الجمعة، 9 مايو 2008

التمويل : الفلوس ! الفلوس ! كل حاجة تيجى بالفلوس

التمويل : الفلوس ! الفلوس ! كل حاجة تيجى بالفلوس
سامح سعيد عبود
* فى مسرحية الدخول بالملابس الرسمية تدفع الزوجة زوجها مدرس الفلسفة الفقير للعمل كطباخ لدى سيدة ثرية، رغم أنه لا يعرف أى شىء عن الطبخ، قائلة له: " الفلوس ! الفلوس ! كل حاجة تيجى بالفلوس " و قد نجح الزوج فى الالتحاق بالعمل، ثم الزواج من السيدة الثرية، ليس لإجادته الطبخ بالطبع، ولكن لأنه باع لها وجبات أخرى من الكلام علمتها له الفلسفة، فاشترت منه السيدة ما كانت تحتاجه من البضاعة التى يجيد بيعها، وهى حديثه المبهر لا طبيخه، وقد قبل مدرس الفلسفة تلك الصفقة حتى يتفرغ لإنجاز مشروع كتاب طالما حال بينه و بين انجازه عمله السابق كمدرس، و لكن سرعان ما دخل الفيلسوف فى عالم سيدة الأعمال الثرية، ونسى مشروع الكتاب، كما نسى زوجته الفقيرة، وتحول لمدير أعمال تشغله الصفقات التجارية لا النظريات الفلسفية، وبمرور الوقت حضرت الزوجة القديمة للقصر لتعمل كمربية لطفل السيدة المنتظر من زوجها، كان المنطق وراء سلوك الزوجان أن النقود ضرورية للحياة وتحقيق أحلامهما البسيطة وتحررهما من قسوة الفقر واستقلالهما بمسكن للزوجية، و من ثم فقد قبل الزوجان فى البداية قليل من التنازل المحسوب عن حريتهما، واقترفا كذبة بسيطة، و تنازلا عن هويتهما بانتحال هويات أخرى، إلا أنه سرعان ما تضخمت أكاذيبهما وتنازلاتهما، وبرغم ذلك لم يحقق المدرس حلمه فى الكتابة، ولا الزوجة حلمها فى منزل زوجية مستقل عن الحماه، فقد انتهت بهما مغامرتهما إلى الانحراف عن الهدف الذى تم من أجله هذا التنازل المحسوب وتلك الكذبة البسيطة.
* تنتهى المسرحية بأن النقود لا تشترى كل شىء، حيث الحب والسعادة لا يشتريان بالمال، إلا أن هذا لا ينفى أنه لن يمكنك أن تحب أو تفكر قبل أن تملىء المعدة بالطعام، كما أن الطريقة التى تجلب بها طعامك هى التى تحدد من تحب وكيف تحب، وهى التى تحدد بما تفكر وكيف تفكر. ومن هنا تتشكل سطوة الثروة، و سلطة من يملكها على من لا يملكها أو لا يقدر على الاستغناء عنها.
* بالرغم من أهمية النقود لنجاح أى حركة سياسية أو اجتماعية، فإنها يمكن أن تكون أيضا أداه فسادها و انحرافها و سبب فشلها أيضا، صحيح أن النقود هى التى تشترى مقرات العمل و وسائل الدعاية والثقافة ودعم تفرغ النشطاء وغيرها من وسائل وأدوات ممارسة النشاط العام، إلا أن هناك طريقتان لامتلاك تلك الوسائل إما أن تمول من خارجها، أو أن تعتمد الحركة على تمويلها الذاتى، ولأى حركة أن تختار بين أمرين، أن يعتمد نشاطها على تمويل الآخر الذى يشتري حريتها ويتحكم فى نشاطها ويحقق بها مصالحه، أما إذا شاءت الاحتفاظ بحريتها وحرية نشاطها فعليها أن تملك مصادر تمويلها الذاتى. فالحركة التى تعتمد على التمويل من خارجها تتحول كما تحول مدرس الفلسفة فى المسرحية، لمجرد تابع للسيد الممول، بأن تنسى هدفها الأصلى لتعمل من أجل مصلحة الممول، ولعل نموذج حركة التحرر الوطنى الفلسطينى أبرز هذه النماذج، فقد اعتمدت منظمات الحركة على تمويل الدول العربية المختلفة، وبالتحديد مخابرات تلك الدول، لتصبح فى النهاية مجرد أدوات فى يد تلك المخابرات، مما انعكس سلبيا على أداء حركة التحرر الوطنى الفلسطينية،حتى وصل بها الأمر أن تنحر الشعب الفلسطينى باقتتالها على السلطة،و بفساد قيادتها وصراعاتهم على النفوذ داخل الحركة، وبنادق مقاتليها التى وجهت للرفاق والحلفاء أكثر مما وجهت للأعداء. فقد مارس الفلسطينيون العنف المسلح النخبوى لأكثر من سبعين عاما، وقد احتاجت هذه الممارسات لتمويلات خارجية أدت لإفساد الحركة وتخريبها،ومازالت الثقافة السائدة تسخر من وسائل أخرى أكثر نجاحا لا تحتاج لتلك التمويلات الاستخباراتية الهائلة،وكنت منذ سنوات قد اقترحت أن يتم تنظيم تجمعات سلمية من اللاجئين الفلسطينين و لو من بضعة آلاف قد يزدادون مع الوقت، على الحدود مع إسرائبل ووراء الخط الأخضر ، وفى الموانىء والمطارات فى الدول المختلفة مطالبة بحقها فى العودة، ويمكن للحاضرين فى هذه التجمعات أن يضربوا عن الطعام وأن يعتصموا فى أماكنهم حتى تلبية مطالبهم المشروعة،مثل هذا العمل سيكون أقوى تأثيرا لتدمير المشروع الصهيونى بمراحل من كل عمليات العنف التى مورست بلا طائل..ولكن لا حياة لمن تنادى.
* قد يقول قائل أن أحد العوامل الجوهرية وراء قوة الإسلام السياسى وتصاعد الأصولية الإسلامية عموما هو فى ما يتوافر لديها من تمويل هائل لمؤسساتها السياسية والاجتماعية والثقافية و التى لا تملكها القوى السياسية والاجتماعية الأخرى، فقد بدأت حركة الأخوان المسلمين نشاطها فى مصر فى العشرينات معتمدة على تبرع شركة قناة السويس للملاحة بمبلغ خمسمائة جنية، وهو ما يساوى بأسعار هذه الأيام ما يقرب من نصف مليون جنيه، ثم انهمرت ومازالت تنهمر أموال النفط التى دعمت انتشار ما يسمى بالصحوة الإسلامية منذ الستينات وحتى الآن، فضلا عن استثمارات رجال الأخوان الهاربين للخليج وغيرهم، وتبرعات المحسنين والمؤمنين لتدعم الجمعيات والمؤسسات والمساجد الإسلامية، التى شكلت أدوات للدعوة والتنظيم والتحريض والارتباط بالجماهير و حل مشاكلهم اليومية، وقد عجزت القوى اليسارية والديمقراطية و التحررية الإيرانية رغم كل نضالاتها البطولية من أجل إسقاط الشاه فى الوصول للسلطة أمام ثروات منافسيهم فى معارضة الشاه من رجال الدين الشيعة الذين ظلوا لقرون يراكمون الثروات من أموال الزكاة والأخماس وغيرها وهو ما ساعدهم على خطف الثورة من صناعها الأصليين الذين مهدوا لرجال الدين الأرض، وهو نفس الوضع الذى تواجهه نفس القوى فى العراق بعد سقوط الفاشية البعثية.
* الحقيقة هى أن الإسلام السياسى ليس فريدا فى هذا فكل الحركات السياسية الاجتماعية ما يمكن لها أن تحقق انتشارا أو نفوذا أو انتصارا إلا بمقدار ما تملكه من قوة مادية، ثروة أو عنف أو معرفة، فإن لم تتوافر لديها كحركة سياسية أو اجتماعية الثروة التى تمول نشاطها ومؤسساتها، فإن عليها الاعتماد على مصدر آخر للقوة المادية، حتى تحقق أهدافها، هذا ما لا جدال فيه وليس محلا للنقاش، ولكن ما نناقشه هو حول نوع القوة المادية الملائمة لدعم الحركة، وكيفية الحصول عليها.
* الحركات الاشتراكية والعمالية المختلفة ونقصد بذلك الجماهيرية منها وليست تلك الحركات النخبوبة التى تدعى تمثيل العمال، حققت نجاحا لم يقم على تمويل أجهزة المخابرات والمؤسسات الرأسمالية والخيرية، بل كان قائما على ارتباط هذه الحركات عضويا بحركة الطبقة العاملة التى تنتج الثروة و إن لم تكن تملكها، ذلك أن تلك الطبقة فى حالة وحدتها يمكنها أن تمتنع عن إنتاج الثروة لتحقق مصالحها المختلفة السياسية والاقتصادية، على مستوى المنشأة والصناعة والأقليم والدولة والعالم، و لو تصورنا أن كل العمال المأجورين فى العالم أضربوا عن العمل لدى الدولة والرأسماليين فى نفس اللحظة فإن هذا يعنى انهيار الرأسمالية عالميا دون اطلاق رصاصة واحدة. ومن هنا اكتسبت الطبقة العاملة قوتها المادية التى اكسبتها بدورها للحركات والأحزاب الاشتراكية التى ارتبطت بها عضويا، وأما من لا يملكون الثروة كالرأسماليين و لا يرتبطون بمن ينتجونها كالعمال، فأنهم قد يلجأون للعنف باعتباره أداة للسيطرة على السلطة والحصول علي الثروة، أو يلجأون للتمويل أو يحتفظون بعزلتهم الهامشية وتأثيرهم المحدود.
* المشكلة فى تمويل الحركة من خارجها لا يكمن إطلاقا فى مصدر التمويل، ولكن فى خضوعها وتبعيتها للممول، ولا يهم هنا إذا ما كان الممول محليا أو أجنبيا، و لا تهم نواياه من التمويل شريرة أم طيبة، وسواء أكان التمويل من أعضاء الحركة الأثرياء أو من جهة متعاطفة مع الحركة أو صاحبة مصلحة فى دعمها، فالتمويل نفسه يخلق بؤر لصراعات حول السلطة والنفوذ بين أعضاء الحركة، مما يفسدها ويعرضها للتفكك ، والأخطر أن ذلك النوع من التمويل يحول العمل العام إلى وظيفة، و الأصل فيه أنه عمل تطوعى، ويحول المناضلين لعبيد للأجر، وتابعين لمن يدفع ذلك الأجر، ويصبح همهم الحفاظ على الوظيفة لا نجاح الحركة، وهذه مشكلة تدمر حياة المحترفين فى العمل السياسى والعام ،عندما تختلط مصالحهم الشخصية مع مواقفهم وأرائهم فى العمل العام.
* لا توجد مشكلة حقيقية فى البديل عن التمويل لدعم الحركة ،إذ تكمن المشكلة فى الاستسهال والتقليدية والنخبوية فى ممارسة العمل العام واتخاذه سببا لأكل العيش، فعندما قررت الحركة الوطنية الهندية بقيادة غاندى الضغط على الاستعمار الانجليزى، استغنت عن منسوجاته باستخدام النول اليدوى، وحاربت احتكاره لتجارة الملح بأن استخرجت بنفسها الملح من البحر، واكتسبت تلك الحركة قوتها المادية لا من الثروة ولا من العنف، ولكن من وحدة أصحاب المصلحة فى التحرر من المستعمر واثباتهم قدرتهم على الاستغناء عن ثروته، واثبات عدم فعالية وسائل عنفه وقمعه ضدهم، وهو عين ما مارسته الطبقة العاملة فى كفاحها ومارسته كل الحركات التى اعتمدت على العصيان المدنى.
* الحركة التعاونية وصناديق الإضراب وصناديق التضامن أشكال تمويلية تقليدية تدعم القوة المادية لكل من الطبقة العاملة والمنتجين الفرديين والمستهلكين ،والبدائل موجودة عموما وحتى إن لم تكن موجودة فعلينا أن نبدعها.. معلوماتى القديمة كانت أن فقراء ومتوسطى الحال يلجأون لنظام لتمويل احتياجاتهم الاستهلاكية يسمونه فى مصر الجمعية، وتقوم على أن يسدد كل مشترك فى الجمعية قسطا شهريا وليكن مئة جنيه على مدى زمنى وليكن عشرة شهور، ليقبض أحد المشتركين قيمة هذه الأقساط شهريا و التى تبلغ الف جنية ، بترتيب يتفقون عليه،هذا النمط من التمويل يعرفه معظم المصريون ومارسوه ويمارسوه، أما ما اكتشفته بالصدفة هو أن الفكرة تطورت فى الواقع لأشكال متنوعة و أكثر تطورا ،فبعض الناس قسمت الأقساط على المشتركين و بالتالى مرات الاستحقاق ، وبعضها أصبح ذو طبيعة استمرارية بدلا من الشكل المؤقت التقليدى، وبعضها أصبح يتفق واحتياجات مختلفة من التمويل، فنظرا لأن البعض يحرمون فوائد البنوك سواء على القروض أو الودائع، فأنهم تعلموا أن يمولوا استثماراتهم ومشاريعهم بنفس طريقة الجمعية ولكن بأقساط أكبر و أعضاء أكثر وبمدى زمنى أكبر، فلو كنت فى حاجة لمئة ألف جنية دون أن تحمل بفوائد القروض أو تريد توفير نفس المبلغ لخطة فى المستقبل، يمكنك أن تدخل فى جمعية قسطها الشهرى ألف جنية على مدى مئة شهر، أى أنك ستسدد المبلغ المقترض بدون فوائد على مدى زمنى كبير، كما يمكنك توفيره وأن تحصل عليه فى الوقت الذى يحدده لك منظموا الجمعية بالاتفاق مع باقى الأعضاء، و قد علمت أيضا أن هناك تجار وحرفيين ينظمون مثل هذه الجمعيات على أساس أقساط يومية أو أسبوعية ولفترات قصيرة نسبيا من أجل تمويل صفقاتهم. المهم فى هذا المثال هو أن الحجة التى يرددها من يربطون نشاطهم بالتمويل مردود عليها بأن هناك بدائل لو شاءوا وما عليهم إلا أن يفكروا ويبدعوا و أن يحرروا عقولهم من التقليدية.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية