غسيل العقول(3)
كتاب تقدم علمى تأخر فكرى
سامح سعيد عبود
سامح سعيد عبود
غسيل العقول(3)
ق-يكتب كارل ساجان فى كتابه الرائع الكون ( إن كل جانب من الطبيعة يكشف سراً عميقا، ويمس إحساسنا بالدهشة والخشوع . وقد كان يتوفر اتوس على حق . فهؤلاء الذين يخافون الكون كما هو فى الحقيقة، والذين يدعون معرفة غير موجودة ، ويتصورون الكون مقتصراً على الكائنات الحية ، سوف يفضلون الطمأنينة الزائلة التى تقدمها الخرافة . وهم يتحاشون العالم عوضا عن مواجهته . أما أولئك الذين لديهم الشجاعة فى اكتشاف نسيج وبنية الكون حتى عندما تختلف بعمق عن رغباتهم وعن آرائهم فسوف ينفذون إلى أعمق أسراره.)20.فالواقع كما هو أكثر إثارة للرهبة والمتعة بما لا يقاس من كل الخرافات والخيالات والأوهام ، فمن يعرف الكون على حقيقته سوف يعرف كم بدد البشر من طاقاتهم ، وأضاعوا أوقاتهم ، ودمروا أفضل ما فيها ، فى الصراعات حول الخرافات والأوهام الغبية ، وكم كانت بشعة تلك الجرائم فى حق البشرية التى ارتكبتها حفن من البشر أعاقوا تطور البشرية ، حينما عرقلوا رحلتها فى فهم الواقع وتغييره إرضاء لمصالح طبقية أو فئوية أو حتى فردية.
وقبل تناول هذا الموضوع أحب أن أورد الفقرة التالية "ومن غرائب الأمور المشاهدة بالفعل أن أولئك الذين يرقبون البحث العلمى من الخارج ، ويعجبون به ، يكون لديهم فى كثير من الأحيان ثقة فى نتائج هذا البحث العلمى تفوق ثقة أولئك الذين يسهمون فى تقدمه . فالعالم يعرف الصعوبات التى كان عليه أن يذللها قبل أن يثبت نظرياته وهو يعلم أن الحظ قد حالفه فى كشف النظريات التى تلائم ما لديه من ملاحظات ، وفى جعل الملاحظات التالية تلائم نظرياته . وهو يدرك أنه قد تظهر فى أى لحظة ملاحظات متعارضة أو صعوبات جديدة ، ولا يزعم أبداً أنه قد أهتدى إلى الحقيقة النهائية أما فيلسوف العلم ، الذى هو أشبه بالحواريين حين يكونون أشد تعصبا من النبى ذاته ، فأنه معرض لخطر الثقة بنتائج العلم إلى حد يفوق ما يجيزه أصل هذه النتائج ، المبنى على الملاحظة والتعميم)20 ومن هنا فأنى أرفض شخصيا التدخل فى مسائل لست متخصصا فيها ، فلست عالما فلكيا حتى يحق لى رفض أو قبول نظرية عملية ، ربما تصدق أو تكذب .. ولأن ما سيلى ذلك من سطور هو حديث عن نظرية تفسر تاريخ الكون هى الأكثر انتشارا الآن ، إلا أن هناك انقسامات حولها مما يتيح لى الفرصة لعرضها وعرض الانتقادات الموجه لها، وأن أوضح كيف تنتقل المعرفة العلمية بلوى عنق الحقائق ، وذلك لتأكيد وجهات نظر معينة أو كيف ترفض الحقائق طالما لا تتفق والمواقف الفكرية المسبقة.
يكتب ستيفن واينبرج(وعلى هذا الأساس فالإحساس بأن النجوم لا تتحرك إحساس خاطئ فالكون فى الحقيقة فى حالة حركة سريعة جداً تشبه حركة المادة الواقعة تحت تأثير انفجار ما أى أن الكون نفسه فى حالة انفجار ضخم تتحرك فيه مجموعات النجوم التى تعرف باسم المجرات بسرعات عالية جداً تقترب من سرعة الضوء مبتعدة عن بعضها البعض .. وعلى أساس هذه الحقيقة أمكن استرجاع حركه هذه المجرات فى الماضى السحيق واستنتاج إن هذه المجرات كانت أقرب إلى بعضها عنها الآن .. ومع استمرار هذا الاسترجاع فى الزمن نصل إلى إنه فى البداية لم تكن هناك أى مسافات على الإطلاق تفصل المجرات كما إنه قد لا يكون هناك مسافات تفصل بين النويات أو الذرات .. وهذا هو ما يسمى بالكون المبكر) 21أما عن مستقبل الكون فإن الاحتمالات تتأرجح بين ثلاث هى إنه إما أن يظل الكون يتمدد إلى أن يصل إلى حاله التوازن فيتوقف عندئذ التمدد .. وإما أن يظل يتمدد إلى ما لانهاية فى الفراغ اللانهائى ، وإما أن يظل يتمدد ثم يأخذ فى الانكماش مرة أخرى عائداً إلى نفس حالته لحظة الانفجار الكبير ، وهكذا فالكون فى الحقيقة حسب هذه النظرية يتمدد وينكمش فى دورات لانهائية منذ الأزل وإلى الأبد.. فنظرية الانفجار الكبير لا تتعارض مع حقيقة قانون حفظ وبقاء المادة ككمية ثابتة لا تفنى ولا تستحدث ولا تخلق من عدم مها تواجدت فى صور وأشكال مختلفة معقدة أو بسيطة ومهما كانت تبدو عليه تاريخيا فى الماضى ومهما سيكون عليه حالها فى المستقبل فستظل المادة هى كل الواقع الموضوعى المستقل عن أى وعى.
نظرية الانفجار الكبير إذن وبصرف النظر عن تفرعاتها الكثيرة ، تفترض أنه فى لحظة ما منذ حوالى 15 بليون سنه ، حدث انفجار هائل لكتلة شديدة الكثافة للغاية وشديدة الحرارة جداً هى مادة الكون ، والتى لم تكن قد انفصلت بعد فيها الكتلة عن الإشعاع ، وقد أخذت هذه النقطة تتمدد فى انفجار هائل ، لتقل كل من "كثافتها ودرجة حرارتها مكونة الكون المرصود لدينا ، وهى البداية التى تصلح لتأريخ قصة الكون حيث بدأ عندها الزمان والمكان والفضاء والعالم بأسره.
أما عن المشاكل الفكرية التى تثيرها هذه النظرية ، فهى أن البعض تشبث بها تشبث الغريق بالقش الذى يطفوا على الماء ، واعتبرها أولاً التفسير النهائى لسر وجود الكون علميا، وبناء على ذلك فإنه أعتبرها ثانيا دليلاً على خلق الكون فى لحظة ما من كائن أعلى خارج هذا الكون، فقد علق البابا ببوس الثانى عشر فى خطابه "برهان وجود الله فى ضوء العلم المعاصر الموجه فى الثانى والعشرين من نوفمبر 1951"إنه بخلاف التوقعات الخاطئة التى سادت فى الماضى ، تكشف كل خطوة يخطوها العلم الحقيقى عن وجود القدرة الإلهية كما لو أن الله يقف وراء كل باب يفتحه العلم " 22، ويقول مرة أخرى " وهكذا نصل .. إلى خلق الكون ، وبالتالى إلى الخالق ، وإلى الله ! ذلك هو الخبر ، الذى طالما انتظرناه من العلم ، وتتلهف البشرية المعاصرة لسماعه " 23كما أشار إلى هذه النظرية العلمية أستاذ فلك مصرى بل هو رئيس قسم الفلك بعلوم جامعة القاهرة رابطا بينها وبين آية قرآنية كريمة تشير إلى أن الأرض والسماء كأنما كانت شىء واحداً تم الفصل بينهما !! وهكذا استمرار لموجه التربح التى تحاول الربط بين النصوص المقدسة التى لا تتغير ،والحقائق العلمية النسبية بطبيعتها و التى من الممكن أن تتغير ، ويشترك فى هذه اللعبة الخطرة بعض رجال العلم والبحث العلمى فى مصر مما لا يصح إطلاقا أن يمنحوا شرف الانتساب لأجل مهنة فى التاريخ ،مهنة فهم الواقع على النحو الصحيح المسماة اختصارا العلم ، والذين أهدروا شرفها حين مارسوا الدجل باسم العلم. وفى المعسكر الآخر فأن البعض يرفض هذه النظرية قطعيا ومبدئيا لما توحى به من أفكار غيبية ومثالية وميتافيزيقية .. وأرى أن كلا الفريقين مخطئ فكلاهما يلوى عنق العلم ليدلل أو يدافع عن أفكاره . (وفى ذلك الانفجار الكبير بدأ الكون تمدداً لم يتوقف قط ، وإنه لأمر مضلل أن نصف تمدد الكون باعتباره نوعا من فقاعة منتفخة ينظر إليها من الخارج . وبالتحديد فلن نعرف قطعا ما هو الخارج : ومن الأفضل التفكير فيه من الداخل ) 24هكذا يرد عالم الفلك على كلا الفريقين حفاظا على منهجية العلم التى ترفض الفروض التعسفية الغير قائمة على أى دليل خاضع للتجربة ، بل مجرد أفكار لا توجد إلا فى أذهان من ابتدعوا تلك الأفكار اقتنعوا بها .
إلا أنه تظل عدة انتقادات موضوعية لهذه النظرية جديرة بالاهتمام منها على سبيل المثال ما هو آت:.
1- تشير آخر أبحاث علم الفلك بأن المادة موزعة فى المكان ، وهو الكون بأسره بشكل غير متوازن لأقصى حد ، مما يتناقض مع فكرة انفجار المادة من مركز ما ، فى الوقت الذى تتكون بين فراغات الكون المتمدد مجرات جديدة ونجوما جديدة من السحب الهائلة للغبار الذرى الممتلئ بها الكون، والذى قد تكون فى بعضها بقايا مجرات انفجرت فى الماضى وهى الملاحظة عبر الكون بأسره .. حيث لا تكف المجرات والنجوم على الاصطدامات والانفجارات..
2- إن محاولة تفسير ظاهرة امتداد الحيز المحدود من الكون المرصود لدينا حتى الآن بنظرية الانفجار الكبير يتناقض مع إننا لا نعرف إلى أى مدى سنستطيع رصد مساحات أكبر منه عندما تزداد قدراتنا على الرصد .. وهل ستتفق مشاهدتنا عندئذ مع الظاهرة المشار إليها ، وهل يضمن من يحاولون إثبات أن هناك بداية ما للكون وبالتالى نهاية له .. أو أن للكون حدود ما لم يشاهدها أو يلاحظها أحد ، وذلك من خلال هذه الاستنتاجات النظرية البحتة ، إن إمكانيات مشاهدتنا المستقبلية لن تصدمهم ، وخصوصا إنه مع الحيز المرصود لدينا حتى الآن وعلى ضخامته الهائلة لم تشاهد أى حدود نهائية لهذا الحيز .. أو أن ما بعده فراغ مطلق أو عوالم أخرى.
3- لا يوجد أى أساس لمطابقة مجموعة ملاحظة من مجرات خارج مجرتنا مع الكون كله ، ولا يمكن التدليل على أن حركة جميع المجرات خارج مجرتنا ، وتجرى فى كل مكان بشكل مشابه لما نلاحظه أى فى الجهة التى تبعدها عن مركز الانفجار ... فضلاً عن تناقض فكرة الانفجار من نقطة ما مع عدم وجود أى مركز لكتلة الكون المرصودة لدينا حتى الآن .. فمن الذى يضمن عدم وجود أى حركات أخرى مخالفة أو أكثر تعقيداً للمجرات خارج مجرتنا ، وخصوصا فى ضوء قوانين النسبية ، الذى يكون فيها لوضع المشاهد بالنسبة للأشياء المتحركة الملاحظة تأثيراً أساسيا فيما يلاحظه.
4- إذا كان ما نرصده من الكون يتمدد الآن ، فما الذى يجعلنا نفترض تعسفا أن حركة المجرات فى الجزء المرصود لدينا كانت فى نفس الحالة من التمدد فى كل لحظة تاريخية ، وهل يمكن تعميم هذه المشاهدة اللحظية فتصبح قانونا عاما لحركة الكون اللانهائى بأجمعه.
5- صحيح إن إزاحة الخطوط الطيفية للضوء الصادر من النجوم ، يدل على أن الجزء المرصود لنا حتى الآن من الكون يتمدد ويتوسع ، وأن المجرات تجرى بعيداً عن بعضها البعض بسرعات هائلة ، إلا أن محاولة استخدام هذه الحقيقة يتناسى أن تفسير الانزياح الأحمر للمجرات بتطايرها وتباعدها ليس هو التفسير الوحيد الممكن ، فربما ظهرت تفسيرات أخرى .. كما أن استخدامها كأساس يضاف إلى معرفة هذه السرعات والحجم الكلى لمادة الكون المرصود لنا حتى الآن لحساب الزمن الذى كانت فيه كل هذه المادة كلاً واحداً تنسحق فيه مكوناتها فلا يبقى إلا أبسطها ، فى كتلة صماء .. هو فرض تشوبه الغيبية حيث لا يوجد لدينا دليل واحد حول ، هل أن ظاهرة الامتداد المرصود لدينا حتى الآن صاحبت الكون منذ بدايته المفترضة أم هل هى ظاهرة طارئة .. أو أى دليل على أنها تصاحب كل أجزاء الكون التى لم نرصدها بعد .. فربما يتمدد بعضها وينكمش البعض الآخر.
هذه هى الاعتراضات الأساسية التى استطعت تجميعها على نظرية الانفجار الكبير تجعل المرء لا يطمئن لها كل الاطمئنان ، كما لا يصح أيضا رفضها كل الرفض ، فربما تكون هى التفسير الصحيح لنشوء الكون وربما تأتى لنا الأيام القادمة بتفسير آخر أكثر دقه.
ى-مثال آخر على نوعية الكتابات الشعبية التى تستغل المفاهيم العلمية الحديثة السابق الإشارة إليها فى بداية الموضوع ففى كتاب شعبى أصدرته الدولة على نفقتها الخاصة ضمن سلسة المكتبة الثقافية العدد 279تحت عنوان "الحتم والحرية فى القانون العلمى "ظل المؤلف عبر فصل كامل يحاول البرهنة على لامادية العالم والتشكيك فى القوانين الأكثر من أساسية وجوهرية فى الفيزياء ،وهى قوانين حفظ وبقاء المادة مستندا إلى بعض المفاهيم غير الصحيحة حول تعريفهم متجاهلا التطور العلمى فى تعريفهم .وأيضا على ذكر بعض التجارب العلمية التى شككت فى تلك القوانين مستغلا عاطفية القراء وتعصبهم لعقائدهم المتوارثة وجهلهم بحقائق العلم ومفاهيم الفلسفة على السواء،وعدم استعدادهم للتخلى عن ما غرز فى عقولهم من أفكار .فكتب "فقد لوحظ إنه لو عرضت زجاجة بها بيروكسيد الأيدروجين (يد2أ2)للضوء فأن مجرد مرور الضوء خلال المحلول ،يحلل بيروكسيد الأيدروجين إلى ماء(يد2أ) وأكسجين (أ) وأن هذا القدر من الأكسجين يتجمع فى الزجاجة حتى إذا فتحت سدادتها ،أصدرت صوتا حين يتسرب الغاز منها ،ثم لوحظ أن وزن عناصر التجربة كلها من البيروكسيد المتبقى بغير تحليل والماء والأكسجين المنطلق لا يساوى وزن المحلول قبل مرور الضوء به ،بل ووجد أيضا أنه يزيد قليلا عليه.ووجد أن الزيادة فى الحقيقة هى وزن الضوء والذى أدى إلى تحليل بيروكسيد الأيدروجين إلى أكسيد الأيدروجين (أى الماء)والأكسجين ،وكذلك لوحظ أن جزيئات بيروميد الفضة تتأثر بالضوء ،ويزيد وزنها ،وهو ما يعرف بالتصوير الشمسى .هاتان الظاهرتان أكدتا للعلماء أن المادة تكون ،ومادامت تكون فهى أذن قابلة لأن تفنى "26.والحقيقة أن هاتين التجربتين المذكورتين لا علاقة لهما بفناء المادة أو تكونها ،بل لهما علاقة بخطأ حساسية أجهزة القياس ،التى حين تم تطويرها لتصبح أكثر حساسية أكدت صحة القوانين التى حاول المؤلف دحضها بذكره لهاتين التجربتين .إلا أن خلطه بين التجربتين والقوانين التى يريد دحضها تستلزم منا أن نناقشها بشىء من التفصيل ،وخصوصا أنه يخلط بين المفاهيم العلمية والمفاهيم الفلسفية خلطا شديدا ..فحديث المؤلف ليس بالحديث العلمى وإن رطن بلغة العلم ،فمادية الشىء لا علاقة لها بمفهوم الكتلة ..فمادية الشىء تعنى أنه كائن خارج أى عقل أو وعى ،أى أنه شىء موضوعى مستقل عن وعينا به أو إدراكنا له ،أما الكتلة فهى مفهوم آخر فى الطبيعة ،فالأشياء المادية قد يكون لها كتلة وقد لا يكون ،أما الكتلة فنوعان كتلة سكون وهى كتلة الجسم فى لحظة سكونه النسبى،وكتلة وضع وهى الكتلة التى تتحدد بوضع الجسم بالنسبة لجسم آخر ،والكتلة شىء غير مطلق و لا ثابت ،بل هى نسبية ومتغيرة ،تتحدد حسب سرعة حركة الجسم أو سكونه،ولكل جسم نوعان من الكتلة وهما ما أشير إليهما فيما سبق ،وللكتلة بناء على ذلك ثلاث تعريفات هى:-
-مقدار ما يحتويه الجسم من مادة .
2-مقدار مقاومة الجسم للسرعة.
3-مقدار مقاومة الجسم للقصور الذاتى.
ووزن الجسم شىء وكتلته شىء آخر ..فالوزن هو مقدار تأثير جاذبية جسم على جسم آخر ،وهو يتناسب مع كتلة كلا من الجسمين ،وشدة مجال جاذبية كل منهما التى تعتمد على كتلتيهما ،والمسافة بين مركزيهما.
وفى ضوء المعرفة المؤكدة للطبيعة الجسمية للضوء ،حيث أنه عبارة عن سيل من الفوتونات (نوع من أنواع الجسيمات الأولية التى تحمل الطاقة أو القوى الكهرومغناطيسية )تتحرك كموجات ذات ترددات معينة تسمح لنا برؤيتها بالعين المجردة ،ولهذه الفوتونات كتلة ،وبالتالى فأن لها وزنا ،فالفوتونات هى جسيمات حمل الطاقة الكهرومغناطيسية ،وهى تشكل بحركتها الموجية تلك الموجات الكهرومغناطيسية بأنواعها المختلفة ومنها الضوء المرئى .فهذه الكمات من الطاقة أو المجال أو القوى الكهرومغناطيسية تؤثر بلا شك على جزيئات المركبات الكيميائية المختلفة بمكوناتها الداخلية من ذرات ،فتحللها أو تركب منها مركبات أخرى تترابط فيما بينها بواسطة هذه الكمات وهى بهذا التأثير تزيد من وزن المواد الكيميائية بما تحمله من صفات كتلية أو جسمية،وفى الحقيقة أن الكاتب تغافل عما ذكره بنفسه ،وهو أن الزيادة الحادثة فى التجربة المشار إليها ،تساوى وزن الضوء فهناك أذن تأكيد على صحة القانون المراد دحضه ،وليس نفيا له ،إلا أن الصياغة الملتوية ،والفهم المتعسف توحى للقارئ غير المدقق بصحة ما أستنتجه الكاتب بعد ذلك بأن المادة تكون وأنها تفنى ،وبصحة ما يخبره به مادام يتفق ورغبة القارئ الذاتية فى التصديق،حتى ولو كان ما يخبره به فاقع الكذب،فاضح الساذجة،ولا شك أن هذا النموذج الفاحش على استغلال المعرفة العلمية القاصرة فى نشر الخرافة والجهل تستحق ردا حاسما وفوريا على النحو الآتى:-
فى القرن الماضى تم اكتشاف قانونين هامين يشكلان حقيقتين جوهريتين فى العلم الحديث،وتمت البرهنة عليهما بشكل قاطع عمليا ونظريا ،وبالتالى فهما ليسا فروضا إجرائية كما ذكر المؤلف المنوه عنه ،وهذان القانونان هما قانونا كل من حفظ وبقاء الطاقة ،والذى يعنيان ثبات كميتهما ،وبالتالى فأنهما لا يفنيان و لا يستحدثان ولا يخلقان من عدم ،وانهما كلا منهما على حدى يتحول من شكل إلى آخر من أشكالهما المختلفة ،فتتحول الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية والعكس على سبيل المثال ،كما تتحول الكتل السائلة إلى غازات أو العكس أيضا ،إلا أنه مع بداية هذا القرن تمت عدة تجارب شككت فى هذين القانونين،وما إن مرت عدة سنوات من الشك فيهما حتى تم اكتشاف قانون تكافوء كل من الطاقة والكتلة ،والذى يعنى أن كمية معينة من الطاقة تساوى كمية معينة من الكتلة مضروبة فى سرعة الضوء.وهو ما يعبر عنه بالمعادلة الطاقة =الكتلة فى مربع سرعة الضوء.
وهذا يعنى تناسب كتلة الجسم مع ما يحمله من طاقة تناسبا طرديا ،وهذا القانون يعنى أيضا إمكانية تحويل كل منهما للآخر فتتحول الطاقة إلى كتلة والعكس صحيح ،وبناء على هذا القانون الذى ثبتت صحته نظريا وعمليا فيما بعد نجح العلماء فى تفتيت نواة الذرة ،وهو ما يتم فى المفاعلات والانفجارات النووية وبذلك تم التفسير العلمى لنتائج التجارب التى أدت للشك فيهما ،وبناء علي ذلك فقد تم تعديل القانونين سالفى الذكر لقانون موحد ينص على بقاء المجموع الكلى لطاقة المجموعة المنعزلة وكتلتها ثابتة،و بالتالى فأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم ،مهما كانت صورها من طاقات أو كتل ،وعلى حد تعبير ستيفن هوكنج فى كتاب موجز تاريخ الزمن"إن تقسيم محتويات الكون إلى كتل وطاقات مازال يستخدم حتى الآن "27.
وبالطبع فأن المدلول الرئيسى لهذا القانون ،هو ثبات كمية المادة و أبديتها و أزليتها ،كما يثبت قانون التكافوء بين الطاقة والكتلة ،إمكانية تحول كافة أشكال المادة من شكل لآخر ،والأصل المادى لكل ما يوجد فى الواقع من حولنا.
فالطاقة بكافة أنواعها تحملها جسيمات مادية معينة ،تسمى بكمات الطاقة أو كمات المجال أو كمات القوى ،وأن الموجات المختلفة فيما عدا الموجات المادية هى شكل حركة هذه الجسيمات ،وأن حركة الأجسام أى أجسام،من الجسيمات المتناهية الصغر إلى الأجسام فائقة الكبر،ما تحدث إلا نتيجة تبادلها فيما بينها لهذه الكمات ،وهى العملية التى تستدعى من هذه الجسيمات وتلك الأجسام تغيير أوضاعها لتحافظ على مستويات طاقتها الجديدة الناتجة عن اكتسابها أو فقدانها لهذه الكمات .
وكمات الطاقة هذه ذات خواص معينة تميزها عن جسيمات الكتلة التى تكون سائر الأجسام من حولنا حية وغير حية ،صلبة وسائلة وغازية ،كبيرة وصغيرة وهكذا .ومن حقائق العلم الحديثة هو أن جسيمات الكتلة عند تصادمها تتحول لجسيمات للطاقة والعكس عند تصادم جسيمات الطاقة تتحول لجسيمات للكتلة و أضدادها . وهذا على مستوى الجسيمات الأولية فقط.
ولو قارنا بين أقوال علماء طبيعة كبار فى كتب علمية جادة وبين كتب الإثارة الإعلامية فى تناول هذا الموضوع لفهمنا كيف يتم التجهيل المتعمد للقراء العاديين عبر الكتابات الشعبية ، والذين يفضلون كتب الإثارة والتسلية على الكتب الجادة..وإليكم بعض الأمثلة من تلك الكتابات الجادة حول هذا الموضوع.
كتب كل من ف.لانداو .وأ.إكيتايجوردسكى وهما من كبار علماء الفيزياء
"إن قانون بقاء الطاقة يلعب فى الفيزياء نفس الدور الذى يلعبه المحاسب الصارم فى الحياة،فالوارد و الصادر فى أى عملية يجب أن يكون متساويا .وإذا لاحظنا فى تجربة ما إن الأمر ليس بهذه الكيفية ،فأن هذا لن يعنى سوى إننا لم نجرى التجربة بعناية ،أو أنه قد سهونا عن بعض العوامل الهامة .وقانون حفظ وبقاء الطاقة فى هذه الحالة يعطى الإشارة ..أيها الباحث أعد التجربة ،وأبحث عن سبب الفقد ،وذد من دقة القياس وقد توصل الفيزيائيون مرارا إلى اكتشافات جديدة مهمة فى هذا المجال،و اقتنعوا أكثر فأكثر بالحقيقة الثابتة لهذا القانون"28.
"وفى القرن العشرين لوحظت بعض الظواهر التى تشكك فى قانون حفظ وبقاء الطاقة .غير أنه بعد ذلك وجد التفسير لهذا التناقض ،وخرج القانون من هذا الاختبار بنجاح"29.
وكتب ف.رادنيك"أن جسيمات الكتلة تمتلك صفات كمات المجال ..بينما تمتلك كمات المجال صفات جسيمات الكتلة وهما يعتبران على قدم المساواة الجانبين الأوليين والأساسيين لمادة الوجود ،فها شكلان متناقضان لوجود المادة وتطورها ،ولا يمكن وجود أحدهما بدون الآخر"30.
بناء على ما سبق ذكره نقرر أنه يجرى الالتزام بقانون حفظ وبقاء الطاقة بشكل عام ،فى ظواهر عالم الأشياء الدقيقة كما فى الأجسام الكبيرة فضلا عن عدد آخر من قوانين الحفظ والبقاء الخاصة بعالم الجسيمات الأولية والتى تعتبر خواص تميزها،وهذا يعنى أن المادة مهما تنوعت جوانبها ،فأنها تقوم على ثبات كميتها ،وأن تطور العلم اللاحق قد أظهر مرة أخرى أن هذا القانون وتفريعاته ،والاستنتاجات الفكرية منه صلبة كالصخر.
ك-والآن ما رأيك فيما قرأت على التو ؟عليك الانتظار قبل أن تبدى رأيا محددا حتى تقرأ هذه الفقرة الطويلة والمقتبسة من مقال للدكتور زكى نجيب محمود بعنوان أزمة العقل فى حياتنا "فلننظر إلى أوساط الناس من حولنا فماذا نرى ؟نراهم على عداوة حادة مع العقل ،وبالتالى فهم على عداوة لكل ما يترتب على العقل من علوم ،ومن منهجية نظر ،ودقة التخطيط والتدبير ،فإذا انطلقت الصواريخ تغزو الفضاء ،يرود أصحابها أرض القمر ،تمنوا من أعماق نفوسهم أن تجىء الأنباء بفشل التجربة ،وإذا سمعوا عن قلوب وغير قلوب تؤخذ من آدمى لتزرع فى آدمى آخر ،أحزنهم أن يتحقق النجاح ،وأفرحهم أن تخفق المحاولة ،وهاك المثالين من خبرتى الخاصة لم أقرأ عنها فى صحيفة أو كتاب ،بل شهدتها بعينى وسمعتها بأذنى ،أقيمت ندوة ثقافية كنت أحد أعضاءها ،وكان من المساهمين فيها كذلك عميد لأحد كليات العلوم عندئذ ،وكان السؤال المطروح هو ماذا نرى فى هذه الوثبة الجريئة التى هى صعود الإنسان للقمر ،فكان مما قاله عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية ،أنه سيعوز بالله من هذا الشطط الذى قد يؤدى بالكون إلى الدمار ثم تساءل قائلا ! أليس يجوز أن يهبط هذا الصاروخ على سطح القمر بدفعة قوية فإذا القمر ينحرف عن مداره فتكون الطامة على البشر !؟أما المثل الثانى فهو أنه سئل قطب من أقطاب الطب فى الأمة العربية!ما رأيك فيما سمعناه عن زرع قلوب فى أبدان غير أبدانها ؟فاستعاذ بالله هو الآخر من شر ما يسمع مؤكدا أنها محاولات مجنونة لن تؤدى إلى شىء ،وربما كان هذان العالمان لا يعتقدان فى صدق ما قالاه ،وإنما قصدا به إلى إرضاء السامعين فتكون الطامة أكبر لأن الدليل عندئذ ينهض ليؤيد ما بزعمه ،وهو أن مثل هذا القول هو ما يرضى الناس ثم نكون فسرنا بالنفاق نزاهة العلم والعلماء.
أولئك هم علماءنا فما بالك بأبناء السبيل ؟إلا أن مضجع العلم الجاد خشن تحت جلودنا ،ولذلك كان شرطا عليك إذا كتبت للصحف والمجلات أو أذعت فى الناس حديثا أن تكسو الحقائق العلمية التى تنوى عرضها على الناس بحشايا من ريش النعام ،لئلا تتأذى أبدانهم اللينة ،فعليك أن توهم الناس بأنك لم تقصد إلى العلم الكريه الجاف ،وإنما قصدت إلى تسليتهم فى أوقات فراغهم ،وإذا لم تفعل ذلك فلا سبيل أمامك إلى صحافة أو إذاعة.
الرأى السائد فينا هو أن العلم يعوق مجرى الحياة ،فليست وسيلتك للنجاح فى أى ميدان تشاء :-ميدان العمل أو ميدان السياسة أو غيرها من هى أن تدقق وتدقق وإلا لما بلغت من الطريق أدناه ..إن الساعات التى يصرفها الدارس العلمى فى مشكلة واحدة من مشكلاته "النظرية"كفيلة أن يقفز بها "العمليون"إلى الذرى مالا وجاها وقوة.أليس لكل شىء معيار يقاس به ؟والمعيار السائد بيننا هو كم يعود هذا العمل على صاحبه من نفوذ وسلطان وثراء ؟ولما كان الأغلب ألا يعود العلم على أصحابه من هذه الأشياء بمحصول وفير كان لهؤلاء المنزلة الثانية فى مجتمعنا وذلك فى أحسن الفروض."31.
إلا أن الأستاذ الجليل رائد الوضعية المنطقية فى منطقتنا العربية،لم يوضح السياسات الإعلامية والثقافية والتعليمية التى أدت لكل هذه الظواهر ،ولا النظام الاقتصادى الاجتماعى ،الذى أفرز هؤلاء البشر المعادين للعقل ،والذين يتعاملون مع العلم على هذا النحو الانتهازى الصرف فى حدود منفعتهم الخاصة ،فما يفهم من حديث زكى نجيب محمود أن البشر قد طبعوا على كره العلم والعقل ،وهذا ربما يكون صحيحا فى لحظات تاريخية معينة،لكنها ليست سمة للبشر ،وإلا ما كانوا استطاعوا أن يصلوا لما وصلوا إليه من تقدم.فضلا عن تغاضيه عن حقيقة الأبعاد الطبقية المؤكدة لهذه السياسات الدعائية والتعليمية الموجهة ،والتى يعبر عنها هربرت شيلد ب"أن تضليل عقول البشر هو على حد قول باولو فرير"أداة للقهر"إنه يمثل إحدى الأدوات التى تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة"32.
إن كل ما سبق ذكره من مظاهر التضليل باسم العلم ،والخلط بين العلم الحقيقى الذى هو فهم الواقع من خلال تغييره سواء على مستوى المنهج أو الحقائق،وبين الخرافة التى هى فهم زائف ومشوه للواقع من خلال تأمله سواء على مستوى المنهج والأفكار الوهمية ،لا يقتصر على العلوم الطبيعية فحسب ،بل يمتد ليشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية أيضا،إلا أن العلوم الطبيعية لا تعرف الانحياز الطبقى فى حقائقها وقوانينها ومعظم نظرياتها ،وأن كانت تعرفه فى السياسات التى توجه تطبيقاتها التكنولوجية. فى حين أن العلوم الاجتماعية تعرف الانحياز الطبقى .فإذا كانت لا توجد كيمياء بورجوازية وكيمياء عمالية ،إلا أنه يوجد اقتصاد سياسى بورجوازى واقتصاد سياسى عمالى .يدرس الأول عمليات الإنتاج المادى والتداول والتبادل من منظور مصالح البورجوازية ،ويدرس الآخر نفس العمليات من منظور مختلف يعبر عن مصلحة الطبقة العاملة ،وهو ما يؤدى إلى تناقض استنتاجاتهم النظرية ،وتحليلاتهم المختلفة.
ويلاحظ مثلا أن تفسيرات النظريات المختلفة فى علم الاجتماع لسلوكيات البشر تتفاوت فيما بينها ،فتدعى مدرسة ما أن سلوك الإنسان نتاج بيئته فقط ،وأخرى ترجع هذا السلوكيات للوراثة فحسب ،أما التفسير المبتذل للماركسية فيرجعها للعوامل الاقتصادية والانتماء الطبقى ،فالماركسية مثلا نظرية علمية صحيحة فى إطار تحليلها للمجتمع ككل ،والعلاقات بين طبقاته المختلفة فى علاقاتها المختلفة ،وفى تطور هذا المجتمع وحركته ،إلا أن تعميم نتائجها على سلوكيات الأفراد يبتذلها للغاية،فالإنسان بلا شك تؤثر فيه العوامل الاقتصادية المحيطة به كما يؤثر عليه انتماؤه الطبقى بلا شك ،إلا أن سلوك الإنسان ليس نتاج لهذه العوامل فحسب وإن كانت هى الحاسمة فى الغالب الأعم ،بل أن سلوك الإنسان هو انعكاس لمحصلة هائلة من العوامل ،تتشابك وتتفاعل بشكل معقد لتنتج لنا شخصية هذا الإنسان أو ذاك ،منها العوامل البيئية والثقافية ،وطريقة التعلم والتربية ،والعوامل الوراثية ،والتركيب الهرمونى ،ونوعية الغذاء والمناخ ،وفضلا عن كل هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالفرد والتى تجعله يسلك سلوكا معينا فى لحظة معينة بشكل يصعب التنبؤ به بشكل قطعى.
ل- إننا قد نتفق سويا على السببية ، إلا أن البعض يرجعها إلى وعى أو إرادة ما أو هدف معين شبيه بما يملكه الإنسان من وعى وإرادة وهدف ، بل وإذا كان ما يملكه الإنسان ناقص ونسبى وعاجز ومحدود ، فأن ما يملكه الآخر كامل ومطلق وكلى القدرة ولا نهائى ، والبعض الآخر يرجع السببية إلى الضرورة العمياء الكامنة فى طبيعة الأشياء المادية ، .. النظرة الأولى تعمم ما ينفرد به الإنسان ككائن مادى من خواص تميزه عن غيره من الكائنات المادية حية وغير حية ، حيث ترى إن كل فعل لأى كائن مادى آخر لابد وان يكون له هدف وإرادة و وعى ما، فيضرب الطفل والإنسان البدائى الحجر الذى يتعثران فيه ويعتبرانه مسئولاً عن تعثرهما ، ثم تطورت هذه الفكرة فأصبح الهدف والإرادة والوعى يخص كائن أو كائنات أعلى ما وراء الطبيعة هى التى تحرك الأشياء وتسبب ما تحدثه من تأثيرات ، وهى تملك ما يملكه الإنسان من وعى وأراده وأهداف إلا إنها كاملة ومطلقة وقادرة وغير محدودة .. والنظرة الثانية ترى إنه لا منطق وراء هذا التعميم الطفولى والبدائى حيث الطبيعة بلاوعى أو هدف أو إرادة وإنما تحكمها الضرورة الكامنة فى طبيعة الأشياء التى تكونها. النظرة الأولى غير علمية ومثالية بالتعبير الفلسفى ، والثانية علمية ومادية و واقعية بالتعبير الفلسفى أيضا . ( ومن السهل أن نرى كيف أمكن لإنسان الثقافات البدائية أن يفترض وجود عناصر حية فى الطبيعة ما تشبهه تماما ، هذه العناصر الحية هى التى أرادت لأشياء معينة أن تحدث وهذا ما أمكنه فهمه على وجه الخصوص من الظواهر الطبيعية التى تسبب أذى شديد . فالجبل يمكن أن يلام على تسببه لانهيار أرضى ، أو الزوبعة على تسببها فى ضرر قرية.
وفى أيامنا هذه فأن الإنسان المتحضر ، وبالتأكيد العلماء ، لا يأخذون بهذا التشبيه الإنسانى الذى يقترب من الطبيعة ، ومع ذلك تميل عناصر التفكير الروحانى إلى الإصرار على الأخذ به . أفترض أن حجراً حطم نافذة هل مال الحجر إلى فعل هذا ؟ بالطبع لا . سيقول العالم الحجر هو الحجر ، إنه يخلو من روح قادرة على التميز . وعلى الجانب الآخر ، فأن معظم الناس ، وحتى العالم نفسه ، لن يترددوا فى القول أن الحادث "ب" الذى هو تحطيم النافذة ، سببه الحادث "أ" الذى هو اصطدام الحجر بالزجاج. )33
عرفنا مما سبق أن هناك علاقة متبادلة شاملة بين كافة الظواهر ، التى تتداخل فيما بينها فيما لا نهاية له من علاقات فضلاً عن اشتراط بعضها بعضا .. فشرط وجود البروتونات أو النيوترونات هو درجة حرارة معينة تسمح للكواركات بتبادل الجلونات. عبر التاريخ الإنسانى الطويل ، وخاصة فى تطوره العلمى ،تمت البرهنة بما لا نهاية له من أمثلة على التبعية المتبادلة للظواهر المادية فيما بينها ، والتى تتشابك فيما بينها فى شتى العلاقات .. ليس ذلك فحسب بل إنه فى كل ظاهرة على حدة تتعدد الجوانب وتتداخل ، فالموجة كظاهرة تتداخل جوانبها ، وتترابط فيما بينها فى علاقات متبادلة ، فلكل موجة طول ما هو المسافة بين قمتين متتاليتين من قممها أو قاعين متتالين من قيعانها ، وتردد الموجة هو عدد تذبذب تلك الموجة فى الثانية الواحدة ، وطاقة الموجة هى كمية الطاقة التى تحملها الموجة ، وتترابط كل هذه الظواهر فيما بينها وتعتمد كل منها على الآخر ، فكلما زادت طاقة الموجة ازداد طولها وترددها والعكس صحيح ، كما ترتبط الموجة كظاهرة بالكتلة التى أحدثت بحركتها الموجة فى علاقة متبادلة.
فى الحقيقة أن الطبيعة تتحرك بلا أهداف ولا نحو أهداف معينة بل تحكمها الضرورة، ولا مجال للتوفيق بين النظرتين ، فالنظرة الأولى تعسفية وهذا أولاً فالطفل أو البدائى يظن أن الحجر الذى تعثر فيه ، له ما له هو من وعى ، وله ما له هو من هدف ، سواء أكان هذا الوعى أو الهدف يملكه الحجر فعلاً أو أن هناك من يفكر له ويحركه من خارجه ، ولذلك فأنى أرى وهذه وجهة نظر خاصة ، إنه من الخطأ حين يقع الطفل بالأرض أو يصطدم بالباب ، أن نضربهما بأيدينا له ، لإسكات دموعه ، إن هذا الفعل هو أساس النظرة التعسفية ، هى نفسها أساس نظرة التشاؤم أو التفاؤل فيعبد البدائى حيوان ما لأنه قد تصادف مرور هذا الحيوان لحظة خروجه من مأزق ، أو يحطم شجرة قد أعاقته فى الصيد ، انتقاما منها وهكذا .. إن هذه النظرة تتطور فى عقول البشر عبر تطورهم إلى تصور وجود عقلاً ما خارج الطبيعة يضع لها الأهداف ويحركها إلى حيث هذه الأهداف ، بعد ما تعلمت البشرية إن كل ما يحيطها من أشياء مادية لا تملك أى وعى أو هدف .. والفرق بين المرحلتين فرق فى الدرجة وليس فرق فى النوع .. هذه النظرة أيضا قد وجدت مع انقسام المجتمع البشرى إلى طبقات إحداها تفكر وتأمر وتحدد الأهداف وتجنى فضلاً عن ذلك كل أو معظم ثمار الإنتاج ، وكان يجب أن تبرر هذا الوضع بتبنى تلك النظرة التى تقول بأسبقية العقل وما ينتج عنه من إرادة وأهداف ووعى على الواقع أو الوجود أو الطبيعة، وإلى طبقات تنتج ولا تحكم ولا تملك من أمر نفسها شيئا ولا تجنى معظم ما تنتجه ، وهذه تستهلك ما تنتجه الطبقات الأولى من أفكار ، وإن كان يتناسب مع وضعها الاجتماعى النظرة الثانية التى تقول بأسبقية الواقع أو الوجود أو الطبيعة أو المادة على الوعى أو الفعل أو الإرادة أو الأهداف .. وذلك لأن النظرة الأولى يتبناها دائما من يرفضون تغيير الواقع سواء أكان طبيعة أم مجتمع ، وهم من يعبرون عن مصلحة الطبقات السائدة و الحاكمة والمستغلة ، وهى لذلك لابد وأن تنفى الضرورة والسببية .. أما النظرة الثانية فأنه غالبا ما يتبناها من يسعون لتغيير الواقع ، ذلك لأنه يجب عليهم فهمه ، أى أدراك ما يحكمه من ضرورات وأسباب لكى يستطيعوا تغييره ، وهم من يعبرون عن مصلحه الطبقات المسودة والمحكومة والمستغلة ، وهم من تكون مصلحتهم تغيير الواقع عكس الطبقات التى تتبنى النظرة الأولى .. فالطبقات الحاكمة تسعى دائما لتبنى نظرات تأملية يتناسب و دورها الاجتماعى وهى تنجح فى تسييد نظرتها فى كافة طبقات المجتمع طالما كانت فى السلطة ، أما الطبقات المحكومة فهى لا تتحرر من سيطرة هذه النظرة إلا فى لحظة ثورتها لتغيير النظام الاجتماعى القائم ، وهذا شرط ضرورى لكى تستطيع إحداث هذا التغيير ، وما يتطلبه هذا من تبنى ما يقوم على الممارسة العملية من معرفة و وعى ، ورفض النظرة التأملية للواقع التى لاتستطيع مساعدتنا على تغييره.
إن ما نلاحظه من خلال ممارستنا العملية هو الأسباب ، وذلك حين نلتحم بالطبيعة لنغيرها ، ونؤثر عليها بقوانا المادي لإنتاج احتياجاتنا ، وحتى ننجح فى هذا يجب علينا أن نأخذ بالأسباب ونفهم الضرورات ، فممارسة هذا العمل هو أساس العلم الصحيح ، كما أن هذا النوع من العلم هو الوحيد القادر على تطوير كفاءه هذا العمل وإننا حين نمارس كلا من العلم والعمل لا يمكن أن نخرج من دائرة الأسباب والضرورات ، ويستطيع البعض منا فى الغرف المغلقة أن يتأمل ما شاء له الهوى فى الوجود من حوله ، وأن يتفتق خياله عن ملايين الأفكار اللاواقعية ، والخالية من المعنى ، ومن ثمغير المقيدة ، وأن يخترع لكل ما يتأمله غايات وأهداف وهذا شأنه ، الا إنه بمجرد نزوله للواقع سواء لتغييره فأنه لن يجد من سبيل إلى هذا التغيير سوى العمل الذى هو تأثير بشرى مادى على الواقع لتحويله أو لفهمه فأنه لن يجد من طريق إلى هذا الفهم سوى العلم الذى هو فهم ضرورات الواقع .. وكلا العملين مرتبطين فنحن لن نستطيع تغيير الواقع إلا من خلال فهمه ، ولن نقدر على فهم الواقع إلا من خلال الاحتكاك به وتغييره .. هاتان العمليتان المرتبطتان هما أساس كل الإنتاج المادى والفكرى للبشرية عبر تاريخها، وأن من يحتك بالواقع لابد وإنه سيصطدم بالضرورة وما تنتجه من أسباب ، وإن الضرورة لابد وإنها ستحطمه لو لم يحترمها ويعترف بها وحدها سيدة لهذا الوجود .. فالبشر غالبا ما يعانون من ازدواجية غير منطقية تمت مناقشتها فى التمهيد ، فهم يحترمون الضرورة فى حدود ممارستهم للعلم والعمل ولا يعترفون إلا بها ، إلا إنهم يحركون معها أوهام أخرى لا تتفق منطقيا واعترافهم بها فى أنشطتهم الحياتية الأخرى فالبدائى مثلاً يعالج الأمراض بتناول ما فى الطبيعة من أعشاب ومواد قد دلته خبرته العملية على تأثيرها الفعال فى علاج الأمراض ، إلا إنه بجانب هذا لابد وأن يمارس قدراً من السحر بجانب هذه الأعشاب من قبيل التعاويذ والأحجبه والطقوس ، ولذلك تجاور السحر والطب لفترة طويلة من التاريخ البشرى وبالرغم من أن البشر يعالجون لدى الأطباء وأدويتهم الكيمائية ومشارطهم ، إلا إنهم لا يجدون غضاضة فى أن يعتقدوا بالخرافات والأوهام ، التى يعتقدون إنها السبب الحقيقى فى شفاءهم ومرضهم. التسليم بالضرورة لا ينفى دور الإرادة البشرية والوعى البشرى حين يتحول لقوة مادية ، ويؤثر سواء فى الطبيعة أو المجتمع ، فيوقف تأثير أسباب ما ، ويستدعى تأثير أسباب أخرى ما فنحن نقى أنفسنا من العدوى الميكروبية باللقاحات والأمصال فنوقف تأثير الميكروبات على أجسامنا ، كما نكسو الحديد بمواد غير قابلة للصدأ ، إلا أن هذا متوقف على معرفتنا بسبب الصدأ . والتسليم بضرورته ، والعلاقة بين الحتمية أو الضرورة وبين الحرية الإنسانية قد سبق توضيحها فى تمهيد الكتاب ، فالتسليم بالأولى لا ينفى التسليم بالثانية ، فالحرية والنشاط الإنسانى لتحقيقها متوقف على فهم الضرورة ، فالقوى التى تؤثر فى الطبيعة قوى عمياء وبلا أهداف وبلا وعى بعكس النشاط الإنسانى الواعى والهادف.
إن كل ماحو لنا هو أشياء مادية تترابط فيما بينها فى وحدة واحدة ، وتتبادل التأثير فيما بينها، فتتأثر بغيرها وتؤثر بغيرها ، والمجتمع البشرى هو كائن مادى بدوره يؤثر على ما حوله من أشياء كما ترتبط به هذه الأشياء ، إلا أن ما يميز المجتمع البشرى فى الحقيقة هو الفرق بين تأثيره على ما حوله ، والتأثر بما حوله من أشياء كما ترتبط به هذه الأشياء ، إلا أن ما يميز المجتمع البشرى فى الحقيقة هو الفرق بين تأثيره على ما حوله ، والتأثير المتبادل لباقى الأشياء الأخرى فيما بينها وعلى المجتمع البشرى ، فالأمطار لا تستهدف عند سقوطها على الأرض إرواء النباتات ، وهى لا تستطيع أن تمتنع عن السقوط ، وإن كان من الممكن لأشياء أخرى أن تمنعها من هذا السقوط ، ، ولا النباتات المروية تستطيع الامتناع عن امتصاص الماء وليس لها أى خطط مسبقة للنمو ، وعندما تأكل الحيوانات النباتات بفعل غريزة الجوع العمياء ، فليس لها أى خيار فى أن تأكل وتعيش ، أو تمتنع عن الطعام وتموت .. فهى لا تملك أى أهداف مسبقة لأعمالها التى تسير وفق الضرورة وحسب ، أما الإنسان فبالرغم من كونه حيوان وكائن مادى تحركه الضرورة ومنها غرائزه الطبيعية من جوع وعطش ونعاس وخلافه ، وذلك فى حالة كونه فرداً معزولاً عن المجتمع ، إلا إنه بفضل اجتماعياته أى عضويته فى مجتمع ما ، فانه يتكون لديه وعى فردى خاص به ، وفى نفس الوقت يشارك أفراد المجتمع ويساهم فى إنتاج الوعى الجماعى المشترك ، وقد يساهم فى التأثير الواعى على الطبيعة ، وتغيير ما بها من أشياء حسب خطط مسبقة وأهداف محددة اجتماعيا يحكمه ويحكم مجتمعه فيها ، وعى كامل بما يفعلون ولما يفعلون .. فهو إذ ينشر الأخشاب ويبنى المنازل وينشأ المراكب ويصنع الأسلحة منها ، ومن ثم يفهم طبيعة الأخشاب وينقل ما فهمه عنها للآخرين ، فأنه يكون قبل كل هذا قد وضع تصوراً محدداً لهذه الأشياء قبل أن يصنعها ، وهذا لا يقارن أبداً بصنع الحيوانات أعشاشا و بيوتا من مواد الطبيعة المختلفة ، إذ إنها تفعل كل هذا بحكم الضرورة فحسب أو بمعنى آخر غرا نزها بلا أهداف أو تصورات مسبقة، وبلا أدنى وعى منها بما تفعل ولما تفعل وكل هذا بطريقة آلية وباستمرارية مذهلة ، فهذا هو ما تفعله كل الأجيال المتتالية من العناكب والنحل والنمل بلا أدنى تغيير ، وبدافع من غرائزها ، فهذا هو ما تعلمته فى لحظة ما من التطور ، وأخذت تورثه لتلك الأجيال كما تورثها صفاتها الجسمية سواء بسواء تماما ، وهى بذلك لا تستطيع فهم ما حولها ثم تغييره وبشكل واعى أو هادف ، فهى لا يمكن أن تضع تصورات مسبقة ثم تشرع فى العمل وفقها ، فهى لا تستطيع أن تبدع فيما تعمل أو أن تغير فيما تعمله ..فأن ما يتمتع به الإنسان من خصوصية تميزه ككائن مادى لا يجوز تعميمه على كل ما فى الطبيعة من كائنات ، فإذا كانت أنشطة الإنسان تتميز بالوعى والأهداف ، فأنه لا يجوز إعطاء هذه الصفة لكل ما فى الطبيعة من أشياء وكائنات ، سواء من داخلها أو من خارجها ، ومن ناحية أخرى فأن التسليم بقانونية كل ظواهر الواقع ،لا يعنى التسليم بعدم قدرة الإنسان على فهم الواقع ، ومن ثم تغييره من خلال فهمه لقوانينه .. وانطلاقا من هذا إذن فأنه فى مواجهة الضرورة توجد المصادفات ، والتى هى أحداث غير ثابتة ولا متواترة الحدوث ، وليس لها أى علاقة بجوهر الأشياء والعمليات والظواهر ، فالأحداث العرضية قد تحدث أو قد لا تحدث ، وعندما تحدث قد تحدث فى شكل ما مرة ومرة أخرى بشكل آخر ، كمصادفة نجاتك من الموت من جراء سقوط الحجر من قمة الجبل بجانبك ، وإذا كانت الضرورة كامنة فى طبيعة الأشياء ، فأن المصادفات لا تكمن فى طبيعتها. والضرورة أيضا هى التى تسقط حجر من على قمة الجبل ، حيث انفصل عن الجبل ، وجذبته إلى مركزها الأرض بما تملكه من مجال قوى للجاذبية ، وعملية السقوط هذه ما هى الا تبادل لكمات الجاذبية المسماة بالجرافيتونات ما بين الأرض والحجر ، ولو أنك مررت بسفح الجبل فى نفس لحظة السقوط ، فقد يرتطم الحجر برأسك فيصرعك ، وهذه محض مصادفة، وإن كان من الممكن تحاشيها لو أنك أسرعت أو تباطأت فى المسير ، وقد يكون قد تصادف ارتداءك خوذة فى هذه اللحظة ، فلا يسبب لك الحجر إلا أضرارً بسيطة عند سقوطه على رأسك.
م-والبعض يحاولون أن يشيعوا عجز العلماء حتى الآن على تخليق خليه حية رغم نجاح الإنسان فعليا فى هذا عام 1970 على يد جيمسى وانبيل - أحد علماء جامعه نيويورك .. وذلك ليبرروا أن هناك معجزة ما وراء تكونها مادمنا عرفنا مكوناتها ، وبصرف النظر عن نجاح العلماء فى ذلك من عدمه ، فأن هؤلاء يقعون فى خطأ قاتل هو أنهم يريدون اختصار ملايين السنين ، وتوافر شروط معينة ، تكونت فيها الخلية الحية بمكوناتها المعروفة ، فى أن يصنعوا ما صنعته الطبيعة بمجرد الربط الميكانيكى بين المكونات المعروفة فى حين أن معرفتنا العلمية لم تصل حتى الآن إلى الكثير من أسرار ترابط هذه المكونات لتكون الخلية الحية.
وقبل تناول هذا الموضوع أحب أن أورد الفقرة التالية "ومن غرائب الأمور المشاهدة بالفعل أن أولئك الذين يرقبون البحث العلمى من الخارج ، ويعجبون به ، يكون لديهم فى كثير من الأحيان ثقة فى نتائج هذا البحث العلمى تفوق ثقة أولئك الذين يسهمون فى تقدمه . فالعالم يعرف الصعوبات التى كان عليه أن يذللها قبل أن يثبت نظرياته وهو يعلم أن الحظ قد حالفه فى كشف النظريات التى تلائم ما لديه من ملاحظات ، وفى جعل الملاحظات التالية تلائم نظرياته . وهو يدرك أنه قد تظهر فى أى لحظة ملاحظات متعارضة أو صعوبات جديدة ، ولا يزعم أبداً أنه قد أهتدى إلى الحقيقة النهائية أما فيلسوف العلم ، الذى هو أشبه بالحواريين حين يكونون أشد تعصبا من النبى ذاته ، فأنه معرض لخطر الثقة بنتائج العلم إلى حد يفوق ما يجيزه أصل هذه النتائج ، المبنى على الملاحظة والتعميم)20 ومن هنا فأنى أرفض شخصيا التدخل فى مسائل لست متخصصا فيها ، فلست عالما فلكيا حتى يحق لى رفض أو قبول نظرية عملية ، ربما تصدق أو تكذب .. ولأن ما سيلى ذلك من سطور هو حديث عن نظرية تفسر تاريخ الكون هى الأكثر انتشارا الآن ، إلا أن هناك انقسامات حولها مما يتيح لى الفرصة لعرضها وعرض الانتقادات الموجه لها، وأن أوضح كيف تنتقل المعرفة العلمية بلوى عنق الحقائق ، وذلك لتأكيد وجهات نظر معينة أو كيف ترفض الحقائق طالما لا تتفق والمواقف الفكرية المسبقة.
يكتب ستيفن واينبرج(وعلى هذا الأساس فالإحساس بأن النجوم لا تتحرك إحساس خاطئ فالكون فى الحقيقة فى حالة حركة سريعة جداً تشبه حركة المادة الواقعة تحت تأثير انفجار ما أى أن الكون نفسه فى حالة انفجار ضخم تتحرك فيه مجموعات النجوم التى تعرف باسم المجرات بسرعات عالية جداً تقترب من سرعة الضوء مبتعدة عن بعضها البعض .. وعلى أساس هذه الحقيقة أمكن استرجاع حركه هذه المجرات فى الماضى السحيق واستنتاج إن هذه المجرات كانت أقرب إلى بعضها عنها الآن .. ومع استمرار هذا الاسترجاع فى الزمن نصل إلى إنه فى البداية لم تكن هناك أى مسافات على الإطلاق تفصل المجرات كما إنه قد لا يكون هناك مسافات تفصل بين النويات أو الذرات .. وهذا هو ما يسمى بالكون المبكر) 21أما عن مستقبل الكون فإن الاحتمالات تتأرجح بين ثلاث هى إنه إما أن يظل الكون يتمدد إلى أن يصل إلى حاله التوازن فيتوقف عندئذ التمدد .. وإما أن يظل يتمدد إلى ما لانهاية فى الفراغ اللانهائى ، وإما أن يظل يتمدد ثم يأخذ فى الانكماش مرة أخرى عائداً إلى نفس حالته لحظة الانفجار الكبير ، وهكذا فالكون فى الحقيقة حسب هذه النظرية يتمدد وينكمش فى دورات لانهائية منذ الأزل وإلى الأبد.. فنظرية الانفجار الكبير لا تتعارض مع حقيقة قانون حفظ وبقاء المادة ككمية ثابتة لا تفنى ولا تستحدث ولا تخلق من عدم مها تواجدت فى صور وأشكال مختلفة معقدة أو بسيطة ومهما كانت تبدو عليه تاريخيا فى الماضى ومهما سيكون عليه حالها فى المستقبل فستظل المادة هى كل الواقع الموضوعى المستقل عن أى وعى.
نظرية الانفجار الكبير إذن وبصرف النظر عن تفرعاتها الكثيرة ، تفترض أنه فى لحظة ما منذ حوالى 15 بليون سنه ، حدث انفجار هائل لكتلة شديدة الكثافة للغاية وشديدة الحرارة جداً هى مادة الكون ، والتى لم تكن قد انفصلت بعد فيها الكتلة عن الإشعاع ، وقد أخذت هذه النقطة تتمدد فى انفجار هائل ، لتقل كل من "كثافتها ودرجة حرارتها مكونة الكون المرصود لدينا ، وهى البداية التى تصلح لتأريخ قصة الكون حيث بدأ عندها الزمان والمكان والفضاء والعالم بأسره.
أما عن المشاكل الفكرية التى تثيرها هذه النظرية ، فهى أن البعض تشبث بها تشبث الغريق بالقش الذى يطفوا على الماء ، واعتبرها أولاً التفسير النهائى لسر وجود الكون علميا، وبناء على ذلك فإنه أعتبرها ثانيا دليلاً على خلق الكون فى لحظة ما من كائن أعلى خارج هذا الكون، فقد علق البابا ببوس الثانى عشر فى خطابه "برهان وجود الله فى ضوء العلم المعاصر الموجه فى الثانى والعشرين من نوفمبر 1951"إنه بخلاف التوقعات الخاطئة التى سادت فى الماضى ، تكشف كل خطوة يخطوها العلم الحقيقى عن وجود القدرة الإلهية كما لو أن الله يقف وراء كل باب يفتحه العلم " 22، ويقول مرة أخرى " وهكذا نصل .. إلى خلق الكون ، وبالتالى إلى الخالق ، وإلى الله ! ذلك هو الخبر ، الذى طالما انتظرناه من العلم ، وتتلهف البشرية المعاصرة لسماعه " 23كما أشار إلى هذه النظرية العلمية أستاذ فلك مصرى بل هو رئيس قسم الفلك بعلوم جامعة القاهرة رابطا بينها وبين آية قرآنية كريمة تشير إلى أن الأرض والسماء كأنما كانت شىء واحداً تم الفصل بينهما !! وهكذا استمرار لموجه التربح التى تحاول الربط بين النصوص المقدسة التى لا تتغير ،والحقائق العلمية النسبية بطبيعتها و التى من الممكن أن تتغير ، ويشترك فى هذه اللعبة الخطرة بعض رجال العلم والبحث العلمى فى مصر مما لا يصح إطلاقا أن يمنحوا شرف الانتساب لأجل مهنة فى التاريخ ،مهنة فهم الواقع على النحو الصحيح المسماة اختصارا العلم ، والذين أهدروا شرفها حين مارسوا الدجل باسم العلم. وفى المعسكر الآخر فأن البعض يرفض هذه النظرية قطعيا ومبدئيا لما توحى به من أفكار غيبية ومثالية وميتافيزيقية .. وأرى أن كلا الفريقين مخطئ فكلاهما يلوى عنق العلم ليدلل أو يدافع عن أفكاره . (وفى ذلك الانفجار الكبير بدأ الكون تمدداً لم يتوقف قط ، وإنه لأمر مضلل أن نصف تمدد الكون باعتباره نوعا من فقاعة منتفخة ينظر إليها من الخارج . وبالتحديد فلن نعرف قطعا ما هو الخارج : ومن الأفضل التفكير فيه من الداخل ) 24هكذا يرد عالم الفلك على كلا الفريقين حفاظا على منهجية العلم التى ترفض الفروض التعسفية الغير قائمة على أى دليل خاضع للتجربة ، بل مجرد أفكار لا توجد إلا فى أذهان من ابتدعوا تلك الأفكار اقتنعوا بها .
إلا أنه تظل عدة انتقادات موضوعية لهذه النظرية جديرة بالاهتمام منها على سبيل المثال ما هو آت:.
1- تشير آخر أبحاث علم الفلك بأن المادة موزعة فى المكان ، وهو الكون بأسره بشكل غير متوازن لأقصى حد ، مما يتناقض مع فكرة انفجار المادة من مركز ما ، فى الوقت الذى تتكون بين فراغات الكون المتمدد مجرات جديدة ونجوما جديدة من السحب الهائلة للغبار الذرى الممتلئ بها الكون، والذى قد تكون فى بعضها بقايا مجرات انفجرت فى الماضى وهى الملاحظة عبر الكون بأسره .. حيث لا تكف المجرات والنجوم على الاصطدامات والانفجارات..
2- إن محاولة تفسير ظاهرة امتداد الحيز المحدود من الكون المرصود لدينا حتى الآن بنظرية الانفجار الكبير يتناقض مع إننا لا نعرف إلى أى مدى سنستطيع رصد مساحات أكبر منه عندما تزداد قدراتنا على الرصد .. وهل ستتفق مشاهدتنا عندئذ مع الظاهرة المشار إليها ، وهل يضمن من يحاولون إثبات أن هناك بداية ما للكون وبالتالى نهاية له .. أو أن للكون حدود ما لم يشاهدها أو يلاحظها أحد ، وذلك من خلال هذه الاستنتاجات النظرية البحتة ، إن إمكانيات مشاهدتنا المستقبلية لن تصدمهم ، وخصوصا إنه مع الحيز المرصود لدينا حتى الآن وعلى ضخامته الهائلة لم تشاهد أى حدود نهائية لهذا الحيز .. أو أن ما بعده فراغ مطلق أو عوالم أخرى.
3- لا يوجد أى أساس لمطابقة مجموعة ملاحظة من مجرات خارج مجرتنا مع الكون كله ، ولا يمكن التدليل على أن حركة جميع المجرات خارج مجرتنا ، وتجرى فى كل مكان بشكل مشابه لما نلاحظه أى فى الجهة التى تبعدها عن مركز الانفجار ... فضلاً عن تناقض فكرة الانفجار من نقطة ما مع عدم وجود أى مركز لكتلة الكون المرصودة لدينا حتى الآن .. فمن الذى يضمن عدم وجود أى حركات أخرى مخالفة أو أكثر تعقيداً للمجرات خارج مجرتنا ، وخصوصا فى ضوء قوانين النسبية ، الذى يكون فيها لوضع المشاهد بالنسبة للأشياء المتحركة الملاحظة تأثيراً أساسيا فيما يلاحظه.
4- إذا كان ما نرصده من الكون يتمدد الآن ، فما الذى يجعلنا نفترض تعسفا أن حركة المجرات فى الجزء المرصود لدينا كانت فى نفس الحالة من التمدد فى كل لحظة تاريخية ، وهل يمكن تعميم هذه المشاهدة اللحظية فتصبح قانونا عاما لحركة الكون اللانهائى بأجمعه.
5- صحيح إن إزاحة الخطوط الطيفية للضوء الصادر من النجوم ، يدل على أن الجزء المرصود لنا حتى الآن من الكون يتمدد ويتوسع ، وأن المجرات تجرى بعيداً عن بعضها البعض بسرعات هائلة ، إلا أن محاولة استخدام هذه الحقيقة يتناسى أن تفسير الانزياح الأحمر للمجرات بتطايرها وتباعدها ليس هو التفسير الوحيد الممكن ، فربما ظهرت تفسيرات أخرى .. كما أن استخدامها كأساس يضاف إلى معرفة هذه السرعات والحجم الكلى لمادة الكون المرصود لنا حتى الآن لحساب الزمن الذى كانت فيه كل هذه المادة كلاً واحداً تنسحق فيه مكوناتها فلا يبقى إلا أبسطها ، فى كتلة صماء .. هو فرض تشوبه الغيبية حيث لا يوجد لدينا دليل واحد حول ، هل أن ظاهرة الامتداد المرصود لدينا حتى الآن صاحبت الكون منذ بدايته المفترضة أم هل هى ظاهرة طارئة .. أو أى دليل على أنها تصاحب كل أجزاء الكون التى لم نرصدها بعد .. فربما يتمدد بعضها وينكمش البعض الآخر.
هذه هى الاعتراضات الأساسية التى استطعت تجميعها على نظرية الانفجار الكبير تجعل المرء لا يطمئن لها كل الاطمئنان ، كما لا يصح أيضا رفضها كل الرفض ، فربما تكون هى التفسير الصحيح لنشوء الكون وربما تأتى لنا الأيام القادمة بتفسير آخر أكثر دقه.
ى-مثال آخر على نوعية الكتابات الشعبية التى تستغل المفاهيم العلمية الحديثة السابق الإشارة إليها فى بداية الموضوع ففى كتاب شعبى أصدرته الدولة على نفقتها الخاصة ضمن سلسة المكتبة الثقافية العدد 279تحت عنوان "الحتم والحرية فى القانون العلمى "ظل المؤلف عبر فصل كامل يحاول البرهنة على لامادية العالم والتشكيك فى القوانين الأكثر من أساسية وجوهرية فى الفيزياء ،وهى قوانين حفظ وبقاء المادة مستندا إلى بعض المفاهيم غير الصحيحة حول تعريفهم متجاهلا التطور العلمى فى تعريفهم .وأيضا على ذكر بعض التجارب العلمية التى شككت فى تلك القوانين مستغلا عاطفية القراء وتعصبهم لعقائدهم المتوارثة وجهلهم بحقائق العلم ومفاهيم الفلسفة على السواء،وعدم استعدادهم للتخلى عن ما غرز فى عقولهم من أفكار .فكتب "فقد لوحظ إنه لو عرضت زجاجة بها بيروكسيد الأيدروجين (يد2أ2)للضوء فأن مجرد مرور الضوء خلال المحلول ،يحلل بيروكسيد الأيدروجين إلى ماء(يد2أ) وأكسجين (أ) وأن هذا القدر من الأكسجين يتجمع فى الزجاجة حتى إذا فتحت سدادتها ،أصدرت صوتا حين يتسرب الغاز منها ،ثم لوحظ أن وزن عناصر التجربة كلها من البيروكسيد المتبقى بغير تحليل والماء والأكسجين المنطلق لا يساوى وزن المحلول قبل مرور الضوء به ،بل ووجد أيضا أنه يزيد قليلا عليه.ووجد أن الزيادة فى الحقيقة هى وزن الضوء والذى أدى إلى تحليل بيروكسيد الأيدروجين إلى أكسيد الأيدروجين (أى الماء)والأكسجين ،وكذلك لوحظ أن جزيئات بيروميد الفضة تتأثر بالضوء ،ويزيد وزنها ،وهو ما يعرف بالتصوير الشمسى .هاتان الظاهرتان أكدتا للعلماء أن المادة تكون ،ومادامت تكون فهى أذن قابلة لأن تفنى "26.والحقيقة أن هاتين التجربتين المذكورتين لا علاقة لهما بفناء المادة أو تكونها ،بل لهما علاقة بخطأ حساسية أجهزة القياس ،التى حين تم تطويرها لتصبح أكثر حساسية أكدت صحة القوانين التى حاول المؤلف دحضها بذكره لهاتين التجربتين .إلا أن خلطه بين التجربتين والقوانين التى يريد دحضها تستلزم منا أن نناقشها بشىء من التفصيل ،وخصوصا أنه يخلط بين المفاهيم العلمية والمفاهيم الفلسفية خلطا شديدا ..فحديث المؤلف ليس بالحديث العلمى وإن رطن بلغة العلم ،فمادية الشىء لا علاقة لها بمفهوم الكتلة ..فمادية الشىء تعنى أنه كائن خارج أى عقل أو وعى ،أى أنه شىء موضوعى مستقل عن وعينا به أو إدراكنا له ،أما الكتلة فهى مفهوم آخر فى الطبيعة ،فالأشياء المادية قد يكون لها كتلة وقد لا يكون ،أما الكتلة فنوعان كتلة سكون وهى كتلة الجسم فى لحظة سكونه النسبى،وكتلة وضع وهى الكتلة التى تتحدد بوضع الجسم بالنسبة لجسم آخر ،والكتلة شىء غير مطلق و لا ثابت ،بل هى نسبية ومتغيرة ،تتحدد حسب سرعة حركة الجسم أو سكونه،ولكل جسم نوعان من الكتلة وهما ما أشير إليهما فيما سبق ،وللكتلة بناء على ذلك ثلاث تعريفات هى:-
-مقدار ما يحتويه الجسم من مادة .
2-مقدار مقاومة الجسم للسرعة.
3-مقدار مقاومة الجسم للقصور الذاتى.
ووزن الجسم شىء وكتلته شىء آخر ..فالوزن هو مقدار تأثير جاذبية جسم على جسم آخر ،وهو يتناسب مع كتلة كلا من الجسمين ،وشدة مجال جاذبية كل منهما التى تعتمد على كتلتيهما ،والمسافة بين مركزيهما.
وفى ضوء المعرفة المؤكدة للطبيعة الجسمية للضوء ،حيث أنه عبارة عن سيل من الفوتونات (نوع من أنواع الجسيمات الأولية التى تحمل الطاقة أو القوى الكهرومغناطيسية )تتحرك كموجات ذات ترددات معينة تسمح لنا برؤيتها بالعين المجردة ،ولهذه الفوتونات كتلة ،وبالتالى فأن لها وزنا ،فالفوتونات هى جسيمات حمل الطاقة الكهرومغناطيسية ،وهى تشكل بحركتها الموجية تلك الموجات الكهرومغناطيسية بأنواعها المختلفة ومنها الضوء المرئى .فهذه الكمات من الطاقة أو المجال أو القوى الكهرومغناطيسية تؤثر بلا شك على جزيئات المركبات الكيميائية المختلفة بمكوناتها الداخلية من ذرات ،فتحللها أو تركب منها مركبات أخرى تترابط فيما بينها بواسطة هذه الكمات وهى بهذا التأثير تزيد من وزن المواد الكيميائية بما تحمله من صفات كتلية أو جسمية،وفى الحقيقة أن الكاتب تغافل عما ذكره بنفسه ،وهو أن الزيادة الحادثة فى التجربة المشار إليها ،تساوى وزن الضوء فهناك أذن تأكيد على صحة القانون المراد دحضه ،وليس نفيا له ،إلا أن الصياغة الملتوية ،والفهم المتعسف توحى للقارئ غير المدقق بصحة ما أستنتجه الكاتب بعد ذلك بأن المادة تكون وأنها تفنى ،وبصحة ما يخبره به مادام يتفق ورغبة القارئ الذاتية فى التصديق،حتى ولو كان ما يخبره به فاقع الكذب،فاضح الساذجة،ولا شك أن هذا النموذج الفاحش على استغلال المعرفة العلمية القاصرة فى نشر الخرافة والجهل تستحق ردا حاسما وفوريا على النحو الآتى:-
فى القرن الماضى تم اكتشاف قانونين هامين يشكلان حقيقتين جوهريتين فى العلم الحديث،وتمت البرهنة عليهما بشكل قاطع عمليا ونظريا ،وبالتالى فهما ليسا فروضا إجرائية كما ذكر المؤلف المنوه عنه ،وهذان القانونان هما قانونا كل من حفظ وبقاء الطاقة ،والذى يعنيان ثبات كميتهما ،وبالتالى فأنهما لا يفنيان و لا يستحدثان ولا يخلقان من عدم ،وانهما كلا منهما على حدى يتحول من شكل إلى آخر من أشكالهما المختلفة ،فتتحول الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية والعكس على سبيل المثال ،كما تتحول الكتل السائلة إلى غازات أو العكس أيضا ،إلا أنه مع بداية هذا القرن تمت عدة تجارب شككت فى هذين القانونين،وما إن مرت عدة سنوات من الشك فيهما حتى تم اكتشاف قانون تكافوء كل من الطاقة والكتلة ،والذى يعنى أن كمية معينة من الطاقة تساوى كمية معينة من الكتلة مضروبة فى سرعة الضوء.وهو ما يعبر عنه بالمعادلة الطاقة =الكتلة فى مربع سرعة الضوء.
وهذا يعنى تناسب كتلة الجسم مع ما يحمله من طاقة تناسبا طرديا ،وهذا القانون يعنى أيضا إمكانية تحويل كل منهما للآخر فتتحول الطاقة إلى كتلة والعكس صحيح ،وبناء على هذا القانون الذى ثبتت صحته نظريا وعمليا فيما بعد نجح العلماء فى تفتيت نواة الذرة ،وهو ما يتم فى المفاعلات والانفجارات النووية وبذلك تم التفسير العلمى لنتائج التجارب التى أدت للشك فيهما ،وبناء علي ذلك فقد تم تعديل القانونين سالفى الذكر لقانون موحد ينص على بقاء المجموع الكلى لطاقة المجموعة المنعزلة وكتلتها ثابتة،و بالتالى فأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم ،مهما كانت صورها من طاقات أو كتل ،وعلى حد تعبير ستيفن هوكنج فى كتاب موجز تاريخ الزمن"إن تقسيم محتويات الكون إلى كتل وطاقات مازال يستخدم حتى الآن "27.
وبالطبع فأن المدلول الرئيسى لهذا القانون ،هو ثبات كمية المادة و أبديتها و أزليتها ،كما يثبت قانون التكافوء بين الطاقة والكتلة ،إمكانية تحول كافة أشكال المادة من شكل لآخر ،والأصل المادى لكل ما يوجد فى الواقع من حولنا.
فالطاقة بكافة أنواعها تحملها جسيمات مادية معينة ،تسمى بكمات الطاقة أو كمات المجال أو كمات القوى ،وأن الموجات المختلفة فيما عدا الموجات المادية هى شكل حركة هذه الجسيمات ،وأن حركة الأجسام أى أجسام،من الجسيمات المتناهية الصغر إلى الأجسام فائقة الكبر،ما تحدث إلا نتيجة تبادلها فيما بينها لهذه الكمات ،وهى العملية التى تستدعى من هذه الجسيمات وتلك الأجسام تغيير أوضاعها لتحافظ على مستويات طاقتها الجديدة الناتجة عن اكتسابها أو فقدانها لهذه الكمات .
وكمات الطاقة هذه ذات خواص معينة تميزها عن جسيمات الكتلة التى تكون سائر الأجسام من حولنا حية وغير حية ،صلبة وسائلة وغازية ،كبيرة وصغيرة وهكذا .ومن حقائق العلم الحديثة هو أن جسيمات الكتلة عند تصادمها تتحول لجسيمات للطاقة والعكس عند تصادم جسيمات الطاقة تتحول لجسيمات للكتلة و أضدادها . وهذا على مستوى الجسيمات الأولية فقط.
ولو قارنا بين أقوال علماء طبيعة كبار فى كتب علمية جادة وبين كتب الإثارة الإعلامية فى تناول هذا الموضوع لفهمنا كيف يتم التجهيل المتعمد للقراء العاديين عبر الكتابات الشعبية ، والذين يفضلون كتب الإثارة والتسلية على الكتب الجادة..وإليكم بعض الأمثلة من تلك الكتابات الجادة حول هذا الموضوع.
كتب كل من ف.لانداو .وأ.إكيتايجوردسكى وهما من كبار علماء الفيزياء
"إن قانون بقاء الطاقة يلعب فى الفيزياء نفس الدور الذى يلعبه المحاسب الصارم فى الحياة،فالوارد و الصادر فى أى عملية يجب أن يكون متساويا .وإذا لاحظنا فى تجربة ما إن الأمر ليس بهذه الكيفية ،فأن هذا لن يعنى سوى إننا لم نجرى التجربة بعناية ،أو أنه قد سهونا عن بعض العوامل الهامة .وقانون حفظ وبقاء الطاقة فى هذه الحالة يعطى الإشارة ..أيها الباحث أعد التجربة ،وأبحث عن سبب الفقد ،وذد من دقة القياس وقد توصل الفيزيائيون مرارا إلى اكتشافات جديدة مهمة فى هذا المجال،و اقتنعوا أكثر فأكثر بالحقيقة الثابتة لهذا القانون"28.
"وفى القرن العشرين لوحظت بعض الظواهر التى تشكك فى قانون حفظ وبقاء الطاقة .غير أنه بعد ذلك وجد التفسير لهذا التناقض ،وخرج القانون من هذا الاختبار بنجاح"29.
وكتب ف.رادنيك"أن جسيمات الكتلة تمتلك صفات كمات المجال ..بينما تمتلك كمات المجال صفات جسيمات الكتلة وهما يعتبران على قدم المساواة الجانبين الأوليين والأساسيين لمادة الوجود ،فها شكلان متناقضان لوجود المادة وتطورها ،ولا يمكن وجود أحدهما بدون الآخر"30.
بناء على ما سبق ذكره نقرر أنه يجرى الالتزام بقانون حفظ وبقاء الطاقة بشكل عام ،فى ظواهر عالم الأشياء الدقيقة كما فى الأجسام الكبيرة فضلا عن عدد آخر من قوانين الحفظ والبقاء الخاصة بعالم الجسيمات الأولية والتى تعتبر خواص تميزها،وهذا يعنى أن المادة مهما تنوعت جوانبها ،فأنها تقوم على ثبات كميتها ،وأن تطور العلم اللاحق قد أظهر مرة أخرى أن هذا القانون وتفريعاته ،والاستنتاجات الفكرية منه صلبة كالصخر.
ك-والآن ما رأيك فيما قرأت على التو ؟عليك الانتظار قبل أن تبدى رأيا محددا حتى تقرأ هذه الفقرة الطويلة والمقتبسة من مقال للدكتور زكى نجيب محمود بعنوان أزمة العقل فى حياتنا "فلننظر إلى أوساط الناس من حولنا فماذا نرى ؟نراهم على عداوة حادة مع العقل ،وبالتالى فهم على عداوة لكل ما يترتب على العقل من علوم ،ومن منهجية نظر ،ودقة التخطيط والتدبير ،فإذا انطلقت الصواريخ تغزو الفضاء ،يرود أصحابها أرض القمر ،تمنوا من أعماق نفوسهم أن تجىء الأنباء بفشل التجربة ،وإذا سمعوا عن قلوب وغير قلوب تؤخذ من آدمى لتزرع فى آدمى آخر ،أحزنهم أن يتحقق النجاح ،وأفرحهم أن تخفق المحاولة ،وهاك المثالين من خبرتى الخاصة لم أقرأ عنها فى صحيفة أو كتاب ،بل شهدتها بعينى وسمعتها بأذنى ،أقيمت ندوة ثقافية كنت أحد أعضاءها ،وكان من المساهمين فيها كذلك عميد لأحد كليات العلوم عندئذ ،وكان السؤال المطروح هو ماذا نرى فى هذه الوثبة الجريئة التى هى صعود الإنسان للقمر ،فكان مما قاله عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية ،أنه سيعوز بالله من هذا الشطط الذى قد يؤدى بالكون إلى الدمار ثم تساءل قائلا ! أليس يجوز أن يهبط هذا الصاروخ على سطح القمر بدفعة قوية فإذا القمر ينحرف عن مداره فتكون الطامة على البشر !؟أما المثل الثانى فهو أنه سئل قطب من أقطاب الطب فى الأمة العربية!ما رأيك فيما سمعناه عن زرع قلوب فى أبدان غير أبدانها ؟فاستعاذ بالله هو الآخر من شر ما يسمع مؤكدا أنها محاولات مجنونة لن تؤدى إلى شىء ،وربما كان هذان العالمان لا يعتقدان فى صدق ما قالاه ،وإنما قصدا به إلى إرضاء السامعين فتكون الطامة أكبر لأن الدليل عندئذ ينهض ليؤيد ما بزعمه ،وهو أن مثل هذا القول هو ما يرضى الناس ثم نكون فسرنا بالنفاق نزاهة العلم والعلماء.
أولئك هم علماءنا فما بالك بأبناء السبيل ؟إلا أن مضجع العلم الجاد خشن تحت جلودنا ،ولذلك كان شرطا عليك إذا كتبت للصحف والمجلات أو أذعت فى الناس حديثا أن تكسو الحقائق العلمية التى تنوى عرضها على الناس بحشايا من ريش النعام ،لئلا تتأذى أبدانهم اللينة ،فعليك أن توهم الناس بأنك لم تقصد إلى العلم الكريه الجاف ،وإنما قصدت إلى تسليتهم فى أوقات فراغهم ،وإذا لم تفعل ذلك فلا سبيل أمامك إلى صحافة أو إذاعة.
الرأى السائد فينا هو أن العلم يعوق مجرى الحياة ،فليست وسيلتك للنجاح فى أى ميدان تشاء :-ميدان العمل أو ميدان السياسة أو غيرها من هى أن تدقق وتدقق وإلا لما بلغت من الطريق أدناه ..إن الساعات التى يصرفها الدارس العلمى فى مشكلة واحدة من مشكلاته "النظرية"كفيلة أن يقفز بها "العمليون"إلى الذرى مالا وجاها وقوة.أليس لكل شىء معيار يقاس به ؟والمعيار السائد بيننا هو كم يعود هذا العمل على صاحبه من نفوذ وسلطان وثراء ؟ولما كان الأغلب ألا يعود العلم على أصحابه من هذه الأشياء بمحصول وفير كان لهؤلاء المنزلة الثانية فى مجتمعنا وذلك فى أحسن الفروض."31.
إلا أن الأستاذ الجليل رائد الوضعية المنطقية فى منطقتنا العربية،لم يوضح السياسات الإعلامية والثقافية والتعليمية التى أدت لكل هذه الظواهر ،ولا النظام الاقتصادى الاجتماعى ،الذى أفرز هؤلاء البشر المعادين للعقل ،والذين يتعاملون مع العلم على هذا النحو الانتهازى الصرف فى حدود منفعتهم الخاصة ،فما يفهم من حديث زكى نجيب محمود أن البشر قد طبعوا على كره العلم والعقل ،وهذا ربما يكون صحيحا فى لحظات تاريخية معينة،لكنها ليست سمة للبشر ،وإلا ما كانوا استطاعوا أن يصلوا لما وصلوا إليه من تقدم.فضلا عن تغاضيه عن حقيقة الأبعاد الطبقية المؤكدة لهذه السياسات الدعائية والتعليمية الموجهة ،والتى يعبر عنها هربرت شيلد ب"أن تضليل عقول البشر هو على حد قول باولو فرير"أداة للقهر"إنه يمثل إحدى الأدوات التى تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة"32.
إن كل ما سبق ذكره من مظاهر التضليل باسم العلم ،والخلط بين العلم الحقيقى الذى هو فهم الواقع من خلال تغييره سواء على مستوى المنهج أو الحقائق،وبين الخرافة التى هى فهم زائف ومشوه للواقع من خلال تأمله سواء على مستوى المنهج والأفكار الوهمية ،لا يقتصر على العلوم الطبيعية فحسب ،بل يمتد ليشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية أيضا،إلا أن العلوم الطبيعية لا تعرف الانحياز الطبقى فى حقائقها وقوانينها ومعظم نظرياتها ،وأن كانت تعرفه فى السياسات التى توجه تطبيقاتها التكنولوجية. فى حين أن العلوم الاجتماعية تعرف الانحياز الطبقى .فإذا كانت لا توجد كيمياء بورجوازية وكيمياء عمالية ،إلا أنه يوجد اقتصاد سياسى بورجوازى واقتصاد سياسى عمالى .يدرس الأول عمليات الإنتاج المادى والتداول والتبادل من منظور مصالح البورجوازية ،ويدرس الآخر نفس العمليات من منظور مختلف يعبر عن مصلحة الطبقة العاملة ،وهو ما يؤدى إلى تناقض استنتاجاتهم النظرية ،وتحليلاتهم المختلفة.
ويلاحظ مثلا أن تفسيرات النظريات المختلفة فى علم الاجتماع لسلوكيات البشر تتفاوت فيما بينها ،فتدعى مدرسة ما أن سلوك الإنسان نتاج بيئته فقط ،وأخرى ترجع هذا السلوكيات للوراثة فحسب ،أما التفسير المبتذل للماركسية فيرجعها للعوامل الاقتصادية والانتماء الطبقى ،فالماركسية مثلا نظرية علمية صحيحة فى إطار تحليلها للمجتمع ككل ،والعلاقات بين طبقاته المختلفة فى علاقاتها المختلفة ،وفى تطور هذا المجتمع وحركته ،إلا أن تعميم نتائجها على سلوكيات الأفراد يبتذلها للغاية،فالإنسان بلا شك تؤثر فيه العوامل الاقتصادية المحيطة به كما يؤثر عليه انتماؤه الطبقى بلا شك ،إلا أن سلوك الإنسان ليس نتاج لهذه العوامل فحسب وإن كانت هى الحاسمة فى الغالب الأعم ،بل أن سلوك الإنسان هو انعكاس لمحصلة هائلة من العوامل ،تتشابك وتتفاعل بشكل معقد لتنتج لنا شخصية هذا الإنسان أو ذاك ،منها العوامل البيئية والثقافية ،وطريقة التعلم والتربية ،والعوامل الوراثية ،والتركيب الهرمونى ،ونوعية الغذاء والمناخ ،وفضلا عن كل هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالفرد والتى تجعله يسلك سلوكا معينا فى لحظة معينة بشكل يصعب التنبؤ به بشكل قطعى.
ل- إننا قد نتفق سويا على السببية ، إلا أن البعض يرجعها إلى وعى أو إرادة ما أو هدف معين شبيه بما يملكه الإنسان من وعى وإرادة وهدف ، بل وإذا كان ما يملكه الإنسان ناقص ونسبى وعاجز ومحدود ، فأن ما يملكه الآخر كامل ومطلق وكلى القدرة ولا نهائى ، والبعض الآخر يرجع السببية إلى الضرورة العمياء الكامنة فى طبيعة الأشياء المادية ، .. النظرة الأولى تعمم ما ينفرد به الإنسان ككائن مادى من خواص تميزه عن غيره من الكائنات المادية حية وغير حية ، حيث ترى إن كل فعل لأى كائن مادى آخر لابد وان يكون له هدف وإرادة و وعى ما، فيضرب الطفل والإنسان البدائى الحجر الذى يتعثران فيه ويعتبرانه مسئولاً عن تعثرهما ، ثم تطورت هذه الفكرة فأصبح الهدف والإرادة والوعى يخص كائن أو كائنات أعلى ما وراء الطبيعة هى التى تحرك الأشياء وتسبب ما تحدثه من تأثيرات ، وهى تملك ما يملكه الإنسان من وعى وأراده وأهداف إلا إنها كاملة ومطلقة وقادرة وغير محدودة .. والنظرة الثانية ترى إنه لا منطق وراء هذا التعميم الطفولى والبدائى حيث الطبيعة بلاوعى أو هدف أو إرادة وإنما تحكمها الضرورة الكامنة فى طبيعة الأشياء التى تكونها. النظرة الأولى غير علمية ومثالية بالتعبير الفلسفى ، والثانية علمية ومادية و واقعية بالتعبير الفلسفى أيضا . ( ومن السهل أن نرى كيف أمكن لإنسان الثقافات البدائية أن يفترض وجود عناصر حية فى الطبيعة ما تشبهه تماما ، هذه العناصر الحية هى التى أرادت لأشياء معينة أن تحدث وهذا ما أمكنه فهمه على وجه الخصوص من الظواهر الطبيعية التى تسبب أذى شديد . فالجبل يمكن أن يلام على تسببه لانهيار أرضى ، أو الزوبعة على تسببها فى ضرر قرية.
وفى أيامنا هذه فأن الإنسان المتحضر ، وبالتأكيد العلماء ، لا يأخذون بهذا التشبيه الإنسانى الذى يقترب من الطبيعة ، ومع ذلك تميل عناصر التفكير الروحانى إلى الإصرار على الأخذ به . أفترض أن حجراً حطم نافذة هل مال الحجر إلى فعل هذا ؟ بالطبع لا . سيقول العالم الحجر هو الحجر ، إنه يخلو من روح قادرة على التميز . وعلى الجانب الآخر ، فأن معظم الناس ، وحتى العالم نفسه ، لن يترددوا فى القول أن الحادث "ب" الذى هو تحطيم النافذة ، سببه الحادث "أ" الذى هو اصطدام الحجر بالزجاج. )33
عرفنا مما سبق أن هناك علاقة متبادلة شاملة بين كافة الظواهر ، التى تتداخل فيما بينها فيما لا نهاية له من علاقات فضلاً عن اشتراط بعضها بعضا .. فشرط وجود البروتونات أو النيوترونات هو درجة حرارة معينة تسمح للكواركات بتبادل الجلونات. عبر التاريخ الإنسانى الطويل ، وخاصة فى تطوره العلمى ،تمت البرهنة بما لا نهاية له من أمثلة على التبعية المتبادلة للظواهر المادية فيما بينها ، والتى تتشابك فيما بينها فى شتى العلاقات .. ليس ذلك فحسب بل إنه فى كل ظاهرة على حدة تتعدد الجوانب وتتداخل ، فالموجة كظاهرة تتداخل جوانبها ، وتترابط فيما بينها فى علاقات متبادلة ، فلكل موجة طول ما هو المسافة بين قمتين متتاليتين من قممها أو قاعين متتالين من قيعانها ، وتردد الموجة هو عدد تذبذب تلك الموجة فى الثانية الواحدة ، وطاقة الموجة هى كمية الطاقة التى تحملها الموجة ، وتترابط كل هذه الظواهر فيما بينها وتعتمد كل منها على الآخر ، فكلما زادت طاقة الموجة ازداد طولها وترددها والعكس صحيح ، كما ترتبط الموجة كظاهرة بالكتلة التى أحدثت بحركتها الموجة فى علاقة متبادلة.
فى الحقيقة أن الطبيعة تتحرك بلا أهداف ولا نحو أهداف معينة بل تحكمها الضرورة، ولا مجال للتوفيق بين النظرتين ، فالنظرة الأولى تعسفية وهذا أولاً فالطفل أو البدائى يظن أن الحجر الذى تعثر فيه ، له ما له هو من وعى ، وله ما له هو من هدف ، سواء أكان هذا الوعى أو الهدف يملكه الحجر فعلاً أو أن هناك من يفكر له ويحركه من خارجه ، ولذلك فأنى أرى وهذه وجهة نظر خاصة ، إنه من الخطأ حين يقع الطفل بالأرض أو يصطدم بالباب ، أن نضربهما بأيدينا له ، لإسكات دموعه ، إن هذا الفعل هو أساس النظرة التعسفية ، هى نفسها أساس نظرة التشاؤم أو التفاؤل فيعبد البدائى حيوان ما لأنه قد تصادف مرور هذا الحيوان لحظة خروجه من مأزق ، أو يحطم شجرة قد أعاقته فى الصيد ، انتقاما منها وهكذا .. إن هذه النظرة تتطور فى عقول البشر عبر تطورهم إلى تصور وجود عقلاً ما خارج الطبيعة يضع لها الأهداف ويحركها إلى حيث هذه الأهداف ، بعد ما تعلمت البشرية إن كل ما يحيطها من أشياء مادية لا تملك أى وعى أو هدف .. والفرق بين المرحلتين فرق فى الدرجة وليس فرق فى النوع .. هذه النظرة أيضا قد وجدت مع انقسام المجتمع البشرى إلى طبقات إحداها تفكر وتأمر وتحدد الأهداف وتجنى فضلاً عن ذلك كل أو معظم ثمار الإنتاج ، وكان يجب أن تبرر هذا الوضع بتبنى تلك النظرة التى تقول بأسبقية العقل وما ينتج عنه من إرادة وأهداف ووعى على الواقع أو الوجود أو الطبيعة، وإلى طبقات تنتج ولا تحكم ولا تملك من أمر نفسها شيئا ولا تجنى معظم ما تنتجه ، وهذه تستهلك ما تنتجه الطبقات الأولى من أفكار ، وإن كان يتناسب مع وضعها الاجتماعى النظرة الثانية التى تقول بأسبقية الواقع أو الوجود أو الطبيعة أو المادة على الوعى أو الفعل أو الإرادة أو الأهداف .. وذلك لأن النظرة الأولى يتبناها دائما من يرفضون تغيير الواقع سواء أكان طبيعة أم مجتمع ، وهم من يعبرون عن مصلحة الطبقات السائدة و الحاكمة والمستغلة ، وهى لذلك لابد وأن تنفى الضرورة والسببية .. أما النظرة الثانية فأنه غالبا ما يتبناها من يسعون لتغيير الواقع ، ذلك لأنه يجب عليهم فهمه ، أى أدراك ما يحكمه من ضرورات وأسباب لكى يستطيعوا تغييره ، وهم من يعبرون عن مصلحه الطبقات المسودة والمحكومة والمستغلة ، وهم من تكون مصلحتهم تغيير الواقع عكس الطبقات التى تتبنى النظرة الأولى .. فالطبقات الحاكمة تسعى دائما لتبنى نظرات تأملية يتناسب و دورها الاجتماعى وهى تنجح فى تسييد نظرتها فى كافة طبقات المجتمع طالما كانت فى السلطة ، أما الطبقات المحكومة فهى لا تتحرر من سيطرة هذه النظرة إلا فى لحظة ثورتها لتغيير النظام الاجتماعى القائم ، وهذا شرط ضرورى لكى تستطيع إحداث هذا التغيير ، وما يتطلبه هذا من تبنى ما يقوم على الممارسة العملية من معرفة و وعى ، ورفض النظرة التأملية للواقع التى لاتستطيع مساعدتنا على تغييره.
إن ما نلاحظه من خلال ممارستنا العملية هو الأسباب ، وذلك حين نلتحم بالطبيعة لنغيرها ، ونؤثر عليها بقوانا المادي لإنتاج احتياجاتنا ، وحتى ننجح فى هذا يجب علينا أن نأخذ بالأسباب ونفهم الضرورات ، فممارسة هذا العمل هو أساس العلم الصحيح ، كما أن هذا النوع من العلم هو الوحيد القادر على تطوير كفاءه هذا العمل وإننا حين نمارس كلا من العلم والعمل لا يمكن أن نخرج من دائرة الأسباب والضرورات ، ويستطيع البعض منا فى الغرف المغلقة أن يتأمل ما شاء له الهوى فى الوجود من حوله ، وأن يتفتق خياله عن ملايين الأفكار اللاواقعية ، والخالية من المعنى ، ومن ثمغير المقيدة ، وأن يخترع لكل ما يتأمله غايات وأهداف وهذا شأنه ، الا إنه بمجرد نزوله للواقع سواء لتغييره فأنه لن يجد من سبيل إلى هذا التغيير سوى العمل الذى هو تأثير بشرى مادى على الواقع لتحويله أو لفهمه فأنه لن يجد من طريق إلى هذا الفهم سوى العلم الذى هو فهم ضرورات الواقع .. وكلا العملين مرتبطين فنحن لن نستطيع تغيير الواقع إلا من خلال فهمه ، ولن نقدر على فهم الواقع إلا من خلال الاحتكاك به وتغييره .. هاتان العمليتان المرتبطتان هما أساس كل الإنتاج المادى والفكرى للبشرية عبر تاريخها، وأن من يحتك بالواقع لابد وإنه سيصطدم بالضرورة وما تنتجه من أسباب ، وإن الضرورة لابد وإنها ستحطمه لو لم يحترمها ويعترف بها وحدها سيدة لهذا الوجود .. فالبشر غالبا ما يعانون من ازدواجية غير منطقية تمت مناقشتها فى التمهيد ، فهم يحترمون الضرورة فى حدود ممارستهم للعلم والعمل ولا يعترفون إلا بها ، إلا إنهم يحركون معها أوهام أخرى لا تتفق منطقيا واعترافهم بها فى أنشطتهم الحياتية الأخرى فالبدائى مثلاً يعالج الأمراض بتناول ما فى الطبيعة من أعشاب ومواد قد دلته خبرته العملية على تأثيرها الفعال فى علاج الأمراض ، إلا إنه بجانب هذا لابد وأن يمارس قدراً من السحر بجانب هذه الأعشاب من قبيل التعاويذ والأحجبه والطقوس ، ولذلك تجاور السحر والطب لفترة طويلة من التاريخ البشرى وبالرغم من أن البشر يعالجون لدى الأطباء وأدويتهم الكيمائية ومشارطهم ، إلا إنهم لا يجدون غضاضة فى أن يعتقدوا بالخرافات والأوهام ، التى يعتقدون إنها السبب الحقيقى فى شفاءهم ومرضهم. التسليم بالضرورة لا ينفى دور الإرادة البشرية والوعى البشرى حين يتحول لقوة مادية ، ويؤثر سواء فى الطبيعة أو المجتمع ، فيوقف تأثير أسباب ما ، ويستدعى تأثير أسباب أخرى ما فنحن نقى أنفسنا من العدوى الميكروبية باللقاحات والأمصال فنوقف تأثير الميكروبات على أجسامنا ، كما نكسو الحديد بمواد غير قابلة للصدأ ، إلا أن هذا متوقف على معرفتنا بسبب الصدأ . والتسليم بضرورته ، والعلاقة بين الحتمية أو الضرورة وبين الحرية الإنسانية قد سبق توضيحها فى تمهيد الكتاب ، فالتسليم بالأولى لا ينفى التسليم بالثانية ، فالحرية والنشاط الإنسانى لتحقيقها متوقف على فهم الضرورة ، فالقوى التى تؤثر فى الطبيعة قوى عمياء وبلا أهداف وبلا وعى بعكس النشاط الإنسانى الواعى والهادف.
إن كل ماحو لنا هو أشياء مادية تترابط فيما بينها فى وحدة واحدة ، وتتبادل التأثير فيما بينها، فتتأثر بغيرها وتؤثر بغيرها ، والمجتمع البشرى هو كائن مادى بدوره يؤثر على ما حوله من أشياء كما ترتبط به هذه الأشياء ، إلا أن ما يميز المجتمع البشرى فى الحقيقة هو الفرق بين تأثيره على ما حوله ، والتأثر بما حوله من أشياء كما ترتبط به هذه الأشياء ، إلا أن ما يميز المجتمع البشرى فى الحقيقة هو الفرق بين تأثيره على ما حوله ، والتأثير المتبادل لباقى الأشياء الأخرى فيما بينها وعلى المجتمع البشرى ، فالأمطار لا تستهدف عند سقوطها على الأرض إرواء النباتات ، وهى لا تستطيع أن تمتنع عن السقوط ، وإن كان من الممكن لأشياء أخرى أن تمنعها من هذا السقوط ، ، ولا النباتات المروية تستطيع الامتناع عن امتصاص الماء وليس لها أى خطط مسبقة للنمو ، وعندما تأكل الحيوانات النباتات بفعل غريزة الجوع العمياء ، فليس لها أى خيار فى أن تأكل وتعيش ، أو تمتنع عن الطعام وتموت .. فهى لا تملك أى أهداف مسبقة لأعمالها التى تسير وفق الضرورة وحسب ، أما الإنسان فبالرغم من كونه حيوان وكائن مادى تحركه الضرورة ومنها غرائزه الطبيعية من جوع وعطش ونعاس وخلافه ، وذلك فى حالة كونه فرداً معزولاً عن المجتمع ، إلا إنه بفضل اجتماعياته أى عضويته فى مجتمع ما ، فانه يتكون لديه وعى فردى خاص به ، وفى نفس الوقت يشارك أفراد المجتمع ويساهم فى إنتاج الوعى الجماعى المشترك ، وقد يساهم فى التأثير الواعى على الطبيعة ، وتغيير ما بها من أشياء حسب خطط مسبقة وأهداف محددة اجتماعيا يحكمه ويحكم مجتمعه فيها ، وعى كامل بما يفعلون ولما يفعلون .. فهو إذ ينشر الأخشاب ويبنى المنازل وينشأ المراكب ويصنع الأسلحة منها ، ومن ثم يفهم طبيعة الأخشاب وينقل ما فهمه عنها للآخرين ، فأنه يكون قبل كل هذا قد وضع تصوراً محدداً لهذه الأشياء قبل أن يصنعها ، وهذا لا يقارن أبداً بصنع الحيوانات أعشاشا و بيوتا من مواد الطبيعة المختلفة ، إذ إنها تفعل كل هذا بحكم الضرورة فحسب أو بمعنى آخر غرا نزها بلا أهداف أو تصورات مسبقة، وبلا أدنى وعى منها بما تفعل ولما تفعل وكل هذا بطريقة آلية وباستمرارية مذهلة ، فهذا هو ما تفعله كل الأجيال المتتالية من العناكب والنحل والنمل بلا أدنى تغيير ، وبدافع من غرائزها ، فهذا هو ما تعلمته فى لحظة ما من التطور ، وأخذت تورثه لتلك الأجيال كما تورثها صفاتها الجسمية سواء بسواء تماما ، وهى بذلك لا تستطيع فهم ما حولها ثم تغييره وبشكل واعى أو هادف ، فهى لا يمكن أن تضع تصورات مسبقة ثم تشرع فى العمل وفقها ، فهى لا تستطيع أن تبدع فيما تعمل أو أن تغير فيما تعمله ..فأن ما يتمتع به الإنسان من خصوصية تميزه ككائن مادى لا يجوز تعميمه على كل ما فى الطبيعة من كائنات ، فإذا كانت أنشطة الإنسان تتميز بالوعى والأهداف ، فأنه لا يجوز إعطاء هذه الصفة لكل ما فى الطبيعة من أشياء وكائنات ، سواء من داخلها أو من خارجها ، ومن ناحية أخرى فأن التسليم بقانونية كل ظواهر الواقع ،لا يعنى التسليم بعدم قدرة الإنسان على فهم الواقع ، ومن ثم تغييره من خلال فهمه لقوانينه .. وانطلاقا من هذا إذن فأنه فى مواجهة الضرورة توجد المصادفات ، والتى هى أحداث غير ثابتة ولا متواترة الحدوث ، وليس لها أى علاقة بجوهر الأشياء والعمليات والظواهر ، فالأحداث العرضية قد تحدث أو قد لا تحدث ، وعندما تحدث قد تحدث فى شكل ما مرة ومرة أخرى بشكل آخر ، كمصادفة نجاتك من الموت من جراء سقوط الحجر من قمة الجبل بجانبك ، وإذا كانت الضرورة كامنة فى طبيعة الأشياء ، فأن المصادفات لا تكمن فى طبيعتها. والضرورة أيضا هى التى تسقط حجر من على قمة الجبل ، حيث انفصل عن الجبل ، وجذبته إلى مركزها الأرض بما تملكه من مجال قوى للجاذبية ، وعملية السقوط هذه ما هى الا تبادل لكمات الجاذبية المسماة بالجرافيتونات ما بين الأرض والحجر ، ولو أنك مررت بسفح الجبل فى نفس لحظة السقوط ، فقد يرتطم الحجر برأسك فيصرعك ، وهذه محض مصادفة، وإن كان من الممكن تحاشيها لو أنك أسرعت أو تباطأت فى المسير ، وقد يكون قد تصادف ارتداءك خوذة فى هذه اللحظة ، فلا يسبب لك الحجر إلا أضرارً بسيطة عند سقوطه على رأسك.
م-والبعض يحاولون أن يشيعوا عجز العلماء حتى الآن على تخليق خليه حية رغم نجاح الإنسان فعليا فى هذا عام 1970 على يد جيمسى وانبيل - أحد علماء جامعه نيويورك .. وذلك ليبرروا أن هناك معجزة ما وراء تكونها مادمنا عرفنا مكوناتها ، وبصرف النظر عن نجاح العلماء فى ذلك من عدمه ، فأن هؤلاء يقعون فى خطأ قاتل هو أنهم يريدون اختصار ملايين السنين ، وتوافر شروط معينة ، تكونت فيها الخلية الحية بمكوناتها المعروفة ، فى أن يصنعوا ما صنعته الطبيعة بمجرد الربط الميكانيكى بين المكونات المعروفة فى حين أن معرفتنا العلمية لم تصل حتى الآن إلى الكثير من أسرار ترابط هذه المكونات لتكون الخلية الحية.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية