المنزل ينهار و نتجادل فى وضع لوحة على الجدار
المنزل ينهار و نتجادل فى وضع لوحة على الجدار
سامح سعيد عبود
تؤكد التطورات فى السنوات الأخيرة، أن البشرية تواجه انهيار اجتماعى شامل، نلاحظه فى المعدلات المتصاعدة من البائسين والمشردين واللاجئين و الرقيق الجدد، ومن ضحايا الجريمة والعنف والإرهاب والحروب ، ومن المدمنين للكحوليات والمخدرات. كما نلاحظه فى تزايد العزلة الاجتماعية بين الناس التى حولتهم لمجرد كائنات نفعية لا تبحث سوى عن مصالحها الفردية وإشباع غرائزها، وأيضا نلاحظه فى سيادة اللامبالاة السياسية والاجتماعية التى أدت لإنهيار المؤسسات الاجتماعية المختلفة ، وتحول العملية الديمقراطية لمجرد لعبة يتصارع فيها المال والإعلام على عقول الناس فى كرنفال دورى، فضلا عن أننا نلاحظه فى تدهور عقلية البشر أنفسهم، والانتشار الكبير للأمراض النفسية والعقلية بينهم و هو ما تؤكده بيانات علمية، وهذا التدهور لا شك أن له أسبابه والتى من أهمها أولا انهيار مستوى التعليم العام مما رفع مستويات الجهل بين المتعلمين، و ثانيا سيادة ثقافة التسلية التجارية التى أصبحت مخدرات أخرى، لا يعاقب القانون على تداولها بل تسهل النخب الحاكمة على أن يدمنها الذين تستغلهم وتقهرهم، كى تغسل عقولهم، و تروضهم للقبول بالاستغلال و للخضوع، وثالثا ما تنتجه آلات الإعلام والثقافة من خطابات تضلل الناس عن مصالحهم الحقيقية وطرق حل مشكلاتهم مما أدى لتزايد تحكم الأوهام فى البشر. كذلك نلاحظه فى التدهور الأخلاقى حيث الفساد يكتسح كل المجتمعات بلا رادع سواء أكانت ممارسته جبرا أو اختيارا، وإذا كان هذا حال سكان بيئتنا الأرضية، فإن منزلهم نفسه ينهار بالفعل، و هم عنه فى لهوهم منشغلين، حيث يؤكد العلماء أنه نتيجة الاحتباس الحرارى فإن مناطق كثيرة من العالم سوف تغمرها المياة من جزر ودالات أنهار ومدن ساحلية، مما سوف يؤدى لتشرد ملايين البشر خلال العقود المقبلة، وسوف تزداد معدلات الجفاف والتصحر و الصراع من أجل المياة فى المناطق المدارية من الأرض التى يقع بها العالم العربى و الشرق الأوسط، وسوف تزداد معدلات الكوارث البيئية من فيضانات وأعاصير،و سوف يؤدى ذلك لانتشار المجاعات والأوبئة، وبرغم كل ذلك، وبرغم انتهاء الحرب الباردة، فإن سباق التسلح لم يتوقف حيث يزداد انتاج أسلحة الدمار الشامل.و إذا كانت الحروب العالمية أصبحت غير مطروحة أو ممكنة الآن، ولما كانت الرأسمالية أحوج ما تكون لمثل هذه الحروب كى تتخلص من فائض قوة العمل التى لا تحتاج إليها، و أن تدمر وسائل الإنتاج القديمة و تستبدلها بجديدة، كى تهرب من حالة الركود، فإنها تشعل سلاسل من الحروب الأهلية والعنصرية و الطائفية و القبلية، تستهلك بها فائض السلاح، وتتخلص من فائض السكان.
السلطوية هى أساس كل الأنظمة الاجتماعية القائمة، رأسمالية وبيروقراطية، إنتاجية و لا إنتاجية، ليبرالية و فاشية، مركزية وطرفية، متقدمة ومتخلفة، متبوعة وتابعة،علمانية ودينية، وقد استفحلت بنا أعراض السلطوية عالميا ومحليا، حتى وصلت بنا إلى حافة أزمات كارثية، يهون بجانبها استغلال وقهر العاملين بأجر، ويتضاءل بجوارها ما سببه من يملكون السلطة تاريخيا من مآسى لا حصر لها، إشباعا لجوعهم الشبق لدماء المحرومين من السلطة، وعرقهم وحريتهم وكراماتهم بل وحياتهم.
مصالح البيروقراطيين السوفيت دفعتهم إلى اجبار العمال الروس على إنتاج أسلحة تدمر العالم 48 مرة، مع حرمان هؤلاء العمال من الرفاهية التى كان يستأثر بها البيروقراطيون دونهم..ومصالح الرأسماليين تجعلهم يحولون القمح والذرة لوقود للسيارات فى حين يموت الملايين جوعا. وفى كلتا الحالتين البيروقراطية والرأسمالية، نلاحظ سلطة نتجت عن حيازة المتسلط لثروة فى الحالة الرأسمالية أو لعنف أو لمعرفة فى الحالة البيروقراطية، وبهذه السلطة المتعالية تم استغلال وقهر المحرومين من الثروة والعنف والمعرفة.. فهنا وهناك، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، تتركز السلطة فى قمة بنية الهرم التنظيمى، فى كل المؤسسات مثل الشركات والبيروقراطيات الحكومية والجيوش والأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية والجامعات..الخ. وتتيح لمن يحوز على تلك السلطة أن يدير تلك المؤسسات لمصلحته ومصلحة طبقته الاجتماعية، وعذرا لمن يعتقدون فى وجود القديسين والملائكة، المتناسيين أن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة فساد مطلق ، هؤلاء المضللون أو المضللين الذين يتعامون عن أن العلاقات السلطوية المتأصلة، تؤثر بشكل سلبى على كل الأفراد، بإفسادهم حكاما و قهرهم محكومين.
العلاج ليس فى الاختيار بين سلطة و سلطة أخرى، ولكن فى تنظيم المجتمع على شكل جماعات تعاونية متعاونة فيما بينها من أسفل لأعلى، تلبى مصالحهم المتنوعة و المشتركة. و هذا لا علاقة له بتحويل كل الناس لبرجوازين صغار، بل له أوثق علاقة بتحرير العاملين بأجر من عبوديتهم المأجورة سواء للدولة أو رأسالمال، و التعاونية اللاسلطوية لا علاقة لها بالخيالية، لأنها ببساطة موجودة بالفعل منذ أكثر من قرن ونصف، و إن كانت هامشية أو مشوهة أحيانا، فإنها يمكن لها أن تصبح سائدة فى يوم ما، و يمكن أن تبرأ من تشوهاتها البيروقراطية و الرأسمالية. و ما يؤكد عقلانية الطرح التعاونى و واقعيته أيضا، أنه نتيجة أن الاستثمار فى المضاربة والتجارة أكثر ربحية وأقل مخاطرة، فإن الرأسماليين غالبا ما يلجأون للاستثمار فيهما، وكثيرا ما يلجأ الرأسماليون المفلسون وهربا من الركود للتخلى عن المنشآت الرأسمالية فيلجأ العمال هربا من جحيم البطالة لإدارتها ذاتيا لصالحهم على نحو تعاونى، وقد برزت هذه الظاهرة فى الأرجنتين أولا ثم سائر أمريكا اللاتينية ثانيا، وظهرت كذلك فى حالة مصنعين أو أكثر فى مصر، وقد أورد موقع ليموند دبلوماتيك مؤخرا ملفا صحفيا عن انتشار هذه الظاهرة أوربيا، كما لو كان جسد البشرية المريضة يفرز أجسامه المضادة طبيعيا، و لكنها قد تنجح فى القضاء على المرض أو قد لا تنجح.
الرأى التقليدى السائد لدى خبراء ونشطاء المؤسسات الإعلامية والسياسية عندما يبحثون فى هذه الأزمات السالف ذكرها ، هو أنه يمكن فصلها عن بعضها، فلكل منها أسبابها الخاصة، ولذلك يمكن التعامل معها على أساس قاعدة حل كل مشكلة بالانفصال عن الأخرى. كما لو كان يمكن لنا أن نحل مشكلة الغذاء بالانفصال عن تزايد الانفاق على التسلح، أو أن نحل مشكلة الاحتباس الحرارى دون تغيير طرق الإنتاج والاستهلاك، كما أنهم يطرحون حلولا محلية لمشكلات ذات طابع عالمى، ولكن ما قيمة ترتيب الأثاث و إصلاح دورة المياة، والمنزل نفسه ينهار، وما قيمة أن تنقذ غرفتك المحلية، والإنهيار يغزوها مع باقى الغرف، ومن ثم فإن هذه الفكرة التقليدية عن الإصلاح بالتجزئة،أو محليا، لن تعالج الأزمة مادمنا لا نلمس جوهر المرض الذى يسبب كل تلك الأعراض، فالمريض بميكروب لا يحتاج لمسكن لآلامه ومخفض لحرارته، بل يحتاج لمضاد حيوى يقتل الميكروب المسبب للمرض، فتختفى أعراضه.
قد ينتهى المطلع على هذه الصورة،أن العالم أحوج ما يكون إلى أن يقلب فورا رأسا على عقب بثورة تعيد للبشرية المريضة صحتها، و لكن هذا اليقين الحالم يتكسر على صخرة واقع لا يرحم، فالثورة على الطراز الفرنسى أو الروسى، حدث نادر تاريخيا، فضلا عن أنه غالبا ما لا يحقق ما كان يأمله منه الثائرين، والأهم أن الثورة بهذا المعنى ليست عمل إرادى على أى نحو وهو ما يفصلها عن الانقلابات الإرادية، فالثورة محصلة نهائية لتفاعل معقد بين العديد من الشروط والظروف الاجتماعية، ولعل من بين أهم هذه الشروط المزاج الجماهيرى، وهو مزاج للمتابع الموضوعى، إصلاحى و جزئى ومحلى فى أفضل الأحوال، وهو غالبا لا يحمل رؤى الحالمين بالثورة الجذرية، إن لم يكن متحفظا عليها أو معاديا لها أو غير راغب فى الاستماع إليها وتفهمها، وقد يخلط البعض بين تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية المطلبية و بين المزاج الثورى، وهذا خلط لا يجوز لأن هؤلاء المحتجين قد لا يطمحون فى أكثر من تحقيق مطالبهم الجزئية والمحلية والإصلاحية، ولا شك أنه وضع مزعج للغاية، فبرغم معرفتنا للمرض والعلاج، وبرغم أن كل لحظة تمر على البشرية فى ظل تلك الأنظمة السلطوية ، تعنى احتمال بانهيار بات وشيكا للحضارة الإنسانية، إلا أن الشفاء بالجراحة أى الثورة السياسية أمر مستبعد فى المدى المنظور، ولو خابت ظنوننا وياليتها تخيب، فأننا نؤكد أنه لو حدثت المعجزة فإن الواقع نفسه هو ما سوف يفرض علينا المشاركة فيها و ليست مجرد إرادتنا أو أحلامنا.
ما يمكن أن نفعله إراديا فعلا، أن نضخ المزيد من المضادات الحيوية فى الجسد المريض، أن ندعم الحركة التعاونية ونناضل من أجل استقلالها عن الدولة ورأسالمال وتحريرها من تشوهاتها ، وأن ندعم حركة الإدارة الذاتية للمصانع المستعادة ونطورها، أن نبنى بأنفسنا أجنة مجتمع المستقبل من قلب وهامش المجتمع القديم والمريض،وأن ندافع عن هذه الأجنة من الموت والتشوه وأن نساعدها على النمو، وربما بتراكمها كميا قد تؤدى لتغير كيفى يحولها من الهامشية للسيادة مما يمكن أن نطلق عليه ثورة، أما أن نظل نستهلك أنفسنا فى التبشير بأحلامنا التى قد لا تتحقق أو تتحقق، وأن نستنزف أنفسنا فى الجدال والندوات والمؤتمرات والوقفات الاحتجاجية والتظاهرات، والمنزل ينهار من حولنا، فهو عبث لا طائل من وراءه.
تؤكد التطورات فى السنوات الأخيرة، أن البشرية تواجه انهيار اجتماعى شامل، نلاحظه فى المعدلات المتصاعدة من البائسين والمشردين واللاجئين و الرقيق الجدد، ومن ضحايا الجريمة والعنف والإرهاب والحروب ، ومن المدمنين للكحوليات والمخدرات. كما نلاحظه فى تزايد العزلة الاجتماعية بين الناس التى حولتهم لمجرد كائنات نفعية لا تبحث سوى عن مصالحها الفردية وإشباع غرائزها، وأيضا نلاحظه فى سيادة اللامبالاة السياسية والاجتماعية التى أدت لإنهيار المؤسسات الاجتماعية المختلفة ، وتحول العملية الديمقراطية لمجرد لعبة يتصارع فيها المال والإعلام على عقول الناس فى كرنفال دورى، فضلا عن أننا نلاحظه فى تدهور عقلية البشر أنفسهم، والانتشار الكبير للأمراض النفسية والعقلية بينهم و هو ما تؤكده بيانات علمية، وهذا التدهور لا شك أن له أسبابه والتى من أهمها أولا انهيار مستوى التعليم العام مما رفع مستويات الجهل بين المتعلمين، و ثانيا سيادة ثقافة التسلية التجارية التى أصبحت مخدرات أخرى، لا يعاقب القانون على تداولها بل تسهل النخب الحاكمة على أن يدمنها الذين تستغلهم وتقهرهم، كى تغسل عقولهم، و تروضهم للقبول بالاستغلال و للخضوع، وثالثا ما تنتجه آلات الإعلام والثقافة من خطابات تضلل الناس عن مصالحهم الحقيقية وطرق حل مشكلاتهم مما أدى لتزايد تحكم الأوهام فى البشر. كذلك نلاحظه فى التدهور الأخلاقى حيث الفساد يكتسح كل المجتمعات بلا رادع سواء أكانت ممارسته جبرا أو اختيارا، وإذا كان هذا حال سكان بيئتنا الأرضية، فإن منزلهم نفسه ينهار بالفعل، و هم عنه فى لهوهم منشغلين، حيث يؤكد العلماء أنه نتيجة الاحتباس الحرارى فإن مناطق كثيرة من العالم سوف تغمرها المياة من جزر ودالات أنهار ومدن ساحلية، مما سوف يؤدى لتشرد ملايين البشر خلال العقود المقبلة، وسوف تزداد معدلات الجفاف والتصحر و الصراع من أجل المياة فى المناطق المدارية من الأرض التى يقع بها العالم العربى و الشرق الأوسط، وسوف تزداد معدلات الكوارث البيئية من فيضانات وأعاصير،و سوف يؤدى ذلك لانتشار المجاعات والأوبئة، وبرغم كل ذلك، وبرغم انتهاء الحرب الباردة، فإن سباق التسلح لم يتوقف حيث يزداد انتاج أسلحة الدمار الشامل.و إذا كانت الحروب العالمية أصبحت غير مطروحة أو ممكنة الآن، ولما كانت الرأسمالية أحوج ما تكون لمثل هذه الحروب كى تتخلص من فائض قوة العمل التى لا تحتاج إليها، و أن تدمر وسائل الإنتاج القديمة و تستبدلها بجديدة، كى تهرب من حالة الركود، فإنها تشعل سلاسل من الحروب الأهلية والعنصرية و الطائفية و القبلية، تستهلك بها فائض السلاح، وتتخلص من فائض السكان.
السلطوية هى أساس كل الأنظمة الاجتماعية القائمة، رأسمالية وبيروقراطية، إنتاجية و لا إنتاجية، ليبرالية و فاشية، مركزية وطرفية، متقدمة ومتخلفة، متبوعة وتابعة،علمانية ودينية، وقد استفحلت بنا أعراض السلطوية عالميا ومحليا، حتى وصلت بنا إلى حافة أزمات كارثية، يهون بجانبها استغلال وقهر العاملين بأجر، ويتضاءل بجوارها ما سببه من يملكون السلطة تاريخيا من مآسى لا حصر لها، إشباعا لجوعهم الشبق لدماء المحرومين من السلطة، وعرقهم وحريتهم وكراماتهم بل وحياتهم.
مصالح البيروقراطيين السوفيت دفعتهم إلى اجبار العمال الروس على إنتاج أسلحة تدمر العالم 48 مرة، مع حرمان هؤلاء العمال من الرفاهية التى كان يستأثر بها البيروقراطيون دونهم..ومصالح الرأسماليين تجعلهم يحولون القمح والذرة لوقود للسيارات فى حين يموت الملايين جوعا. وفى كلتا الحالتين البيروقراطية والرأسمالية، نلاحظ سلطة نتجت عن حيازة المتسلط لثروة فى الحالة الرأسمالية أو لعنف أو لمعرفة فى الحالة البيروقراطية، وبهذه السلطة المتعالية تم استغلال وقهر المحرومين من الثروة والعنف والمعرفة.. فهنا وهناك، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، تتركز السلطة فى قمة بنية الهرم التنظيمى، فى كل المؤسسات مثل الشركات والبيروقراطيات الحكومية والجيوش والأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية والجامعات..الخ. وتتيح لمن يحوز على تلك السلطة أن يدير تلك المؤسسات لمصلحته ومصلحة طبقته الاجتماعية، وعذرا لمن يعتقدون فى وجود القديسين والملائكة، المتناسيين أن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة فساد مطلق ، هؤلاء المضللون أو المضللين الذين يتعامون عن أن العلاقات السلطوية المتأصلة، تؤثر بشكل سلبى على كل الأفراد، بإفسادهم حكاما و قهرهم محكومين.
العلاج ليس فى الاختيار بين سلطة و سلطة أخرى، ولكن فى تنظيم المجتمع على شكل جماعات تعاونية متعاونة فيما بينها من أسفل لأعلى، تلبى مصالحهم المتنوعة و المشتركة. و هذا لا علاقة له بتحويل كل الناس لبرجوازين صغار، بل له أوثق علاقة بتحرير العاملين بأجر من عبوديتهم المأجورة سواء للدولة أو رأسالمال، و التعاونية اللاسلطوية لا علاقة لها بالخيالية، لأنها ببساطة موجودة بالفعل منذ أكثر من قرن ونصف، و إن كانت هامشية أو مشوهة أحيانا، فإنها يمكن لها أن تصبح سائدة فى يوم ما، و يمكن أن تبرأ من تشوهاتها البيروقراطية و الرأسمالية. و ما يؤكد عقلانية الطرح التعاونى و واقعيته أيضا، أنه نتيجة أن الاستثمار فى المضاربة والتجارة أكثر ربحية وأقل مخاطرة، فإن الرأسماليين غالبا ما يلجأون للاستثمار فيهما، وكثيرا ما يلجأ الرأسماليون المفلسون وهربا من الركود للتخلى عن المنشآت الرأسمالية فيلجأ العمال هربا من جحيم البطالة لإدارتها ذاتيا لصالحهم على نحو تعاونى، وقد برزت هذه الظاهرة فى الأرجنتين أولا ثم سائر أمريكا اللاتينية ثانيا، وظهرت كذلك فى حالة مصنعين أو أكثر فى مصر، وقد أورد موقع ليموند دبلوماتيك مؤخرا ملفا صحفيا عن انتشار هذه الظاهرة أوربيا، كما لو كان جسد البشرية المريضة يفرز أجسامه المضادة طبيعيا، و لكنها قد تنجح فى القضاء على المرض أو قد لا تنجح.
الرأى التقليدى السائد لدى خبراء ونشطاء المؤسسات الإعلامية والسياسية عندما يبحثون فى هذه الأزمات السالف ذكرها ، هو أنه يمكن فصلها عن بعضها، فلكل منها أسبابها الخاصة، ولذلك يمكن التعامل معها على أساس قاعدة حل كل مشكلة بالانفصال عن الأخرى. كما لو كان يمكن لنا أن نحل مشكلة الغذاء بالانفصال عن تزايد الانفاق على التسلح، أو أن نحل مشكلة الاحتباس الحرارى دون تغيير طرق الإنتاج والاستهلاك، كما أنهم يطرحون حلولا محلية لمشكلات ذات طابع عالمى، ولكن ما قيمة ترتيب الأثاث و إصلاح دورة المياة، والمنزل نفسه ينهار، وما قيمة أن تنقذ غرفتك المحلية، والإنهيار يغزوها مع باقى الغرف، ومن ثم فإن هذه الفكرة التقليدية عن الإصلاح بالتجزئة،أو محليا، لن تعالج الأزمة مادمنا لا نلمس جوهر المرض الذى يسبب كل تلك الأعراض، فالمريض بميكروب لا يحتاج لمسكن لآلامه ومخفض لحرارته، بل يحتاج لمضاد حيوى يقتل الميكروب المسبب للمرض، فتختفى أعراضه.
قد ينتهى المطلع على هذه الصورة،أن العالم أحوج ما يكون إلى أن يقلب فورا رأسا على عقب بثورة تعيد للبشرية المريضة صحتها، و لكن هذا اليقين الحالم يتكسر على صخرة واقع لا يرحم، فالثورة على الطراز الفرنسى أو الروسى، حدث نادر تاريخيا، فضلا عن أنه غالبا ما لا يحقق ما كان يأمله منه الثائرين، والأهم أن الثورة بهذا المعنى ليست عمل إرادى على أى نحو وهو ما يفصلها عن الانقلابات الإرادية، فالثورة محصلة نهائية لتفاعل معقد بين العديد من الشروط والظروف الاجتماعية، ولعل من بين أهم هذه الشروط المزاج الجماهيرى، وهو مزاج للمتابع الموضوعى، إصلاحى و جزئى ومحلى فى أفضل الأحوال، وهو غالبا لا يحمل رؤى الحالمين بالثورة الجذرية، إن لم يكن متحفظا عليها أو معاديا لها أو غير راغب فى الاستماع إليها وتفهمها، وقد يخلط البعض بين تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية المطلبية و بين المزاج الثورى، وهذا خلط لا يجوز لأن هؤلاء المحتجين قد لا يطمحون فى أكثر من تحقيق مطالبهم الجزئية والمحلية والإصلاحية، ولا شك أنه وضع مزعج للغاية، فبرغم معرفتنا للمرض والعلاج، وبرغم أن كل لحظة تمر على البشرية فى ظل تلك الأنظمة السلطوية ، تعنى احتمال بانهيار بات وشيكا للحضارة الإنسانية، إلا أن الشفاء بالجراحة أى الثورة السياسية أمر مستبعد فى المدى المنظور، ولو خابت ظنوننا وياليتها تخيب، فأننا نؤكد أنه لو حدثت المعجزة فإن الواقع نفسه هو ما سوف يفرض علينا المشاركة فيها و ليست مجرد إرادتنا أو أحلامنا.
ما يمكن أن نفعله إراديا فعلا، أن نضخ المزيد من المضادات الحيوية فى الجسد المريض، أن ندعم الحركة التعاونية ونناضل من أجل استقلالها عن الدولة ورأسالمال وتحريرها من تشوهاتها ، وأن ندعم حركة الإدارة الذاتية للمصانع المستعادة ونطورها، أن نبنى بأنفسنا أجنة مجتمع المستقبل من قلب وهامش المجتمع القديم والمريض،وأن ندافع عن هذه الأجنة من الموت والتشوه وأن نساعدها على النمو، وربما بتراكمها كميا قد تؤدى لتغير كيفى يحولها من الهامشية للسيادة مما يمكن أن نطلق عليه ثورة، أما أن نظل نستهلك أنفسنا فى التبشير بأحلامنا التى قد لا تتحقق أو تتحقق، وأن نستنزف أنفسنا فى الجدال والندوات والمؤتمرات والوقفات الاحتجاجية والتظاهرات، والمنزل ينهار من حولنا، فهو عبث لا طائل من وراءه.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية