السبت، 5 أبريل 2008

الرأسمالية المأزومة و البروليتاريا الخاملة

الرأسمالية المأزومة و البروليتاريا الخاملة
سامح سعيد عبود
نظرا لحيوية الرأسمالية الفائقة بعكس الركود المميز للأنظمة ما قبل الرأسمالية ، فقد تلازمت منذ بدايتها و عبر تطورها مع دورات من الأزمات و التكيف معها والخروج منها ، وكأن هذه الدورة المزمنة أحد خصائصها الجوهرية ، ذلك التأزم الذى طالما دفعها دوما وفق قاعدة التحدى والاستجابة لتغير من أشكالها باستمرار بغرض التكيف معها وحلها . إلا أن كل الأزمات السابقة التى واجهتها حتى الآن كان لها حلولا لم تعصف بجوهرها ، و إن كانت قد بدلت فى أشكالها، ويلاحظ أن هذا الطابع المأزوم دائما للرأسمالية كان هو الأساس الموضوعى للتنبؤات المتواترة بنهايتها الوشيكة خلال القرنيين الماضيين التى سارع للتبشير بها الاشتراكيين والشيوعيين و اللاسلطويين ، والتى لم تحقق حتى الآن برغم كل هذا التاريخ الطويل من مناهضة الرأسمالية و نقدها وتهديد وجودها و التنبوء بنهايتها الوشيكة.
هذا الظاهرة الملازمة للرأسمالية ، ناتجة عن ميل معدل الربح الرأسمالى للهبوط ، ذلك لأن الرأسماليون يواجهون بعد فترة من استخدام وسائل إنتاج ذات مستوى معين من التطور ، تقلص ما يمكن أن ينتزعوه من فائض قيمة من العمل الحى بالنسبة لقيمة العمل الميت ، أى وسائل الإنتاج المملوكة لهم ، مما يدفعهم بشكل مستمر لتقليص الاعتماد على العمل الحى فى الإنتاج بإحلال الآلات محله ، لكى ترتفع الأرباح مؤقتا فى فترة رواج قبل أن تنخفض مجددا فى فترة ركود .
عبر تاريخها واجهت الرأسمالية خطر ضيق سوق الاستهلاك لمنتجاتها ، فجاهدت من أجل توسيع و احتكار الأسواق لسلعها الراكدة ، و فى لحظة ما تكررت كثيرا فى هذه العملية المستمرة منذ أكثر من خمسة قرون ،وجدت الرأسمالية نفسها أمام وضع كان لابد و أن تحطم فيه وسائل الإنتاج القديمة ، وأن تتخلص من فائض السكان غير المنتج الذى طردته خارج عملية الإنتاج ، بعد أن حولته على غير مصلحتها لجيوش من المستهلكين غير المنتجين مما شكل عبأ عليها ، كونه أصبح منذرا بخطر الانفجار فى وجهها ، و قد واجهت الرأسمالية قديما مثل تلك الأزمات بالحروب العالمية و غير العالمية .
فالحرب هى بمثابة الأكسير الذى يعيد الشباب للرأسمالية بعد كهولتها ، فالحرب تعنى ببساطة تشغيل مصانع السلاح و معدات القتال و إمدادات الجيوش و إهلاكها ، و تجنيد و تشغيل المتعطلين عن العمل فى سواء فى الصناعات الحربية أو الدفاع المدنى أو إهلاكهم فى الحرب ، وبذلك يتم التخلص من الفائض السكانى والسلع الراكدة على السواء ، مما يعنى إعطاء الرأسمالية فرصة جديدة للانتعاش مجددا سواء أثناء الحرب أو بعدها ، كما تتسبب الحروب أيضا فى إهلاك وسائل وطرق الإنتاج المتخلفة و تدمير المدن والمرافق القديمة ، لتأتى فترة السلام بعد الحرب ليعاد بناء المدن و المرافق العامة ، و إحلال وسائل وطرق إنتاج جديدة أكثر تقدما وإنتاجية ، فتحل فترات مؤقتة من الرواج والتشغيل الكامل للعمالة و زيادة الإنتاجية ، و من ثم يرتفع معدل الأرباح ، كما حدث هذا فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، إلا أنها سرعان ما واجهت مجددا ميل معدل الربح للانخفاض مشكلة حالة الركود التضخمى التى بدأت مع السبعينات حتى الآن .
وفى مرحلة تاريخية معينة حلت الرأسمالية أزمات البطالة والفائض السكانى بتوطين المهمشين والعاطلين الذين لفظتهم الثورة الصناعية فى غرب أوروبا فى قارات العالم الجديد ، وذلك بإحلالهم محل السكان الأصليين بعد إبادتهم . وهى الآن تواجه نفس الأخطار القديمة دون إمكانية عملية لإشعال حرب عالمية شاملة بين الدول الرأسمالية الكبرى بسبب الردع النووى وتشابك المصالح الاقتصادية بينها ، ودون أدنى إمكانية فى التخلص من فائض السكان بالاستيطان فى عوالم جديدة ، فاستيطان كواكب أخرى صالحة للحياة عملية تبدو مستحيلة حتى الآن.
واجهت الرأسمالية أزماتها الأولى المتمثلة فى محدودية السوق المحلى أمام ضرورة زيادة الإنتاج السلعى للمحافظة على الأرباح و زيادتها ، بتحطيم العلاقات الإقطاعية بما فيها تحرير الأقنان ليتحولوا لعمال لديها ، و السيطرة على السوق القومى بالوحدة القومية ، و مع مزيد من التوسع فى الإنتاج السلعى ظهرت أزمات الكساد الدورية الناتجة عن فيض الإنتاج ، فوجدت الرأسمالية ضالتها فى حل تلك الأزمات فى حفز دولها القومية و جيوشها لاستعمار البلدان الأخرى من أجل إيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها و مصادر المواد الخام التى احتاجتها من أجل التوسع فى الإنتاج ، و الأيدى العاملة الرخيصة ومناطق الاستيطان .
ومع أزمات عجز البورجوازيات المحلية عن النمو ، تلك المشكلة الذى واجهت بلدان العالم فيما عدا الدول الرأسمالية الأولى ، فقد سلكت الرأسمالية طريق تدخل الدولة بشكل مباشر فى عملية الإنتاج ، بتنويعات مختلفة عبر القرنين الماضيين فى ألمانيا واليابان وإيطاليا وروسيا و شرق أوروبا و بلدان العالم النامى سواء من خلال رأسمالية الدولة أو نمط الإنتاج البيروقراطى فى الدول التى دعيت بالاشتراكية .
وواجهت أزمات الكساد الكبرى التى هددت وجودها فى الثلاثينات بسياسات زيادة الإنفاق الاجتماعى العام فى غرب أوروبا و أمريكا الشمالية فيما عرف بدولة الرفاهية ، و واجهت الجوع للمستعمرات لتصريف المنتجات لدى الطبقات الرأسمالية فى ألمانيا و إيطاليا واليابان بالنزعات العدوانية القومية التوسعية، وعلى وجه العموم فقد واجهت خطر البروليتاريا الصناعية التى هددت وجودها فعليا فى مراكز الصناعية ، بالفاشية أو الإصلاحية أو البيرقراطية الشمولية و فى الأطراف بالقومية الشعبوية على السواء .
وإزاء كل هذه الأزمات تنوعت الرأسمالية فى العديد من الأشكال محافظة على مضمونها فى انتزاع فائض القيمة من العمل المأجور ، فعرفت الرأسمالية أشكال الرأسمالية التنافسية و الرأسمالية الاحتكارية و رأسمالية الدولة و الرأسمالية الكوكبية عبر القرنين الماضيين فى كل بلدان العالم ، و قد تجاورت هذه الأشكال فى بعض البلاد جنبا إلى جنب ، و بأحجام متفاوتة من بلد لآخر ، إلا أن البلاد التى سميت بالاشتراكية حتى التسعينات من القرن الماضى لم تكن تعرف سوى نمط الإنتاج البيروقراطى فقط على مدى خمسة وسبعين عاما حتى سقط هذا الشكل ، مع سقوط أشكال تدخل الدولة فى الإنتاج و انحسارها فى العالم كله ، و ذلك على أثر سيادة الشكل الكوكبى من نمط الإنتاج الرأسمالى فى العالم بأسره مع نهايات القرن العشرين .
مع السبعينات من القرن العشرين ، بدأت مرحلة جديدة من مراحل التطور الرأسمالى ،فقد انتهى ربع القرن المجيد التالى للحرب العالمية الثانية ، الذى عرف التشغيل شبه الكامل للعمالة ، وترويض البروليتاريا التى تمتعت فى هذا العصر بالكثير من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، ليبدأ عصر جديدا من البطالة الهيكلية المتزايدة باطراد ، والتهميش الواسع النطاق لقطاعات تتزايد باطراد فى كل مجتمع ، بل وتهميش مجتمعات بكاملها فيما يعرف الآن بالعالم الرابع ، والتهديد بإخراجها من نطاق الحضارة الحديثة ، ربما تمهيدا لإبادتها فى المستقبل القريب بالأمراض الوبائية كالأيدز و الحروب الأهلية والعنصرية والدينية والقومية والعرقية والمجاعات .
ويشكل المهمشون والمتعطلون جيوش متزايدة من غير المنتجين ترغب فى الاستهلاك ، ومستعدة للقبول حتى بوضع العبودية الكاملة لو كان له أن ينقذها مما هى فيه من ضياع ، و أما عن العاملون بأجر فمستعدون للقبول بشروط أسوء للعمل للحفاظ على وضعهم المتميز بالنسبة للمهمشين و المتعطلين ، و الرأسماليون فى إطار سعيهم المحموم للربح ينتجون سلعا لا تجد من يشتريها برغم الأسواق العالمية التى فتحت أمامهم ، و التى وضعتهم تحت ضغط منافسة أشد عبر العالم ، مما يضطرهم لخفض نفقات الإنتاج ، وعلى رأسها الأجور ، مما يزيد من معدل الاستغلال و يضيق سوق الاستهلاك ، وفى إطار الهروب من ميل معدل الربح من الهبوط ، فعليهم التطوير المتسارع لوسائل الإنتاج ، فيتم الاستغناء عن المزيد من العمل الحى ، مصدر الربح نفسه مما يدفع معدل الربح للهبوط فتتسارع معدلات الدورة ، و تتلاحق الأزمات حتى تصل لمستوى لا يمكن تجاوزه ، و كأنما يهرب الرأسمال من الرمضاء للنار ، طاردا المزيد إلى عالم البطالة والتهميش ومن ثم مضيقا لسوق المستهلكين ، ولكن لما كانت الرأسمالية لا بد و أن تنتج لسوق من المشترين يزداد ضيقا بفعل البطالة والتهميش فأن التطور التكنولوجى نفسه سيفرض فى لحظة ما تغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية ، حيث لا يوجد معنى أن تنتج الآلات سلعا لا تجد من يشتريها .ومن هذه اللحظة تقاوم الرأسمالية تطوير وسائل الإنتاج لتتحول لطبقة رجعية وقد فقدت دورها الثورى فى التاريخ.
أن اللاعقلانية السائدة على مستوى الوعى الاجتماعى هى تعبير عن لا عقلانية نمط إنتاج أصبح يدمر الموارد الطبيعية والبشرية على هذا النحو المجنون بالتلوث البيئى و الحروب و الانفاق العسكرى واستهلاك الموارد المتاحة ، و تبديد الإنتاج السلعى، والأخطر من ذلك إهلاك قوة العمل المنتجة الفعلية للثروات سواء بالبطالة والتهميش أو الحروب وفضلا عن عرقلة التقدم الإنسانى لصالح المصالح الضيقة للبورجوازية .
جوهر الإنتاج الرأسمالى يدفع بطبيعته الباحثة عن الربح إلى الإنتاج بلا توقف للسلع ، إلى درجة خلق احتياجات غير ضرورية للمستهلكين لاستهلاك هذه السلع عبر آليات الإعلانات وثقافة الاستهلاك ، و لأن الموارد الطبيعية ليست بلا نهاية على المستوى الاقتصادى للاستغلال على الأقل ، ولأن سوق المستهلكين والمنتجين ليست بلا نهاية ، فهى بئر ذو قرار هو القدرة الشرائية للمستهلكين ، فأن أفق هذا النزوع للإنتاج بلا نهاية يعنى إهدار البيئة ومواردها مما يهدد الكوكب الوحيد المأهول بنا ، بأن يصبح غير صالح للحياة لهؤلاء المستهلكين والمنتجين على السواء ، ومن ثم سيصبح لا مفر أمامنا إلا أن ننتج وفق الاحتياجات الاستعمالية للمستهلكين ، وليس وفقا لاحتياجات التبادل السلعى كما تفترض الرأسمالية بطبيعتها ، وذلك من أجل الحفاظ على الموارد و البيئة ، مما ينسف دافع الربح الناتج عن الإنتاج بهدف التبادل وهو جوهر الإنتاج الرأسمالى .
فى نفس الوقت يلاحظ ظاهرة ديكتاتورية أسواق المال العالمية حيث تستطيع الشركات المتعدية الجنسية نقل استثماراتها ، والرأسماليون الماليون فى نقل الأموال ، عبر العالم بلا قيود ، مما يؤثر على الاقتصاديات فى الدول القومية المختلفة انكماشا وتوسعا ،وبطالة وتوظفا، بعيدا عن إرادة المواطنين .مما يرغم الحكومات على التسابق على إرضاء المستثمرين بالإعفاءات الضريبية والجمركية ، وتخفيض الإنفاق الاجتماعى بعكس رغبة الناخبين .
فى نفس الوقت فأن كل من رأسمالية الدولة ونمط الإنتاج البيروقراطى أصبحت أشكال إنتاج رجعية ، فقدت قدرتها على تحقيق التنمية باعتبارها الضرورة التى دفعت إليها طوال القرن العشرين ، فقد أصبحت رأسمالية الدولة مع التدويل الكامل للإنتاج السلعى ذات إنتاجية أقل من الرأسمالية الكوكبية التنافسية المتعدية الجنسية ، وفى نفس الوقت فذلك الشكل الكوكبى من الرأسمالية أصبح أكثر قدرة على مواجهة العجز عن النمو التى تواجهه الرأسماليات المحلية .
على العكس من كل الفترات المأزومة السابقة التى اعترت الرأسمالية ، و التى أمكنها تجاوزها فى السابق ، فالأزمة الراهنة رغم تمددها فأنها تشهد أيضا أكثر حالات القوى المناهضة للرأسمالية ضعفا ، سواء على مستوى تأثير وعيها اجتماعيا أو قدرتها التنظيمية والنضالية ، فسقوط البيروقراطية فى شرق أوروبا والتى كانت تقدم نموذج بديل للرأسمالية يروج له اليسار التقليدى السائد و الأعلى صوتا على أنه الاشتراكية ، أضعف ثقة الناس بأى خطاب يتجه لليسار الراديكالى فضلا عن اليسار التقليدى ، مما جعل غالبية الناس يرفضون مجرد الاستماع حتى للذين ينتقدون النموذج البيروقراطى ، وحتى من يسمع ويقتنع عقليا منهم، فأنه يفتقد لتلك الإرادة النضالية العاتية و الروح المعنوية المرتفعة والتضحيات المذهلة التى ميزت الشيوعيين والاشتراكيين واللاسلطويين حتى سبعينات القرن العشرين ، فهناك اتهام جاهز لهؤلاء المناضلين بأنهم رومانسيين وخياليين و ربما حمقى و مجانين ، فى وقت أصبحت فيه الأنانية الفردية والنفعية و الاستهلاكية هى القيم الأخلاقية المروج لها بقوة عبر الثقافة والإعلام . فالمزاج العام يتجه يمينا نحو الفاشية والمحافظة فى تناقض مذهل مع تدهور الأوضاع التى تدفعنا لها الرأسمالية ،أما على مستوى التنظيم فقد تفككت روابط البروليتاريا مع عولمة الإنتاج .
المشكلة الأخرى التى تضعف القابلية على خطاب اليسار الراديكالى هى التشكك فى ثورية البروليتاريا الصناعية ، وقدرتها على إنهاء الرأسمالية محررة نفسها والبشرية بأسرها من القهر والاستغلال والاغتراب كما بشرت بذلك الماركسية ، ويستند هذا التشكك على التدجين الكامل للبروليتاريا الصناعية فى مراكز الصناعة فى العالم بالإصلاحية ، فى حين أنها الأكثر قدرة تنظيما ووعيا على سحق الرأسمالية ، أما البروليتاريا الصناعية فى الأطراف فقدرتها الفعلية على إحداث ضرر جذرى للرأسمالية ، لا تتجاوز التمرد على النظام القائم لا تهديد جوهره ، وقد تساعد على تغيير شكله ، إلا أنها أعجز من أن تغيره لما هو أكثر تقدما ، وقدرتها الاجتماعية محددة فى هذه الحالة فى أن يساعد تمردها فى رفع طبقة أخرى غيرها للسلطة لا أن تتولى هى السلطة .
يستند المتشككون أيضا على غيبية إضفاء القدرة الثورية على البروليتاريا الصناعية لتحرير نفسها ، حيث يدفع المتشككون بأن العبيد و الأقنان لم يحرروا أنفسهم من سيطرة ملاك العبيد والسادة الإقطاعين بقدر ما تم التحرير بفضل قوة من خارج البنية الاجتماعية القائمة ، الرعاة البدو فى آسيا و قبائل البرابرة فى أوروبا قديما ، ثم البورجوازية التى نشأت فى المدن الحرة فى غرب أوروبا حديثا على هامش نمط الإنتاج الإقطاعى ، فما الذى يملكه العمال من قدرات لا يملكها العبيد و الأقنان لكى يمكنهم تحرير أنفسهم ،ولماذا بالنسبة للرأسمالية تحديدا نفترض أن مهمة التحرير القادمة ستكون من داخل بنيتها لا من هامشها كما حدث للبني السابقة ، و ذلك كما حدث عبر التاريخ بالفعل .
وانطلاق من رفض الدوجمائية ، أتساءل بصدق إن لم تكن البروليتاريا الصناعية هى الطبقة الثورية ، فمن تكون هى تلك القوة الاجتماعية الثورية القادرة على إنهاء الرأسمالية؟.
نمط الإنتاج الرأسمالى نمط عالمى يسيطر على ما دونه من أنماط و يحتويها ، وفى هذا النمط ينقسم البشر لمعسكرين كبيرين وفق علاقتهم بمصادر السلطة المادية ، وهى وسائل كل من الإنتاج والعنف و المعرفة . وبالطبع يضم كل معسكر معسكرات فرعية وفق درجة هذه العلاقة و نوعها ، ولا يدخل فى شروط الانضمام للمعسكر مستوى المعيشة الذى هو متغير نسبى من مجتمع لآخر لا علاقة له بالموقف من الثورة أو بالمصالح الاستراتيجية للطبقة ، ولا الوعى الاجتماعى السائد الذى هو غالبا وعى الطبقة المهيمنة فضلا على أنه متغير بطبيعته من لحظة لأخرى عبر التاريخ .
يضم معسكر البورجوازية أقلية ضئيلة اجتماعيا من المسيطرين على مصادر السلطة المادية ، وهم الرأسماليين الذين يمتلكون وسائل الإنتاج و البيروقراطيين الذين يسيطرون ويديرون هذه الوسائل فضلا عن إدارتهم لمؤسسات الدولة البورجوازية الرسمية بجناحيها المدنى والعسكرى ومؤسساتها غير الرسمية المتنوعة و ساسة البرجوازية الذين يحكمون لصالحها ، و مثقفوا البرجوازية الذين ينتجون ويعيدون إنتاج وعيها الاجتماعى و ينشروه محققين هيمنتها الفكرية بين سائر الطبقات الاجتماعية .
و يضم معسكر البروليتاريا غالبية ساحقة اجتماعيا مكونة من المحرومين من السيطرة على مصادر السلطة المادية و من ثم لا يملكون إلا قوة عملهم اليدوية أو الذهنية و التى يتنازلون عنها للرأسماليين والبيروقراطيين مقابل أجور ولا يملكون سلطة اتخاذ القرار. و تضم البروليتاريا بجانب البروليتاريا اليدوية فى الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات ، فئات تقترب غالبيتها الساحقة بشكل متزايد من وضع البروليتاريا اليدوية التقليدية و ذلك كبروليتاريا ذهنية حديثة ، فهى لا تملك سوى قوة عملها الذهنية ومعارفها لتبيعها فى السوق الرأسمالى مقابل أجر ، وهى تضم العاملين بأجر من الفنيين و العلماء و المهنيين ، وتعانى هذه الفئات كما تعانى البروليتاريا اليدوية من الاغتراب والاستغلال والقهر طالما كانت مأجورة مستبعدة من الإدارة ، برغم مستوى معيشتها المرتفع الذى يضعها بسببه البعض كطبقة وسطى ، وأصلها و وعيها البورجوازى أحيانا أخرى ، و سائر هذه العيوب التى استبعدتها من الترشيح لقيادة عملية التغيير الاجتماعى و القائمة على فرض أن البروليتاريا الصناعية اليدوية مبرأة من كل من مستوى المعيشة المرتفع و التأثير و الأصل والوعى البورجوازى وهو فرض غير صحيح تماما ، ويلاحظ ازدياد أهمية هذه الفئات البروليتارية الحديثة فى عملية الإنتاج وارتباطها بأكثر وسائل الإنتاج تقدما تلك المنتسبة للثورة العلمية والتكنولوجية الحالية ، ويلاحظ انتاجها لقسم يزداد أهمية من القيمة المضافة . ومن ثم فاستبعادها من الترشيح كطبقة ثورية يتغافل عن أنها الفئات المنتجة و المستهلكة للوعى الاجتماعى عموما بما فيه الوعى الثورى ، وقدرتها على تبنى هذا الوعى لا تعيقه مصالحها الطبقية فى الملكية الخاصة مثلما هو الحال بالنسبة للفلاحين والحرفيين الأحرار و المهنيين الأحرار و لا أوضاعها بالنسبة للسلطة مثلما هو الحال للبيروقراطيين و ساسة البورجوازية و مثقفيها .
و تضم البروليتاريا أيضا فى القاع الاجتماعى ما يطلق عليها البروليتاريا الرثة و التى تضم الذين يبيعون قوة عملهم اليدوى غير الماهر مقابل أدنى الأجور ، و سائر القطاعات المتزايدة باضطراد من المهمشين ، تلك التى تضم كتل البؤس البشرى التى ستشكل فى العقود المقبلة غالبية البشر التى تضم المتعطلين عن العمل والمشردين ، هؤلاء الذين يصعب انتظامهم ، وإن كان من الممكن اندفاعهم وراء أى ديماجوجى و فاشى . و يحلو للبعض أن يرشحوهم كطبقة ثورية بناء على بؤسهم واغترابهم وطاقتهم العاتية فى التمرد ، و هناك اعتراض أساسى على هذا الطرح بأن البؤس فى حد ذاته لا علاقة له بثورية الطبقة من عدمها ، فقد عاشت غالبية البشر الساحقة فى أقصى درجات البؤس والاستعباد طوال التاريخ دون أن يدفعها ذلك للثورة الاجتماعية ، و إن كان قد دفعهم للتمرد العبثى فى كثير من الأحيان دون قدرة فعلية على احداث التغيير الاجتماعى ، والبورجوازيون الذين أنهوا الإقطاع لم يكونوا أكثر بؤسا من الأقنان بالطبع ، هؤلاء الذين عجزوا ربما بحكم هذا البؤس نفسه عن إنهاء الإقطاع رغم كل ثوراتهم العفوية ، فما أكسب البورجوازيون ثوريتهم قدرتهم على إحداث التغيير الاجتماعى و ليس بؤسهم ، و إنما هو نمط الإنتاج الأكثر تقدما الذى ارتبطوا به ، و الذين كانوا أصحاب مصلحة فى سيادته عالميا .
بين الطبقتين الرئيستين فى المجتمع الرأسمالى توجد البورجوازية الصغيرة ، و التى قد يتسع أو يضيق حجمها من مجتمع لآخر وفق درجة تطوره الاجتماعى ، وهى الطبقة التى تملك أو تسيطر على بعض مصادر السلطة المادية ، ولكنها لا تستخدم العمل المأجور لإنتاج القيمة المضافة ، التى تنتجها بنفسها من عملها الحر على ما تسيطر عليه من مصادر للسلطة ، فهى تضم فئات مختلفة من الفلاحيين و تجار التجزئة و الحرفيين الأحرار و المهنيين الأحرار ، وهى فئات رجعية نظرا لتقديسها الملكية الخاصة ولتميزها بالفردية الشديدة ، و ينتج عن هذا صعوبة تنظيمها على أسس جماعية كما أنها لا ترتبط بوسائل إنتاج متقدمة فى الغالب الأعم ، ونمط الإنتاج الرأسمالى يسحقها و يحتويها بتفوقه عليها ، بما يعنيه من قوى و علاقات إنتاج أكثر تقدما .
وفق التفسير المادى للتاريخ ، فالطبقة الثورية هى الطبقة المرتبطة بنمط الإنتاج الأكثر تقدما كوحدة بين قوى إنتاج وعلاقات إنتاج ، ومن ثم تسعى تلك الطبقة لإقامة علاقات إنتاج أكثر تقدما تتيح المزيد من تطوير قوى الإنتاج ، بعكس الطبقات الرجعية المرتبطة بنمط الإنتاج الأقل تقدما ، والتى من مصلحتها الإبقاء على علاقات الإنتاج الأقل تقدما.
و إن كانت الشيوعية قد اعتبرت الطبقة الثورية هى البروليتاريا بكل فئاتها بوجه عام نظرا لاغترابها الكامل فى المجتمع البورجوازى ، مما يسمح لها بنفض تأثير البورجوازية عليها لتخلق هى وعيها البديل ، فقد حددت فى نفس الوقت البروليتاريا الصناعية دون كل فئات البروليتاريا الأخرى من زراعية و خدمية و تجارية و رثة كقوى اجتماعية قادرة على احداث التغيير الاجتماعى ، حيث اعتبرتها الوحيدة القادرة على انجاز الثورة الاجتماعية لإنهاء الرأسمالية من بين الشرائح الأخرى للبروليتاريا ، لمجموعة من الأسباب منها : أنها القوى الاجتماعية الرئيسية المرتبطة بوسائل الإنتاج الأكثر تقدما فى المجتمع مما يجعلها الأكثر استنارة و الأعلى مقدرة على اكتساب الوعى الثورى من دون كل فئات البروليتاريا الأخرى ، وهى الأكثر قدرة على الانتظام جماعيا بسبب طبيعة تواجدها المكثف فى المصانع ، و هى بحكم مركزها المؤثر اجتماعيا ،فهى التى تستطيع أن تقود القطاعات الأخرى غير البورجوازية فى المجتمع مهما تضاءل حجمها هى نفسها بالنسبة لعدد السكان ، لكونها القادرة على التحكم فى الإنتاج المادى أساس حياة المجتمع ، و بالتالى الأكثر قدرة على هزيمة الطبقة الرأسمالية بفعلها الجماعى المنظم ، وقد عرفت الرأسمالية بالفعل هزائم مؤقتة و تهديدات حقيقية لوجودها على يد البروليتاريا الصناعية التقليدية منذ كوميونة باريس 1871حتى أواخر ستينيات القرن العشرين مرورا بثورة نوفمبر 1917و الثورة الاسبانية 1936 فى مراكز الصناعة فى العالم ، ولكن التطورات اللاحقة أحدثت ترويض و تدجين لتلك البروليتاريا الصناعية فى مركز ثقلها الرئيسى فى البلاد المتقدمة بالإصلاحية والفاشية والاشتراكيات البيروقراطية ، وفى الأطراف فى البلاد المتخلفة بالقومية و الشعبوية ، و أخيرا خضوعها فى كل من المركز والأطراف لثقافة الاستهلاك وغسيل العقول بفعل الميديا الحديثة مما وضعها فى وضع الاستسلام للبورجوازية وقيمها ، و اعتقد أن هذا الوضع المؤقت مرتبط بربع القرن المجيد فى تاريخ الرأسمالية ، وأنه سرعان ما سيزول مع التطورات الحالية التى اضعفت الإصلاحية بشدة . ولكن إذا سلمنا بأن القوى الاجتماعية الثورية لم تصبح البروليتاريا الصناعية التقليدية فمن تكون إذن ؟.
البعض يرشح و بقوة البروليتاريا الذهنية الحديثة من فنيين ومهنيين وعلميين ، مبررين ذلك بكونهم الأكثر ارتباطا بوسائل الإنتاج الأكثر تطورا ومن ثم الأكثر قدرة على السيطرة على الإنتاج والتأثير فى المجتمع ، والأكثر قدرة على التحرر من أثر الميديا الحديثة فى غسيل العقول ، والأكثر قدرة على إدراك الأخطار التى تتهدد البشرية بسبب استمرار نمط الإنتاج الرأسمالى ، والأكثر قدرة على الانتظام عالميا عبر وسائل الاتصال الحديثة . وهؤلاء لن يجذبهم اليسار التقليدى ببرنامجه الشمولى البيروقراطى الذى يطرح علاقات إنتاج أكثر تخلفا من علاقات الإنتاج الرأسمالية هى علاقات الإنتاج البيروقراطية التى تعنى العبودية المععمة لقوى العمل المأجورة للدولة التى تسيطر عليها البيروقراطية ، و إنما سيجذبهم برنامج اليسار اللاسلطوى الذى يقوم على أساس علاقات إنتاج أكثر تقدما والقائمة على التعاون الطوعى بين منتجين أحرار ينتفعون جماعيا بالملكية الاجتماعية لكل مصادر السلطة المادية .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية