قوى الوسط من أجل دحر الفاشية والمحافظة ، وتأجيل هدف القضاء على الرأسمالية لأجل غير مسمى .
ويعيب هذا الطرح تغافله عن حقيقة اجتماعية جوهرية هى أن الكتلة الساحقة من الجماهير غير مؤدلجة مثلما هى النخب السياسية ، فهى قد تنحاز لهذا الطرف ثم قد تنقلب عليه مقدمة دعمها لطرف أخر على النقيض ، وذلك كرد فعل لتغيرات مفاجئة قد حدثت موضوعيا ، والتاريخ ملىء بالأمثلة فى هذا الشأن فى ألمانيا وإيطاليا العشرينات والثلاثينات على سبيل المثال ، فالجماهير العريضة تغير توجهاتها جذريا وعلى نحو مفاجئ حسب تغيرات الأحوال و وفق ما يلقى عليها من خطابات سياسية قد تجد لها هوى فى نفسها أو لا تجد ، و وفق شروط موضوعية وذاتية كثيرة لا مجال لذكرها الآن ، ومن ثم يراهن اليسار الراديكالى على إمكانية كسب تلك الكتل غير المؤدلجة لخطابه السياسى الأصيل دون تنازلات، غير ملتفتا فى ذلك لمدى قوة النخب السياسية ونفوذها بين تلك الجماهير فى الوقت الراهن ومدى هامشيته و ضعفه ، و من ثم فهو لا يسعى للتحالف مع الوسط بقدر ما يسعى لزيادة حدة الاستقطاب الاجتماعى و إفراغ كلا من الوسط واليسار الزائف من أنصارهما لصالح خطاب اليسار الراديكالى و ذلك بفضح كلا من الوسط واليسار الزائف و ممارساتهما وخصوصا فى جوانبهما المتشابكة والمتشابهة مع الفاشية ، و توضيح عجزهما عن تجاوز الأزمة الرأسمالية ، و من ثم طرح البديل الجذرى المضاد للرأسمالية والدولة .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية