الشعارات والواقع والقذافى كدراسة حالة
الشعارات والواقع والقذافى كدراسة حالة
سامح سعيد عبود
فى المجتمعات الحديثة يمكن أن تنظم كل الأنشطة البشرية الجماعية بثلاثة أنماط متمايزة ،أول هذه الأنماط أن تنظم هذا الأنشطة عبر ما يسمى بالملكية العامة أو القطاع العام ،وقد يتسع هذا القطاع ليشمل كل الأنشطة كما فى الدول الاشتراكية أو يضيق ليشمل بعض المرافق العامة والمهام السيادية فحسب كما فى مختلف الدول الرأسمالية ،وفى هذا النمط ينقسم الداخلون فى النشاط لطبقتين أحدهما هى البيروقراطية و الأخرى هى أشباه العمال المأجوريين ، وثاني هذه الأنماط أن تنظم هذه الأنشطة المؤسسات الخاصة المملوكة للرأسماليين وذلك بشراءها قوة عمل العمال المأجوريين ، وهو النمط السائد فى الدول الرأسمالية ،وفى النمطين السابقين يستمر قهر واستغلال العمل المأجور من الرأسماليين والبيروقراطيين ، أما ثالث هذه الأنماط فهو أن ينظم البشر هذه الأنشطة بكل تنوعاتها عبر جماعات تقوم على التعاون الطوعى فيما بين أعضاءها للانتفاع الجماعى بمصادر السلطة المادية عبر ديمقراطية الإدارة ، وهذا هو النمط التحررى اللاسلطوى والذى يتواجد أحيانا على نحو جنينى فى المجتمعات الحديثة فى صورة تعاونيات وجمعيات أهلية وكوميونات جماعية ..الخ ، إلا أن هذه الأشكال محكومة فى النهاية بالنمط السائد وقواعده ، وتكون خاضعة للطبقات المسيطرة فيه سواء أكانت بيروقراطية أم رأسمالية . وفى هذا النمط يتحرر الأفراد كما تتحرر الجماعات المختلفة من أى سلطة متعالية عليهم ، و من أى قمع سلطوى ، حيث ينتظم المجتمع وفق إرادة أفراده وجماعاته الحرة . و هو النمط الذى يختفى فيه الاستغلال والقهر بشرط اختفاء النمطين الأول والثانى من المجتمع . كانت هذه المقدمة ضرورية لنكتشف سويا عن كيف تبتذل الأفكار وتشوه ،وكيف يتناقض ما هو معلن من شعارات مع ما يمارس فعليا فى الواقع ، فقد اتحفنا الزمن بالأخ الأكبر العقيد القذافى قائد الثورة الليبية ، والذى تفتق ذهنه عن توليفة من الأفكار شبه التحررية مخلوطة بالقومية المتطرفة نسبها لنفسه !!، وذلك باسم النظرية الثالثة فى مواجهة كل من الماركسية والرأسمالية ، تمت صياغتها على نحو ساذج وبسيط بساطة الحياة البدوية ، و قد بلغت تكاليف الدعاية لها مئات الملايين من الدولارات من أموال الشعب الليبى ، وترجمت وثيقتها الأساسية " الكتاب الأخضر " وهو عبارة عن مقال إنشاءى متوسط الحجم ، لمعظم لغات الأرض ، وقد أسس له مركز أبحاث لدراساته ، وهو ما لم يحظا به كتاب رأسالمال و كتاب ثروة الأمم ، و قد أعلن تلك النظرية أساسا أيديولوجيا لنظامه الفريد الذى أسسه بعد انقلابه فى الفاتح من سبتمبر على النظام الملكى بسنوات ، معلنا تميزه عن كل من الاشتراكية والرأسمالية ، و برغم من هذه الأيديولوجية المعلنة التى تعلن أن السلطة للشعب كما أعلنت أن العمال شركاء لا أجراء ، إلا أن الأخ الأكبر فى ليبيا يمارس طغيانا لا يقل عن طغيان صدام حسين ، وانما يقلل من توحشه فحسب ، أن امكانيات صدام حسين والتطور الاجتماعى فى العراق أكبر من امكانيات القذافى و التطور الاجتماعى فى ليبيا ، كما أن المعارضة فى العراق أقوى من المعارضة فى ليبيا . و أخيرا فالنظام فى ليبيا برغم الأيديولوجية شبه التحررية المعلنة لا يختلف عن النظام البعثى أو الناصرى ، مما يميز القذافى فى الحقيقة بعبقرية سياسية مميزة ، فكل ما فى الأمر أنه اصطتنع أيديولوجية شبه تحررية يتم النعيق بها ليل نهار فى أجهزة الإعلام بهدف التضليل ، لتغطية الديكتاتورية المستترة لسيادته ، وهو فى نفس الوقت لا يتولى أى مناصب رسمية على الإطلاق داخل ليبيا ،إلا أنه الممثل الرسمى للجماهيرية فى علاقاتها الخارجية فى نفس الوقت.و لتوضيح مدى التناقض بين ما هو معلن وما هو واقع فى ليبيا يمكن أن نقول . أن حرية الرأى والتعبير مقيدة بصرامة شديدة بشكل عام وبشكل خاص إذا ما تعلق الأمر بانتقاد نظام الحكم أو العقيد القذافى ، ولا تسمح السلطات الليبية بطبع أية مطبوعات تتعارض مع سياسة الحكومة ، و تخضع المطبوعات الأجنبية لرقابة صارمة دائمة ، و قد تشملها قرارات حظر الدخول حظرا مطلقا ، وعلاوة على ذلك تملك الحكومة كافة وسائل الإعلام ، وتعتبر وكالة أنباء الجماهيرية الليبية هى القناة الوحيدة التى تمر عن طريقها الآراء المقبولة من جانب السلطات وهى تابعة لها . ووفقا لما أصدره مجلس قيادة الثورة "المرسوم الصادر عام 1969"والذى مازال ساريا حتى الآن :يعاقب بالسجن كل من يقوم بالنشاطات العدائية الآتية ضد النظام الجمهورى لثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969. 1/القيام ببث الدعاية العدوانية ضد نظام الحكم. 2/إشاعة القلق والتفرقة بين الطبقات الاجتماعية. 3/ نشر المعلومات والإشاعات التى تخالف وتغاير الواقع السياسى والاقتصادى المعاش فى البلاد. أما القانون رقم 71 لسنة 1972 والخاص بحظر التنظيمات الحزبية ، فقد نص فى المادة 3 على أن :يعاقب بالإعدام كل من يدعو إلى أو يؤسس أى اجتماع أو تجمع أو منظمة أو جماعة أو جمعية ،وتتضح من هذه النصوص أن من يمارس الحق فى إبداء رأيه أو التعبير عنه يعاقب بالسجن أو الإعدام ..!! وجدير بالذكر أنه لا يوجد دستور لدولة ليبيا أو حتى نظام أساسى ، فمع إلغاء الدستور الليبى عام 1977اصبحت ليبيا دولة بلا دستور حتى صدر ما يعرف باسم الوثيقة الخضراء الكبرى ، وهى قد ضمت العديد من حقوق الإنسان فى سياق الإيمان بمبادئ ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969، وتشدد السلطات هناك قبضتها على كافة حقوق الإنسان وخاصة حريتى الرأى والتعبير والحق فى التجمع وتكوين الجمعيات. فالقوانين الليبية تمنع أى عمل حزبى منعا تاما وتصنفه ضمن جرائم الخيانة العظمى ، ولا تسمح لمواطنيها بحرية التجمع و لا الإضراب و لا أى شكل من أشكال التجمع السلمى. ويتضح حظر تكوين أية جماعات أو أحزاب تعارض سياسة الثورة ويقضى القانون بأقصى العقوبة على كل المشاركين أو المنضمين أو المساعدين فى هذه التشكيلات وهى عقوبة الإعدام .وبناء على النص المتقدم فلا توجد حرية للتجمع أو تكوين جمعيات أو اتحادات أو نقابات فى ليبيا ..وعلى سبيل المثال تم حل نقابة المحاميين وإلحاقهم بوظائف أخرى ، ولا توجد مهنة المحاماة فى ليبيا . وقانون الجمعيات الليبى يغص بذات القيود التى تحفل بها القوانين العربية فلابد من الترخيص المسبق للجمعية ،وللسلطات الحكومية رفض ترخيص أية جمعية ،وقرار الجهات الحكومية فى هذا الشأن قرار نهائى ،وللسلطات الحكومية صلاحيات واسعة فى رقابتها على الجمعيات ،ولها الحق فى حلها فى حالات متعددة بجانب وجود جزاءات وعقوبات جنائية صارمة فى حالة مخالفة أحكام هذا القانون. وهذا التناقض ما بين الشعارات والواقع ، ليس نابعا فقط من سوء نية العقيد أو عبقريته الاستبدادية ، ولكنه ناتج بالأساس من أن الواقع الاجتماعى لا يتغير بالإرادات والشعارات الفوقية والنخبوية مهما حسنت النوايا ، ولكنه يتغير وفق ضرورات موضوعية منفصلة عن الوعى والإرادة البشريتين ، فضلا عن أن المشروع التحررى بالتحديد ، سيتحقق إن تهيئت له الظروف المادية الدافعة لهذا التحقق ، وهى ظروف لا تتوافر بالطبع فى مجتمع قبلى كالمجتمع الليبى بالتحديد ، و بالإضافة إلى تلك الظروف الموضوعية التى يمكن أن نوجزها بدرجة عالية من التطور الاجتماعى و الوفرة الاقتصادية ، لابد من توافر إرادة جماعية من جماهير المقهورين الواعيين والمنظميين ، ولن يأتى التحرر عبر الانقلابات العسكرية ، والممارسات السلطوية ، والإعلانات الأيديولوجية بما تعنيه من فرض الأفكار الخيالية والمثالية على الواقع مما يستلزم الاستبداد لتحقيقها ، وهو ما يتناقض مع التحررية التى تستهدف تحرير المقهورين لأنفسهم ذاتيا ، وذلك بسيطرتهم الجماعية على المصادر المادية للسلطة أولا ، وتنظيم انتفاعهم بها على أسس لا سلطوية ، تعتمد على إرادتهم الحرة ومبادرتهم الذاتية فى إنشاء جماعاتهم المختلفة لتغطى كافة أنواع أنشطتهم ثانيا .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية