3ـ العبودية مازالت على الأرض
العمال ورأسالمال والدولة
سامح سعيد عبود
3ـ العبودية مازالت على الأرض
من المعتاد فى مصر ان يستخدم رجال الشرطة عربات نقل الركاب الخاصة( الميكروباصات) مجانا وجبرا سواء لأغراض انتقالهم الشخصي أو لأداء بعض مهام عملهم الأمنية بدلا من عربات الشرطة، و هذا مجرد نموذج لمئات الممارسات التى يستغل فيها كل من يملكون سلطة ما الخاضعين لسلطتهم مجانا و جبريا، بالتهديد والوعيد، فمن أساتذة الجامعة الذين يستكتبون طلاب الدراسات العليا أوراقا بحثية ينسبونها لأنفسهم، إلى رؤساء التحرير الذين يستكتبون صغار الصحفيين العاملين تحت إشرافهم لمقالاتهم، وحتى ضباط و ضباط الصف فى الجيش الذين يجبرون المجندين من الحرفين الخاضعين لسلطتهم على أداء خدمات مجانية لهم و لأسرهم، و هى علاقات اجتماعية لا تنتمى للرأسمالية كعلاقة إنتاج بل هى أقرب للقنانة، ولكن تبقى المشكلة فى دراستها، أن مثل هذه الممارسات يصعب اخضاعها لدراسة احصائية لمعرفة حدودها الاجتماعية وحجم مساهمتها الاقتصادية فى المجتمع، لسببين أولهما لأنها تتم عرفيا، و ثانيهما لأنها تتم بشكل سرى، و لكن إذا كان هناك ظواهر محدودة من العبودية والقنانة قد ثبت وجودها فى مجتمعات رأسمالية متقدمة، وردت فى تقارير منظمات دولية حكومية وغير حكومية، فما الذى يمنع من اتساع نطاقها فى المجتمعات المتخلفة، مع الأخذ فى الاعتبار صعوبة رصدها فى هذه الحالة نظرا لتخلف تلك المجتمعات.
***
يظن البعض أن علاقات العبودية و القنانة قد زالت فى معظم بلاد العالم، بعد أن أصبحت علاقة القهر و السخرة التى تميز تبعية القن للسيد أو جماعات الأقنان لجماعات السادة ممنوعة قانونا فى كل المجتمعات البشرية، إلا أن أثار القنانة وبقاياها مازالت قائمة، فالملايين من الفلاحين يقعون عمليا فى أوضاع القنانة للدولة، بالتحديد الجبرى لأسعار ما يوردوه من محاصيل أو بإجبارهم على زراعة و توريد محاصيل معينة، وعلى شراء خدمات وسلع معينة من الدولة، وعلى أن يقدموا ساعات عمل مجانية معينة للدولة فى شكل أعمال عامة، وكذلك هناك الملايين من الحرفيين والمهنيين المكرهين على دفع الأتاوات المنتظمة للعصابات المنظمة أو دفع الرشاوى المنتظمة لموظفى الدولة، لتسهيل أعمالهم وحماية استمرار مشاريع إنتاجهم الفردى والعائلى والسلعى البسيط، و هذه هى نفس نوع العلاقة المتبادلة ما بين القن الذى كان يقدم الريع أو الخدمة مجانا و قهرا للسيد الذى يحميه و يؤدى له خدمات ضرورية لاستمرار نشاطه الإنتاجى، كما يتدهور وضع الملايين من الفلاحين لوضع القنانة بقبولهم عقود إذعان مع كبار ملاك الأرض التى يستأجروها، أو بالرضوخ لشروط المرابين أو بنوك التسليف الخاصة منها أو العامة، نتيجة الديون المتراكمة عليهم، فيرتبطون مدى الحياة بالعمل فى أراضى هؤلاء الملاك التى تضمن ديونهم.و هى عمليات لم تختف تماما فى المجتمعات الرأسمالية الحديثة كما سبق و أشرنا، إلا أنها قد تضيق أو تتسع فى كل مجتمع محلى على حدى.
***
" بالرغم من إلغاء العبودية والقنانة في العصر الحديث قانونيا، فقد اخذت الرأسمالية فى مرحلة العولمة تنتج اشكالا جديدة من العبودية والقنانة. بسحق العمال بالجوع والبطالة، لتجعلهم يقبلون فى النهاية بعلاقات عمل تقترب من القنانة والعبودية... فقد ذكر تقرير صادر عن إحدى منظمات حقوق الإنسان الدولية أن عدد البشر المستعبدين في العالم ارتفع إلى سبعة وعشرين مليون إنسان. وقد تزامن إصدار هذا التقرير مع عقد جلسة خاصة بالأمم المتحدة حول العبودية....و كشفت احصائيات لوكالة المخابرات الأمريكية عن ان عدد النساء و الاطفال الذين يتم المتاجرة بهم تتعدي700.000 سنويا يذهب50.000 منهم الي امريكا وحدها.... وقد جاء في تقرير حديث للأمم المتحدة ان تجارة الإنسان اصبحت صناعة تجلب سبعة بلايين دولار سنويا، وهي بذلك تأتي بعد تجارة المخدرات والسلاح، وعن طريق الولايات المتحدة ينتقل الرقيق الأبيض الي غيرها من الدول، كما يقر المسئولون الحكوميون الأمريكيون بوجود الرقيق الأبيض في أراضيهم، و هؤلاء من الذين فروا من الفقر في بلادهم سعيا وراء الحلم الأمريكي علي أنه طوق النجاة من حياتهم البائسة"[1]....و قد ذكرت التقديرات الواردة في الدراسة السنوية التي أجرتها وزارة الخارجية الأمريكية أن ما يتراوح بين 800,000 و900,000 رجل وامرأة وطفل يتم الاتجار بهم كعبيد عبر الحدود الدولية كل عام، وأن ما يتراوح بين 18,000 و20,000 منهم يتم جلبهم سنويا إلى الولايات المتحدة. وهذه الإحصائيات لا تشمل الاتجار بالبشر داخل حدود البلد الواحد[2] "...وقد كشفت صحيفة برتغالية عن وجود حالات تقترب من القنانة في وسط اوروبا في الوقت الراهن، حيث اشارت صحيفة بابليكو البرتغالية أن وكالة تشغيل بريطانية في البرتغال استقدمت آلافاً من عمال التراحيل للاستغلال الفلاحي خلال مواسم الحصاد بشروط إنسانية غاية في التدني تقترب من القنانة... كما أشار تقرير نشرته منظمة غير حكومية بريطانية تدعى ستيزن زا دفايس أن تلك الممارسة امتدت لقطاعات أخرى مثل الفندقة وخدمات التنظيف. أما السلطات البرتغالية فلم تعلق على هذا التقرير، أما السلطات البريطانية فقد اكتفى القنصل العام البريطاني الموجود في لشبونة بالقول نحن على علم بالوضع الصعب لبعض
ما زال شبح الممارسات القديمة يخيّم علينا، في ظل الظروف الاقتصادية الجديدة التى يشهدها العالم، حيث بدأت أشكال كالعمل الجبري المرتبط بالاتجار بالإنسان تظهر في كلّ مكانٍ تقريباً"[3] .هكذا يبدأ التقرير الجديد الصادر عن منظمة العمل الدولية بعنوان "وقف العمل الجبري"،.... و جاء فيه"رغم اختلاف أنواع العمل الجبري ظاهرياً، إلاّ أنّها تتقاسم سِمتَين مشتركتَين تتمثّلان بممارسة الإكراه، وإنكار الحرية". ..."و العمل الجبري يتضمن حالياً كل من الأشكال التالية :العبودية الصريحة، والخطف، و المشاركة الإلزامية في مشاريع الأعمال العامة، والعمل الجبري في الزراعة والمناطق الريفية النائية، والعمال المنزليين في حالات تشغيلهم جبريا، وعبودية الدين، والعمل الجبري الذي تفرضه قوى عسكرية، والعمل الجبري في إطار الاتجار بالإنسان، و بعض نواحي تشغيل المحكوم عليهم بالسجن وإعادة التأهيل بواسطة العمل"[4].
***
العبودية هى أول العلاقات الإنتاجية الطبقية التى سادت فى العديد من المجتمعات حيث كان السادة يملكون كل وسائل الإنتاج بالإضافة لتملكهم كامل قوة العمل الممثلة فى العبيد، ويسيطرون بالإضافة إلى ذلك وبسببه على كل من وسائل العنف والمعرفة، و يبدوا أن نشوء العبودية من المجتمعات المشاعية العشائرية بدأ حين أخذ أسرى الحروب بين العشائر المتحاربة، يتحولون لعبيد لدى من أسروهم فى الحروب العشائرية بدلا من قتلهم، و تم استخدامهم كقوة عمل فى الإنتاج والخدمات لصالح سادتهم، وتحول العبيد لسلعة يتم بيعها وشراءها عبر الأسواق لتستعمل فى الخدمة المنزلية والحرب و الإدارة والإنتاج والترفيه،طوال التاريخ المكتوب، وفى الحقيقة أن العبودية ظلت موجودة كعلاقة إنتاج، معترفا به قانونيا حتى أواسط القرن التاسع عشر فى بعض البلاد التى سادت فيها الرأسمالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، و التى انتهت فيها العبودية بنهاية الحرب الأهلية الأمريكية عام 1864.
***
عبودية الملكية تشمل كل حقوق الملكية و هى التصرف والاستعمال والانتفاع، و هى حقوق السيد على عبده، وتشمل حرية تدمير الشىء المملوك أو الحفاظ عليه، وهو فى حالتنا هذه قتله أو الإبقاء عليه حيا، وبيعه وشراءه وتأجيره ورهنه، هذه العلاقة هى المقصودة بالعبودية على ندرة وجودها في العالم الحديث، وبالرغم من عدم شرعيتها قانونيا فى شتى أرجاء العالم وتحريمها دوليا، فأنه ما زال هناك أكثر من 30 مليون إنسان يرزحون تحت وطأة العبودية في شتى أنحاء العالم، في بلاد عدة منها السودان وموريتانيا و النيجر. [5]
***
الأشكال الأخف من العبودية الكاملة، هى الأشكال الناقصة من ملكية العبيد التى و أن لم تتضمن بعض أشكال التصرف كالقتل، فأنها تتضمن حقى الانتفاع و الاستعمال، وهى أشكال تنتمى إلى علاقة إنتاج أخرى هى القنانة، وهى تعبر عن طيف واسع من الأشكال التى يجمعها عامل مشترك و احد هو إجبار القن بالعنف سواء أكان ماديا أو معنويا على العمل لصالح سيده، فالسيد هنا ينتفع بعمل القن ويستغله رغما عن إرادة القن، و نحن إذا انتقلنا من دراسة علاقات الإنتاج لدراسة علاقات اجتماعية أخرى كالعلاقات الأسرية و نظم الزواج فسنجد أن القنانة موجودة بأكثر مما نتخيل، ففى مصر و بلاد عربية أخرى تنتشر تجارة تسيطر عليها عصابات منظمة لتزويج الفتيات الصغيرات لأثرياء الخليج دون إرادتهم، سواء لاستخدامهم للإشباع الجنسى أو للخدمة المنزلية، بعد أن تم شراءهم من آباءهم الفقراء، والزواج نفسه يتم فى الكثير من الأحيان كعملية شراء للزوجة بهدف الإنجاب والخدمة المنزلية، كما يستخدمها الزوج وعائلته كقوة عمل مجانية ودائمة فى خدمة العائلة، و فى نشاطه الإنتاجى فى الأرض أو الورشة أو التجارة.
***
فى علاقات القنانة ينقسم البشر إلى طرفين طبقة السادة الذين يحتكرون وسائل العنف والمعرفة، وبها يسيطرون على كل مصادر السلطة الأخرى ويستولون على فائض الإنتاج من الأقنان صانعي الثروة المادية لهذا المجتمع، و حيث أن القنانة لا توجد بصورة واحدة كما تتنوع أشكال الانتفاع والاستغلال للأشياء المملوكة، فأنها قد تكون علاقة فردية ما بين الأقنان كأفراد والسادة كأفراد كما كان سائدا فى الإقطاع الأوربى أو علاقة قنانة معممة بين الأقنان كجماعات مغلقة، والسادة كجماعات مغلقة كما كان سائدا فى الإقطاع الشرقى. لكن يظل جوهر القنانة واحد فى كلتا الحالتين، وهو انتزاع جزء مجانى من ناتج عمل الأقنان كأفراد أو كجماعات بالقهر والعنف. ويمكن إيجاز طرق انتزاع هذا الفائض من إنتاج الأقنان فى عدة أشكال أولها ريع العمل، و هو نظام يعمل بمقتضاه القن فى أرض السيد أياما محددة كل اسبوع أو فى الموسم الزراعى قهرا بدون مقابل، و ثانيها الريع العينى و فى هذا يعمل القن و يدفع للسيد ريعا عينيا كحصة محددة من الإنتاج، و ثالثها الريع النقدى حيث يدفع الريع العينى نفسه فى صورة نقود .. فيبيع القن جزءا من الإنتاج فى السوق حتى يمكنه دفع الريع للسيد .. وهذا الشكل من القنانة يمثل أرقى أشكال القنانة. و يعبر الانتقال من ريع العمل إلى الريع العينى والنقدى عن تطور القنانة، وكل هذا فى مقابل أن توفر لهم الطبقة الحاكمة "فرديا أو جماعيا" بما تملكه من قوة عسكرية الحماية و الأمن فضلا عن أداء منافع وخدمات عامة كتنظيم الرى وشق الطرق وبناء الجسور.. وغيرها، باعتبارهم يمثلون السلطات التنفيذية والإدارية والتشريعية والقضائية[6].
***
أشكال القنانة تتفاوت درجاتها ما بين عبودية كاملة ينقصها فقط حق السيد فى قتل القن، مرورا بدرجات من القنانة تخف العبودية فيها تدريجيا فتتسع حريات القن وحقوقه إزاء سلطات السيد عليه، حتى نصل لعمالة مأجورة تجبر على العمل، و لكنها تفتقد عمليا حريتها فى الاختيار فيما يتعلق بشروط عملها، حيث تخضع فى نفس الوقت لعلاقة إذعان لصاحب العمل وشروطه،وتجدر بنا الإشارة هنا أن العامل المأجور يتميز عن القن بأنه يملك قوة عمله كاملة، وهو الذى يؤجرها بنفسه للرأسمالى وفق علاقة تعاقدية بينهما تخضع للمساومة وظروف السوق من عرض وطلب، ويمكن للعامل لو شاء أن يمتنع عن تأجير قوة عمله و يموت جوعا أو يتسول أو يسرق، أو يؤجرها لمشترى آخر، فعرض قوة عمل العامل للتأجير لا يأتى من أى قوة جبرية من خارجه، ولكن يأتى من حاجته المادية الداخلية لما يملكه المستأجر الرأسمالى من أجرة قوة عمله ، تلك الأجرة التى توفر له إمكانية إشباع تلك الاحتياجات،وطالما أن العامل المجرد من الملكية لن يستطيع الاستغناء عن الطعام والشراب والسكن والكساء، فسيضطر إلى تأجير قوة عمله، فعبوديته إذن هى عبودية الاضطرار لا عبودية الجبر.
[1] http://www.annabaa.org/nbanews/04/77.htm
[2] http://usinfo.state.gov/ar/Archive/2004/Apr/23-785618.html
[3] http://www.ilo.org/public/arabic/region/arpro/beirut/infoservice\/wow/wow2000-01/issue39/article1.htm
[4] http://www.ilo.org/public/arabic/region/arpro/beirut/infoservice\/wow/wow2000-01/issue39/article1.htm
[5] www.iabolish.com
[6] المصدر: عادل العمرى وآخر التكوين المنطقى لمفهوم ونمط الإنتاج،كتاب غير دورى،الراية العربية،القاهرة 1991.
من المعتاد فى مصر ان يستخدم رجال الشرطة عربات نقل الركاب الخاصة( الميكروباصات) مجانا وجبرا سواء لأغراض انتقالهم الشخصي أو لأداء بعض مهام عملهم الأمنية بدلا من عربات الشرطة، و هذا مجرد نموذج لمئات الممارسات التى يستغل فيها كل من يملكون سلطة ما الخاضعين لسلطتهم مجانا و جبريا، بالتهديد والوعيد، فمن أساتذة الجامعة الذين يستكتبون طلاب الدراسات العليا أوراقا بحثية ينسبونها لأنفسهم، إلى رؤساء التحرير الذين يستكتبون صغار الصحفيين العاملين تحت إشرافهم لمقالاتهم، وحتى ضباط و ضباط الصف فى الجيش الذين يجبرون المجندين من الحرفين الخاضعين لسلطتهم على أداء خدمات مجانية لهم و لأسرهم، و هى علاقات اجتماعية لا تنتمى للرأسمالية كعلاقة إنتاج بل هى أقرب للقنانة، ولكن تبقى المشكلة فى دراستها، أن مثل هذه الممارسات يصعب اخضاعها لدراسة احصائية لمعرفة حدودها الاجتماعية وحجم مساهمتها الاقتصادية فى المجتمع، لسببين أولهما لأنها تتم عرفيا، و ثانيهما لأنها تتم بشكل سرى، و لكن إذا كان هناك ظواهر محدودة من العبودية والقنانة قد ثبت وجودها فى مجتمعات رأسمالية متقدمة، وردت فى تقارير منظمات دولية حكومية وغير حكومية، فما الذى يمنع من اتساع نطاقها فى المجتمعات المتخلفة، مع الأخذ فى الاعتبار صعوبة رصدها فى هذه الحالة نظرا لتخلف تلك المجتمعات.
***
يظن البعض أن علاقات العبودية و القنانة قد زالت فى معظم بلاد العالم، بعد أن أصبحت علاقة القهر و السخرة التى تميز تبعية القن للسيد أو جماعات الأقنان لجماعات السادة ممنوعة قانونا فى كل المجتمعات البشرية، إلا أن أثار القنانة وبقاياها مازالت قائمة، فالملايين من الفلاحين يقعون عمليا فى أوضاع القنانة للدولة، بالتحديد الجبرى لأسعار ما يوردوه من محاصيل أو بإجبارهم على زراعة و توريد محاصيل معينة، وعلى شراء خدمات وسلع معينة من الدولة، وعلى أن يقدموا ساعات عمل مجانية معينة للدولة فى شكل أعمال عامة، وكذلك هناك الملايين من الحرفيين والمهنيين المكرهين على دفع الأتاوات المنتظمة للعصابات المنظمة أو دفع الرشاوى المنتظمة لموظفى الدولة، لتسهيل أعمالهم وحماية استمرار مشاريع إنتاجهم الفردى والعائلى والسلعى البسيط، و هذه هى نفس نوع العلاقة المتبادلة ما بين القن الذى كان يقدم الريع أو الخدمة مجانا و قهرا للسيد الذى يحميه و يؤدى له خدمات ضرورية لاستمرار نشاطه الإنتاجى، كما يتدهور وضع الملايين من الفلاحين لوضع القنانة بقبولهم عقود إذعان مع كبار ملاك الأرض التى يستأجروها، أو بالرضوخ لشروط المرابين أو بنوك التسليف الخاصة منها أو العامة، نتيجة الديون المتراكمة عليهم، فيرتبطون مدى الحياة بالعمل فى أراضى هؤلاء الملاك التى تضمن ديونهم.و هى عمليات لم تختف تماما فى المجتمعات الرأسمالية الحديثة كما سبق و أشرنا، إلا أنها قد تضيق أو تتسع فى كل مجتمع محلى على حدى.
***
" بالرغم من إلغاء العبودية والقنانة في العصر الحديث قانونيا، فقد اخذت الرأسمالية فى مرحلة العولمة تنتج اشكالا جديدة من العبودية والقنانة. بسحق العمال بالجوع والبطالة، لتجعلهم يقبلون فى النهاية بعلاقات عمل تقترب من القنانة والعبودية... فقد ذكر تقرير صادر عن إحدى منظمات حقوق الإنسان الدولية أن عدد البشر المستعبدين في العالم ارتفع إلى سبعة وعشرين مليون إنسان. وقد تزامن إصدار هذا التقرير مع عقد جلسة خاصة بالأمم المتحدة حول العبودية....و كشفت احصائيات لوكالة المخابرات الأمريكية عن ان عدد النساء و الاطفال الذين يتم المتاجرة بهم تتعدي700.000 سنويا يذهب50.000 منهم الي امريكا وحدها.... وقد جاء في تقرير حديث للأمم المتحدة ان تجارة الإنسان اصبحت صناعة تجلب سبعة بلايين دولار سنويا، وهي بذلك تأتي بعد تجارة المخدرات والسلاح، وعن طريق الولايات المتحدة ينتقل الرقيق الأبيض الي غيرها من الدول، كما يقر المسئولون الحكوميون الأمريكيون بوجود الرقيق الأبيض في أراضيهم، و هؤلاء من الذين فروا من الفقر في بلادهم سعيا وراء الحلم الأمريكي علي أنه طوق النجاة من حياتهم البائسة"[1]....و قد ذكرت التقديرات الواردة في الدراسة السنوية التي أجرتها وزارة الخارجية الأمريكية أن ما يتراوح بين 800,000 و900,000 رجل وامرأة وطفل يتم الاتجار بهم كعبيد عبر الحدود الدولية كل عام، وأن ما يتراوح بين 18,000 و20,000 منهم يتم جلبهم سنويا إلى الولايات المتحدة. وهذه الإحصائيات لا تشمل الاتجار بالبشر داخل حدود البلد الواحد[2] "...وقد كشفت صحيفة برتغالية عن وجود حالات تقترب من القنانة في وسط اوروبا في الوقت الراهن، حيث اشارت صحيفة بابليكو البرتغالية أن وكالة تشغيل بريطانية في البرتغال استقدمت آلافاً من عمال التراحيل للاستغلال الفلاحي خلال مواسم الحصاد بشروط إنسانية غاية في التدني تقترب من القنانة... كما أشار تقرير نشرته منظمة غير حكومية بريطانية تدعى ستيزن زا دفايس أن تلك الممارسة امتدت لقطاعات أخرى مثل الفندقة وخدمات التنظيف. أما السلطات البرتغالية فلم تعلق على هذا التقرير، أما السلطات البريطانية فقد اكتفى القنصل العام البريطاني الموجود في لشبونة بالقول نحن على علم بالوضع الصعب لبعض
ما زال شبح الممارسات القديمة يخيّم علينا، في ظل الظروف الاقتصادية الجديدة التى يشهدها العالم، حيث بدأت أشكال كالعمل الجبري المرتبط بالاتجار بالإنسان تظهر في كلّ مكانٍ تقريباً"[3] .هكذا يبدأ التقرير الجديد الصادر عن منظمة العمل الدولية بعنوان "وقف العمل الجبري"،.... و جاء فيه"رغم اختلاف أنواع العمل الجبري ظاهرياً، إلاّ أنّها تتقاسم سِمتَين مشتركتَين تتمثّلان بممارسة الإكراه، وإنكار الحرية". ..."و العمل الجبري يتضمن حالياً كل من الأشكال التالية :العبودية الصريحة، والخطف، و المشاركة الإلزامية في مشاريع الأعمال العامة، والعمل الجبري في الزراعة والمناطق الريفية النائية، والعمال المنزليين في حالات تشغيلهم جبريا، وعبودية الدين، والعمل الجبري الذي تفرضه قوى عسكرية، والعمل الجبري في إطار الاتجار بالإنسان، و بعض نواحي تشغيل المحكوم عليهم بالسجن وإعادة التأهيل بواسطة العمل"[4].
***
العبودية هى أول العلاقات الإنتاجية الطبقية التى سادت فى العديد من المجتمعات حيث كان السادة يملكون كل وسائل الإنتاج بالإضافة لتملكهم كامل قوة العمل الممثلة فى العبيد، ويسيطرون بالإضافة إلى ذلك وبسببه على كل من وسائل العنف والمعرفة، و يبدوا أن نشوء العبودية من المجتمعات المشاعية العشائرية بدأ حين أخذ أسرى الحروب بين العشائر المتحاربة، يتحولون لعبيد لدى من أسروهم فى الحروب العشائرية بدلا من قتلهم، و تم استخدامهم كقوة عمل فى الإنتاج والخدمات لصالح سادتهم، وتحول العبيد لسلعة يتم بيعها وشراءها عبر الأسواق لتستعمل فى الخدمة المنزلية والحرب و الإدارة والإنتاج والترفيه،طوال التاريخ المكتوب، وفى الحقيقة أن العبودية ظلت موجودة كعلاقة إنتاج، معترفا به قانونيا حتى أواسط القرن التاسع عشر فى بعض البلاد التى سادت فيها الرأسمالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، و التى انتهت فيها العبودية بنهاية الحرب الأهلية الأمريكية عام 1864.
***
عبودية الملكية تشمل كل حقوق الملكية و هى التصرف والاستعمال والانتفاع، و هى حقوق السيد على عبده، وتشمل حرية تدمير الشىء المملوك أو الحفاظ عليه، وهو فى حالتنا هذه قتله أو الإبقاء عليه حيا، وبيعه وشراءه وتأجيره ورهنه، هذه العلاقة هى المقصودة بالعبودية على ندرة وجودها في العالم الحديث، وبالرغم من عدم شرعيتها قانونيا فى شتى أرجاء العالم وتحريمها دوليا، فأنه ما زال هناك أكثر من 30 مليون إنسان يرزحون تحت وطأة العبودية في شتى أنحاء العالم، في بلاد عدة منها السودان وموريتانيا و النيجر. [5]
***
الأشكال الأخف من العبودية الكاملة، هى الأشكال الناقصة من ملكية العبيد التى و أن لم تتضمن بعض أشكال التصرف كالقتل، فأنها تتضمن حقى الانتفاع و الاستعمال، وهى أشكال تنتمى إلى علاقة إنتاج أخرى هى القنانة، وهى تعبر عن طيف واسع من الأشكال التى يجمعها عامل مشترك و احد هو إجبار القن بالعنف سواء أكان ماديا أو معنويا على العمل لصالح سيده، فالسيد هنا ينتفع بعمل القن ويستغله رغما عن إرادة القن، و نحن إذا انتقلنا من دراسة علاقات الإنتاج لدراسة علاقات اجتماعية أخرى كالعلاقات الأسرية و نظم الزواج فسنجد أن القنانة موجودة بأكثر مما نتخيل، ففى مصر و بلاد عربية أخرى تنتشر تجارة تسيطر عليها عصابات منظمة لتزويج الفتيات الصغيرات لأثرياء الخليج دون إرادتهم، سواء لاستخدامهم للإشباع الجنسى أو للخدمة المنزلية، بعد أن تم شراءهم من آباءهم الفقراء، والزواج نفسه يتم فى الكثير من الأحيان كعملية شراء للزوجة بهدف الإنجاب والخدمة المنزلية، كما يستخدمها الزوج وعائلته كقوة عمل مجانية ودائمة فى خدمة العائلة، و فى نشاطه الإنتاجى فى الأرض أو الورشة أو التجارة.
***
فى علاقات القنانة ينقسم البشر إلى طرفين طبقة السادة الذين يحتكرون وسائل العنف والمعرفة، وبها يسيطرون على كل مصادر السلطة الأخرى ويستولون على فائض الإنتاج من الأقنان صانعي الثروة المادية لهذا المجتمع، و حيث أن القنانة لا توجد بصورة واحدة كما تتنوع أشكال الانتفاع والاستغلال للأشياء المملوكة، فأنها قد تكون علاقة فردية ما بين الأقنان كأفراد والسادة كأفراد كما كان سائدا فى الإقطاع الأوربى أو علاقة قنانة معممة بين الأقنان كجماعات مغلقة، والسادة كجماعات مغلقة كما كان سائدا فى الإقطاع الشرقى. لكن يظل جوهر القنانة واحد فى كلتا الحالتين، وهو انتزاع جزء مجانى من ناتج عمل الأقنان كأفراد أو كجماعات بالقهر والعنف. ويمكن إيجاز طرق انتزاع هذا الفائض من إنتاج الأقنان فى عدة أشكال أولها ريع العمل، و هو نظام يعمل بمقتضاه القن فى أرض السيد أياما محددة كل اسبوع أو فى الموسم الزراعى قهرا بدون مقابل، و ثانيها الريع العينى و فى هذا يعمل القن و يدفع للسيد ريعا عينيا كحصة محددة من الإنتاج، و ثالثها الريع النقدى حيث يدفع الريع العينى نفسه فى صورة نقود .. فيبيع القن جزءا من الإنتاج فى السوق حتى يمكنه دفع الريع للسيد .. وهذا الشكل من القنانة يمثل أرقى أشكال القنانة. و يعبر الانتقال من ريع العمل إلى الريع العينى والنقدى عن تطور القنانة، وكل هذا فى مقابل أن توفر لهم الطبقة الحاكمة "فرديا أو جماعيا" بما تملكه من قوة عسكرية الحماية و الأمن فضلا عن أداء منافع وخدمات عامة كتنظيم الرى وشق الطرق وبناء الجسور.. وغيرها، باعتبارهم يمثلون السلطات التنفيذية والإدارية والتشريعية والقضائية[6].
***
أشكال القنانة تتفاوت درجاتها ما بين عبودية كاملة ينقصها فقط حق السيد فى قتل القن، مرورا بدرجات من القنانة تخف العبودية فيها تدريجيا فتتسع حريات القن وحقوقه إزاء سلطات السيد عليه، حتى نصل لعمالة مأجورة تجبر على العمل، و لكنها تفتقد عمليا حريتها فى الاختيار فيما يتعلق بشروط عملها، حيث تخضع فى نفس الوقت لعلاقة إذعان لصاحب العمل وشروطه،وتجدر بنا الإشارة هنا أن العامل المأجور يتميز عن القن بأنه يملك قوة عمله كاملة، وهو الذى يؤجرها بنفسه للرأسمالى وفق علاقة تعاقدية بينهما تخضع للمساومة وظروف السوق من عرض وطلب، ويمكن للعامل لو شاء أن يمتنع عن تأجير قوة عمله و يموت جوعا أو يتسول أو يسرق، أو يؤجرها لمشترى آخر، فعرض قوة عمل العامل للتأجير لا يأتى من أى قوة جبرية من خارجه، ولكن يأتى من حاجته المادية الداخلية لما يملكه المستأجر الرأسمالى من أجرة قوة عمله ، تلك الأجرة التى توفر له إمكانية إشباع تلك الاحتياجات،وطالما أن العامل المجرد من الملكية لن يستطيع الاستغناء عن الطعام والشراب والسكن والكساء، فسيضطر إلى تأجير قوة عمله، فعبوديته إذن هى عبودية الاضطرار لا عبودية الجبر.
[1] http://www.annabaa.org/nbanews/04/77.htm
[2] http://usinfo.state.gov/ar/Archive/2004/Apr/23-785618.html
[3] http://www.ilo.org/public/arabic/region/arpro/beirut/infoservice\/wow/wow2000-01/issue39/article1.htm
[4] http://www.ilo.org/public/arabic/region/arpro/beirut/infoservice\/wow/wow2000-01/issue39/article1.htm
[5] www.iabolish.com
[6] المصدر: عادل العمرى وآخر التكوين المنطقى لمفهوم ونمط الإنتاج،كتاب غير دورى،الراية العربية،القاهرة 1991.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية