الاثنين، 7 أبريل 2008

ملاحظات على حركة مناهضة العولمة

ملاحظات على حركة مناهضة العولمة
سامح سعيد عبود
تتنوع بل وتتناقض وتتصارع الاتجاهات والجماعات داخل حركة مناهضة العولمة فى العالم ما بين أقصى اليسار الراديكالى و أقصى اليمين الفاشى ، و إن كان يجمعها شعار العداء للعولمة كل وفق رؤيته الخاصة لما هى العولمة ، وفى مصر فأن المنخرطون فى هذا النشاط ينقسمون أيضا بدورهم وفقا لنظراتهم المتناقضة والمتصارعة لما يناهضونه ، ومن ثم فلابد أن تتناقض شعاراتهم وطرق ممارستهم لمناهضة هذا العدو ، وهو ما لا يمكن أن يجعل من هذه الحركة كيانا متماسكا ، برغم أن ما يشكل لبها الفعال و تيارها الرئيسى عالميا هى قوى اليسار الراديكالى على وجه العموم .
وقد تجلى التناقض حول مفهوم العولمة وطرق مقاومتها فى صياغة دعوة للمشاركة للاجتماع التأسيسى للجماعة المصرية لمناهضة العولمة سواء قبل الاجتماع أو ما أسفرت عنه مناقشات هذا الاجتماع من تعديلات على صياغة الدعوة ، ففى كلتا الحالتين لا تعبر كلا من الصياغتين للدعوة إلا عن اتجاهات محددة فى الجماعة لا مجمل أعضاءها . ومن ثم كان من الضرورى البدء فى حوار فكرى بين هؤلاء الأعضاء حول ما هى العولمة على وجه الدقة .
أن الاقتصاد السياسى قد عرف نظريتين فى شرح بنية الاقتصاد الرأسمالى العالمى .
الأولى نظرية التبعية والتى تقسم العالم لمركز رأسمالى متقدم يستغل و يسيطر على الأطراف المتخلفة مسببا تكريس هذا التخلف فى نفس الوقت من خلال علاقات التبادل غير المتكافئ ، مما يستتبع من هذه الأطراف اتباع سياسات قومية متنوعة ، للتحرر من استغلال المركز إما بالاستقلال الكامل عنه أو بفرض تبادل متكافئ عليه ، و والتخلص من سيطرته و رفض هيمنته السياسية ، وذلك للخروج من دائرة التخلف والتبعية ، وبالطبع تختلف أشكال هذه السياسات برغم اتفاقها فى هذا الجوهر الذى أخذ غالبا فى القرن العشرين شكل التدخل المباشر للدولة القومية فى عملية الإنتاج لدفع عجلة النمو من خلال قطاع الدولة الذى من خلاله نمت بيروقراطية الدولة ، وحازت على أجزاء هائلة من التراكم الرأسمالى، ثم اتخذت فيما بعد سياسات مختلفة لتندمج مع الاقتصاد العالمى ، متحولة لجزء من الرأسمالية العالمية مع انكسار قطاع الدولة فى الإنتاج بعد أن أدى دوره التاريخى لها ، وقد ظلت تلك النظرية الأكثر شهرة والأقوى تأثيرا فى الحركات السياسية اليسارية والقومية طوال القرن العشرين ، وخصوصا فى البلدان الرأسمالية المتخلفة ، وبالطبع مازال لهذه النظرية تأثيرها القوى فى هذه الحركات حتى بعد التطورات الأخيرة فى الرأسمالية التى سنأتى على ذكرها بعد قليل ، والتى أصبحت تتناقض من استنتاجاتها ، وحتى بعد أن اتضح أن سياسات الانفصال عن السوق العالمى ، وسياسات تدخل الدولة ، لم تحدث التقدم والاستقلال والعدالة عبر العالم التى بشر بها منظروها ،إن لم يحدث العكس تماما.
تعتمد نظرية التبعية على فرضية أساسية هى أنه مع ثمانينات القرن التاسع عشر أى مع المرحلة الرأسمالية الاحتكارية ، تفاوتت تعويضات العمل على نفس الإنتاجية بين المركز المتقدم والمتبوع الذى كانت فيه تعويضات العمل أعلى من مثيلتها عن نفس الإنتاجية فى دول المحيط المتخلف والتابع ، مما أدى لنزح فائض القيمة من الثانية إلى الأولى ، وهى ظاهرة مستمرة حتى الآن و قد فشلت سياسات التنمية المستقلة فى القضاء عليها ، وكان من أهم أسباب سقوطها المهين ، وقد أدى هذا التحول فى تفاوتات عائد العمل على نفس الإنتاجية إلى نتائج هامة على مستوى الصراع الطبقى على مستوى العالم فى المركز الرأسمالى المتقدم حيث ازدهرت الحركات الإصلاحية التى استأنست بها الرأسمالية الطبقة العاملة تماما ، وفى المحيط المتخلف حيث ازدهرت الحركات الثورية التى لم تنجح فى تحقيق أهدافها عبر قطاع الدولة .. فالمسألة ليست فى التبادل السلعى فى حد ذاته بين المراكز و الأطراف، وهو السائد منذ أن بدأت الرأسمالية فى الحياة الأمر الذى أكسبها العالمية منذ البداية . وإنما فى قواعد هذا التبادل غير العادلة ، والتى انقلبت لميزة نسبية فى بعض بلدان العالم الثالث حيث تسعى الرأسمالية العالمية إلى حيث الأيدى العاملة الرخيصة ، والأقل قدرة على ممارسة الصراع ضد رأس المال لتصدر الصناعات كثيفة العمالة إلى دول المحيط . ومن ثم فأن جوهر التحرر من التبعية فى الحقيقة وهو ما لا يقترب منه أحد هو فى تحقيق تبادل عادل للسلع ، يعنى تعويضات متماثلة لقوة العمل مقابل نفس الإنتاجية فى بلدان المركز والمحيط . وهو لا يعنى سوى تحرير قوة العمل كسلعة مثل غيرها من السلع ومثلها مثل الرأسمال وإعطاءها حرية الانتقال عبر العالم شأنها فى ذلك مثل غيرها من السلع وهو الأمر الذى سيؤدى إلى تساوى عائد العمل على نفس الإنتاجية فى شتى بقاع العالم . وتوقف نزح العائد من الأطراف إلى المركز .
الثانية نظرية النظام العالمى والتى تعتبر أن العالم منذ أن سادته الرأسمالية منذ القرن السادس عشر يحكمه نظام اقتصادى عالمى واحد ، والدول القومية فيه ليس لها تواريخ منفصلة عن بعضها أو موازية لبعضها ، وقدر كل دولة قومية داخل هذا النظام الواحد محدد بوضعها داخل الاقتصاد العالمى الواحد ، وهذا الشكل الضرورى والمستمر للرأسمالية يتناقض مع تاريخية المركز الغنى والمحيط الفقير فى نظرية التبعية ، ومن ثم فهو يعتبر أن هذه التراتبية بين الفقراء والأغنياء ، تستند على نمط التقسيم الدولى للعمل ، فالقيمة المضافة فى قطاعات الزراعة والتعدين والصناعة التجميعية التى يتخصص فيها الفقراء أقل من القيمة المضافة للصناعات المتطورة التى يتخصص فيها الأغنياء ، وهو ما يعمل على تقدم الدول الغنية وزيادة ثراءها ، و قد اقتصرت شهرة هذه النظرية على دوائر محدودة ، ولم تلق نفوذا يذكر فى حركات سياسية مؤثرة و خصوصا فى البلدان الرأسمالية المتخلفة .
و قد انقسم اليسار لفريقين بناء على استناد كل فريق على إحدى هاتين النظريتين :
الفريق التقليدى السائد استند على نظريات التبعية و اعتبر أن الصراع الأساسى و الأهم و أحيانا الوحيد هو الصراع القومى و الذى لابد من حسمه أولا ليأتى وقت الصراع الطبقى ، أو مزج غالبا ما بين الصراعين على حساب الصراع الطبقى ،وتحالف مع القوى القومية وخصوصا فى البلاد المتخلفة ، و بناء على ذلك فهو يناضل من أجل الدولة القومية الشمولية القوية المسيطرة على كل العناصر الاجتماعية المادية والسياسية والثقافية من أجل دفعها للنمو واللحاق بالمركز المتقدم .
أما الفريق الراديكالى الهامشى فقد استند على نظرية النظام العالمى فقد اعتبر أن الصراع الوحيد و الممكن هو الصراع الطبقى داخل هذا النظام العالمى الواحد ما بين الرأسمالية و الطبقة العاملة ، و الذى لابد من حسمه بوحدة عمال كل بلاد العالم من أجل إنهاء هذا النظام على نطاق عالمى وخلق نظام أكثر تقدما وعدالة يقضى على انقسام العالم لفقراء و أغنياء .
فى الحقيقة أن كلمة عولمة ليست تعريفا لظاهرة طارئة على الرأسمالية يمكن تعريفها بتعديد مظاهرها المختلفة وأسبابها كما يحلو للبعض ، وإنما هى ببساطة أحدث أشكال نمط الإنتاج الرأسمالى و أكثرها تقدما وارتباطا بالقوى الأكثر تقدما للإنتاج ، ومن ثم فهناك من يعارضون العولمة بدوافع رجعية من أجل العودة لما هو أكثر تخلفا كما عارض الرأسمالية فى بدايتها النبلاء الإقطاعيين والحرفيين والفلاحين المستقلين متطلعين لعلاقات الإنتاج الإقطاعية القديمة ، وهناك من يعارضون العولمة بدوافع تقدمية من أجل تجاوزها لنمط أكثر تقدما كما عارض شيوعيو القرن التاسع عشر الرأسمالية متطلعين لعلاقات أكثر تقدما .
ذلك أن الرأسمالية عرفت ثلاث مراحل أرتبط كل منها بشكل ما فرعى من نمط الإنتاج الرأسمالى ،ومستوى معين من التطور التكنولوجى ، ولم يمنع هذا بالطبع أن تتجاور هذه الأشكال جنبا إلى جنب ، و إنما كان فى كل مرحلة هناك شكل ما سائد كان له سماته الخاصة ،فى العلاقات المتبادلة ما بين كل من العمل و رأسالمال و الدولة.
كان أول أشكال الرأسمالية ظهورا هو الرأسمالية التنافسية ، وقد ارتبط بظهور الطاقة البخارية ، وقد ساد هذا النمط حتى آواخر القرن التاسع عشر ، وهو مشابه فى كثير من سماته لسمات الرأسمالية الكوكبية الحالية من حيث حرية انتقال رأسالمال والسلع والعمالة عبر العالم وحرية التجارة ونمو الحركات العمالية الجذرية المعادية للرأسمالية بنظرتها الأممية للصراع الطبقى ، وقوة الاتجاهات الليبرالية والمحافظة فى معسكر البورجوازية .
وقد سادت كل من الرأسمالية الاحتكارية و قطاع الدولة البيرقراطى فى الإنتاج من أواخر القرن التاسع عشر و حتى نهاية القرن العشرين ، وقد ارتبط هذا العصر بالطاقتين البترولية والكهربية ، وهو عصر ترويض الطبقة العاملة و قمعها و استيعابها بالإصلاحية و الفاشية و الاشتراكيات البيروقراطية و ترسيخ مفهوم قومية الصراع الاجتماعى و طمس الصراع الطبقى ، وهذا العصر أتسم بدولنة الإنتاج والتوزيع والتبادل و السياسات الحمائية ضد حرية تبادل السلع و حرية انتقال رأسالمال و هجرة العمالة، وتقييد الاستثمار الرأسمالى فى أشكاله التنافسية . وهو عصر نمو وقوة اليسار التقليدى و الإصلاحية على حساب لقوى الأخرى .
ومع سبعينات القرن العشرين ظهرت الرأسمالية الكوكبية المترجمة على سبيل الخطأ بالعولمة مما يشوش فهمنا لها فيعتبرها البعض مجرد ظاهرة مرتبطة بنهاية الحرب الباردة وظهور القطب الواحد والهيمنة الأمريكية على العالم ، وهو تفسير خاطئ لا علاقة له بجوهر عملية الكوكبة التى ليست سوى الرأسمالية نفسها فى أكثر أشكالها تقدما ، فالرأسمالية تتسم بميل جوهرى هو توسيع سوقها عبر العالم ، هربا من ميل معدل الربح للهبوط ، وهى فى إطار هذه العملية لابد وأن تحطم كل ما يقف فى مواجهة هذا التوسع من حدود و قيود ، وعندما سيتم لها هذا كاملا غير منقوص ، ستواجه حدود الكوكب نفسه الذى لا امتداد بعده مما سيؤدى لنهايتها على نطاق عالمى ، وهى عملية تندفع لها الرأسمالية بعنف ،ومن يحاول إبطاء هذه العملية أو عرقلتها فهو يهدف لإطالة عمر الرأسمالية أكثر مما ينبغى .
وقد ارتبط ظهور الرأسمالية الكوكبية "العولمة" بالثورة العلمية والتكنولوجية الحديثة التى لاحت بوادرها مع نهاية الحرب العالمية الثانية المتمثلة ،و قد عاق تقدمها انقسام العالم ما بعد الحرب ، وما إن سقط أحد المعسكرين حتى انطلقت الرأسمالية الكوكبية محطمة كل الحدود القومية و مقيدة سيادة الدولة القومية ومسيطرة على ما دونها من أشكال أكثر تخلفا و أقل إنتاجية ، الرأسماليات المحلية التنافسية و الاحتكارات و قطاعات الدولة القومية ، فبدأت منذ تلك الفترة وعبر العالم بأسره ، على قدم وساق سياسات التحرير الاقتصادى والخصخصة وسحب المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للطبقتين العاملة والوسطى التى حازتها خلال المرحلة السابقة، لتعود سمات المرحلة التنافسية للقرن التاسع عشر ولكن على نطاق عالمى أكثر عمقا واتساعا مرة أخرى .
وكما ظهرت معارضتان متناقضتان للرأسمالية التنافسية تعبران عن قوى اجتماعية تضررت منها من زوايا مصالح متناقضة ، فقد ظهرت معارضتان متناقضتان للعولمة أو الرأسمالية الكوكبية تعبران بدورهما عن قوى اجتماعية أخرى متضررة من زوايا مصالح متناقضة .
أحدهما يمينا تنشد الوضع السابق على الرأسمالية الكوكبية ، بما فيها السياسات القومية الحمائية و التدخلية للدولة، وتطالب بتقييد بل ومنع حرية انتقال السلع و رأسالمال والعمالة ، وتسعى لتقوية دور الدولة القومية فى مواجهة ديكتاتورية أسواق المال العالمية ، وحماية الثقافات القومية والمحلية أمام ثورة المعلومات والاتصالات .
والثانية يسارا تنشد عالم بديل يتجاوز الرأسمالية تماما كنمط إنتاج ببناء مجتمع بلا قهر أو استغلال يتمتع فيه كل سكان الكوكب بالحرية والمساواة ، أنها عودة للأصول العميقة للمعارضة الشيوعية الأممية الجذرية للرأسمالية فى القرن التاسع عشر التى تم تشويها وتحريفها فى القرن العشرين بالقومية والبيروقراطية والشمولية و الدولنة.
و لأن الرأسمالية الكوكبية مازالت فى طور النشوء ولم تكتمل بعد ، ومن ثم لم تصل لحالة الاستقرار والتبلور النهائى ، فكذلك هى حالة كل من الحركة المعارضة لها ، والقوى الاجتماعية المستندة عليها ، ولذلك فأن الحدود الفاصلة بين كلتا المعارضتين اليمينية واليسارية لم تتحدد بوضوح حتى الآن ، حيث تتداخلان فيما بينها فى الشعارات و القوى الاجتماعية المعبرة عنها بتلك الشعارات ، ومن ثم فكلا الاتجاهين فى حركة مناهضة العولمة يضم أحيانا قوى اجتماعية ليست فى معسكرها الطبيعى ، بل تقف فى المعسكر المضاد لمصالحها الاستراتيجية .
والمثال الصارخ على ذلك القطاعات الواسعة من الطبقة العاملة فى العالم الرأسمالى المتقدم المتضررة من انتقال الاستثمارات إلى بلاد الجنوب المتخلف مما يفقدها فرص التوظف ، كما تعادي العمالة المهاجرة لبلادها ، و التى تنافسها فى سوق العمالة الذى يزداد ضيقا ، ومن ثم فهى تطالب بوقف الهجرة وتقييد حرية انتقال العمالة ، ومنع انتقال الصناعة و الاستثمارات لبلاد الجنوب ، ومن ثم فهى تعارض العولمة من خلال رؤية اليمين العنصرية ،وفى الحقيقة فأنها الأكثر تضررا من العولمة بما يتم سحبه منها من حقوق وحريات اجتماعية واقتصادية وثقافية حصلت عليها فى الفترة الاحتكارية و الدولتية ، لا تقاس بها تلك الحقوق الضئيلة التى يخسرها العمال الآن فى بلاد الجنوب نتيجة الرأسمالية الكوكبية.
كما أن عمال قطاع الدولة سواء فى الجنوب أو الشمال المناهضون لخصخصة القطاع العام يدافعون فى الحقيقة عن الشكل الأكثر استغلالا واستعبادا وتسبيبا لاغترابهم لهم ، و إن كان يبدو أكثر حماية لهم ظاهريا ، وهؤلاء يعارضون العولمة من زاوية يمينية تدافع فى جوهرها عن البطالة المقنعة وضعف الإنتاجية والاستغلال البيروقراطي والفساد الذين يتميز بهم قطاع الدولة ، ولكن هذه أوضاع مؤقتة لمواقف الطبقة العاملة سرعان ما ستنتهى مع اكتمال الكوكبية ، فعندما سيتساوى العمال فى ظروف عملهم و حياتهم عالميا فى مواجهة الرأسمالية الكوكبية ،فأن مواقفهم ستتوحد بالضرورة فى مواجهتها. وهذا ما تسعى إليه بعض جماعات مناهضة العولمة برفعها شعارات مثل حرية الهجرة مقابل حرية التجارة ، و تعويضات متماثلة لقوة العمل مقابل نفس الإنتاجية فى بلدان المركز و المحيط .
كما يتضرر من العولمة أيضا من زاوية اليمين، الرأسماليون المحليون الذين يتضررون من المنافسة الأجنبية ومزاحمتها لهم فى سوقهم المحلى ،ذلك السوق الذى كانوا يتمتعون فيه بأوضاع شبه احتكارية تحقق لهم هوامش ربح مرتفعة للغاية برغم عدم قدرتهم على المنافسة عالميا ، حيث ينفردون بالمستهلك المحلى ، فيبيعون له بضاعة أردأ و أغلى لا لشىء سوى أنه لا يجد سوى سلعهم المحمية بالسياسة الحمائية ،حتى بالنسبة لهؤلاء فإن إفلاس غالبيتهم المنتظر نتيجة الرأسمالية الكوكبية ،سيؤدى بأقليتهم الأكثر قدرة وكفاءة على تطوير وسائل إنتاجها للاندماج فى السوق العالمى الموحد ، وتحسين منتجاتها لاكسابها قدرة أعلى على المنافسة ، وسيكفون عن معارضتهم للعولمة بذوبان أى فروق ما بين ما هو قومى و ما هو عالمى فى الإنتاج .
ينضم بالطبع لهؤلاء بيروقراطيو قطاع الدولة الذين يتحسرون الآن على أيام احتكارهم السوق المحلى ، ونهبهم لهذا القطاع على حساب العاملين فيه فى عصر توسع قطاع الدولة ،إلا أنهم قادرين بما توافر لديهم من أموال نتيجة أوضاعهم السابقة أن يندمجوا فى الاقتصاد العالمى ومن ثم سيكفون بدورهم عن المعارضة .
الرأسمالية الكوكبية اتجاه كاسح له أبعاده التقدمية برغم كل ما سينشأ عن هذا التقدم من مآسى إنسانية ، وهو لا يواجه خطر معارضيه على اليمين أو اليسار فحسب ، بل يواجه خطر الأفق المغلق للتوسع الرأسمالى عندما يصل لأقصى الحدود الممكنة لهذا التوسع ،كما يواجه الأخطار المدمرة الناتجة عن اكتساحه و انتصاره وسيادته على نطاق الكوكب ،ذلك لأن أبرز ما يميز الرأسمالية الكوكبية هو ديكتاتورية أسواق الأموال العالمية ،التى تتهاوى أمامها أسوار الدولة القومية والسيادة القومية ،حيث تعجز أكثر الحكومات يسارية أمام هذه القوى العاتية فى أن توفر الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية لمواطنيها ، فستؤدى انتصارات الرأسمالية الكوكبية ،إلى ما لم تتخيله أكثر العقول تشاؤما ،ستشهد السنوات القادمة تهميش واسع النطاق للغالبية الساحقة من البشر سواء داخل كل المجتمعات أو حتى لمجتمعات بشرية بكاملها ، و سيواجه العالم ارتفاع مستويات البطالة وزيادة معدلات الفقر وانحطاط مستويات المعيشة ونوعية الحياة بمعدلات غير مسبوقة مما سيزيد من معدلات الجريمة لمستويات مروعة ، فضلا عن تدهور الخدمات الصحية والتعليمية للغالبية الساحقة من البشر ،وأمام هذا الفائض السكانى الذى سيزداد بؤسا و القابل للانفجار ،لن تتوانى الرأسمالية فى التخلص منه عبر الحروب العنصرية والقومية والدينية و العرقية والأهلية ،ومن ثم ستزيد معدلات العسكرة والعنف والإرهاب فى العالم ، فالمطلوب لكى تستمر الرأسمالية فى البقاء أن تبيد غالبية السكان .فعالم الرأسمالية الكوكبية عالم ينقسم بوضوح لقلة صغيرة للغاية تسيطر على مجمل الثروة البشرية و السلطة ووسائل العنف والمعرفة و غالبية ساحقة من العمال المأجورين المهمشين محرومة تماما من الثروة والسلطة والمعرفة ،أنه عالم تدهور الطبقة الوسطى وبلترتها .
أن الحديث عن العولمة بشكل يركز على أنها مجرد الهيمنة الأمريكية على العالم ،والخضوع لمنظمة التجارة العالمية والبنك الدولى يشوش الفهم الصحيح للعولمة ، فالذى يحكم العالم ليس ذلك الشخص القابع فى البيت الأبيض و لا منظمة التجارة العالمية و لا البنك الدولى و لا قمة الثمانية الكبار فكل هذه مجرد مؤسسات فى خدمة ديكتاتورية أسواق المال العالمية ، التى بسبب طابعها العالمى لا تعرف الجنسية ولا القومية ولا الدين ،أن حكمها سيبسط فى النهاية هذا العالم الذى يجعلنا نختلف حول تفسيره بسبب تعقده الشديد ، حيث تذوب كل الفوارق بين البشر لتبقى الفوارق الطبقية واضحة وجلية للعيان ،هذا هو ما ستؤدى إليه السيادة الكاملة للرأسمالية الكوكبية أو العولمة.
الحديث عن ثقافة الاستهلاك والعنف باعتبارهما سمتان بالتحديد للثقافة الأمريكية التى تسعى امريكا لتسيدها عالميا كأحد ظواهر العولمة ، هو بدوره حديث خرافة لا علاقة له بحقيقة وحدة الثقافة والحضارة البشرية عموما ، وهو حديث يحمل رؤية عنصرية مضادة توصم الأمريكيين دون غيرهم بالسطحية والتخلف والعنف ، والحقيقة أن الثقافة و إن كانت نتاج قوميات وجنسيات وبلاد وحضارات بعينها ، فأنها لا ينبغى أن تقسم وفق الجنسيات و البلاد و القوميات التى أنتجتها ، و إنما وفق ما تشيعه من قيم و مشاعر و ما تدفع إليه من سلوكيات و طرق تفكير فى متلقيها ، هذا هو المعيار التقدمى الوحيد لقبول منتج ثقافى ما أو رفضه، أما حين يأتى الرفض والقبول على أساس القومية والدين والجنس والحضارة..فأن رجعية وعنصرية هذا المنطق لا تخطئها العين ، ومن ثم تنقسم المنتجات الثقافية وفق المنطق التقدمى لمنتج ثقافى راقي يعمق المثل الإنسانية العليا لدى البشر ، ومنتج ثقافى منحط يدفعهم فى طريق المثل الإنسانية السفلى .
ومن ثم فأن الثقافة السائدة عالميا الآن ليست نتاج أمريكى بالتحديد ، بل هى إنتاج عالمى بكل ما فيها من سطحية وتفاهة ودعوة للعنف وعبادة للاستهلاك وخرافية و لاعقلانية وانحطاط فإن كل هذه السمات هى النتيجة المنطقية لسيطرة منطق السوق و التسليع والربح على الإنتاج الفنى و الثقافى والفكرى ، وهى النتيجة المنطقية للرأسمالية كنمط إنتاج فى عصر اكتمالها وانحطاطها فى نفس الوقت ، لا بسبب الهيمنة الأمريكية كما يدعى البعض.
يلاحظ منذ بدء عصر الرأسمالية الكوكبية انحسار و ضعف كل القوى السياسية التى شهدت عصر ازدهارها وحكمها وسيادتها فى قرن الاحتكارات والسياسات التدخلية للدولة ، وهى تحديدا اليسار التقليدى و الإصلاحيين و الليبراليين ، لينتقل المد والقوة والحكم والسيادة نحو القوى السياسية المحافظة والفاشية ، وهو ما ينبئ بالمزيد من الاندفاع نحو الفاشية فى العقد المقبل كنتيجة لما تجره سياسات الرأسمالية الكوكبية على العالم ، ومن ثم فأن الاتجاه السياسى العام المتصاعد فى العالم هو سحب و تقييد مجمل الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فى كل بلاد العالم التى تم الحصول عليها وإقرارها للطبقات العاملة والوسطى خلال القرن الماضى .
ومن هنا فالنضال اليومى لحركة مناهضة العولمة لابد وأن يتخذ طريق النضال من أجل هذه الحقوق لكل البشر ، آخذين فى الاعتبار أن الدولة القومية فقدت قدرتها على حماية مواطنيها أمام السلطة العالمية لرأسالمال ، ومن ثم فالنضال من أجل هذه الحقوق لابد وأن يأخذ منحى عالمى ،فقد غيرت الرأسمالية الكوكبية العالم بالفعل ومن ثم فخطابات اليسار التقليدى والإصلاحى داخل نطاق الدولة القومية قد تحولت الآن لألوان من اليوتوبيا غير القابلة للتنفيذ سوى على نطاق عالمى.
وكما لابد أن يستند هذا النضال على ضرورة تقليص الجهاز البيروقراطى للدولة لأقصى حد ممكن لا تضخيمه كما تستدعى ذلك كل سياسات تدخل الدولة مباشرة فى المجالات غير السيادية ، و ذلك كشرط جوهرى لتمتع المواطنين بالحرية فى مواجهة جهاز الدولة .
ذلك أن تدخل الدولة المباشر فى المجالات غير السيادية ومن ضمنها كفالة هذه الحقوق يعنى تضخم الجهاز البيروقراطى و ترهله وفساده والذى لا ينتج فى النهاية وكما شهدت التجربة سوى إهدار الموارد على جيوش الموظفين المعرقلين للأداء والتطور ، و سوء الخدمة المقدمة للجماهير فى ظل ضعف الموارد و البقرطة المتزايدة لجهاز الدولة ، و أخيرا فإن السياسات التدخلية تعنى تقوية جهاز الدولة و بيروقراطيه فى مواجهة الجماهير الذين يصبحون فى حالة إذعان لهذا الجهاز الذى تزداد قدراته على التحكم فيهم بزيادة كل ما يمكن أن يمنحه لهم ، و بزيادة كل ما يمكن أن يمنعه عنهم ، مما يفرخ مناخ الفساد و المحسوبية و الاستبداد و إهمال مصالح الجماهير .
و الأمر فى هذا يحتاج بالفعل لصياغات إبداعية للنضال سواء للشعارات المطروحة وطرق تحقيقها فى ظل الظروف الراهنة أو طرق الممارسة النضالية وفق هذه الظروف فعلا، لا مجرد ترديد الخطابات القديمة المستهلكة ،استسهالا و جمودا و إرضاء للضمير دون إمكانية حقيقية لتحققها .
فعلى سبيل المثال لا الحصر .
إننا لا يمكن و لا ينبغى لنا أن نقاوم الخصخصة ،ولكننا من الممكن أن نناضل ضد تشغيل الأطفال وأن نناضل من أجل إعانات البطالة للمتعطلين عن العمل ،و خفض سن التقاعد عن العمل ، وإدارة المؤمن عليهم لصناديق التأمين والمعاشات ، ومن أجل زيادة الأجور وحقوق الإضراب وحرية العمل النقابى .
أننا لا ينبغى أن نقف ضد تحرير العلاقات الايجارية فى العقارات و الأراضى الزراعية ولكننا يجب أن نناضل من أجل إطلاق حرية واستقلال التعاونيات والجمعيات الأهلية عن كل من رأسالمال و الدولة

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية