الاثنين، 12 مايو 2008

تبوير الأرض الزراعية وإستصلاح الصحراء

تبوير الأرض الزراعية وإستصلاح الصحراء
سامح سعيد عبود
هذه الجريمة بدأت على عهد الخديو إسماعيل ،واستمرت كسياسة يمارسها كل من جاء بعده من حكام ، سواء أكان هذا عبر إهمالهم ، أو بسبب قراراتهم العشوائية ، أو أفعال تابعيهم المادية ، أو تأثير ما أتخذوه من قرارات ، و ما مارسوه من أفعال مادية على سلوكيات رعاياهم ومواطنيهم ، إلا أن هذه الجريمة قد استشرت بقوة مع منتصف الخمسينات وبلغت ذروتها مع أواخر القرن العشرين ، حتى فقدت مصر للأبد من جراءها حوالى 2 مليون فدان من أجود و أخصب الأراضى الزراعية ، و ذلك من أصل ستة ملايين فدان هى كل ما تملكه مصر من أراضى زراعية ، و كانت الجريمة قد بدأت وسكان مصر خمسة ملايين نسمة و أستمرت حتى بلغوا سبعين مليون نسمة ، و فى نفس الوقت حاولت كل من الحكومة و الأفراد طوال نفس الفترة استصلاح الصحراء باستثمارات هائلة ، فما أصلحوا منها إلا أرض بنفس المساحة التى تم إهدارها تقريبا ، وبرغم ذلك فأن الأراضى المستصلحة لن تصل لجودة و خصوبة الأرض التى تم تبويرها ، فضلا على أن نفقة الإنتاج فى الأراضى المستصلحة أكبر من نفقة الإنتاج فى الأراضى التى تم تبويرها ، وهاكم تطور المأساة وما يكمن وراءها من قرارات عشوائية و إهمال .
نظرا لطبيعة المجتمعات الزراعية النهرية ومنها مصر ، فأنها لم تعرف وحتى عهد الخديو إسماعيل حق التصرف للأفراد فى الأرض الزراعية إلا فى حدود ضيقة للغاية ، فملكية الأرض تؤول للدولة ممثلة فى حاكمها ، و حق المنفعة بالأرض يمنحها الحاكم لموظفيه مقابل أداء مهام وظيفتهم ، وهو حق كان لا يجوز توريثه ، كما أن الأرض المنتفع بها كانت غير خاضعة للبيع والشراء والتداول ، فالأرض تؤول للدولة بمجرد وفاة المنتفع أو فقده للوظيفة ،واستمر هذا الوضع طوال عهد الباشوات محمد على وعباس وسعيد ، ومع عصر الخديو إسماعيل تحولت حقوق الإنتفاع لحقوق تصرف قابلة للتوريث و التداول ، ومن ثم التفتيت والتجميع ، حاز علي معظمها وبمساحات كبيرة أمراء الأسرة المالكة و أصهارهم ،و كبار موظفي الدولة وشيوخ العشائر البدوية وكبار التجار المصريين والأجانب وشيوخ القرى وعمدها ، و فى حين أن الجزء الأكبر من الآراضى كان مقسما لمساحات كبيرة كعزب و وسايا ، فقد ظل الجزء الأصغر مقسما لمساحات صغيرة يملكها الفلاحين ، و من ثم فإن عائد الإنتاج الزراعى كان مجزيا لكبار الملاك وأغنياء الريف ، فى حين كان غالبية سكان الريف المحرومين من الأرض يعانون وضعا مريعا من البؤس والفقر المدقع كان وما زال يدفعهم باستمرار للهجرة للمدن .
إلا أنه حتى الخمسينات كان الدافع لتبوير الأرض وتحويلها لأرض بناء محدودا للغاية ، و من ثم فلم تنتشر الظاهرة إلا فى الضواحى الجديدة للمدن تدريجيا و ببطء ، ومنها القاهرة الكبرى التى يسكنها ربع سكان مصر ، والتى أصبحت غابة من العشوائيات الاسمنتية ، تصل فيها مستويات التلوث البيئى بشتى صوره لحد يجعلها غير صالحة فى معظم مناطقها لسكن الآدميين ، مدينة تضج بالضوضاء والقذارة والازدحام بالبشر ووسائل النقل ، تمتلىء بالأبراج والمولات والفنادق الفاخرة ، بجانب أكواخ وعشش الصفيح والمنازل الضيقة التى لا تعرف ضوء الشمس والخصوصية والهواء النقى ، مدينة تندر بها الحدائق والمنتزهات و الأشجار ، وقد ابتلعت فى جوفها مئات القرى السابقة ، وعشرات الألوف من الأفدنة الزراعية التى تحولت لأبراج و عشوائيات ، ومازال تمددها الوحشى مستمرا بلا رادع ، و لاشك أن ما حدث للقاهرة تكرر فى الأسكندرية وطنطا والمنصورة وكل المدن المصرية .
وقد ساعد على هذا بناء مناطق صناعية على الأرض الزراعية ، برغم وجود الأراضى الصحراوية الشاسعة التى تشكل 96% من مساحة مصر و التى تحيط بالوادى الضيق ، سواء بواسطة الدولة نفسها أو بواسطة الرأسماليين أفرادا وشركات ، مما استلزم بناء مساكن للعمال والموظفين بهذه المصانع على الأرض الزراعية القريبة من المصانع التى يعملون بها ، وكان هذا يتم بمبادرات الأفراد أنفسهم على نحو عشوائى غير منظم ، مجبرين الحكومة على مد المرافق والخدمات لمساكنهم العشوائية ، مكونين كتل من المساكن الشوهاء ، وهى عملية ما كانت لتتم دون علم الدولة وبرضاها حتى و لو باشرها الأفراد بأنفسهم ، فالدولة كانت تستطيع أن تمنع ذلك لو شاءت إلا أنها غضت البصر طوال قرن من الزمان ، وكان يمكن لها أن توجه المستثمرين و السكان لتعمير الصحراء بالمصانع والمدن وتمدهم بالمرافق والخدمات لو كان لديها بعض الرشد ، إلا أن الحكومة نفسها بنت مصانع ومساكن ومبانى على الأرض الزراعية ، و هى حين تنبهت أخيرا فمنعت البناء على الأرض الزراعية، فأنها لم تقض على الأسباب التى تدفع الفلاحين لبيع أراضيهم والبناء عليها ، فماذ يفعل ملاك كسور الفدان بقراريطهم ، وماذا يفعلون و هم يتكاثرون كما كان يتكاثر آباءهم ، ويرغبون فى تزويج أبناءهم الذين ضاقت بهم الأرض الزراعية التى ما أصبحت فى حاجة لعملهم .
كان اخضاع الأرض الزراعية لقواعد الملكية الفردية ، وقوانين الوراثة الإسلامية ، مع بداية عهد إسماعيل معناه تعرضها للتفتيت مما يضعف من إنتاجيتها ، إلا أن هذا الخطر كانت تعرقله علاقات التداول الرأسمالية التى تسمح بالتجميع والتركيز مرة أخرى بواسطة كبار الملاك وبورجوازية الريف ، ذلك لأن الأرض مهما بلغت مساحتها معرضة للتفتيت بسبب قواعد الميراث الإسلامى ، وعبر عدة أجيال يصبح استغلالها غير اقتصادى ، فالأجداد الذين كانوا أغنياء فلاحيين يتحول أبناءهم لمتوسطى الفلاحين ، ويتحول الأحفاد لفقراء الفلاحين ، مما يدفع الملاك الصغار للأرض لبيع الأرض الزراعية والتحول لأنشطة أخرى ، كالعمل فى المصانع والحكومة أو التحول لأعمال البروليتاريا الرثة فى المدن والريف ، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية وراء تحويل مساحات شاسعة من أجود الأرض الزراعية فى مصر إلى أرض بناء.
وقد تفاقمت المسألة مع قوانين الإصلاح الزراعى بدء من عام 1952 وحتى عام 1969، بتحويل الجزء الغالب من الأرض الزراعية لملكيات صغيرة ومتوسطة تم تفتيتها خلال جيلين لمساحات قزمية ، والنظام فى مصر ، لم يجرؤ على منع قواعد الميراث الإسلامى فى الأرض الزراعية ، ولم يحقق مبدأ أن الأرض لمن يفلحها ، و لم يخرجها عن قواعد السوق ، ومن ثم لم يمكنه فى نفس الوقت الخروج عن دائرة الاستثمار الرأسمالى الصغير فى الأرض الزراعية بإنتاجيته الضعيفة ، وقيد فى نفس الوقت الاستثمار الرأسمالى الكبير فى الأراضى القديمة حيث لم يلغى حتى الآن قوانين الإصلاح الزراعى فيها . ومن ثم أبقى على وضع أضر بالزراعة المصرية فلا هو أطلق الحرية لرأس المال الزراعى، ولا استطاع أن يخلق شكلا جديدا من علاقات الإنتاج فى قطاع الزراعة.يحول دون عملية التفتيت والتبوير المستمرة .
فلم يكن الإصلاح الزراعى الذى تم خلال الخمسينات والستينات يهدف لتحقيق العدالة الاجتماعية كما يروج لهذا الناصريون ومن لف لفهم و لا يزالون ، ولم يؤد لتطوير الإنتاج الزراعى من حيث تطوير قوى الإنتاج ، ولم يخلق علاقات إنتاج أكثر تطورا فى الريف ، فقد تحول الفلاحيين من الخضوع لسيطرة و نهب كبار الملاك السابقين ، لسيطرة ونهب بيروقراطية الدولة ، كانت الفكرة الرئيسية الكامنة وراء الإصلاح الزراعى هى توسيع قاعدة الملكية ومن ثم الاستهلاك وسط بؤساء الريف ، وكان هذا ضرورة لتثبيت قواعد الحكم بخلق قاعدة جماهيرية له ، و ذلك بالقضاء على طبقة كبار الملاك قى الريف لصالح سيطرة كبار موظفى الدولة وبورجوازية الريف .
بالطبع كان شكل الملكية التعاونية هو الحل الذى كان يمكن أن يحافظ على إنتاجية أعلى للأرض مع تحقيقه للعدالة الاجتماعية فى نفس الوقت ، و هو شكل يمنع تفتيتها و إمكانية تبويرها ،ويتيح استخدام وسائل إنتاج أكثر تطورا وإنتاجية ، إلا أن التعاونيات الحكومية الزراعية التى عرفتها الزراعة المصرية هى مجرد أجهزة حكومية لنهب الفلاحين من خلال التحكم فى أسعار الأسمدة والبذور والألات الزراعية التى تبيعها أو تؤجرها لهم هذه التعاونيات ، وفى نفس الوقت لم تمنع هذه التعاونيات الحكومية المنتسبة للتعاون زورا الظاهرة المذكورة ،فهى كانت مجرد بنك للتسليف ،يتعامل مع ملاك مستقلين للأرض يحق لهم كامل التصرف فيها ، و من ثم لم تكن تلك التعاونيات هيئات اعتبارية تقوم بزراعة الأرض المملوكة لها باعتبارها وحدة غير قابلة للتجزئة.
أعتقد أن الحل الذى يمنع استمرار تلك الظاهرة ،هو تحويل حقوق التصرف والانتفاع و الاستغلال للأرض الزراعية لأشخاص اعتبارية كالتعاونيات الزراعية الإنتاجية ، بحيث لاتقبل التجزئة والتفتيت ، و من ثم تصبح غير قابلة للتداول إلا كوحدة واحدة باعتبارها أحد أصول تلك الأشخاص الاعتبارية الغير قابلة للإنقسام ، وأن يكون من لهم حق الإنتفاع بها هم من يقومون بفلاحتها فعلا .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية