الطريق إلى الحرية و المساواة
الطريق إلى الحرية و المساواة
سامح سعيد عبود
كتب سكرتير عام الكونفدرالية اللاسلطوية الدولية للشغل فى باريس فى معرض مقارنته بين الاحتجاجات الصاخبة لحركة مناهضة العولمة الرأسمالية التى شغلت وسائل الأعلام فى الأعوام الماضية، و برغم كل ذلك انتهت بعد أن تم انهاك كوادرها تماما لتستمر العولمة الرأسمالية فى انتصاراتها ، وبين ما يحدث فى الأرجنتين وغيرها من بلاد العالم من أشكال للتحرر الذاتى مؤكدا على جدوى تلك الأخيرة فى مقابل لا جدوى الاحتجاجات الصاخبة التى لم تسفر عن شىء. وبتطبيق مثل هذا النقد على المئات من اليساريين المصريين الذين انهكوا أنفسهم عبر العاميين الماضيين فى إصدار البيانات وعقد المؤتمرات و تنظيم المظاهرات والاعتصامات، دون رؤية أى بارقة أمل فى تحريك الكتل الاجتماعية المؤثرة من سلبيتها، ودون تحقيق أى مكاسب إصلاحية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ذات أهمية، كما خاض بعضهم الانتخابات البرلمانية الأخيرة دون الاستناد على أى قواعد اجتماعية يمكن أن تلتف حولهم أو تؤيدهم، ودون امتلاكهم حتى الحد الأدنى من القدرة على المنافسة فى انتخابات تحكمها أساسا عمليات شراء الأصوات و البلطجة والقبلية و الطائفية و الخدمات، و التى يجب أن يترفعوا عنها جميعا بالطبع، فلم تحكم الانتخابات فى مصر يوما الخيارات بين البرامج السياسية التى لا يجيدون سواها، فلقوا هزيمة مدوية ناتجة بالأساس عن اصرارهم على نفس تلك الممارسات السياسية العبثية ثم جلد الذات بعد كل هزيمة، وهنا يحق لنا أن نسأل ألم يكن من الأجدى لهم أن يصرفوا جهودهم فيما هو مفيد . بخلق مؤسسات اجتماعية مستندة على قوى اجتماعية قبل خوض أى نضال سياسى سواء أكان إصلاحى أو ثورى ، أو التطلع لأشكال من العمل الجماعى المنظم الذى يتناسب و ظروف الواقع الجديدة ليستفيدوا منها فى عملهم السياسى الثورى أو الإصلاحى.فى غضون الأعوام الثلاث الماضية كتبت مقالين حول فكرة يطلق عليها التحرر الذاتى أو ثورة كل يوم أو الإصلاح اللاسلطوى المستقل عن الدولة و رأسالمال وفى مواجهتهما، وهو الخيار الثالث فى مواجهة خيارى الثورة السياسية و الإصلاح عبر سلطة الدولة، و تكتيك التحرر الذاتى تتبعه الاتجاهات السائدة الآن فى الحركة اللاسلطوية عبر العالم محققة فعليا انتصارات يومية فى طريقها نحو المزيد من تحقيق الحرية والمساواة لأعداد متزايدة من الناس فى العالم، إلا أن الطابع النظرى غلب على هذين المقالين ، دون الجانب العملى، وهو ما لن يتجه إليه ذلك المقال إذ ساعطى نماذج لهذا التكتيك، لعل هذا يكون فاتحة نقاش جاد وعملى حول كيفية تحويل هذا التكتيك لممارسة عملية فى منطقتنا، إلا أنى مضطر إلى أن أبدء بمقدمة نظرية عامة لتوضيح كل الخيارات المطروحة لمن لم يسبق له قراءة المقالين المشار إليهما وهما "التحرر الذاتى"، و "ثورة أم إصلاح كل يوم" المنشوران بموقعى الحوار المتمدين و التحررية الجماعية.الاختيار ما بين الثورة السياسية أو الإصلاح السلطوى أو التحرر الذاتى كحلول جماعية لمشكلات الواقع الاجتماعى أو شتى أشكال الهروب من الواقع أو التكيف معه كحلول فردية لنفس تلك المشكلات بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس لا ينتج عن قناعات شخصية فقط، بل ينتج عن ما يروه متاحا فعلا بالنسبه لهم، أى أنه خيار عملى لا علاقة له بما يحملونه من النظريات والمعتقدات. وهذا بالظبط ما يحدد مواقف الناس من قضايا الثورة السياسية أو الإصلاح السلطوى أو الحلول الفردية لمشاكلهم أو الهروب من الواقع كله لعالم من الأوهام.يتراوح البشر ما بين قلة نادرة جدا يحركها ما تؤمن به من النظريات عن الواقع، و من ثم تراها تستهلك نفسها فى قضايا تشبه قضية ما هو الأسبق البيضة أم الدجاجة؟ وكم ملاك يمكن أن يقف على سن الإبرة، إلا أن سلوك الغالبية الساحقة من الناس يتجه نحو تحقيق الممكن من مصالحهم ، ومن ثم يتفاوت موقفهم فى كل لحظة تاريخية فى مواجهة الواقع المتغير بطبيعته، إذ يهتمون بكيفية المواجهة العملية لمشكلات الواقع، وكيفية تحقيق مصالحهم المباشرة، وبالنسبة لهم فالحياة أقصر من أن يشغلوها بالاهتمامات النظرية أو الممارسات العبثية، وهى أقصر أيضا من أن يقضوها فى انتظار الثورة السياسية، وخصوصا كلما امتد بهم العمر. فى اللحظات غير الثورية وهى اللحظات الغالبة على التاريخ تظل الجماعات الحالمة بالثورة السياسية جماعات صغيرة وهامشية ومعزولة، تتآكل بانفضاض الناس عنها، وانفراط عضويتها ، كما تتفتت تلك الجماعات بالخلافات النظرية والشخصية فيما بين أعضاءها الذين يتم انهاكهم فى ممارسات عبثية لا علاقة لها بتحقيق أهدافهم الثورية، وذلك عندما تتلاشى إمكانية تحقيق الحلم الثورى أو يتباعد أو يطول انتظاره، وغالبا ما تظل تلك الجماعات الثورية مجرد لافتات يحملها أفراد ذوى تكوين نفسى خاص، إلا أنه فى لحظة الثورة السياسية، وهى لحظة نادرة تاريخيا، فأننا نجد الطبقات صاحبة المصلحة فى الثورة و لعوامل متنوعة تنجذب لتلك الجماعات الثورية لتعطيها القاعدة الاجتماعية التى قد تمكنها أحيانا من قلب النظام الذى ظلت تتحرق شوقا للقضاء عليه، وهو أمر ليس فى أيدى تلك الجماعات بقدر ما هو رهن بالإرادة الجماعية لتلك الطبقات نفسها، وهو ما يتحقق وفق عوامل موضوعية مستقلة عن وعى تلك الطبقات، و بصرف النظر عن رغبة الثوريين و نضالهم وتضحياتهم ونظرياتهم.و التناقض الملحوظ بين التدهور الحاد فى شعبية النظام الحاكم، و بين عدم ثقة الطبقات صاحبة المصلحة فى الثورة فى خيار الثورة السياسية فى نفس الوقت، و من ثم عدم انتظامها فى احتجاجات اجتماعية ثورية، وعدم انجذابها للجماعات الثورية، وانجرافها وراءها، ناتج عن أن التجارب التاريخية للثورات السياسية نفسها أثبتت أنها مجرد آلية لإعادة إنتاج سلطة استبدادية متعالية ومنفصلة عن الطبقات صاحبة المصلحة فى الثورة ، تلك الطبقات التى وفرت بتحركها الثورى الظروف الموضوعية لخلق تلك السلطة نفسها، فالثورة السياسية عبر التاريخ المعاصر خلقت أشكالا أخرى من القهر والاستغلال وانعدام المساواة و إعادة إنتاج الانقسام الطبقى مجددا، برغم كل ما صاحب حدوثها من أمنيات رائعة بتحقيق الحرية والمساواة و ما بذل من أجلها من تضحيات جسيمة.إلا أن هناك لحظات أخرى فى التاريخ تحتمل الإصلاح السلطوى عبر نفس الدولة لا قلبها بالثورة السياسية واستبدالها بدولة أخرى، و يتم ذلك بالضغط علي الدولة والطبقات الحاكمة، لانتزاع مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية سواء عبر النضال السياسى للأحزاب وجماعات الضغط أو النضال الاقتصادى للنقابات العمالية والمهنية، وفى هذه اللحظات تنجذب الجماهير صاحبة المصلحة فى الإصلاح للعمل الإصلاحى بالانضمام للأحزاب الإصلاحية والنقابات العمالية والمهنية والحرفية ،التى تكتسب قاعدة اجتماعية تمكنها من تحقيق الإصلاحات. إلا أن هذا مشروط بالإمكانية الموضوعية لتحقيق تلك الإصلاحات، فعندما يكون هناك تشغيل شبه كامل للعمال، و طلب متزايد على قوة عملهم، فأنهم يستطيعون فرض شروط أفضل للعمل على كل من الدولة و رأسالمال أما فى ظل زيادة معدلات البطالة فأنهم لن يتمكنوا من فرض هذه الشروط على الدولة و رأسالمال، بل بالعكس سيرضحون أكثر فأكثر لشروط أصحاب العمل والدولة طالما ظل سيف البطالة والتهميش يهددهم. والمعضلة التى تواجه أيديولوجية الإصلاحيين عبر الوصول للسلطة أو الضغط عليها الآن ، أننا نواجه واقع اقتصادى / اجتماعى جديد تتزايد فيه نسب البطالة والتهميش بمعدلات مضطردة محليا وعالميا. و أن هذا ليس هذا ناتجا عن مجرد سياسات اقتصادية خاطئة لحكومات بعينها، بقدر ما هو ناتج عن تطورات محددة فى وسائل الإنتاج نفسها ونوعية وحجم قوة العمل المطلوبة لتشغيلها فعليا، وفق علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة حاليا،فالدراسات الجادة تشير إلى أن المتعطلين عن العمل والمهمشين سيشكلوا حوالى أربع أخماس السكان فى العالم خلال السنوات القليلة القادمة. و هذه ظاهرة عالمية و ليست محلية فقط على أى نحو.الإصلاح لاينتج إلا عند نقطة توازن بين القوى الاجتماعية المتصارعة أى قوى النظام و قوى الإصلاحيين، وهذه النقطة تحدد ما يمكن تحقيقه من الإصلاحات وحجمها الممكن ونوعيتها، واعتقد أن العجز عن تحقيق أى إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية عبر الدولة فى العقود الأخيرة بالرغم من تدهور الأوضاع فى نفس الوقت، ناتج عن تفتيت الكتل الاجتماعية صاحبة المصلحة فى الإصلاح، تلك التى كان يمكن لها أن تضغط على الدولة لتحقيق تلك الإصلاحات من عمال و فلاحيين ومهنيين وحرفيين، وانفضاض غالبيتهم الساحقة من حول الأحزاب الإصلاحية والثورية والنقابات العمالية والمهنية والحرفية، و انسحاب غالبيتهم من الاهتمام بالحياة السياسية والعمل العام، و تخليهم عن أسلوب العمل الجماعى لحل مشاكلهم، وتضاؤل نفوذهم الاجتماعى، وتقلص فعاليتهم بتضاؤل احتياج سوق العمل لهم، و ذلك بتحول نسبة هائلة منهم لعالم البطالة والتهميش. و وجود هؤلاء فى حد ذاتهم يضعف العمالة المنظمة و لا يمكنها من إنتزاع أى إصلاحات،ولأنهم لا قيمة فعلية لهم فى السوق الرأسمالى فهم فاقدى القدرة على الضغط من أجل أى إصلاحات، و لا يوجد أمام هؤلاء من سبيل لوقف تدهورهم سوى التعاونيات التى تقوّي الناس عبر تمكين أكثر الفئات السكانية فقراً من المشاركة في التقدم الاجتماعي، كما أنّها تخلق فرص العمل لأصحاب المهارات الذين يفتقرون إلى الرأسمال أو يملكون القليل منه"بدلا من انتظار فرص العمل لدى رأسالمال أو الدولة وفق شروط العبودية،أو انتظار المعونات والإعانات التى تربطهم على نحو أكثر استعبادا بالدولة ورأسالمال مع حرمانهم فى نفس الوقت من حق العمل المنتج والحياة الحرة.ما كان هذا الإضعاف المتزايد لتلك القوى الاجتماعية ليتم سوى بنجاح النخب المتسلطة فى تحويل غالبيتهم الساحقة لمجرد أفراد لا حول لهم و لا قوة فى مواجهة كل من الدولة كلية الجبروت و رأسالمال المنفلط العيار على السواء، مما سهل من زيادة معدلات القهر والاستغلال والتضليل الواقع عليهم.ويمكن أن نستنتج ببساطة أنه طالما تباعد تحقيق حلم الثورة السياسية واستحالت إمكانية تحقيق الإصلاح السلطوى عبر الدولة، فأنه لا يبقى لهؤلاء الأفراد المنتمين للطبقات العاملة فى مواجهة القهر والاستغلال، غير أن يصارعوا فرديا ضد ظروف حياتهم الشخصية من أجل مجرد البقاء على قيد الحياة ببيع المزيد من وقتهم وجهدهم وحرياتهم وكرامتهم، وفى نفس الوقت أن يدفن بعضهم نفسه فى المخدرات والخمور، و أن يتلهى بعضهم بألعاب التسلية والترفيه أو مشاهدة التليفزيون، و أن ينزلق المزيد منهم لعالم الجريمة و الفساد، وأن يغرق بعضهم نفسه فى التدين والتصوف على نحو فردى غير منظم أو جماعى منظم، فطالما أن الجنة استحالت على الأرض فليظل تحقيق الجنة مؤجلا لما بعد الحياة، و من الطبيعى أن ينغمس بعضهم فى محاولة تجسيد قيم الدين نفسه على الأرض عبر محاولة تحقيق دولة تتمسك بمثاليات الدين لعلها تحقق ما يظنه الجنة على الأرض أو لعل نضاله من أجلها يقربه هو شخصيا من جنة السماء إن لم يمكنه تحقيقها على الأرض، وهو ما يفسر بوضوح الانتشار القوى للأصوليات الدينية سواء فى جانبها التعبدى أو الصوفى أو فى جانب استخدامها السياسى فى مواجهة انكماش الحركات السياسية والاجتماعية التى تقوم على أساس طبقى.أن نجاح الطبقات المتسلطة فى تحطيم أو اضعاف الأحزاب الثورية و الإصلاحية للطبقات المحرومة من السلطة، و النقابات العمالية والمهنية والحرفية و افساد و تأميم مختلف منظمات المجتمع المدنى من جمعيات أهلية و تعاونيات أدى لإضعاف فاعليتها، فضلا عن أن نفس الأحزاب الثورية والإصلاحية والنقابات والجمعيات الأهلية والتعاونيات بفضل رسملتها و بقرطتها وسيطرة الدولة و رأسالمال عليها أحيانا واستخدامها غير المباشر لصالح دعم النظام أحيانا أخرى، تحولت إلى مؤسسات سلطوية تعيد إنتاج القهر والاستغلال وعدم المساواة بسبب طبيعة إدارتها البيروقراطية المنفصلة عن عضويتها وقاعدتها الاجتماعية، فما كان من غالبية الناس الساحقة إلا أن انفضوا من حول تلك المؤسسات، و ارتد معظمهم للانتماء لجماعاتهم الدينية والطائفية والقبلية والعرقية على حساب انتماءتهم الطبقية، و بدلا من تحقيق مصالحهم الطبقية عبر النضال الطبقى، وعبر الأحزاب الثورية والإصلاحية والنقابات العمالية والمهنية، أصبح يمكن لهم تحقيق بعض مصالحهم المادية والمعنوية كأفراد من خلال المؤسسات الطائفية والدينية والقبلية والعرقية، فاتسعت عضوية تلك الجماعات المؤسسة على الأسس الدينية والطائفية والقبلية والعرقية، وازداد تأثيرها اجتماعيا، كما ازداد نفوذ رجال الدين و تنظيمات الدين السياسى والجماعات الدينية على حساب الأحزاب السياسية للطبقات المحرومة من السلطة و منظمات المجتمع المدنى التى فقد الناس الثقة بها، ومن ثم اتجه الأفراد للطائفية و والقبلية والعرقية وقد انخلعوا فكريا عن انتماءهم الطبقى.إزاء هذا الوضع ماذا يبقى أمام المجردين من السلطة، لأنهم محرومين من مصادرها المادية وهى وسائل الثروة والعنف المعرفة؟،ماذا يبقى لهم إذا كانت كل الخيارات السابقة مرفوضة أو غير ممكنة التحقق عمليا، والجواب هو لا يبقى أمامهم سوى خيار آخر يمكن أن يمنحهم أكبر قدر ممكن من الحرية و المساواة من قلب هذا العالم الذى يحرمهم من الحرية والمساواة الكاملتين، لا يبقى أمامهم من خيار سوى أن يخلقوا جماعاتهم المستقلة عن كل من الدولة و رأسالمال، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا امتلكوا كجماعات قدرا من مصادر السلطة المادية يستطيعون بها التحرر من السلطة التى تتحكم فيهم ، و التى تقوم باستغلالهم وقهرهم، وهم يمكنهم أن يتحرروا منها حتى و لو جزئيا، مادام لا يمكنهم فى ظل الظروف الحالية أن يتحرروا منها كليا، و بشرط ألا يعيدوا خلق سلطة منفصلة عنهم و متعالية عليهم مرة أخرى عبر تلك الجماعات.عملية التحرر الذاتى هى تأسيس جماعات ليست مستقلة فحسب عن الدولة والبيرقراطية ورأسالمال بل مختلفة تماما فى قواعدها عن الأسس التى تحكم مؤسسات الدولة ورأسالمال، فضلا عن النضال من أجل تطوير الكيانات المدنية الموجودة فعلا من تعاونيات ونقابات وجمعيات أهلية لتستقل تماما عن الدولة ورأسالمال، و تخليصها فى نفس الوقت من تشوهاتها البيروقراطية و الرأسمالية، وهو ما يتطلب نوع من النضال السياسى والاجتماعى والثقافى لتحقيق تلك الأهداف، أما عن كيف تحقيق التحرر الذاتى عمليا فذلك يحتمل شتى الإبداعات الممكنة التحقق فعليا على أرض الواقع بعيدا عن أى يوتوبيا أو هندسة اجتماعية، و القاعدة فى ذلك أن ينتظم الناس فى جماعات تشبع احتياجاتهم المختلفة و تحقق مصالحهم المادية والمعنوية المختلفة، وهذا الخيار "يقوم على تفعيل الناس و تمكينهم من ممارسة السلطة على أنفسهم، وليس تمكين الكوادر الطليعية أو النخب أو ملاك الثروة من التسلط عليهم مجددا، و هذا الخيار لا يستهدف تأسيس دولة أو الوصول لسلطة الدولة، بل تأسيس جماعات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية يجني فيها الناس حصاد نضالهم فورا" تتنوع تلك الجماعات لتشمل كل أوجه النشاط البشرى ، ومن هنا تتعدد انتماءات الفرد و أنشطته وعلاقاته الاجتماعية المختلفة و تتحدد وفق إرادته. فالتحرر الذاتى يقوم على شبكة تحتية من تلك الجمـاعات الأولية المتباينة الأنشطة بتباين النشاط البشرى ، والتى تنشأ لتلبى الاحتياجات البشرية المختلفة .. و تتأسس إدارة تلك الجماعات على الديمقراطية المباشرة ، التى تعنى أن كل ما يتعلق بنشاط الجماعة و أفرادها فيما يتعلق منه بنشاط الجماعة ، يحق لكل أعضاء الجماعة مناقشته و اتخاذ قرارا بشأنه على نحو ديمقراطى. وعلى الجماعة تفويض من تراهم من مختصين فى الأمور التى يحتاج تقريرها إلى مختصين ، ويحق للجماعة مراقبة هؤلاء المفوضين ومحاسبتهم وتكلفيهم وسحب التفويض منهم فى أى وقت إذا ما أخلوا بوظائفهم . ومن ثم تنقسم القرارات إلى قرارات سياسية يتخذها أعضاء الجماعة ديمقراطيا ، وقرارات إدارية و فنية وتنفيذية يتخذها المختصون الذين تفوضهم الجماعة فى حدود اختصاصهم . كما أن هؤلاء المفوضين لا يحصلون من الجماعة على أكثر مما يحصل عليه العضو العادى مقابل أداء خدماتهم.وإذا كانت هذه الجماعات يجب أن تقوم بنشاطها بصرف النظر عن الشرعية وعن قوانين الدولة التى تعمل فيها بل و بالاستقلال عن هذه الدولة فى حدود ما هو ممكن بالطبع، فإن الشرط الذى تكتسب به قدرتها على تحقيق التحرر الذاتى لأعضاءها فى مواجهة سلطة الثروة ورأسالمال هو أن نشاطها الاقتصادى يجب أن يمارس على أسس غير رأسمالية، وليس الاكتفاء بأن تستقل تلك الجماعات عن المؤسسات الرأسمالية أو السوق الرأسمالى، إذ لا ينبغى مثلا أن يهدف هذا النشاط للربح بل أن يهدف أساسا لإشباع الاحتياجات الاستعمالية لأعضاء تلك الجماعات، مع التزام هذه الجماعات بعدم استخدام العمل غير المأجور فضلا عن العديد من القواعد التعاونية غير المتأثرة بجوهر الرأسمالية كنمط إنتاج. بما في ذلك مبدأ العضوية المفتوحة، بغضّ النظر عن الجنس أو العرق أو الآراء السياسية أو الدين أو الوضع الاجتماعي. وإذا كانت التعاونيات تصف نفسها بأنّها منظمات مستقلّة تساعد نفسها بنفسها، ويديرها أعضاؤها.غير أنّ الحكومات المختلفة تبنّت نظرية العمل التعاوني كسبيلٍ للتنمية الاقتصادية، ومن ثم مارست التدخل فيه، ثمّ حاولت تحويل التعاونيات إلى أجهزة شبه رسمية تابعة للدولة كما هو الحال فى مصر. وهو ما يتطلب نضالا من أجل استقلال التعاونيات عن الدولة."في جميع الأنحاء من أوروبا الشرقية حتى الأرجنتين، ومن سياتل حتى بومباي، تتوالد من الأفكار والمبادئ اللاسلطوية رؤى وكيانات راديكالية جديدة. ..تلتزم بنفس المبادئ: اللامركزية، الانضمام التطوعي للجمعيات، المعونة المتبادلة، نموذج شبكات العمل، وفوق كل شيء، نبذ فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، بل وإهمال فكرة أن شغل الثوريين الشاغل هو الاستيلاء على سلطة الدولة والذى يتلوه، بعد ذلك، البدء في فرض رؤيتهم بقوة السلاح. فوق كل شيء، فاللاسلطوية، تطورت فى الممارسة العملية لتصبح الفكرة هى بناء مجتمع جديد "من داخل قشرة المجتمع القديم"،وتنميته تدريجيا على حساب القديم، و هي فكرة تشكل الإلهام الأساسي للحركة اللاسلطوية الجديدة التي قررت من البداية أن تكون اقل تركيزا على مسألة الاستيلاء على سلطة الدولة سواء عبر الثورة السياسية أو البرلمانات، فى حين تركز أكثر على مسألة فضح، ونزع شرعية النظام، وتفكيك آليات الحكم؛ و إضعاف الدولة و الرأسمالية بالانتقاص التدريجى من ما يملكونه من سلطات لصالح اتساع حجم الحريات التى يمنحها التحرر الذاتى لمن يمارسوه ، وذلك بالظفر بمساحات أوسع فأوسع من التسيير الذاتي والإدارة بالمشاركة داخل هذه المساحات.. وذلك يتحقق فقط عن طريق صنع شكل التنظيم الخاص بالمرء في الزمن المعاش، محاكيا بصورة تقريبية على الأقل، لما يمكن أن يكون عليه المجتمع الحر في المستقبل، وعلى الصورة التى يكون كل شخص، في يوم من الأيام، قادرا على أن يحياها، بشرط أن يكون قادرا على أن يضمن إن ذلك الشكل التنظيمي لن يؤدي إلى الانتكاس مسببا كارثة " فبذلك يتم تحقيق المزيد من المتاح عمليا من الحرية والمساواة للناس فعليا عبر كيانات اجتماعية واقعية يصوغها الناس بأنفسهم. و هناك تنوع شديد فى تجارب التحرر الذاتى عالميا، لأنه لا توجد نماذج جامدة يسير عليها الناس، فكل تجربة هى ابنة ظروفها الواقعية، هى ابنة الممكن والمتاح فعليا، هى ابنة الابداع لا النقل عن الآخريين إلا أنه من المفيد أن نتعرف على بعض تلك التجارب.فتكتيك التحرر الذاتى يعنى معركة طويلة الأمد مع كل أشكال التسلط والاستغلال وانعدام المساواة فى الحياة البشرية، يتم فيها تدريجيا انتزاع مساحات من الحرية والعدالة والمساواة لأعداد متزايدة من البشر، أما النصر النهائى على الخصم فهو لن يأتى إلا على المدى البعيد.عندما يثبت النموذج اللاسلطوى تفوقه فى إشباع الاحتياجات الإنسانية على كل النماذج السلطوية،وسيصاحب التحرر الذاتى باعتباره الأسلوب الرئيسى بعض الأساليب الجانبية كالثورات السياسية و الإصلاحات التى تستهدف المزيد من الحرية والمساواة إذا ما جاءت لحظاتها التاريخية المناسبة.فالجماعات التى تتكون فى إطار التحرر الذاتى يمكن أن تشكل أيضا أساسا اجتماعيا يمكن بفضله الضغط على الدولة أو رأسالمال من أجل تحقيق إصلاحات وانتزاع مكاسب فى سبيل المزيد من الحرية والمساواة إذا ما أمكن ذلك ، كما أنها يمكن أن تشكل أيضا الأساس الاجتماعى للثورة السياسية فى مواجهة الدولة إذا ما توفرت الظروف لذلك، و بدون تلك الكيانات فسيظل الحالمون مجرد نخب هامشية معزولة وغير جذابة ومتآكلة باستمرار، و سيظل البروليتاريون أفراد مجردون من السلطة تطحنهم الدولة ورأسالمال.تجارب عملية للتحرر الذاتىمن المفيد أن نتعرف على بعض تجارب التحرر الذاتى لعلها تلهمنا كيف يمكن أن نبدأ فى واقعنا تلك العملية."لدينا مثلا تجربة القرى البديلة و هى تجربة قرية في ستراسبورغ أنشئت خلال صيف 2002 وهي التجربة التي سعى مناضلون عديدون الى تكرارها على نطاق أوسع . مع ابراز تجربة تلك القرى لامكانية الحياة، في قطيعة مع قواعد النظام . وقد انشأت قريتان : ( القرية البديلة المناهضة للرأسمالية وللحرب ) ذات الغلبة التحررية واللاسلطوية والتي جمعت اكثر من 3000 مشارك وقرية أخرى ذات تركيب اكثر تنوعا والتي ضمت 5000 مشارك . وانضافت الى هذه القرى « النقطة G » وهي قرية نساء غير مختلطة ومجموعة اخرى تضم اكثر من 1000 من هواة موسيقى، وقد استخلص المشاركون في القرى وزوارها حصيلة متحمسة من التجربة من خلال قدرة كل قرية على التسيير الذاتي وعلى المبادلات والتنسيق فيما بينها " و إن كانت هذه القرى تجريبية ومؤقتة ، فأن هناك تجربة كوميون دائم حقق فدرا واسعا من الاستقلال عن الدولة ورأسالمال فى نفس الوقت يسمى "كريستينا" و الذى أقيم على أرض قاعدة عسكرية أمريكية مهجورة بكوبنهاجن بالدانمرك ، و هى تجربة تتشابه مع تجارب عديدة متناثرة عبر أوروبا و الأمريكيتين التى تنتشر بها الكوميونات و التعاونيات اللاسلطوية سواء فى ضواحى المدن أو فى الريف.و إذا كنا فى مصر قد عرفنا فى السنوات الماضية تجربة عمال مصانع المصابيح الكهربائية بالعاشر من رمضان، فأن لدينا تجربة أكبر هى تجربة عمال الأرجنتين ففى "أثناء الانهيارات التي أحدثتها الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين، واجه العمال كارثة البطالة عندما أفلست مصانعهم الرأسمالية. وحتى يحافظوا على دخولهم مخافة المجاعة، قرر العمال في بعض حالات مواقع العمل المنهارة أن يمولوها حتى يستعيدوها كمشروع قابل للاستمرار رغم عدم قدرة المالك الرأسمالي على تسييرها. وتمت مقاومة معارضة الدولة، و مقاومة المنافسة العدوانية للمنشئات المنافسة، و ضعف إنتاجية المعدات القديمة، والطلب المنهار على منتجات المنشئات، وفى غضون ذلك استولى العمال تقريبا على 190 موقع عمل طوال السنوات الخمس الماضية. في كل موقع محتل، لم يتخل المالك الرأسمالي فقط عن إدارة عمليات الشغل، ولكن تخلى الموظفين و المهنيين والمهندسين والمديرين الكبار عن العمل. حيث شعر الموظفون المميزون بأن مستقبلهم سوف يكون أفضل لو انتقلوا للعمل في أماكن أخرى بدلا من التعلق بمشاريع منهارة، و فى نفس الوقت اضطر العمال غير المهرة والذين يقومون بوظائف روتينية إلى إعادة الحياة لمصانعهم المنهارة حتى لا يعانوا من البطالة. وهكذا وعلى مدى خمس أعوام و حتى اليوم تستمر عمليات احتلال المصانع في الأرجنتين، والتى "لم تكن ناتجة عن توجهات ايديولوجية أو كانت تتبع خطة ثورية". لقد كانت هذه العمليات، بدلا من ذلك، "تصرفات يائسة للدفاع عن النفس". إلا أن الأكثر مدعاة للاهتمام، والإلهام، أنه بعد الاستيلاء على أى شركة من تلك الشركات، والتي كانت تحتاج عادة الى كفاح لعديد من الأشهر من أجل التغلب على مقاومة الدولة السياسية ضدهم، وبعد ذلك إدارة الموقع لفترة من الزمن، أصبحت مشروعات استعادة النشاط الاقتصادي تلك ملهمة لكثير من الناس بدرجة كبيرة." وفى الأرجنتين أيضا وفى ظل الأزمة السياسية الحادة التى واجهتها الأرجنتين قبل خمس سنوات كون الناس فى الأحياء الفقيرة والمتوسطة مجالس للتسيير الذاتى لتلك الأحياء لتنظم التعاون بين سكان الأحياء فى مواجهة الأزمة و لإدارة شئون الحى بعيدا عن البلديات . كما أن هناك شبكة فى البلقان وهى تحالف من التعاونيين المعادين للسلطوية، تحاول تشخيص سبيلا جيدا لإدماج فكرة اقتصاد المشاركة داخل الحركات الاجتماعية الوليدة ، وان تجد طريقا جيدا للتواصل السياسي، وتستكشف سبلا جديدة للعمل السياسي. أيضا، هناك مبادرة تأتى من سلوفينيا، حيث الدارسون النشطون من كل البلقان يحاولون تأسيس معهدا تعاونيا لأبحاث الحركات الكوكبية". " فقد حققت الأناركية، كفلسفة سياسية، نمو انفجارى بالبلقان خلال السنوات القليلة الماضية. حيث تنمو التعاونيات الأناركية أو التى تستلهم الأناركية في كل مكان؛ المبادئ الأناركية والتى أصبحت أساسا للانتظام في جماعات داخل عدد كبير من التعاونيات فى البلقان". و إذا كانت الجمعيات التعاونية الاستهلاكية قد انحسرت في السنوات الأخيرة حيث كانت تجد من الصعب عليها منافسة شركات السوبر ماركت العملاقة. إلا أنه من ناحية أخرى أحرزت تعاونيات المنتجين النجاح الأكبر في مجال الزراعة. فعلى سبيل المثال بدأت تعاونيات المزارعين الفرنسيين قبل تسعة عقود. واتسعت كثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين حيث انتقلت من التسويق والتوزيع إلى المشاريع المتصلة بتجهيز الأغذية. ويمكن العثور على تعاونيات المنتجين بين صيادي الأسماك الذين كانوا يشتركون في ملكية قواربهم وفي الأرباح، وقد وجدت بضعة تعاونيات منتجين في الصناعة، ولكنها لم تكن ناضجة بوجه الإجمال." وتشكّل التعاونيات عنصراً ضخماً في الاقتصاد العالمي. وعالمياً، فتشير التقديرات إلى أنّ عدد أعضاء التعاونيات يبلغ حوالي 800 مليون شخص، وإلى أنّ 100 مليون منهم يعيشون من التعاونيات في مجالات التمويل الزراعي، والإسكان، والبيع بالتجزئة، وغيرها من القطاعات]"ختاما*للتحرر من سلطة الثروة يتم إنشاء تعاونيات إنتاجية واستهلاكية وائتمانية وتأمينية غير بيروقراطية ورأسمالية، ومستقلة عن الدولة ورأسمال كما يعنى أيضا إنشاء صناديق للإضراب والتضامن لدعم الضغط على الدولة ورأسالمال من أجل انتزاع مكاسب للعمل المأجور،وانتهاز أى فرصة للتسيير الذاتى لوحدات العمل من قبل العاملين بها أو المشاركة فى إدارتها.*للتحرر من سلطة العنف يتم إنشاء مؤسسات جماهيرية قادرة على تنظيم كافة أشكال العصيان المدنى فى مواجهة عنف أجهزة الدولة و البيروقراطيين و من أجل انتزاع مساحات أوسع من الحرية والمساواة من سيطرة أجهزة الدولة.*للتحرر من سلطة المعرفة يتم إنشاء مؤسسات جماهيرية قادرة على خلق ونشر ثقافة وتعليم و إعلام غير سلطوى فى مواجهة مؤسسات إعلام وثقافة وتعليم الدولة ورأسالمال السلطوية.الدور الأساسى للاسلطويين هو مساعدة الناس فى عمليات التحرر الذاتى.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية