الحكام بين المستورد و المحلى الصنع
الحكام بين المستورد و المحلى الصنع
سامح سعيد عبود
لفت انتباهى تعليق نوارة نجم على صور الطفل الذى قتلته الشرطة المصرية بالمنصورة أثناء تعذيبه إذ كتبت: " الصور دي لو جات لنا من فلسطين كان احسن يا ريت! كنا عرفنا نبعتها.. لكل جرائد العالم وكنا قلبنا الدنيا بس مافيش اتعس من الفلسطيني غير المصري، واسرائيل رغم انحطاطها الانساني لا تجرؤ انها تعمل كده على الاقل ما تعملش كده في عيل من عيالها بتعمل كده في "الاعداء" الفلسطينيين".
وخلافى مع التعليق هو فى ذلك التفريق بين الحكام ما إذا كانوا مستوردين أو صناعة محلية، فالنخب الإسرائيلية الحاكمة يمكن لها أن تمارس نفس الانتهاكات ضد مواطنيها من اليهود لو اضطرت لذلك شأنها شأن سائر النخب الحاكمة فى العالم. حيث لا أرى أن ما يفرق بين الحكام هو جنسياتهم بل سلوكهم إزاء محكوميهم،وهو شأن كل سلوك اجتماعى تحكمه ضرورات الواقع، وتوازنات القوى بين الحكام والمحكومين، لا المثل والمبادىء والقوانين، وأنه لا فرق بين سياط الجلادين إلا فى مدى ما تلحقه بالجلود من ألم، ومن ثم لا تهم جنسية اليد التى تمسك بالسوط، فالقهر هو القهر مثلما أن الملك هو الملك حسب عنوان أحد المسرحيات.
غالبا ما ابتسم عندما استمع لمقطع "و دنشواى و المشانق للرايح واللى جاى" فى أغنية "حكاية شعب" لعبد الحليم حافظ، و بالمقارنة فدنشواى 1906 هى حادثة انتهت بمحاكمة عدد من الفلاحين المصريين، وإدانة و من ثم إعدام أربعة منهم بتهمة قتل جنود أنجليز، و ،وإذا كانت المحاكمة ظالمة وهذا ما لا نجادل فيه ، فأنه فى وقت إذاعة الأغنية كان النظام الوطنى جدا الذى أوهمونا بأنه أعاد لنا حريتنا وكرامتنا ، يعتقل الالاف من الشيوعيين والأخوان المسلمين وغيرهم، ولسنوات طويلة دون أى محاكمة، بل ويعذبهم بأبشع مما تعذب إسرائيل الأسرى الفلسطينيين، وقد أباد النظام المئات من معارضيه الذين أفنوا أعمارهم فى النضال من أجل التحرر الوطنى وجلاء الإنجليز، وهو مالم يفعله فيهم الإنجليز و لا أعوانهم طوال إقامتهم فى مصر، وكان النظام الوطنى جدا قد ارتكب جريمة أفظع من دنشواى فى كفر الدوار حيث أعدم قائدين عماليين رميا بالرصاص أمام زملائهم إثر قيادتهم لإضراب عمالى فى أغسطس 1952 بعد محاكمة عسكرية صورية فاقت محكمة دنشواى فى ظلمها، وفى حين درسوا لنا فى مدارسهم حادث دنشواى، فأنهم لم يذكروا لنا خميس والبقرى شهيدا كفر الدوار. وكذلك درسوا لنا فى مدارسهم ما جرى من اعدام لسليمان الحلبى الذى اغتال كليبر خليفة نابليون أثناء الحملة الفرنسية، ولكن لم يذكروا لنا اندهاش المصريين من محاكمة الفرنسيين لسليمان الحلبى الذى قبض عليه متلبسا، فقد اعتادوا من حكامهم السابقين فى مثل هذه الأحوال أن يصدر الحكم بالقصاص من الجانى و أن ينفذ فورا دون محاكمة.
من الواضح الآن أنه بتطور النظام الوطنى للغاية، أصبحنا نعيش عهد المشانق للرايح واللى جاى فعلا، وليس كما أوهمتنا الأغنية التى يبدوا أنها كانت تستشرف المستقبل أكثر مما كانت تصور الماضى، فخلال السنوات القليلة الماضية لم يصبح غالبية ضحايا النظام من معارضيه السياسيين كما كانوا فى الستينات، بل أصبحوا مجرد مواطنين عاديين بسطاء من الذين يسيرون داخل الحائط لا بجواره، حتى و لو كان بعضهم شارك فى احتجاج اجتماعى بالمصادفة كشهيد اعتصام الحديد والصلب "عبد الحى"، أو شهيدة الفلاحيين "نفيسة المراكبى"، فسمعنا عن السباك الذى رفض سداد الأتاواة لأمين الشرطة فرموه من شرفة منزله فى الدور الرابع أمام أسرته، والنجار الذى قتله ضابط الشرطة ضربا بالعصى أمام أمه، وطفل المنصورة الذى لم يرحمه صغر سنه وغيرهم ، والغريب أن رجال الشرطة وطوال العقود الماضية اعتادوا انتهاك الحقوق والحريات الإنسانية للمواطنين خصوصا المنتمين منهم للطبقات الدنيا وهم غالبية السكان،وهو ما أعتاد عليه هؤلاء، إلا أن هذه الانتهاكات لم يذق مرارتها غالبا المواطنين المنتمين للطبقات المتوسطة والعليا، ومنهم نخب المثقفين والمتعلمين فيما عدا السياسيين منهم.
فالعلاقة بين الشرطة و مواطنى الطبقات الدنيا تتلخص فى فرض الأتاوات، والاحتجاز التعسفى فى الأقسام، وتلفيق المحاضر والقضايا، وسوء معاملة المترددين على أقسام الشرطة وإهانتهم جسديا ولفظيا، والتعذيب الذى يمارس روتينيا على المحتجزين، إلا أن الشهور الماضية شهدت تطورا غير مسبوق إذ أصبح رجال الشرطة يرتكبون جرائمهم اللا إنسانية علنا أمام الجميع بلا خجل و لا خوف، وليس فى خفاء أماكن الاحتجاز، بل حتى حاجز الانتماء الطبقى تم تجاوزه، فشهدنا أن هؤلاء المحصنين بسبب أوضاعهم الاجتماعية من تلك الانتهاكات أصبحوا معرضين لها، فشهدنا بأنفسنا أن بعض رجال القضاء تعرضوا للضرب علنا أثناء احتجاجتهم السلمية، ويبدوا الأمر ليس مجرد حوادث فردية غريبة، بل أن الأمر يحمل رسالة واضحة من النظام لهؤلاء البشر العاديين، الذين تشجعوا فسار بعضهم قليلا بعيدا عن الحائط ، سواء فى التحركات العمالية الأخيرة أو مظاهرات العطش أو احتجاجات قلعة الكبش وغيرها، فهناك نمو ملحوظ فى الاحتجاجات الاجتماعية العفوية، بعيدا عن مظاهرات النخب، ولذلك رأى النظام أنه لابد من إرهاب من يحاولون تقليدها أو تطويرها، ولذلك أطلقوا رجال الشرطة على المواطنين متجاوزين الخطوط الحمراء.فالمثل الدارج المصرى يقول "أضرب المربوط يخاف السايب".
عندما كانت الجيوش البريطانية تحتل ربع المعمورة فى القرن التاسع عشر،كان قادة الإضرابات والنقابات الإنجليز يتم إعدامهم بجوار النشالين والمشردين فى الميادين العامة، وكان الحكم النازى يبيد المعاقين ذهنيا وجسمانيا وضعاف العقول والمرضى من المواطنين الألمان من أجل تحسين نسل الجنس الآرى فضلا عن إبادته للشيوعيين والاشتراكيين الألمان بجانب اليهود والغجر والسلاف وغيرهم.أما احتفالنا بعيد العمال فهو تخليد لذكرى ما حدث فى شيكاغو عام 1881 و هو شبيه بما حدث فى كفر الدوار 1952. وقد أباد نظام بينو شيه فى شيلى اليساريين الشيليين فى مذبحة واحدة تمت فى استاد مدينة سينتياجو، وكان الحكم الوطنى فى الارجنتين يلقى بمعارضيه فى مياة المحيط رميا من الطائرات فى ثمانينات القرن العشرين، واتقاءا للملل فلن نذكر ما كانت أو ما زالت تفعله الأنظمة القومية الوطنية الثورية جدا بمواطنيها فى سوريا والعراق والجزائر وغيرها، و لا الأنظمة التى أدعت الاشتراكية فى الصين وكمبوديا وكوريا وغيرها.
مشكلة عقول الغالبية هى أنها تنتمى لعصر مجتمعات الصيد وجمع الثمار لا حتى مجتمعات الزراعة التقليدية، فما بالكم بمجتمعات الصناعة الحديثة ، ومن ثم بناء على تخلفها تفهم العلاقة بين الحكام والمحكومين،كما تفهم العلاقة بين الأبناء والأباء، أو أفراد العشيرة البدائية و شيوخها، و من ثم تخلط بين أحكام العلاقات الأسرية والعشائرية، وأحكام العلاقات السياسية المرتبطة بمؤسسة الدولة التى قامت عندما انقسم المجتمع لطبقات باكتشاف الزراعة التقليدية والرعى، وبناء على هذا المنطق البدائى المتخلف تفرق تلك العقول بين الحكام ما إذا كانوا مستوردين أم محليين، وتفرق بين طعم الضربة ما إذا كانت صدرت من أبناء العشيرة أم من الغرباء عنها، فيتوقعون من الحاكم فى الدولة ما يتوقعوه من الأب والأم وشيخ العشيرة البدائية، والفرق بين الأولين والآخرين لو تعلمون كبير، فالأباء والأمهات وشيوخ العشائر البدائية لهم الحق فى عقاب وتأديب واتخاذ القرارات بشأن أفراد الأسرة وأعضاء العشيرة، لأن مصالح هؤلاء الأفراد تتوحد مع مصالحهم، ومن المؤكد أنهم حريصين فى الغالب على مصالح أعضاء الأسرة أوالعشيرة لأنها نفس مصالحهم ، أما الحكام والساسة والبيروقراطيين فى الدولة ، أيا ما كانوا محليين أم مستوردين، فهم من ننفق عليهم مما ندفعه لهم من ضرائب منتزعة مما ننتجه من ثروات، إلا أنهم شأن كل البلطجية طوال معظم تاريخهم لا يكتفون بالعيش على حسابنا، و لكنهم ينتهكون حقوقنا وحريتنا الإنسانية بحجة حمايتنا و تحقيق مصالحنا التى لا تتفق بالضرورة مع مصالحهم، فالدولة أى دولة هى مؤسسة قهر اجتماعى تحتكر العنف المنظم دفاعا عن مصالح الطبقة السائدة فى المجتمع فى مواجهة الطبقات المسودة، وهى مؤسسة تختلف عن مؤسستى العشيرة البدائية والأسرة أو ما يمكن أن يطرحه المستقبل من مؤسسات شبيهة عندما تزول الطبقات، وتتوحد مصالح سائر أعضاء المجتمع فعليا لا قوليا .
ما أريد التأكيد عليه فى هذا المقال هو أن ما يفعله الحكام فى مصر فى الخاضعين لحكمهم، ليس ظاهرة محلية تخص الحكام فى مصر ، أن ما يفعلونه هو ما يشكل التاريخ البشرى المكتوب للعلاقة بين الحكام والمحكومين منذ أن ظهرت الدولة كمؤسسة، وسواء أكان هؤلاء الحكام فى تلك الدولة محليين أو أجانب، و باستثناء المئتى عام الماضية، و فى بعض المجتمعات البشرية، و على نحو محدود وهامشى أخذ يتوسع ويتعمق بمرور الوقت، أخذت الدول فى تلك المجتمعات تحترم بعض الحقوق والحريات الإنسانية للمحكوميين بدرجات متفاوتة، فلا توجد دولة على الأرض لا تنتهك بعض هذه الحقوق والحريات الإنسانية رغم إقرارها الرسمى بها، سواء لمواطنيها أو لغير مواطنيها، وما كان هذا التطور الحديث جدا والمحدود غالبا فى العلاقة بين الحكام والمحكومين ليحدث لولا نضال هؤلاء المحكومين الذين نجحوا فى انتزاع تلك الحقوق والحريات الإنسانية. وهو ما زاد فى أوهام البعض أن الدولة تعبر عن مصالح سائر مواطنيها الغير متوحدة فى حقيقتها بسبب انقسامهم لطبقات.
تلك الأكذوبة الكبرى الخاصة بالدولة التى تعبر عن المصلحة العامة، والحكم العادل فوق الطبقات والأفراد، سوف تنكشف عندما تتغير الظروف التى أدت لذلك التطور السالف الذكر، وبالتالى سوف نشهد أطفالا إسرائيليين مثل محمد الدرة الفلسطينى وطفل المنصورة المصرى مقتولين على أيدى عسكر النخب الصهيونية.
لفت انتباهى تعليق نوارة نجم على صور الطفل الذى قتلته الشرطة المصرية بالمنصورة أثناء تعذيبه إذ كتبت: " الصور دي لو جات لنا من فلسطين كان احسن يا ريت! كنا عرفنا نبعتها.. لكل جرائد العالم وكنا قلبنا الدنيا بس مافيش اتعس من الفلسطيني غير المصري، واسرائيل رغم انحطاطها الانساني لا تجرؤ انها تعمل كده على الاقل ما تعملش كده في عيل من عيالها بتعمل كده في "الاعداء" الفلسطينيين".
وخلافى مع التعليق هو فى ذلك التفريق بين الحكام ما إذا كانوا مستوردين أو صناعة محلية، فالنخب الإسرائيلية الحاكمة يمكن لها أن تمارس نفس الانتهاكات ضد مواطنيها من اليهود لو اضطرت لذلك شأنها شأن سائر النخب الحاكمة فى العالم. حيث لا أرى أن ما يفرق بين الحكام هو جنسياتهم بل سلوكهم إزاء محكوميهم،وهو شأن كل سلوك اجتماعى تحكمه ضرورات الواقع، وتوازنات القوى بين الحكام والمحكومين، لا المثل والمبادىء والقوانين، وأنه لا فرق بين سياط الجلادين إلا فى مدى ما تلحقه بالجلود من ألم، ومن ثم لا تهم جنسية اليد التى تمسك بالسوط، فالقهر هو القهر مثلما أن الملك هو الملك حسب عنوان أحد المسرحيات.
غالبا ما ابتسم عندما استمع لمقطع "و دنشواى و المشانق للرايح واللى جاى" فى أغنية "حكاية شعب" لعبد الحليم حافظ، و بالمقارنة فدنشواى 1906 هى حادثة انتهت بمحاكمة عدد من الفلاحين المصريين، وإدانة و من ثم إعدام أربعة منهم بتهمة قتل جنود أنجليز، و ،وإذا كانت المحاكمة ظالمة وهذا ما لا نجادل فيه ، فأنه فى وقت إذاعة الأغنية كان النظام الوطنى جدا الذى أوهمونا بأنه أعاد لنا حريتنا وكرامتنا ، يعتقل الالاف من الشيوعيين والأخوان المسلمين وغيرهم، ولسنوات طويلة دون أى محاكمة، بل ويعذبهم بأبشع مما تعذب إسرائيل الأسرى الفلسطينيين، وقد أباد النظام المئات من معارضيه الذين أفنوا أعمارهم فى النضال من أجل التحرر الوطنى وجلاء الإنجليز، وهو مالم يفعله فيهم الإنجليز و لا أعوانهم طوال إقامتهم فى مصر، وكان النظام الوطنى جدا قد ارتكب جريمة أفظع من دنشواى فى كفر الدوار حيث أعدم قائدين عماليين رميا بالرصاص أمام زملائهم إثر قيادتهم لإضراب عمالى فى أغسطس 1952 بعد محاكمة عسكرية صورية فاقت محكمة دنشواى فى ظلمها، وفى حين درسوا لنا فى مدارسهم حادث دنشواى، فأنهم لم يذكروا لنا خميس والبقرى شهيدا كفر الدوار. وكذلك درسوا لنا فى مدارسهم ما جرى من اعدام لسليمان الحلبى الذى اغتال كليبر خليفة نابليون أثناء الحملة الفرنسية، ولكن لم يذكروا لنا اندهاش المصريين من محاكمة الفرنسيين لسليمان الحلبى الذى قبض عليه متلبسا، فقد اعتادوا من حكامهم السابقين فى مثل هذه الأحوال أن يصدر الحكم بالقصاص من الجانى و أن ينفذ فورا دون محاكمة.
من الواضح الآن أنه بتطور النظام الوطنى للغاية، أصبحنا نعيش عهد المشانق للرايح واللى جاى فعلا، وليس كما أوهمتنا الأغنية التى يبدوا أنها كانت تستشرف المستقبل أكثر مما كانت تصور الماضى، فخلال السنوات القليلة الماضية لم يصبح غالبية ضحايا النظام من معارضيه السياسيين كما كانوا فى الستينات، بل أصبحوا مجرد مواطنين عاديين بسطاء من الذين يسيرون داخل الحائط لا بجواره، حتى و لو كان بعضهم شارك فى احتجاج اجتماعى بالمصادفة كشهيد اعتصام الحديد والصلب "عبد الحى"، أو شهيدة الفلاحيين "نفيسة المراكبى"، فسمعنا عن السباك الذى رفض سداد الأتاواة لأمين الشرطة فرموه من شرفة منزله فى الدور الرابع أمام أسرته، والنجار الذى قتله ضابط الشرطة ضربا بالعصى أمام أمه، وطفل المنصورة الذى لم يرحمه صغر سنه وغيرهم ، والغريب أن رجال الشرطة وطوال العقود الماضية اعتادوا انتهاك الحقوق والحريات الإنسانية للمواطنين خصوصا المنتمين منهم للطبقات الدنيا وهم غالبية السكان،وهو ما أعتاد عليه هؤلاء، إلا أن هذه الانتهاكات لم يذق مرارتها غالبا المواطنين المنتمين للطبقات المتوسطة والعليا، ومنهم نخب المثقفين والمتعلمين فيما عدا السياسيين منهم.
فالعلاقة بين الشرطة و مواطنى الطبقات الدنيا تتلخص فى فرض الأتاوات، والاحتجاز التعسفى فى الأقسام، وتلفيق المحاضر والقضايا، وسوء معاملة المترددين على أقسام الشرطة وإهانتهم جسديا ولفظيا، والتعذيب الذى يمارس روتينيا على المحتجزين، إلا أن الشهور الماضية شهدت تطورا غير مسبوق إذ أصبح رجال الشرطة يرتكبون جرائمهم اللا إنسانية علنا أمام الجميع بلا خجل و لا خوف، وليس فى خفاء أماكن الاحتجاز، بل حتى حاجز الانتماء الطبقى تم تجاوزه، فشهدنا أن هؤلاء المحصنين بسبب أوضاعهم الاجتماعية من تلك الانتهاكات أصبحوا معرضين لها، فشهدنا بأنفسنا أن بعض رجال القضاء تعرضوا للضرب علنا أثناء احتجاجتهم السلمية، ويبدوا الأمر ليس مجرد حوادث فردية غريبة، بل أن الأمر يحمل رسالة واضحة من النظام لهؤلاء البشر العاديين، الذين تشجعوا فسار بعضهم قليلا بعيدا عن الحائط ، سواء فى التحركات العمالية الأخيرة أو مظاهرات العطش أو احتجاجات قلعة الكبش وغيرها، فهناك نمو ملحوظ فى الاحتجاجات الاجتماعية العفوية، بعيدا عن مظاهرات النخب، ولذلك رأى النظام أنه لابد من إرهاب من يحاولون تقليدها أو تطويرها، ولذلك أطلقوا رجال الشرطة على المواطنين متجاوزين الخطوط الحمراء.فالمثل الدارج المصرى يقول "أضرب المربوط يخاف السايب".
عندما كانت الجيوش البريطانية تحتل ربع المعمورة فى القرن التاسع عشر،كان قادة الإضرابات والنقابات الإنجليز يتم إعدامهم بجوار النشالين والمشردين فى الميادين العامة، وكان الحكم النازى يبيد المعاقين ذهنيا وجسمانيا وضعاف العقول والمرضى من المواطنين الألمان من أجل تحسين نسل الجنس الآرى فضلا عن إبادته للشيوعيين والاشتراكيين الألمان بجانب اليهود والغجر والسلاف وغيرهم.أما احتفالنا بعيد العمال فهو تخليد لذكرى ما حدث فى شيكاغو عام 1881 و هو شبيه بما حدث فى كفر الدوار 1952. وقد أباد نظام بينو شيه فى شيلى اليساريين الشيليين فى مذبحة واحدة تمت فى استاد مدينة سينتياجو، وكان الحكم الوطنى فى الارجنتين يلقى بمعارضيه فى مياة المحيط رميا من الطائرات فى ثمانينات القرن العشرين، واتقاءا للملل فلن نذكر ما كانت أو ما زالت تفعله الأنظمة القومية الوطنية الثورية جدا بمواطنيها فى سوريا والعراق والجزائر وغيرها، و لا الأنظمة التى أدعت الاشتراكية فى الصين وكمبوديا وكوريا وغيرها.
مشكلة عقول الغالبية هى أنها تنتمى لعصر مجتمعات الصيد وجمع الثمار لا حتى مجتمعات الزراعة التقليدية، فما بالكم بمجتمعات الصناعة الحديثة ، ومن ثم بناء على تخلفها تفهم العلاقة بين الحكام والمحكومين،كما تفهم العلاقة بين الأبناء والأباء، أو أفراد العشيرة البدائية و شيوخها، و من ثم تخلط بين أحكام العلاقات الأسرية والعشائرية، وأحكام العلاقات السياسية المرتبطة بمؤسسة الدولة التى قامت عندما انقسم المجتمع لطبقات باكتشاف الزراعة التقليدية والرعى، وبناء على هذا المنطق البدائى المتخلف تفرق تلك العقول بين الحكام ما إذا كانوا مستوردين أم محليين، وتفرق بين طعم الضربة ما إذا كانت صدرت من أبناء العشيرة أم من الغرباء عنها، فيتوقعون من الحاكم فى الدولة ما يتوقعوه من الأب والأم وشيخ العشيرة البدائية، والفرق بين الأولين والآخرين لو تعلمون كبير، فالأباء والأمهات وشيوخ العشائر البدائية لهم الحق فى عقاب وتأديب واتخاذ القرارات بشأن أفراد الأسرة وأعضاء العشيرة، لأن مصالح هؤلاء الأفراد تتوحد مع مصالحهم، ومن المؤكد أنهم حريصين فى الغالب على مصالح أعضاء الأسرة أوالعشيرة لأنها نفس مصالحهم ، أما الحكام والساسة والبيروقراطيين فى الدولة ، أيا ما كانوا محليين أم مستوردين، فهم من ننفق عليهم مما ندفعه لهم من ضرائب منتزعة مما ننتجه من ثروات، إلا أنهم شأن كل البلطجية طوال معظم تاريخهم لا يكتفون بالعيش على حسابنا، و لكنهم ينتهكون حقوقنا وحريتنا الإنسانية بحجة حمايتنا و تحقيق مصالحنا التى لا تتفق بالضرورة مع مصالحهم، فالدولة أى دولة هى مؤسسة قهر اجتماعى تحتكر العنف المنظم دفاعا عن مصالح الطبقة السائدة فى المجتمع فى مواجهة الطبقات المسودة، وهى مؤسسة تختلف عن مؤسستى العشيرة البدائية والأسرة أو ما يمكن أن يطرحه المستقبل من مؤسسات شبيهة عندما تزول الطبقات، وتتوحد مصالح سائر أعضاء المجتمع فعليا لا قوليا .
ما أريد التأكيد عليه فى هذا المقال هو أن ما يفعله الحكام فى مصر فى الخاضعين لحكمهم، ليس ظاهرة محلية تخص الحكام فى مصر ، أن ما يفعلونه هو ما يشكل التاريخ البشرى المكتوب للعلاقة بين الحكام والمحكومين منذ أن ظهرت الدولة كمؤسسة، وسواء أكان هؤلاء الحكام فى تلك الدولة محليين أو أجانب، و باستثناء المئتى عام الماضية، و فى بعض المجتمعات البشرية، و على نحو محدود وهامشى أخذ يتوسع ويتعمق بمرور الوقت، أخذت الدول فى تلك المجتمعات تحترم بعض الحقوق والحريات الإنسانية للمحكوميين بدرجات متفاوتة، فلا توجد دولة على الأرض لا تنتهك بعض هذه الحقوق والحريات الإنسانية رغم إقرارها الرسمى بها، سواء لمواطنيها أو لغير مواطنيها، وما كان هذا التطور الحديث جدا والمحدود غالبا فى العلاقة بين الحكام والمحكومين ليحدث لولا نضال هؤلاء المحكومين الذين نجحوا فى انتزاع تلك الحقوق والحريات الإنسانية. وهو ما زاد فى أوهام البعض أن الدولة تعبر عن مصالح سائر مواطنيها الغير متوحدة فى حقيقتها بسبب انقسامهم لطبقات.
تلك الأكذوبة الكبرى الخاصة بالدولة التى تعبر عن المصلحة العامة، والحكم العادل فوق الطبقات والأفراد، سوف تنكشف عندما تتغير الظروف التى أدت لذلك التطور السالف الذكر، وبالتالى سوف نشهد أطفالا إسرائيليين مثل محمد الدرة الفلسطينى وطفل المنصورة المصرى مقتولين على أيدى عسكر النخب الصهيونية.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية