غسيل العقول(2)
كتاب تقدم علمى تأخر فكرى
سامح سعيد عبود
سامح سعيد عبود
غسيل العقول(2)
ز- قرأت كثيرا من الكتابات التى تزعم وبناء على الاكتشافات العلمية فى الفيزياء المعاصرة الكثير من المزاعم منها أننا والوجود كله لسنا سوى موجات أو كهارب، ومستندين فى ذلك على إثبات كم هائل من الخرافات من خلال الفهم المتعسف والمبتسر لطبيعة الجسيمات الأولية.
لكى نفهم طبيعة الجسيم الأولى جيداً ، فأننا لابد وان نعرف إن الجسيمات الأولية ليس لها أى محور جيد التحدد ،وذلك على خلاف الأجسام ، التى نستطيع أن نحدد حدودها عمقا وارتفاعا وعرضا ، فليست هناك أى إمكانية لقياس أبعاد الجسيمات ، إذ تقف حجر عثرة فى الطريق إلى ذلك الصفات الموجية التى تبعثر الجسيمات فى الفضاء فأى جسيم أولى ذو صفتان مزدوجتان متناقضتان فى نفس الوقت ، فأى جسيم أولى هو فى الحقيقة ،(جسيم وموجه) فى نفس الوقت ،فما هى هذه الخاصية العجيبة التى تتصادم مع العقل العادى للإنسان ؟ وما هو سرها؟ وهل يمكن أن ما نتوهم إنه المادة ما هى إلا موجات؟ هل يمكن أن تكون هيئتنا المادية الملموسة التى نتواجد عليها قد تكون موجات كهرومغناطيسه أو ضوءاً مكدسان أتخذ هيئة المادة.
هذه هى مشكلة العلم مع البعض من مبسطيه وفلاسفته ، إن المعلومات العلمية تبتذل ، وتنتزع من سياقها ، وتلوى أعناقها ، لترضى رغبات الكتاب وجمهورهم ، وبالتالي يصبح حديثهم لا علاقة له بالعلم الصحيح ، وإنما هى الخرافة وقد رويت برطانة علمية . فأين هى الحقيقة إذن ؟ قد تطورت العلوم الطبيعية والفيزياء المعاصرة على وجه الخصوص إلى درجة عالية من الصعوبة ، بحيث يصعب على العقل العادى للإنسان استيعابها أو تصديقها . ولكن سأحاول تحقيق معادلة صعبه هى التبسيط مع عدم الإخلال على النحو التالي:.
فى الحقيقة إن الجسيمات الأولية تنقسم إلى نوعين أثنين ، أحدهما نستطيع أن نطلق عليه جسيمات المادة أو الكتلة بالمعنى الدارج، وليس بالمعنى الفلسفى ، حيث إن كلا النوعين جسيمات مادية لاشك فى ذلك، ولكلا النوعين من الجسيمات صفات مختلفة من السرعة والكتلة وغيرها من الصفات.
وأن لكلا منها وظيفة تختلف عن الأخرى ، فالأولى تشكل الكتل المختلفة فى الكون ، والثانية الطاقات المختلفة التى تسبب كل ما يحدث فى هذا الكون .. فكيف يحدث هذا ؟ كل جسيم من جسيمات الكتلة من النوع الأول لابد وان يوجد مغموراً كقطعة إسفنج فى الماء بالجسيمات من النوع الثانى ، وهى تشغل حيزاً من المكان داخل وحول الجسيم ، ليكون بذلك مجال تأثير هذا الجسيم على الجسيمات أو الأجسام الأخرى التى تقع داخل هذا الحيز ، فقطعة المغناطيس مثلاً يحيطها مجال غير مرئى لك مكون من هذه الجسيمات ، وهو الذى يسبب جذب المغناطيس قطع الحديد التى تقع داخل هذا المجال.
وفى نفس الوقت فأن هذه الكميات متساوية فى قيمتها مع مستوى الطاقة الموجود به الجسيم من النوع الأول ، والذى لا يكف للحظة عن امتصاص أو قذف هذه الكمات وتبادلها مع الجسيمات الأخرى على الحركة ،ليحافظ على مستوى طاقته أو ليتحرك من مستوى طاقة إلى آخر أو ليتحول إلى جسيم آخر فكل الجسيمات والأجسام لابد وأن تتواجد فى مستويات معينة من الطاقة .
أى أن الطبيعة الموجية للجسيم الأولى ناتجة عن حركته ، وهى لا تنفى طبيعته الجسمية ، كما أن الموجة لا يمكن أن تتواجد إلا بسبب هذه الحركة ذاتها ، ويلاحظ إن هذا ينطبق أيضا على الأجسام والجزيئات والذرات التى تكونها فى النهاية هذه الجسيمات أى إننا باستخدام ازدواجية (الجسيم/ الموجه) يمكن توصيف كل شىء فى الكون بما فى ذلك الضوء والجاذبية والكهربية والمغناطيسية.
فمعرفتنا بهذه الجسيمات وطبيعتها تفسر كل الظواهر من حولنا ، والحقيقة إن هذه الجسيمات لا تشكل أى جوهر ما بدء منه الوجود ، وبالتالى فهى لا تتصف لا بالأزلية ولا بالأبد يه ، وإنها يمكن أن تنقسم إلى جسيمات أبسط فطبيعة هذه الجسيمات هى التغير والتحول والتحرك والتركب والتحلل فيما لانهاية له من أشكال تختلف فى خواصها وهكذا فنحن نعرف إن الجسيمات التى كان يظن إنها أولية منذ عشرين سنه مضت هى فى الحقيقة تتألف من جسيمات أصغر . أيمكن أن نكتشف - لو ذهبنا إلى الطاقات الأعلى أن هذه الجسيمات هى بدورها تتألف أيضا من جسيمات أصغر ؟ من المؤكد إن هذا الأمر فى الإمكان ، إذن فالحقيقة إن ما حطمته الفيزياء المعاصرة هى فكرة الجوهر الأولى والثابت والنهائى والمطلق والذى لا ينقسم ولا يتحول والذى يتكون من تراكمه أو تجميعه العالم من حولنا .. فالحقيقة هى أن الوجود بكل مظاهره ما هو إلا عمليات لا نهائية تجرى بين كائنات مادية لانهائية.
فالنيوترونات والبروتونات كجسيمات أولية معقدة ، ما هى إلا مظاهر لعمليه تبادل بين الجلونات ، وهى نوع من أنواع كمات الطاقة ، بين كواركات معينة، وهى جسيمات أبسط تتركب منها النيوترونات والبروتونات، ولو توقفت عملية التبادل هذه ، لأنتهى وجود هذه الكائنات المادية ، أى انتهت هذه المظاهر التى تميزها مخلفة وراءها مظاهر أخرى لعمليات أخرى بين كائنات مادية أخرى وهكذا.فكل ما فى الكون هو جزء من لعبة تنس أو مكون من أطراف تلعب التنس،فالأشياء توجد بتبادل مكوناتها لكمات الطاقة كما يتبادل اللاعبون الكرة مكونين عملية واحدة هى المباراة التى تنتهى بمجرد إقلاعهم عن تبادل الكرة.
فكل ظاهرة من ظواهر العالم نستطيع رصدها هى فى حقيقتها مجرد عملية محدودة فى المكان مهما بلغت ضخامة الحيز الذى تشغله أو مهما بلغت ضئالته .. أما الجوهر الحقيقى والوحيد الذى يميز كل الكائنات المادية ويوحدها أو بمعنى أقرب للدقة العلمية ما يميز تلك العمليات فهو قدرتنا على الإحساس بمظاهرها المختلفة ، نتيجة تأثيرها على حواسنا، وذلك كونها عمليات واقعية بين كائنات مادية مستقلة عن وعينا بها أو أفكارنا حولها ، ففكرة الجوهر القديمة فكرة غير علمية ولا واقعية ، فنحن لا يمكن لنا رصد هذا الجوهر من خلال التجربة وبمعنى آخر أن نحدده فى شىء ما يكون هو اللبنة الأولى الثابتة والمطلقة التى كونت العالم.
معنى ذلك أن هذا المفهوم الشكلى للجوهر يحل محله مفهوم علمى آخر ، يحدد طبيعته فيما يميز كل الكائنات المادية اللانهائية بلا استثناء .. فجوهر كل كائن مادى يفصح عن نفسه من خلال مظاهره ، والتى نعرفها من خلال حواسنا وامتدادها من أجهزة علمية ، فنحن نتعرف على حقيقة الجسيم الأولى من خلال خواصه ، التى هى مظاهره المختلفة. فنحن فى الحقيقة لا يمكن أن نلاحظ سوى مظاهر تتحرك وتتغير مع الزمن ، مهما طال زمن استقرارها النسبى ، فما هى إلا مظاهر لعمليات مادية لانهائية ومتوالية - بلا بداية أو نهاية- تتواجد من خلالها الأشياء وتتلاشى بلا انقطاع ومن هنا ففكرة الجوهر الأساس ، والعنصر الأولى للطبيعة ، تصبح وهما لا يجوز التعويل عليه ، وإن كان علينا أن نقرر بأن الطبيعة من حولنا تتطور من عناصر أبسط إلى عناصر أعقد.
قد توصل علم الفيزياء على هذا الأساس إلى استنتاج عجيب ولا مفر منه ، هو أن تركيب الجسيمات الدقيقة هو انعكاس لجميع تبادلات الفعل بين الجسيمات .. ويتبين من ذلك أن جوهر الجسيم الأولى متحرك جداً وسهل التغير إلا أن هذا الاستنتاج لا يبدو لنا غريبا إذا ما عرفنا بأن هذه الجسيمات لا تتواجد بدون تبادل الفعل .. ولا يتم تبادل الفعل بواسطة تأثير خارجى ما .. بل هو جزء متمم وطبيعى لتركيب الجسيمات نفسها .. نعم لأن تركيب الجسيم فى أى لحظة إنما يتحدد بصورة فعلية بكل أشكال تبادل الفعل الموجودة فيه ، وبالعكس فأن طبيعة أشكال تبادل الفعل الموجودة فيه تتحدد بتركيب الجسيم ، فهذا هو الترابط بين الكتلة والمجال ، والصفات الحقيقية للجسيمات وتبادلات الفعل فيها ، والعمومية غير القابلة للتجزئة للجسيم الدقيق والكون بأجمعه فالمادة واقعية وعامة ، بمعنى إمكانية إحساسنا بها مهما اختلفت أنماطها ، وأن الطبيعة الواحدة للمادة أو للعالم هى التى تفسر لنا كيف تتحول أشكالها المختلفة من شكل لآخر ، أو العكس ،" وكيف أن كمات الطاقة أو المجال أو جسيمات حمل القوى تتصف بصفات جسيمات المادة من وزن وأبعاد وكيف أن جسيمات المادة تتصف بصفات كمات الطاقة ، وكيف أن الاثنين لا يمكن أن ينفصلا عن بعضهما البعض ، أو أن يوجد أى منهما بشكل منفرد بعيد عن الآخر .. وهل يمكن قياس أبعاد الإلكترون العارى ، الخالى من السحب الفوتونيه والإلكترونية - البوزيترونيه بدقة ؟ كلا فهذا شىء مستحيل . إذ لا يمكن العثور فى الطبيعة أبداً على الإلكترون "العارى" أى المتحرر من تبادل الفعل ولا يمكن وجوده فى أية ظروف . إن الجسيم نفسه وتبادل فعله يكونان وحدة لا تنفصم11.
فالطبيعة المتعددة الأوجه للمادة تتجلى عندما نعرف إلى أى مدى تتوقف جميع خواص المادة ، ومظاهرها المختلفة على بعضها البعض فى وحدة لا تنفصم ، تأكيداً على جوهرها المادى الواحد .. ذلك الجوهر الذى تنبع منه كل هذه المظاهر من كتلية وموجية وطاقية ومجالية .
ر- كما يتحدث ويكتب مبسطو العلم وبعض فلاسفته عن لا سببية كل ما يحدث فى الكون وفقا لمبدأ عدم اليقين .
وقد أشرت فيما سبق إلى مبدأ عدم اليقين وهو يعرف أيضا بعدم التعين أو عدم التحديد ، وهو أكثر إبداعات العلم المعاصر إثارة للجدل ، والخلاف الفلسفى ، حيث أصبح ركيزة أساسية ، يستنتج منها البعض تعسفا إنكار السببية فى الكون ، بناء على تعميم هذا المبدأ الأساسى فى ميكانيكا الكم ، وهى النظرية المعتمدة حتى الآن فى فهم وتفسير الجسيمات الأولية ، على كافة أشكال الوجود .. وهم من خلال هذا التعميم المتهافت يحاولون ضرب الأسس الفلسفية القائمة على العلم ، والتى تعتبر أن العلم هو السبيل الوحيد لفهم حقيقى للوقع ولما كانت السببية هى أساس العلم فان ضربها ضرب للعلم ومنهجه - يكتب هانز رشينباخ (فعلى الرغم من إننا نعجز فى كثير من الأحيان عن الاهتداء إلى سبب لحادث ملاحظ . فأننا لا نفترض إنه حدث بلا سبب ، وإنما نقتنع بأننا سنهتدى إلى السبب لو أننا مضينا فى البحث عنه - هذا الاقتناع يتحكم فى منهج البحث العلمى ، وهو القوة الدافعة لكل تجربة علمية ، إذا أننا لو لم نكن نؤمن بالعلية ، لما كان هناك علم .)12
وهم يستندون إليه فى خلط مغرض بين فهم صحيح للسببية يضع بجانب الحتمية الاحتمال ، وبين فهم غير صحيح يضعهما كمتناقضين لا يجتمعان ، فإما حتمية ميكانيكية أو فوضوية بلا معنى. (وفى إطار الحديث عن انهيار السببية والاطراد تلوح مشكلة شهيرة فى فلسفة العلم ، جديرة بالذكر ، وهى مشكلة انهيار الحتمية . والحتمية هى المذهب الذى يرى أن كل ما يقع فى الكون من أحداث نتيجة حتمية للأحداث التى سبقتها ومقدمة ضرورية للأحداث التى ستلحقها ، ولا استثناء . فهذا الكون نظام مغلق صارم يؤذن حاضره بمستقبله . وتخضع سائر أجزائه لقوانين صارمة يكتشفها العلم ، إنها تتحدث عن كون مثالى لممارسة التعميمات الاستقرائية.)13
وهكذا فإننا والحال هذه لابد وأن نتحفظ فى الأخذ بهذا المبدأ المكتشف فى الجسيمات الأولية ، حيث لا يعنى كونه مبدأ هاما اليوم ، إنه لا يمكن التخلى عنه أبداً ، فهناك الكثيرين من علماء اليوم مقتنعين إن هذه الصورة المشوهة لميكانيكا الكم الحديث مشكوك فيها ، وإن هناك إمكانية دائما لإصلاحها ، من خلال تحسين قدراتنا فى البحث والقياس ، على سبيل المثال فأن أينشتين مثلاً كان يرفض بحدة هذا المبدأ بما يعنيه من إمكانية قيام العالم على اللاسببية14).
والموضوع هنا يطرح بعداً حقيقيا ، هو الخلاف بين العلم وفلسفته ، حيث تعمم الفلسفة مالا يجوز تعميمه (والواقع إن الفلسفة ظلت على الدوام تتعرض لخطر الخلط بين المنطق والشعر ، وبين التفسير العقلى والخيال ، وبين العمومية والتشبيه)15
والحقيقة إن أساس مبدأ عدم اليقين محدود المجال للغاية فى ميكانيكا الكم ، إلا إنه مضخم فيه للغاية لأسباب فكريه رجعيه فرفض السببية فى الطبيعة ،يؤدى بالضرورة لرفضها فى المجتمع ، وبالتالى تصبح إمكانية فهم العالم من أجل تغييره مستحيلة ، وبالتالى يصبح القضاء على الظلم الاجتماعى والقهر والاستغلال أمل مستحيل التحقق ، فحيث لن يمكننا معرفة أسباب كل هذه المظاهر الاجتماعية التى تثير الاستياء ، فسيركن المظلومون والمقهورون ، لليأس أو الهروب لعالم الأوهام الغيبية ، ولهذا فأن فلاسفة البورجوازية يستندون على هذا المبدأ فى الترويج لأفكار اللاسببية واللاحتمية سواء فى الطبيعة أو فى المجتمع ، ليضمنوا سلبية القوى الثورية فى المجتمع الساعية لتغييره ، وحتى يحافظون على استمرارية النظام الاجتماعى المعبر عن مصالح الطبقة التى يعبرون عنها. أما عن مضمون هذا المبدأ ، فهو إنه لا يمكن قط أن يتأكد المرء بالضبط من كل من موقع الجسيم فائق الصغر فائق السرعة فى نفس الوقت بنفس القدر من الدقة ، فكلما عرف بعد منها بدقة أكبر ، قلت دقة ما يستطيع المرء أن يعرفه عن الأخرى ، والسبب الذاتى وراء إقرار هذا المبدأ ، هو إننا إذا أردنا التنبؤ بموضع جسيم وسرعته فى المستقبل ، يكون علينا التمكن من قياس موضعه وسرعته الحاليين بدقة ، والطريقة المتاحة لدينا عند القياس هى تسليط (جسيم/موجه) من الضوء ذات طول معين يتناسب طولها مع حجم الجسيم المراد قياسه ولما كان الضوء هو كم من الطاقة ، إذا سلط على جسيم سيمتصه الجسيم ، ويكتسب بالتالى كم من الطاقة ، وبسبب ذلك سيغير إما سرعته أو موضعه ..ومن ثم فإننا لن نتمكن من معرفة أحدهما بدقة.
فالعيب إذن ليس فى طبيعة الجسيم ، ولكن فى الطريقة المتاحة لدينا حتى الآن لقياس أبعاده ، وعلى ما يبدو فإن مبدأ عدم اليقين سيظل يلقى بظلاله الكثيفة على الفيزياء المعاصرة وفلسفة العلم ، مسببا أزمتهما ، إلا إذا اكتشفنا طريقة أخرى للقياس تقلل من عدم الدقة ، إلا إننا حتى نصل إلى هذه الدقة ،يوالى العلم قياس أبعاد كل جسيم بشكل عام وبكل دقة ، كل بعد على حدة.
فهناك إذن عدة احتمالات لاتجاهات حركة (الجسيم /الموجة) بالغ الكبر فى سرعته ،بالغ الصغر فى كتلته ، وحجمه وزمن بقاءه غالبا ، والعابر لمسافات هائلة بالنسبة لحجمه ، وهو ما يصعب تخيله ، ومن هنا يصعب تحديد مسارات حركته إلا فى شكل احتمالات ، وذلك لأسباب ذاتية خاصة بنا ، هى قدرتنا على القياس والرصد ، التى ربما ستزداد دقة من خلال وسائل أدق فى المستقبل.
وهناك أيضا عدة أسباب موضوعية خاصة بالتعددية فى مظاهر الجسيم الواحد ، المعقدة والمركبة ، والتى يصعب تخيلها على الحس العادى للأمور ، وتلك الطبيعة تتدخل بلا شك ، وتؤثر فى نتائج رصدنا للجسيم فى حالته الفردية بعكس الأجسام التى تؤثر طبيعتها المتعددة الجوانب فى نتائج قياسنا لأبعادها فى حدود سرعات تحركها البطيئة ، فأى جسم لن تؤثر فى قياس كتلته كميات الطاقة الممتصة منه نتيجة حركته أو المكتسبة لديه نتيجة تأثره بمجال جسم آخر ، وهنا يكفى فقط فهم قوانين نيوتن ، أما الأجسام المتحركة بسرعات كبيرة للغاية فلا يمكن فهمها وقياس أبعادها إلا فى ضوء قوانين النسبية ، والتى أكدت نسبية معظم مفاهيمنا عن الكتلة والسرعة والزمان والمكان والأبعاد . وسائر أبعاد الجسم الأخرى ، والتى فيها تترابط كل هذه المفاهيم بعلاقات متبادلة ، حيث مع ازدياد السرعة تزداد الكتلة .
يتدخل كذلك الطابع الموجى الملحوظ بشده فى قياس أبعاد الجسيمات الأولية بعكس الأجسام التى يكون طابعها الموجى غير ملحوظ عند قياس أبعادها ،كما تتدخل التحولات السريعة للغاية للجسيمات من نوع لآخر ، والتحركات السريعة جداً من مكان لآخر ، بعكس الثبات النسبى للأجسام سواء فى التحول أو الحركة ، وأخيراً فأن طابع حركة هذه الجسيمات صعب التخيل فى معظم الأحوال على الذهن العادى ، الذى أعتاد على ملاحظة الأجسام البطيئة جداً والمحدودة الحجم ، وهو ما تعود على فهمه عبر خبراته الطويلة.
كل هذا يجعل دراسة اتجاه أى جسيم وسرعته ، يأخذ عدة إجابات محتملة ، ولكى فى نفس الوقت يمكن معرفتها كاملة من خلال العلم الدقيق والمؤكد بالقوانين التى تحكم تحولات الجسيم المختلفة عند التأثيرات المختلفة عليه .. وفى نفس الوقت يجب التنويه عن أن قوانين حركة مجموعة من الجسيمات المتشابهة فى حزمة واحدة ، لا تعرف أى احتمالية على الإطلاق بل تعرف الحتمية الصارمة ، فكل الموجات الكهرومغناطيسية، ومنها الضوء المرئى والتيارات والمجالات الكهربية برغم من تكونها من حركة سيول من هذه الجسيمات ذات الاحتمالات المتعددة فى اتجاهاتها وسرعتها ، وذلك فى حالتها الفردية الحرة ، فأننا نلاحظ إنها فى حالة تكوينها الجماعى لهذه الموجات والمجالات والتيارات تخضع لحتمية صارمة ، واتجاهات واضحة نعرف أسبابها ، وبالتالى التحكم فيها والاستفادة منها فى منتهى الدقة طالما كانت فى حزمات مشتركة .. فمن المعروف إن منجزات العلم والتكنولوجيا خلال المائة عام السابقة ، تقوم كلها على أساس التحكم فيها والاستفادة منها.
ولاشك إننا توصلنا إلى القوانين التى تحكم هذه الجسيمات حتى فى حالتها الفردية ، فلو عرفنا زاوية اصطدام الإلكترون وضديده وسرعة حركتهما ، نستطيع أن نحدد سلفا اتجاه حركه الفوتونين الناشئين عن هذا الاصطدام ، فلو لم تكن هناك سببية تحكم هذه الجسيمات لما استطعنا هذا التحديد ، ولأنتجا فى كل مرة أنواعا أخرى من الجسيمات أو يتلاشيا أو يظلا على حالهما ، وهذا ما لا يحدث مطلقا.
إن أحد الأسباب الموضوعية لمبدأ عدم اليقين عند دراسة الجسيمات منفردة ، هو طابعها الموجى .. فنحن نعلم من خلال ظاهرة التداخل بين الموجات ، وهى ظاهرة تنشأ عن اندماج موجتين أو مجموعتين من الموجات المتساوية الطول .. فيكون التداخل بناءاً إذا التقت قمة إحدى الموجتين مع قمة موجة أخرى فيقل تأثيرها ، أى أن الموجات تضاف إلى بعضها البعض ، ويكون التداخل هداما بالتقاء قمة أحد الموجتين مع قاع موجة أخرى ، فيضعف تأثيرها أو ينعدم ، أى أن الموجتين تلاشيا بعضهم البعض .. وبالطبع فأننا إذا كنا ندرس اتجاهات الجسيم وموضعه من خلال طبيعته الموجية ، فأن التقاء الموجة التى تحدثها حركته بموجة جسيم آخر مادية لها فى الطول التقاء بناءاً فإن ذلك سيضاعف من شدتها ، وعند التقاءهما التقاء هداما فأن ذلك سيضعف تأثيرهما أو يعدمه ، إذ يلاشى الجسيمات بعضها البعض ، وبالتالى سيكون لدينا احتمالين على الأقل لحركة هذا الجسيم ، بفرض وجوده هو والجسيم الآخر فحسب.
وظاهرة التداخل بين الجسيمات كانت حاسمة فى فهمنا لتركيب الذرات ، وهى الوحدات الأساسية للكيمياء والبيولوجيا وهى وحدات البناء التى صنعنا منها ونحن وكل شىء حولنا
وبتصور الإلكترون على إنه موجة يعتمد طولها على سرعتها ، فقد تم تحديد المدارات المتاحة فى الذرة لدورات الإلكترونات حول النواة،(وبهذه الأفكار فى شكل رياض متين. أمكن بصوره مباشرة نسبيا حساب المدارات المتاحة فى الذرات الأكثر تعقداً . وحتى فى الجزيئات التى تتكون منها الذرات التى تمسكها معا الإلكترونات التى تدور فى مدارات حول أكثر من نواة واحدة . ولما كانت بنية الجزيئات وتفاعلاتها إحداها مع الأخرى هى فى أساس كل الكيمياء والبيولوجيا. فإن ميكانيكا الكم تتيح لنا من حيث المبدأ أن نتنبأ تقريبا بكل شىء نراه حولنا . فى الحدود التى يفرضها مبدأ عدم اليقين
أما عن هذه الحدود فيكتب كارناب فى الأسس الفلسفية للفيزياء.
(وفى فيزياء العصر الحالى ، وعلى الرغم من أن لميكانيكا الكم بنية سببية . إلا أن معظم الفيزيائين وفلاسفة العلم . يرفضون وصفها بالحتمية ذلك لأنها كما يقولون . أضعف من بنية الفيزياء الكلاسيكية لاشتمالها على قوانين أساسية فى جوهرها احتمالية)16
( ويواصل ولحسن الحظ فإن مدى اللاحتمية فى نظرية الكم ضئيل للغاية ، وإذا كان أكبر من ذلك لكان من المحتمل أن تنفجر منضدة على حين غرة أو أن يتحرك الحجر تلقائيا عند سقوطه ، ويصعد أفقيا سابحا فى الفضاء)17
فمبدأ عدم اليقين إذن لا يعنى الطابع اللامسبب واللامحتم لعالمنا ، كما يبشر بعض الفلاسفة والعلماء ، فبرغم من أن العالم يموج بما لانهاية له من هذه الجسيمات التى تملئه بشكل كامل ، وينتظم الكثير منها فى ذرات تكون أشكال أرقى فى هذا الوجود وهى خاضعة فى ذلك لقوانين صارمة . برغم من أنها متعددة الجوانب والمظاهر ، وتتنوع احتمالات اتجاهاتها كل على حدة.. إلا أن هذا لا ينفى توصل العلم الحديث إلى الكثير مما يتعلق بهذه الجسيمات من حقائق وقوانين صارمة هى أيضا بدورها حتمية ، وأن من نتيجة معرفتنا المؤكدة بمعظم حقائق هذا العالم ، الاستفادة العملية فى شتى فروع العلوم الطبيعية والتكنولوجية .. ففى الإلكترونيات والآلات الحاسبة والمفكرة ، والليزر والميزر ، وفى مجالات العلاج والدواء والكيمياء الصناعية والزراعة والهندسة الوراثية ودراسة المخ والأعصاب ، والاتصالات والتحكم من بعد ومن قرب ، والجيولوجيا ، وشتى وسائل البحث العلمى .. الخ الخ، فما كان يمكن أن تنشا هذه العلوم ، أو أن تتطور تطبيقاتها العملية بدون المعرفة الدقيقة للجسيمات الأولية وخصائصها وقوانينها ، وما كان يمكننا استخدام هذه الجسيمات ، ما لم تكن مسببة الفعل والحركة تحكمها ضرورة لا فكاك منها ، وما كان يمكن لنا تفسير العدد الهائل من الظواهر المحيطة بنا ، والتى نلاحظها مباشرة بحواسنا المجردة ، كالألوان والضوء والمغناطيسية ، ما لم تكن هذه الجسيمات التى تسبب هذه الظواهر مسببة الفعل ، وبلا شك إن استمرار زيادة هذه المعرفة ، سيمكننا من معرفة الظواهر المحيطة بنا الأكثر غموضا.
ففى الحقيقة إذا كانت اللاسببية هى قاعدة هذا العالم لانهار عالمنا كله على الفور ، وفى أى لحظة ، بل و فى الحقيقة ما كان له أن يكون ، وكيف له أن يكون مادامت عناصر بناءه الأساسية ، تسير وفق هواها لا وفق الضرورة التى تحكمها ، ومادام الأمر كذلك ، فما كان للإلكترونات أن ترتبط بأنوية الذرات ، ومعنى هذا ببساطة عدم حتمية ارتباط ذرات العناصر لتكون الجزيئات ، ومعناه عدم حتمية أى تفاعل كيمائى .. تلك التفاعلات التى تتم بتواتر حتمى يعبر عنه بمعادلات معروفة، ولهذه التفاعلات أسبابها المعروفة ، والتى تفرضها الضرورة المفهومة.. فلو كانت المسألة كما يتصورون فلابد إننا سنلاحظ انهيارات مفاجئة غير مفهومة تحدث للأجسام من حولنا ، لأن الأشباح الموجودة داخل الذرات والكامنة وراء وجودها وتكونها ، قد أغوت الإلكترونات ، أن تنهى ارتباطاتها بالذرات الأخرى .. ولأن تنافر الشحنات المتماثلة وتجاذب الشحنات المختلفة ليس سببا تفرضه الضرورة ، فأن على الإلكترونات سالبة الشحنة أن تتجاذب بعدما طول خصام ، وأن تتخلص من ارتباطاتها بالنواة موجبة الشحنة بعدما طول تبعية ، وما إن يحدث هذا حتى تتفكك الذرات والجزيئات التى تكون عالمنا بأسره ... وبالطبع إن هذا وارد إذا كانت هذه الجسيمات لا تخضع للسببية، وإنها جسيمات عاقلة ، بالغة الرشد ، حرة التصرف ، غير ملتزمة بأسباب ولا محكومة بضرورة ، ولا يعنيها قانون، وبالتالى فأننا سنحتاج لوسائل أخرى للتحكم فيها لاسترضائها ، حتى يبقى الوجود ونحن منه، مثل الطلاسم السحرية أو ذبح القرابين أو غير ذلك من وسائل .. إلا إنه لسوء حظ السحرة والدجالين فأن هذه الجسيمات مسببة الفعل تحكمها الضرورة ، وتحترم كل القوانين بما فيها مبدأ عدم اليقين نفسه .. وإن كل اتجاهاتها المحتملة نستطيع معرفتها وإننا نتحكم فى هذه الجسيمات بوسائل علمية مادية غاية فى الدقة تستخدم تأثيرات مادية مسببة وحتمية.. نخلص من هذا إن الجسيمات الأولية خاضعة لسببية الفعل المعقدة ، إلا إنها تتجلى كحالة خاصة تفرضها الطبيعة الخاصة لهذه الجسيمات ، والتى سبق الإشارة إليها ، وإن عجزنا حتى الآن على صياغة نظرية عملية دقيقة مرضى عنها ،لا يعنى سوى أننا مازلنا نطرق أبوابها ، ونحاول فهمها بدقه أكثر إلا إنها موجودة تحكمها قوانينها الخاصة التى لا نعرف إلا بعضها، وتتحكم فيها الضرورة ، بصرف النظر عن معرفتنا بها ، ولاشك إننا لا نعلمها كاملة دقيقة ، بالرغم من إننا ما كنا بقادرين على الاستفادة منها فى الحياة العملية ، إلا إذا كنا قد توصلنا لقدر كاف منها ، وإلا إذا كانت خاضعة لسببية صارمة مفهومة لدينا شأنها شأن العالم الذى تكونه.
فهناك فرق دائما بين القدرة على التنبؤ الواضح عن سلوك موضوع ما، وبين مبدأ السببية والذى يعنى أن كل ما يحدث فى الطبيعة من عمليات وأحداث وظواهر ، وما يتواجد فيها من أشياء وكائنات ، له أسباب فى طبيعة المادة نفسها .. فى طبيعة الأشياء نفسها التى تحدث بينها عمليات متبادلة لتكون أشياء أخرى وهكذا .. فاكتساب الإلكترون لكم من الطاقة يعنى أن الإلكترون أصبح له كمية من الطاقة لا تتناسب مع مستوى الطاقة الموجود بها، مما يجعله يتحرك لمستوى طاقة آخر مناسب لكمية طاقته الجديدة ، أما إذا كان من الإلكترونات ذات مستوى الطاقة الأخير فى الذرة ، فإن اكتسابه لكم الطاقة يحوله لإلكترون حرا، فيشارك فى تفاعل ما مع إلكترونات ذرة أخرى أو أى شىء آخر.فمضمون مبدأ السببية هو أن السبب أساس كل ظاهرة ، وإنه كامن فى طبيعتها ، وأن هناك اعتماد متبادل بين السبب والنتيجة ، إلا أن علينا أن نفهم مبدأ السببية لا على أن هناك سبب أول أدى لمجموعة من الأسباب أدت بدورها لمجموعه أخرى أوسع من الأسباب وهكذا ، فهذا فهم شكلى للسببية ذو طابع تعسفى ، وهو مرتبط بمفهوم آخر شكلى هو مفهوم الجوهر الأول السابق ذكره ، أما الفهم الصحيح فهو أن المادة تتجلى دائما فيما لا نهاية له من كائنات مادية متنوعة تكمن فى طبيعتها ضرورات مختلفة وخصائص متنوعة ، وتؤثر فى بعضها البعض مسببة ما لانهاية له من نتائج تحكمها فى النهاية الضرورة الكامنة فى الأشياء ، وهى بذلك تؤثر فى غيرها وتتأثر بغيرها فتكون سببا ونتيجة فى نفس الوقت ، وهذا المفهوم يرتبط بالمفهوم الصحيح عن جوهر الأشياء ، باعتباره عملية مادية بين أشياء أخرى، ولا تؤثر فى سلوك الكائن المادى الأسباب الخارجية فقط ، وإنما تؤثر فيه بدرجة أكثر أهمية الأسباب الداخلية ، فطبيعة البروتون أوالنيوترون مثلاً تتحدد بعدد وأنواع الكواركات ، وكيفية ترتيبها داخل كل منهم ، كما أن طبيعة النواة من حيث كونها مستقرة أم مشعة تتحدد بالفرق بين عدد بروتوناتها ونيوتروناتها .. وما يجب أن نعرفه أيضا هو أن هناك أسبابا متعدده تشكل أساس نفس السبب فوراء كل سبب تأثيرات مشتركة لأسباب متعددة ، وأن النتيجة نفسها لن تحدث إلا بتأثير عدة أسباب متضافرة ،بعضها أساس وكافى وبعضها ثانوى ومكمل .. فطبيعة الجسيم الأولى الفيزيقية ، لا تتوقف فحسب على سبب واحد ، وإنما تتوقف على مجموعة خواص داخلية كاللف والكتلة والشحنة ، وأيضا تتوقف على علاقته بالجسيمات الأخرى ، فالجسيم الحر غير المرتبط ببنية أعقد كالذرة يختلف عن الجسيم المرتبط بتلك البنية .. وإذا كان الفوتون المكتسب سببا فى تحرك الإلكترون بعيداً ، فأن حركة الفوتون هذه فى اتجاه الإلكترون قد يكون لها عده أسباب مختلفة أو مشتركة .. فقد يكون قد أنطلق من إلكترون آخر ، أو من نشاط إشعاعى لنواة عنصر مشع ، وقد يكون ناتج من إشعاع حرارى أو ضوئى أو نووى ما وقد انطلق بلا هدف ، حتى أصطدم بالإلكترون الذى أمتصه فتحرك ، وهناك دائما أسبابا أساسية وأسبابا غير أساسية ، فحركه الإلكترون لا تعتمد فحسب على كم الفوتون المكتسب أو المفقود بل تعتمد كذلك على بعد مستوى طاقة الإلكترون الممتص لهذا الفوتون أو قربه من النواة .. وطاقة الترابط بين الإلكترونات والنواة ، وقدرتها على تقييد حركة الإلكترون بالذرة ، وكل هذه الأسباب غير أساسية فى حين أن السبب الأساسى هو اكتساب أو فقد الإلكترون للفوتون.
وإذا كان المغناطيس ينتج أساسا عن طريقة انتظام معين للإلكترونات داخل قطعة المغناطيس فى اتجاه واحد ، وهو السبب الداخلى والأساسى فعلاً لظاهرة المغنطة إلا أن هناك أسبابا خارجية وراء هذه الظاهرة كمرور التيار الكهربى حول قطعة الحديد غير الممغنطة .. فيسبب التيار الكهربى وما يحدثه من مجال كهربى فى عكس اتجاهه ، الانتظام المعين لإلكترونات ذرات قطعه الحديد الذى مر حولها التيار فى اتجاه واحد .. إلا أن هذا الانتظام ينتهى بمجرد انقطاع التيار وهذا هو ما يعرف بالمغناطيس الصناعى .. ونلاحظ أن نفس الشىء يحدث عندما نمغنط قطعة حديد بامرار مغناطيس عليها فى اتجاه واحد عدة مرات ، مما يعدل فى اتجاهات الإلكترونات ، وينظمها فى اتجاه واحد .. إلا أن قطعة الحديد الممغنطة تفقد مغنطتها عند طرقها عدة مرات .. وسبب النشاط الإشعاعى كامن فى طبيعة الجسيمات الأولية ، وتكويناتها المختلفة ، وما يحدث بها من عمليات إلا إنه باعتباره نتيجة يمكن أن يتحول لسبب يكون من نتيجة تأثيره ، نتائج أخرى ، فهذه الإشعاعات المنطلقة طبيعيا أو صناعيا بفعل الإنسان قد تؤثر تأثيرات ضارة أو نافعة على أجسام الحيوانات والنباتات ، فهى تسبب السرطان وتشفى من السرطان.
هذا عن السببية أما عن القدرة على التنبؤ بسلوك موضوع ما ، فهو نتيجة معرفتنا بارتباط السبب بالمسبب أو النتيجة فإذا كنا لا نعرف هذه الرابطة فأننا سنعجز عن التنبؤ الدقيق ، أما فى حالة المعرفة الدقيقة للسبب وعلاقاته بالمسبب فأننا سنستطيع التنبؤ الدقيق ، وذلك عندما نعرف بدقة حالة موضوع البحث ، وطبيعة علاقاته بعناصر الطبيعة من حوله، وما تحتويه من كائنات تتأثر وتؤثر فيه ، والأسباب المتعددة والمتنوعة من أساسية وثانوية ، وداخلية وخارجية، ومدى كفايتها ، وهل هى أسباب منشطة أم محبطة ، ضرورية أم غير ضرورية ، ثم أخيراً محصلة هذه الأسباب المراد معرفة نتيجة تأثيرها المشترك ، وكيف تتفاعل مع بعضها لتحدث النتيجة المتوقعة ، وذلك أيضا يتوقف على معرفة حصيلة كل سبب على حدة فى التأثير على الموضوع المراد بحثه ، ولما كانت ميكانيكا الكم نظرية غير مكتملة حتى الآن ، فأنها لا تستطيع إخبارنا بكل حقائق الجسيمات الأولية ، مما يجعلنا عاجزين أحيانا على التنبؤ الدقيق باحتمالات حركة كل جسيم على حدة إلا بصعوبة بالغة ، ولذلك فان السببية تعبر عن نفسها فى عالم الجسيمات الأولية فى شكل احتمال.
ما أقرب هذا لرميك قطعة النرد ذات الستة وجوه .. إن يدك قد حركتها فى فراغ قبضتك ، فمنحتها قوة دفع معينة ، تعتمد على حالتك العصبية والنفسية والصحية ، وجذبتها الأرض بأقوى مما جذبتها هى ، فسقطت عليها . سقوطها إذن حدث يقينى يمكنا التنبؤ به بكل ثقة ، ما لم تصادف عائق مفاجئ يحول بينها وبين الأرض ، إلا إنك لا يمكن أن تعرف على وجه اليقين على أى الوجوه ستسقط .. إلا إن احتمال سقوطها على أحد الوجوه ، واحد من ست احتمالات يقينية لا أكثر أو أقل .. وذلك بالرغم من أن هناك أسبابا مادية لسقوطها على الأرض ، وأن هناك أسبابا مادية أخرى لسقوطها على أحد وجوهها الستة منها وضعها أثناء القذف ، أى زاوية سقوطها ،وما اكتسبته من كمية حركة ، والمسافة بينهما وبين الأرض ، أو المسافة بين اليد و نقطة السقوط واتجاه الحركة .. صحيح إن سقوطها حتمى ومسبب كسقوطها على أحد الوجوه بالتحديد ، إلا أن حتميته ذات طابع احتمالى .. فأنت لا تستطيع التنبؤ الدقيق إلا فى حالة تقدير محصلة كل الأسباب الكامنة وراء كل الاحتمالات ، وهو ما سيصعب عليك جداً فى حالة رمى قطعة نرد، فما بالك بالجسيمات الأولية. وما بالنا أيضا بالتغيرات الاجتماعية والإنسانية التى تتداخل فى التأثير عليها العديد من الأسباب المتشابكة والمتفاعلة على نحو معقد يزيد من طابعها الاحتمالى.
(فحتمية لابلاس كانت منقوصة من وجهين فهى لم تبين لنا كيف ينبغى اختيار القوانين، ولم تحدد الشكل الابتدائى للكون ، ونحن نعرف الآن أن أمال لابلاس فى الحتمية لا يمكن تحقيقها على الأقل بالشروط التى كانت فى ذهنه .. فمبدأ عدم اليقين فى ميكانيكا الكم يدل على أن ثنائيات معينة من الكميات مثل موضوع وسرعة الجسيم لا يمكن التنبؤ بها معا بدقة كاملة ،ولتناقض الموجات مع أفكارنا المسبقة عن المواضع والسرعات وعدم التوافق الناجم هو سبب ما يظهر من عدم إمكان التنبؤ)19
إن مشكلة عدم اليقين نابعة من الفهم الشكلى لطبيعة الجسيمات الأولية التى يراد لها أن تقولب فى قوالب معينة اعتدنا عليها، وهو فهم يرفض طابعها المعقد والمتعدد الجوانب بعيداً عن الفهم الصحيح الذى لا يرى هذه الجسيمات إلا فى ترابطها وحركتها وجوانبها المتعددة ، ومن هنا يقبل الحتمية بجوار الاحتمالية، وجسمية الجسيمات بجانب موجاتها، وازدواجيتها الطاقية والكتلية وهكذا .
هذا يعنى وجود السببية فى الجسيمات الأولية ، ولكنها تفصح عن نفسها فى شكل يختلف عن شكلها فى عالم الحركة الميكانيكية بين الأجسام ، وعنها فى عمليات الحياة ، وعنها فى العلاقات الاجتماعية وعنها فى عملية المعرفة ، وهكذا فان فرض لابلاس الشهير عن العالم المسبب ذو السلوك الحتمى ، كأنه آله ميكانيكية ضخمة نعرف نتائج دوران عجلاتها وتروسها وسيورها مسبقا ، صحيح فى جوهر تعبيره عن عمومية السببية وما تسببه من حتمية ، إلا إنه قاصر فى تحديد شكل هذا الحتم فى شكله الميكانيكى الخالى من الاحتمالية والعشوائية ، والذى لا يأخذ فى اعتباره تعددية الأسباب ، وما تعمل فيه من ظروف منشطة أو محبطة ، تحيط بكل كائن مادى ، وما تؤدى إليه العلاقة بين الأسباب المختلفة والظروف المحيطة بتلك الأسباب من احتمالية ، وبالتالى فأن مبدأ عدم اليقين هو إعلان لفشل فرض لابلاس الميكانيكى وكل المنطق الشكلى فى التعبير عن الأشكال المختلفة للسببية فى أنواع الحركة غير الميكانيكية .. ففهم لابلاس للسببية والحتمية فهم رجعى ينفى دور الإرادة الإنسانية فى تغيير الواقع ، وإمكانية التأثير عليه، أى ينفى دور الإرادة الثورية فى إحداث التغيير الاجتماعى بعكس الفهم الصحيح للأمور الذى مع تسليمه بالضرورة، إلا أنه لا ينفى دور الإرادة بل يؤكدها هل من الممكن أن يكون عالم الجسيمات الأولية غير محكوم بالسببية ، وما تؤدى إليه من حتمية ، وهو المكون لباقى كائنات الوجود المادية من الجزئيات حتى الأجرام.. فلو لم تكن الوحدة البنائية لهذا العالم ، وهى الجسيمات الأولية مسببة الفعل ، فكيف كونت العالم المسبب ، والذى عرفنا بقيامه على السببية ، لا لأنها فكرة منطقية مسبقة فى عقولنا ، وإنما كنتيجة تراكم ما لانهاية له من خبرات عبر التاريخ البشرى كله وفى شتى الظروف ، حيث تتواتر الأسباب ، تتلوها النتائج ، ومن خلال العلم نعرف الضرورة ما بين السبب والنتيجة ، فلو لم تكن هناك علاقة ضرورية بين السبب والنتيجة لما كان هذا العالم إلا أحداث فوضوية لا نظام بينها ، وما كنا استطعنا الوصول لحقائقه ولا استنتاج علاقة السببية بين كائناته.
إن السببية دائما هى إجابة العلم الصحيحة على الأسئلة المحيرة للإنسان حول تفسير ما حوله من ظواهر ، وهو عبر كل تاريخ العلم كان يكتشف أن سبب ما حوله من ظواهر كامن فى طبيعة مادية الظواهر إلا إنه أمام الظواهر اللامتناهية أمامه، والتى يتسع إحساسه بها كلما خطى خطوات متقدمة نحو المعرفة ، نجده يعرف لبعضها تفسيراً ماديا مقبولاً أما بعضها فيظل مجهولاً بالنسبة له إلى أن يكشف العلم عن إجابة ، تفسر هذا البعض الغامض ، وما أن يحدث هذا حتى يتفتح العالم أمامنا لظواهر جديدة غامضة تنتظر التفسير ، وسيظل هذا حال الإنسان دائما فى محاولته معرفة ما حوله من كائنات مادية لا نهائية ، وهى فى حركتها وتحولاتها وارتباطاتها بغيرها من الكائنات المادية ، إلا أن هناك دائما عقليتين ، أحدهما تبحث عن السبب المادى الكامن فى طبيعة الظاهرة، فإذا علمته من خلال المنهج العلمى فى البحث كان لديها هو سبب الظاهرة ، و لاشىء سواه ، وإذا لم تستطع الإجابة والتفسير نظراً لقصور قدراتها فى البحث ، فأنها تمتنع عن الإجابة ، وتؤجل التفسير لاقتناعها بأن السبب المجهول كامن فى طبيعة جوهر الظاهرة ما لم يسفر عن حقيقته لنا ،... وهناك العقلية غير العملية التى حتى مع معرفتها بالأسباب الكامنة وراء الظواهر التى حولها ، إلا إنها ترجع كل هذه الأسباب لشىء خارج المادة والطبيعة والواقع ، فهى تتعسف وتفترض إن المادة عاجزة عن الحركة بمفردها ، ولذلك فلابد وأن هناك من يحركها من خارجها ، وتتعسف وتفترض أن هناك سبب أولى أقوى لكل الظواهر سبب هذه الأسباب ، وتتعسف وتفترض أن للطبيعة العمياء التى تحكمها الضرورة عقلا ما وراءها ، كل هذا حتى فى حالة معرفتها بالمحركات والأسباب والضرورات... أما لو لم تكن تعرف الأسباب المادية ، وما أكثر ما سيواجه الإنسان من مجهولات تحتاج لبحث علمى لمعرفتها ، فأنها و بشكل متعسف وفورى ترجع كل المجهولات والمدهشات للسبب الأول الخارج عن الطبيعة ، وبرغم كل التاريخ العلمى الطويل ، وبكل ما حفل به من صدمات هائلة لتلك العقلية ، منذ أن بدأ بحث الإنسان عن الحقيقة من خلال العلم ومنهجه ، فأبدع اكتشافاته واختراعاته ، ولا يمكن أن أستفيض فى ذكر كم الظواهر اللانهائية التى كانت غامضة ، والتى أرجعتها هذه العقلية لما وراء الطبيعة من أسباب ومحركات وضرورات ، ولا يمكن أن أحكى عن الكم الهائل بعمر التاريخ البشرى كله من التخيلات والأساطير والخرافات التى لا توجد إلا فى هذه العقلية ، وكيف كان حين يكشف العلم أسرارها تضطر هذه العقلية إما للتخلى عن هذه الأفكار أو الجمع بينها وبين الأسباب العلمية ، أو إرجاع الأسباب التى يكشف عنها العلم لتلك الأوهام ، وفى نفس الوقت ، تتكشف ظواهر جديدة مجهولة للإنسان فتعود هذه العقلية لسابق عهدها ، استسهالا وتعسفا لإرجاعها إلى ما وراء الطبيعة ، وهى عبر كل التجربة الإنسانية العريقة لم ترتدع ، ولم تتعلم.
وإننا إذا كنا نقر من خلال ملاحظتنا الموضوعية والمحايدة المبنية على أساس الممارسة العملية بوجود الحتمية فى سلوك الأشياء والظواهر والعمليات التى تشكل الوجود بأسره ، إلا أن الجانب الآخر من المسألة ومن خلال نفس المنهج ، الذى يجعلنا نستنتج بأن هذه الحتمية تتم من خلال العديد من المصادفات ، فالتقاء بلايين الذرات والجزيئات فى التفاعلات الكيمائية المختلفة يتم مصادفة، وبشكل عشوائى تماما ، إلا أن هذه الذرات والجزيئات التى التقت مصادفة تأخذ فى التفاعل فيما بينها بحكم الضرورة الكامنة فى طبيعتها ، فكلا من الضرورة و المصادفة يحدثان فى نفس العملية.
فهناك إذن علاقة وطيدة بين الضرورة والمصادفة ، وأن إحداهما لا تنفى الأخرى ، فالظن أن الضرورة المطلقة تحكم كل ما فى الطبيعة من مظاهر وعمليات يؤدى بنا إلى نفى أى مصادفة ، وبالتالى تتحول المصادفات إلى ضرورات حتمية ، وهذا الظن شأنه فى ذلك شأن القول بانتفاء الضرورة والحتمية ، وأن كل ما فى الوجود من أحداث محض مصادفات عبثية لا رابط بينها ولا ضرورة وراءها ، وبالتالى تتحول الضرورات إلى مصادفات فى حاجة إلى عقل ينظمها ، وقد يكون هذا العقل خارج الطبيعة أو داخلها ، أو عقول البشر أنفسهم أفرادهم أو جماعتهم.
وفى كلتا الحالتين يكون الموقف المنطقى الوحيد للإنسان هو الاستسلام التام للواقع ، أو الانغلاق على ذاته ، وبالتالى عدم النضال من أجل تغيير الواقع ، ولما كنا قد خبرنا قدرة الإنسان على تغيير الواقع سواء أكان هذا الواقع هو الطبيعة أو المجتمع ، حيث نستطيع من خلال الممارسة العملية أن نلاحظ وجود الضرورة فى شتى الأشياء والظواهر والعمليات التى نتعامل معها ، فنلاحظ مثلاً أكسدة الفلزات كالحديد والنحاس ، فإنها تتأكد فى كل مرة تتعرض بعض الفلزات لهواء رطب. فنلاحظ كلا من صدأ الحديد البنى اللون وصدأ النحاس الأزرق اللون ، ولذلك قد تعلمنا أن نطليها بمواد لا تتأكسد عرفناها بالتجربة حتى نحميها من التآكل .. فلولا قناعتنا بالضرورة ما فعلنا ذلك ، ولتركنا كل الأشياء بما فيها أنفسنا إما للأقدار الحتمية أو المصادفات السعيدة أو التعيسة ،إلا أننا أيضا لا يمكن أن نفسر كل الظواهر بالضرورة و فقط ، حيث أن هذا معناه السقوط فى الجبرية، وبالتالى ننفى الحرية الإنسانية، ومنها بالتالى مسئولية الإنسان على أفعاله.
إن الأخذ بالحتمية المطلقة والاعتقاد بالجبرية ، هما إعلان بالعجز أمام الواقع ، فى حين أن كل التاريخ البشرى ما هو
إلا تغيير لهذا الواقع ، سواء أكان الطبيعة للسيطرة عليها وتحويلها لمنتجات مادية ومن ثم فهمها من خلال هذا التغيير الذى لا يمكنه أن يتم بدوره أيضا إلا من خلال هذا الفهم ، أو المجتمع البشرى والذى وإن كان يتطور ويتغير وفق ضرورات معينه ، بالتالى يحكم هذا التطور قدر من الحتمية يعرف أيضا إلى جانبه الاحتمالية والمصادفات ، وهو فى نفس الوقت يتغير ويتطور من خلال أفعال البشر الواعيين الذين يعرفون ماذا يريدون وكيف يحققون ما يريدون. فالجبرية تعنى الاستسلام التام للظلم والعبودية والأقدار ، تعنى سلبية ولا مبالاة المقهورين والمحكومين والمستغلين وهذا هو منتهى مراد القاهرين والحاكمين والمستغلين ، وهو الشىء ذاته الذى تؤدى إليه العبثية وإنكار الضرورة والسببية ، فمادامت لا توجد ضرورات تفرض أسباب ، ومادام الوجود ما هو إلا سلسلة من المصادفات العشوائية ، فلا معنى لأى محاولة لتغيير الواقع والتأثير عليه ، حيث إنه من المستحيل فى هذه الحالة فهمه ومن ثم تغييره.
إن الإقرار بوجود المصادفات موضوعيا لا يعنى نكران السببية ، حيث توجد لكل المصادفات أسبابها ، فصدفة سقوط المطر عند خروجك للعمل فى الصباح مما أعاقك عن الوصول فى موعدك المحدد لها سبب ، حيث تسقط الأمطار لأسباب ضرورية، إلا أن هذه الضرورة أصبحت صدفة بالنسبة لك رغم انبعاثها من ضرورة ما ، فشروط عمل سبب معين يمكن أن تتوافر ويمكن إلا تتوافر ، فتحدث النتائج أو لا تحدث بناء على ذلك ، ولما كانت الأسباب ذاتها متباينة الفعالية ، فبعضها أساسى والآخر ثانوى ، بعضها ينشا عن جوهر الأشياء وبالتالى تبدو ضرورية ، وهناك أسباب لا علاقة لها بهذا الجوهر فتبدو تصادفية من الممكن حدوثها وقد لا يمكن لها ذلك ، فالمصادفة تتجلى عند تلاقى عدد من الظواهر المشروطة سببيا (ذرات ، درجة حرارة ، عوامل مساعدة للتفاعل ، عوامل معيقة أو محبطة للتفاعل ، .. الخ) وهى كلها عوامل أو ظواهر تكمن فيها ضرورات تؤدى إلى الحتمية ، إلا أن التقاء كل هذه الظواهر فى نقطة المصادفة لبعضها ليس أمراً جبريا ، فما حدث هو تجمع لعديد من الظروف ، وانعدام أحد هذه الظروف قد يمنع حدوث التفاعل . لا يوجد أى فصل بين الضرورات والمصادفات ، فالضرورات تتحول إلى مصادفات والعكس صحيح ، فعمليات التفاعل النووى ، وما تؤدى إليه من أشعه ، يؤدى تعرض إنسان بعينه إليها إلى تعرضه للسرطان ، كما تتحول المصادفات إلى ضرورات ،حيث يؤدى تعرض الناس لها مصادفة إلى ضرورة إصابتهم بالسرطان وهكذا وحيث أن المصادفات موجودة فإنها تؤثر فى الواقع بشتى المؤثرات .. فقد تؤدى إلى تغيرات عظيمة فى تطور الواقع ، وقد لا تؤدى إلى شىء ذو أهميه ، وقد تؤثر تأثيرات سيئه أو تأثيرات سعيدة بالنسبة للبشر ، وقد تكون سارة لبعضهم وغير سارة لبعضهم ، بعض المصادفات تسرع فى حدوث العمليات الضرورية، وبعضها يبطئ من سرعتها البعض يحفزها والبعض يحبطها وهكذا,
السببية هى أحد القوانين العامة التى تعكس العلاقات بين الظواهر فى أحد جوانبها ، وفى الحقيقة إن مهمة كافة العلوم عند دراستها للظواهر المختلفة هو كشف علاقة السببية بين الظواهر المختلفة ، فالمعرفة فى أوجز عبارة ممكنة هى معرفة السببية بجانبيها السبب والنتيجة ، وهى العلاقة التى توصل إليها الإنسان عبر فهمه للظواهر المختلفة كل على حدة ثم فى ارتباطاتها بهذه العلاقات وفى كل مرة بتواتر لانهائى تتابع الأسباب تتلوها النتائج ، فالسبب والنتيجة مرتبطان تماما حيث يستدعى السبب وجود النتيجة ، فالسببية تعبر عن علاقة ضرورية بين الظواهر المختلفة ، فزيادة عدد النيوترونات عن عدد البروتونات فى نواة الذرة سبب ضرورى لظاهرة النشاط الإشعاعى ،حيث أن هذه الزيادة تعنى وجود خلل فى التوازن فى نواة الذرة، وبالتالى فأنه فى كل مرة تزيد فيها النيوترونات عن البرتونات تحدث ظاهرة لنشاط الإشعاعى التى تتوقف عند تساوى كلا من البروتونات والنيوترونات أى حدوث التوازن.
وقد توصل الإنسان لمفهوم السببية من خلال نشاطه العملى الذى أدى لمعرفته للعالم من حوله ، وإن كان ل أيمكن أن يتم إلا من خلال توصل الإنسان لمفهوم السببية من خلال نشاطه العلمى الذى أدى لمعرفته للعالم من حوله ، والذى كان لا يمكن أن يتم إلا من خلال المجتمع ، فالإنسان لا يمكن أن يوجد معزولاً عن مجتمع بشرى ما ، هذا المجتمع الذى تتراكم لديه الخبرات عبر عشرات الأجيال فضلا عن تداوله الخبرات مع المجتمعات الأخرى ، فلم يتكون مفهوم السببية على أساس خبرة فرد ما ، وإنما هى خبرة البشر التاريخية ، والتى كشفت أهمية السببية التى تعكس أهم قوانين الواقع .. ومن كشف هذه القوانين نعرف أسباب الظواهر المختلفة ما نستطيع التأثير عليها سواء بتلاقى الأسباب غير المرغوب فيها ، واستدعاء الأسباب المرغوب فيها لتحدث النتائج المطلوبة .. فبقذف قذائف شعاعيه إلى نوى الذرات تتحول لنوى ذرات مشعة أو تتحول لذرات أخرى .. فقد حلم الكيمائيون القدامى بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب من خلال بحثهم عن أسطورة حجر الفلاسفة الذى يستطيع تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب .. إلا أن هذا الحلم لم يصبح واقعا إلا بعد معرفة الإنسان بالأسباب الحقيقية التى تعطى ذرات العناصر صفاتها ، فاستطاع فعليا تحويل العناصر إلى بعضها البعض ، وهذا لم يكن ممكنا إلا من خلال وصول المجتمع البشرى لدرجة من التطور .. هذا التطور الذى كان مستحيلاً بدوره دون تراكم معارف لا حصر لها عن أسباب نشوء ظواهر معينة وتحولها .. ومنها ظواهر العناصر المختلفة من حديد ونحاس وذهب وغيرهم ، وما كان للإنسان أن يستطيع أن يسيطر على الطبيعة ويحولها دون معرفة أسباب الظواهر الطبيعية ، فبدون هذه المعرفة أو الفهم كان سيظل المجتمع البشرى متخلفا يحلم أفراده بحجر الفلاسفة ، وغيره من أساطير ، عاجزاً أمام شتى الظواهر.
والسبب يأتى دائما قبل النتيجة ، ويكون سببا فيها ، إلا إن هذا لا يعنى أن كل ظاهرة تسبق ظاهرة أخرى هى سبب لها ، فربما يكون ما حدث من تتالى الظواهر ما هو إلا عرض ومصادفة .. ولذلك لا ينبغى لنا الخلط بين السببية والتوالى الزمنى للظواهر .. فهناك ظواهر تسبق ظواهر تسبق ظواهر أخرى ، فتوحى لنا أن السابقة سببا للاحقه إلا أنه فى الحقيقة لا توجد علاقة ضرورية بينها ، وإنما هى علاقة ظاهرية فحسب كما لو كانت ذريعة وليست سببا حقيقيا. إن السببية علاقة شاملة وعامة بين شتى الظواهر .. فكل الظواهر فى سكونها وتحركها .. تأتى وتبقى وتموت بتأثير أسباب حيث لا يمكن أن توجد أى ظواهر بدون أسباب ، فأسباب حركه الجسيمات هو تبادلها كمات الطاقات مما يكسبها أو يفقدها هذه الكمات فتتحرك لكى تحافظ على مستوى طاقتها ، إلا أن الإنسان لا يعرف من الأسباب إلا بعضها ويجهل بعضها ، وقد لا يفهم بعضها بدقه و يفهم البعض الآخر بدقة أكثر ، إلا إنه فى شتى الأحوال توجد أسباب مستقلة عن وعى الإنسان بها ، فهى كامنة فى طبيعة شتى الظواهر المعلومة و المجهولة على حد السواء.
فالسببية علاقة موضوعية تعبر عن علاقات ضرورية فى واقع الأشياء ، وما يجرى بينها من عمليات ، وهى تنعكس بشكل صحيح فى المخ البشرى فى صورة هذا المفهوم
فقانون السببية يعنى إن جميع ظواهر الوجود تشترط بعضها بعضا سببيا ، وهذا هو التفسير العلمى لشتى الظواهر والذى تصبح مهمة العلم إيضاحه فى كل مجال من مجالات الواقع التى يدرسها العلم .. فماذا يبرهن على صحة هذا التفسير من عدمه؟ إنها الممارسة العملية ، فممارسة الإنسان العملية فى إحداث التفاعلات النووية ، والتعامل معها واستخدامها هو شرط لفهمها فهما صحيحا ، وهى بالتالى الطريق الوحيد لمعرفة الأسباب الحقيقية لظاهرة النشاط الإشعاعى ، وتحولات الجسيمات والعناصر .. الخ فنحن كلما منحنا إلكترونات الذرة قدراً معينا من الطاقة كان هذا يعنى تحرك هذه الإلكترونات بعيداً عن نواة الذرة ، بقدر يتناسب مع هذا القدر من الطاقة الممنوحة له .. ومن هنا نتيقن أن ما يربط بين نواة الذرة والإلكترون هو هذا الكم من الطاقة ، وأن تأينها لا يمكن أن يحدث إلا باكتسابها هذا الكم .. إلا أن هذا الفهم الميكانيكى أو الشكلى للسببية يحرم الإنسان من فهم أكثر صحة لها .. فصحيح أن الواقع قائم على أسباب موضوعية ، إلا إنه أحيانا لا ينتج عن الأسباب المعروفة النتائج المتوقعة ، إلا أن هذا لا يدحض مفهوم السببية ، إذ قد يعترض الطريق ما بين السبب والنتيجة سبب آخر يعطل تأثيره ، وبالتالى لا تحدث النتيجة المتوقعة .. فجهد تأين الذرة المطلوب لفصل إلكترون عن الذرة لا يتوقف فحسب على مستوى طاقته بل على قطر الذرة وشحنه النواة والتشكيل الإلكترونى حولها ، وهى شروط قد تعرقل السبب أو تحفزه أو توقفه ـو تشترطه ، إننا قد نقع فى أخطاء حين نحاول استنتاج الأسباب من النتائج ، فقد لا تكون هناك علاقة حقيقية بين السبب والنتيجة ، إلا أن الممارسة العملية وحدها هى التى تمكنا من تصحيح هذه الأخطاء ، فمن خلال العديد من التجارب والاحتكاكات بالواقع ، نتوصل للأسباب الحقيقية ، وهو ما يجعلنا نتحقق من صحة استنتاجاتنا الفكرية الخاصة بالسببية.
إن الفهم الصحيح للسببية يتجاوز الفهم الشكلى أو الميكانيكى لها ، الذى يحدد السبب فحسب فى السبب الخارجى أو السبب الواحد بالنسبة للنتيجة الواحدة دون النظر فى الأسباب الداخلية أو المتعددة بالنسبة لنفس النتيجة ، فأشكال السببية تتعدد كلما صعدنا فى سلم التطور ، وأن الرابطة بين السبب والنتيجة ليست فى اتجاه واحد ، وإنما فى اتجاهين مزدوجين فكلا منهما يؤثر فى الآخر، وتتبادلان أماكنهما ، فتوجيه قذيفة مشعة إلى نواة العنصر المستقر غير المشع تحوله إلى عنصر مشع تقذف أنويته بدورها قذائف ، وأن استمرار عمليه قذفه هذه ستؤدى فى النهاية لاستقراره أو تحوله إلى عنصر آخر ، وكما تحدث الإشعاعات المتولدة من العناصر المشعة السرطان للحيوانات التى تتعرض لها ، فأنها فى أحوال أخرى وبجرعات مناسبة تشفى الحيوان من نفس السرطان ..إن التأثير المتبادل بين الظواهر يكون سببا داخليا لحركة ظواهر الواقع و تغيراته ، فالواقع هو مجموعة من الظواهر تتبادل التأثير فيما بينها وهو فى حركته المستمرة ، وتطوره اللانهائى لا يحتاج لأسباب من خارجه ، فهذا التأثير المتبادل بين شتى ظواهره هو السبب الحقيقى والنهائى لجميع تلك الظواهر ، هى السبب الأول لكل الوجود وما يحدث فيه.
والظواهر فى تبادلها للتأثير فيما بينها لا تكون فى نفس المستوى من الأهمية فهناك أسباب حاسمة ، وأسباب غير حاسمة ، أسبابا رئيسية وأسبابا ثانوية ، وعلى العلم أن يكشف لنا باستمرار عن ما هو حاسم وأساس فى الأسباب التى تحدث النتائج قيد البحث ، فهناك دائما ما يسمى بالشروط ،وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة حيث لا يحدث السبب نتيجته إلا بتوافر هذه الشروط ، وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة حيث لا يحدث السبب نتيجته إلا بتوافر هذه الشروط ، وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة ، فلا يحدث السبب النتيجة
إلا بتوافر هذه الشروط ، فتبادل الفعل بين الإلكترونات والبروتونات مشروط بدرجه حرارة معينة، فبعض الشروط تساعد على توليد النتائج ، وبعضها يعطل هذه النتائج ، فمعرفتنا بالأسباب والشروط تمكنا من التنبؤ بالنتائج ، وهو ما يمارسه الإنسان عمليا ، فلكل نتيجة إذن عدة أسباب مختلفة تسببها ، فانفصال إلكترون عن الذرة قد يتم بسبب ارتفاع درجة الحرارة أو قوة الفرق بين جهدين كهربين أو بسبب النشاط الإشعاعى ، وذلك وفقا للظروف المختلفة كما أن سببا واحد قد يؤدى إلى نتائج مختلفة ، وتتنوع أشكال السببية بين شتى الظواهر ، إلا إنها بالرغم من كل ذلك لا تعبر عن كل العلاقات المتبادلة بين شتى الظواهر فى تزامنه.
وأخيرا عذرا على الإطالة والإسهاب وما يغفر لى هو الأهمية المركزية لنفى السببية فى الكون فى إشاعة الخرافات ومساواتها من ثم بالعلم،فكلاهما مجرد حكايتين لدى البعض و لا مفاضلة بينهما إلا بمقدار الفائدة التى تعود علينا منهما ،ومن ثم كان لابد من توضيح السببية على هذا النحو المفصل.
ز- قرأت كثيرا من الكتابات التى تزعم وبناء على الاكتشافات العلمية فى الفيزياء المعاصرة الكثير من المزاعم منها أننا والوجود كله لسنا سوى موجات أو كهارب، ومستندين فى ذلك على إثبات كم هائل من الخرافات من خلال الفهم المتعسف والمبتسر لطبيعة الجسيمات الأولية.
لكى نفهم طبيعة الجسيم الأولى جيداً ، فأننا لابد وان نعرف إن الجسيمات الأولية ليس لها أى محور جيد التحدد ،وذلك على خلاف الأجسام ، التى نستطيع أن نحدد حدودها عمقا وارتفاعا وعرضا ، فليست هناك أى إمكانية لقياس أبعاد الجسيمات ، إذ تقف حجر عثرة فى الطريق إلى ذلك الصفات الموجية التى تبعثر الجسيمات فى الفضاء فأى جسيم أولى ذو صفتان مزدوجتان متناقضتان فى نفس الوقت ، فأى جسيم أولى هو فى الحقيقة ،(جسيم وموجه) فى نفس الوقت ،فما هى هذه الخاصية العجيبة التى تتصادم مع العقل العادى للإنسان ؟ وما هو سرها؟ وهل يمكن أن ما نتوهم إنه المادة ما هى إلا موجات؟ هل يمكن أن تكون هيئتنا المادية الملموسة التى نتواجد عليها قد تكون موجات كهرومغناطيسه أو ضوءاً مكدسان أتخذ هيئة المادة.
هذه هى مشكلة العلم مع البعض من مبسطيه وفلاسفته ، إن المعلومات العلمية تبتذل ، وتنتزع من سياقها ، وتلوى أعناقها ، لترضى رغبات الكتاب وجمهورهم ، وبالتالي يصبح حديثهم لا علاقة له بالعلم الصحيح ، وإنما هى الخرافة وقد رويت برطانة علمية . فأين هى الحقيقة إذن ؟ قد تطورت العلوم الطبيعية والفيزياء المعاصرة على وجه الخصوص إلى درجة عالية من الصعوبة ، بحيث يصعب على العقل العادى للإنسان استيعابها أو تصديقها . ولكن سأحاول تحقيق معادلة صعبه هى التبسيط مع عدم الإخلال على النحو التالي:.
فى الحقيقة إن الجسيمات الأولية تنقسم إلى نوعين أثنين ، أحدهما نستطيع أن نطلق عليه جسيمات المادة أو الكتلة بالمعنى الدارج، وليس بالمعنى الفلسفى ، حيث إن كلا النوعين جسيمات مادية لاشك فى ذلك، ولكلا النوعين من الجسيمات صفات مختلفة من السرعة والكتلة وغيرها من الصفات.
وأن لكلا منها وظيفة تختلف عن الأخرى ، فالأولى تشكل الكتل المختلفة فى الكون ، والثانية الطاقات المختلفة التى تسبب كل ما يحدث فى هذا الكون .. فكيف يحدث هذا ؟ كل جسيم من جسيمات الكتلة من النوع الأول لابد وان يوجد مغموراً كقطعة إسفنج فى الماء بالجسيمات من النوع الثانى ، وهى تشغل حيزاً من المكان داخل وحول الجسيم ، ليكون بذلك مجال تأثير هذا الجسيم على الجسيمات أو الأجسام الأخرى التى تقع داخل هذا الحيز ، فقطعة المغناطيس مثلاً يحيطها مجال غير مرئى لك مكون من هذه الجسيمات ، وهو الذى يسبب جذب المغناطيس قطع الحديد التى تقع داخل هذا المجال.
وفى نفس الوقت فأن هذه الكميات متساوية فى قيمتها مع مستوى الطاقة الموجود به الجسيم من النوع الأول ، والذى لا يكف للحظة عن امتصاص أو قذف هذه الكمات وتبادلها مع الجسيمات الأخرى على الحركة ،ليحافظ على مستوى طاقته أو ليتحرك من مستوى طاقة إلى آخر أو ليتحول إلى جسيم آخر فكل الجسيمات والأجسام لابد وأن تتواجد فى مستويات معينة من الطاقة .
أى أن الطبيعة الموجية للجسيم الأولى ناتجة عن حركته ، وهى لا تنفى طبيعته الجسمية ، كما أن الموجة لا يمكن أن تتواجد إلا بسبب هذه الحركة ذاتها ، ويلاحظ إن هذا ينطبق أيضا على الأجسام والجزيئات والذرات التى تكونها فى النهاية هذه الجسيمات أى إننا باستخدام ازدواجية (الجسيم/ الموجه) يمكن توصيف كل شىء فى الكون بما فى ذلك الضوء والجاذبية والكهربية والمغناطيسية.
فمعرفتنا بهذه الجسيمات وطبيعتها تفسر كل الظواهر من حولنا ، والحقيقة إن هذه الجسيمات لا تشكل أى جوهر ما بدء منه الوجود ، وبالتالى فهى لا تتصف لا بالأزلية ولا بالأبد يه ، وإنها يمكن أن تنقسم إلى جسيمات أبسط فطبيعة هذه الجسيمات هى التغير والتحول والتحرك والتركب والتحلل فيما لانهاية له من أشكال تختلف فى خواصها وهكذا فنحن نعرف إن الجسيمات التى كان يظن إنها أولية منذ عشرين سنه مضت هى فى الحقيقة تتألف من جسيمات أصغر . أيمكن أن نكتشف - لو ذهبنا إلى الطاقات الأعلى أن هذه الجسيمات هى بدورها تتألف أيضا من جسيمات أصغر ؟ من المؤكد إن هذا الأمر فى الإمكان ، إذن فالحقيقة إن ما حطمته الفيزياء المعاصرة هى فكرة الجوهر الأولى والثابت والنهائى والمطلق والذى لا ينقسم ولا يتحول والذى يتكون من تراكمه أو تجميعه العالم من حولنا .. فالحقيقة هى أن الوجود بكل مظاهره ما هو إلا عمليات لا نهائية تجرى بين كائنات مادية لانهائية.
فالنيوترونات والبروتونات كجسيمات أولية معقدة ، ما هى إلا مظاهر لعمليه تبادل بين الجلونات ، وهى نوع من أنواع كمات الطاقة ، بين كواركات معينة، وهى جسيمات أبسط تتركب منها النيوترونات والبروتونات، ولو توقفت عملية التبادل هذه ، لأنتهى وجود هذه الكائنات المادية ، أى انتهت هذه المظاهر التى تميزها مخلفة وراءها مظاهر أخرى لعمليات أخرى بين كائنات مادية أخرى وهكذا.فكل ما فى الكون هو جزء من لعبة تنس أو مكون من أطراف تلعب التنس،فالأشياء توجد بتبادل مكوناتها لكمات الطاقة كما يتبادل اللاعبون الكرة مكونين عملية واحدة هى المباراة التى تنتهى بمجرد إقلاعهم عن تبادل الكرة.
فكل ظاهرة من ظواهر العالم نستطيع رصدها هى فى حقيقتها مجرد عملية محدودة فى المكان مهما بلغت ضخامة الحيز الذى تشغله أو مهما بلغت ضئالته .. أما الجوهر الحقيقى والوحيد الذى يميز كل الكائنات المادية ويوحدها أو بمعنى أقرب للدقة العلمية ما يميز تلك العمليات فهو قدرتنا على الإحساس بمظاهرها المختلفة ، نتيجة تأثيرها على حواسنا، وذلك كونها عمليات واقعية بين كائنات مادية مستقلة عن وعينا بها أو أفكارنا حولها ، ففكرة الجوهر القديمة فكرة غير علمية ولا واقعية ، فنحن لا يمكن لنا رصد هذا الجوهر من خلال التجربة وبمعنى آخر أن نحدده فى شىء ما يكون هو اللبنة الأولى الثابتة والمطلقة التى كونت العالم.
معنى ذلك أن هذا المفهوم الشكلى للجوهر يحل محله مفهوم علمى آخر ، يحدد طبيعته فيما يميز كل الكائنات المادية اللانهائية بلا استثناء .. فجوهر كل كائن مادى يفصح عن نفسه من خلال مظاهره ، والتى نعرفها من خلال حواسنا وامتدادها من أجهزة علمية ، فنحن نتعرف على حقيقة الجسيم الأولى من خلال خواصه ، التى هى مظاهره المختلفة. فنحن فى الحقيقة لا يمكن أن نلاحظ سوى مظاهر تتحرك وتتغير مع الزمن ، مهما طال زمن استقرارها النسبى ، فما هى إلا مظاهر لعمليات مادية لانهائية ومتوالية - بلا بداية أو نهاية- تتواجد من خلالها الأشياء وتتلاشى بلا انقطاع ومن هنا ففكرة الجوهر الأساس ، والعنصر الأولى للطبيعة ، تصبح وهما لا يجوز التعويل عليه ، وإن كان علينا أن نقرر بأن الطبيعة من حولنا تتطور من عناصر أبسط إلى عناصر أعقد.
قد توصل علم الفيزياء على هذا الأساس إلى استنتاج عجيب ولا مفر منه ، هو أن تركيب الجسيمات الدقيقة هو انعكاس لجميع تبادلات الفعل بين الجسيمات .. ويتبين من ذلك أن جوهر الجسيم الأولى متحرك جداً وسهل التغير إلا أن هذا الاستنتاج لا يبدو لنا غريبا إذا ما عرفنا بأن هذه الجسيمات لا تتواجد بدون تبادل الفعل .. ولا يتم تبادل الفعل بواسطة تأثير خارجى ما .. بل هو جزء متمم وطبيعى لتركيب الجسيمات نفسها .. نعم لأن تركيب الجسيم فى أى لحظة إنما يتحدد بصورة فعلية بكل أشكال تبادل الفعل الموجودة فيه ، وبالعكس فأن طبيعة أشكال تبادل الفعل الموجودة فيه تتحدد بتركيب الجسيم ، فهذا هو الترابط بين الكتلة والمجال ، والصفات الحقيقية للجسيمات وتبادلات الفعل فيها ، والعمومية غير القابلة للتجزئة للجسيم الدقيق والكون بأجمعه فالمادة واقعية وعامة ، بمعنى إمكانية إحساسنا بها مهما اختلفت أنماطها ، وأن الطبيعة الواحدة للمادة أو للعالم هى التى تفسر لنا كيف تتحول أشكالها المختلفة من شكل لآخر ، أو العكس ،" وكيف أن كمات الطاقة أو المجال أو جسيمات حمل القوى تتصف بصفات جسيمات المادة من وزن وأبعاد وكيف أن جسيمات المادة تتصف بصفات كمات الطاقة ، وكيف أن الاثنين لا يمكن أن ينفصلا عن بعضهما البعض ، أو أن يوجد أى منهما بشكل منفرد بعيد عن الآخر .. وهل يمكن قياس أبعاد الإلكترون العارى ، الخالى من السحب الفوتونيه والإلكترونية - البوزيترونيه بدقة ؟ كلا فهذا شىء مستحيل . إذ لا يمكن العثور فى الطبيعة أبداً على الإلكترون "العارى" أى المتحرر من تبادل الفعل ولا يمكن وجوده فى أية ظروف . إن الجسيم نفسه وتبادل فعله يكونان وحدة لا تنفصم11.
فالطبيعة المتعددة الأوجه للمادة تتجلى عندما نعرف إلى أى مدى تتوقف جميع خواص المادة ، ومظاهرها المختلفة على بعضها البعض فى وحدة لا تنفصم ، تأكيداً على جوهرها المادى الواحد .. ذلك الجوهر الذى تنبع منه كل هذه المظاهر من كتلية وموجية وطاقية ومجالية .
ر- كما يتحدث ويكتب مبسطو العلم وبعض فلاسفته عن لا سببية كل ما يحدث فى الكون وفقا لمبدأ عدم اليقين .
وقد أشرت فيما سبق إلى مبدأ عدم اليقين وهو يعرف أيضا بعدم التعين أو عدم التحديد ، وهو أكثر إبداعات العلم المعاصر إثارة للجدل ، والخلاف الفلسفى ، حيث أصبح ركيزة أساسية ، يستنتج منها البعض تعسفا إنكار السببية فى الكون ، بناء على تعميم هذا المبدأ الأساسى فى ميكانيكا الكم ، وهى النظرية المعتمدة حتى الآن فى فهم وتفسير الجسيمات الأولية ، على كافة أشكال الوجود .. وهم من خلال هذا التعميم المتهافت يحاولون ضرب الأسس الفلسفية القائمة على العلم ، والتى تعتبر أن العلم هو السبيل الوحيد لفهم حقيقى للوقع ولما كانت السببية هى أساس العلم فان ضربها ضرب للعلم ومنهجه - يكتب هانز رشينباخ (فعلى الرغم من إننا نعجز فى كثير من الأحيان عن الاهتداء إلى سبب لحادث ملاحظ . فأننا لا نفترض إنه حدث بلا سبب ، وإنما نقتنع بأننا سنهتدى إلى السبب لو أننا مضينا فى البحث عنه - هذا الاقتناع يتحكم فى منهج البحث العلمى ، وهو القوة الدافعة لكل تجربة علمية ، إذا أننا لو لم نكن نؤمن بالعلية ، لما كان هناك علم .)12
وهم يستندون إليه فى خلط مغرض بين فهم صحيح للسببية يضع بجانب الحتمية الاحتمال ، وبين فهم غير صحيح يضعهما كمتناقضين لا يجتمعان ، فإما حتمية ميكانيكية أو فوضوية بلا معنى. (وفى إطار الحديث عن انهيار السببية والاطراد تلوح مشكلة شهيرة فى فلسفة العلم ، جديرة بالذكر ، وهى مشكلة انهيار الحتمية . والحتمية هى المذهب الذى يرى أن كل ما يقع فى الكون من أحداث نتيجة حتمية للأحداث التى سبقتها ومقدمة ضرورية للأحداث التى ستلحقها ، ولا استثناء . فهذا الكون نظام مغلق صارم يؤذن حاضره بمستقبله . وتخضع سائر أجزائه لقوانين صارمة يكتشفها العلم ، إنها تتحدث عن كون مثالى لممارسة التعميمات الاستقرائية.)13
وهكذا فإننا والحال هذه لابد وأن نتحفظ فى الأخذ بهذا المبدأ المكتشف فى الجسيمات الأولية ، حيث لا يعنى كونه مبدأ هاما اليوم ، إنه لا يمكن التخلى عنه أبداً ، فهناك الكثيرين من علماء اليوم مقتنعين إن هذه الصورة المشوهة لميكانيكا الكم الحديث مشكوك فيها ، وإن هناك إمكانية دائما لإصلاحها ، من خلال تحسين قدراتنا فى البحث والقياس ، على سبيل المثال فأن أينشتين مثلاً كان يرفض بحدة هذا المبدأ بما يعنيه من إمكانية قيام العالم على اللاسببية14).
والموضوع هنا يطرح بعداً حقيقيا ، هو الخلاف بين العلم وفلسفته ، حيث تعمم الفلسفة مالا يجوز تعميمه (والواقع إن الفلسفة ظلت على الدوام تتعرض لخطر الخلط بين المنطق والشعر ، وبين التفسير العقلى والخيال ، وبين العمومية والتشبيه)15
والحقيقة إن أساس مبدأ عدم اليقين محدود المجال للغاية فى ميكانيكا الكم ، إلا إنه مضخم فيه للغاية لأسباب فكريه رجعيه فرفض السببية فى الطبيعة ،يؤدى بالضرورة لرفضها فى المجتمع ، وبالتالى تصبح إمكانية فهم العالم من أجل تغييره مستحيلة ، وبالتالى يصبح القضاء على الظلم الاجتماعى والقهر والاستغلال أمل مستحيل التحقق ، فحيث لن يمكننا معرفة أسباب كل هذه المظاهر الاجتماعية التى تثير الاستياء ، فسيركن المظلومون والمقهورون ، لليأس أو الهروب لعالم الأوهام الغيبية ، ولهذا فأن فلاسفة البورجوازية يستندون على هذا المبدأ فى الترويج لأفكار اللاسببية واللاحتمية سواء فى الطبيعة أو فى المجتمع ، ليضمنوا سلبية القوى الثورية فى المجتمع الساعية لتغييره ، وحتى يحافظون على استمرارية النظام الاجتماعى المعبر عن مصالح الطبقة التى يعبرون عنها. أما عن مضمون هذا المبدأ ، فهو إنه لا يمكن قط أن يتأكد المرء بالضبط من كل من موقع الجسيم فائق الصغر فائق السرعة فى نفس الوقت بنفس القدر من الدقة ، فكلما عرف بعد منها بدقة أكبر ، قلت دقة ما يستطيع المرء أن يعرفه عن الأخرى ، والسبب الذاتى وراء إقرار هذا المبدأ ، هو إننا إذا أردنا التنبؤ بموضع جسيم وسرعته فى المستقبل ، يكون علينا التمكن من قياس موضعه وسرعته الحاليين بدقة ، والطريقة المتاحة لدينا عند القياس هى تسليط (جسيم/موجه) من الضوء ذات طول معين يتناسب طولها مع حجم الجسيم المراد قياسه ولما كان الضوء هو كم من الطاقة ، إذا سلط على جسيم سيمتصه الجسيم ، ويكتسب بالتالى كم من الطاقة ، وبسبب ذلك سيغير إما سرعته أو موضعه ..ومن ثم فإننا لن نتمكن من معرفة أحدهما بدقة.
فالعيب إذن ليس فى طبيعة الجسيم ، ولكن فى الطريقة المتاحة لدينا حتى الآن لقياس أبعاده ، وعلى ما يبدو فإن مبدأ عدم اليقين سيظل يلقى بظلاله الكثيفة على الفيزياء المعاصرة وفلسفة العلم ، مسببا أزمتهما ، إلا إذا اكتشفنا طريقة أخرى للقياس تقلل من عدم الدقة ، إلا إننا حتى نصل إلى هذه الدقة ،يوالى العلم قياس أبعاد كل جسيم بشكل عام وبكل دقة ، كل بعد على حدة.
فهناك إذن عدة احتمالات لاتجاهات حركة (الجسيم /الموجة) بالغ الكبر فى سرعته ،بالغ الصغر فى كتلته ، وحجمه وزمن بقاءه غالبا ، والعابر لمسافات هائلة بالنسبة لحجمه ، وهو ما يصعب تخيله ، ومن هنا يصعب تحديد مسارات حركته إلا فى شكل احتمالات ، وذلك لأسباب ذاتية خاصة بنا ، هى قدرتنا على القياس والرصد ، التى ربما ستزداد دقة من خلال وسائل أدق فى المستقبل.
وهناك أيضا عدة أسباب موضوعية خاصة بالتعددية فى مظاهر الجسيم الواحد ، المعقدة والمركبة ، والتى يصعب تخيلها على الحس العادى للأمور ، وتلك الطبيعة تتدخل بلا شك ، وتؤثر فى نتائج رصدنا للجسيم فى حالته الفردية بعكس الأجسام التى تؤثر طبيعتها المتعددة الجوانب فى نتائج قياسنا لأبعادها فى حدود سرعات تحركها البطيئة ، فأى جسم لن تؤثر فى قياس كتلته كميات الطاقة الممتصة منه نتيجة حركته أو المكتسبة لديه نتيجة تأثره بمجال جسم آخر ، وهنا يكفى فقط فهم قوانين نيوتن ، أما الأجسام المتحركة بسرعات كبيرة للغاية فلا يمكن فهمها وقياس أبعادها إلا فى ضوء قوانين النسبية ، والتى أكدت نسبية معظم مفاهيمنا عن الكتلة والسرعة والزمان والمكان والأبعاد . وسائر أبعاد الجسم الأخرى ، والتى فيها تترابط كل هذه المفاهيم بعلاقات متبادلة ، حيث مع ازدياد السرعة تزداد الكتلة .
يتدخل كذلك الطابع الموجى الملحوظ بشده فى قياس أبعاد الجسيمات الأولية بعكس الأجسام التى يكون طابعها الموجى غير ملحوظ عند قياس أبعادها ،كما تتدخل التحولات السريعة للغاية للجسيمات من نوع لآخر ، والتحركات السريعة جداً من مكان لآخر ، بعكس الثبات النسبى للأجسام سواء فى التحول أو الحركة ، وأخيراً فأن طابع حركة هذه الجسيمات صعب التخيل فى معظم الأحوال على الذهن العادى ، الذى أعتاد على ملاحظة الأجسام البطيئة جداً والمحدودة الحجم ، وهو ما تعود على فهمه عبر خبراته الطويلة.
كل هذا يجعل دراسة اتجاه أى جسيم وسرعته ، يأخذ عدة إجابات محتملة ، ولكى فى نفس الوقت يمكن معرفتها كاملة من خلال العلم الدقيق والمؤكد بالقوانين التى تحكم تحولات الجسيم المختلفة عند التأثيرات المختلفة عليه .. وفى نفس الوقت يجب التنويه عن أن قوانين حركة مجموعة من الجسيمات المتشابهة فى حزمة واحدة ، لا تعرف أى احتمالية على الإطلاق بل تعرف الحتمية الصارمة ، فكل الموجات الكهرومغناطيسية، ومنها الضوء المرئى والتيارات والمجالات الكهربية برغم من تكونها من حركة سيول من هذه الجسيمات ذات الاحتمالات المتعددة فى اتجاهاتها وسرعتها ، وذلك فى حالتها الفردية الحرة ، فأننا نلاحظ إنها فى حالة تكوينها الجماعى لهذه الموجات والمجالات والتيارات تخضع لحتمية صارمة ، واتجاهات واضحة نعرف أسبابها ، وبالتالى التحكم فيها والاستفادة منها فى منتهى الدقة طالما كانت فى حزمات مشتركة .. فمن المعروف إن منجزات العلم والتكنولوجيا خلال المائة عام السابقة ، تقوم كلها على أساس التحكم فيها والاستفادة منها.
ولاشك إننا توصلنا إلى القوانين التى تحكم هذه الجسيمات حتى فى حالتها الفردية ، فلو عرفنا زاوية اصطدام الإلكترون وضديده وسرعة حركتهما ، نستطيع أن نحدد سلفا اتجاه حركه الفوتونين الناشئين عن هذا الاصطدام ، فلو لم تكن هناك سببية تحكم هذه الجسيمات لما استطعنا هذا التحديد ، ولأنتجا فى كل مرة أنواعا أخرى من الجسيمات أو يتلاشيا أو يظلا على حالهما ، وهذا ما لا يحدث مطلقا.
إن أحد الأسباب الموضوعية لمبدأ عدم اليقين عند دراسة الجسيمات منفردة ، هو طابعها الموجى .. فنحن نعلم من خلال ظاهرة التداخل بين الموجات ، وهى ظاهرة تنشأ عن اندماج موجتين أو مجموعتين من الموجات المتساوية الطول .. فيكون التداخل بناءاً إذا التقت قمة إحدى الموجتين مع قمة موجة أخرى فيقل تأثيرها ، أى أن الموجات تضاف إلى بعضها البعض ، ويكون التداخل هداما بالتقاء قمة أحد الموجتين مع قاع موجة أخرى ، فيضعف تأثيرها أو ينعدم ، أى أن الموجتين تلاشيا بعضهم البعض .. وبالطبع فأننا إذا كنا ندرس اتجاهات الجسيم وموضعه من خلال طبيعته الموجية ، فأن التقاء الموجة التى تحدثها حركته بموجة جسيم آخر مادية لها فى الطول التقاء بناءاً فإن ذلك سيضاعف من شدتها ، وعند التقاءهما التقاء هداما فأن ذلك سيضعف تأثيرهما أو يعدمه ، إذ يلاشى الجسيمات بعضها البعض ، وبالتالى سيكون لدينا احتمالين على الأقل لحركة هذا الجسيم ، بفرض وجوده هو والجسيم الآخر فحسب.
وظاهرة التداخل بين الجسيمات كانت حاسمة فى فهمنا لتركيب الذرات ، وهى الوحدات الأساسية للكيمياء والبيولوجيا وهى وحدات البناء التى صنعنا منها ونحن وكل شىء حولنا
وبتصور الإلكترون على إنه موجة يعتمد طولها على سرعتها ، فقد تم تحديد المدارات المتاحة فى الذرة لدورات الإلكترونات حول النواة،(وبهذه الأفكار فى شكل رياض متين. أمكن بصوره مباشرة نسبيا حساب المدارات المتاحة فى الذرات الأكثر تعقداً . وحتى فى الجزيئات التى تتكون منها الذرات التى تمسكها معا الإلكترونات التى تدور فى مدارات حول أكثر من نواة واحدة . ولما كانت بنية الجزيئات وتفاعلاتها إحداها مع الأخرى هى فى أساس كل الكيمياء والبيولوجيا. فإن ميكانيكا الكم تتيح لنا من حيث المبدأ أن نتنبأ تقريبا بكل شىء نراه حولنا . فى الحدود التى يفرضها مبدأ عدم اليقين
أما عن هذه الحدود فيكتب كارناب فى الأسس الفلسفية للفيزياء.
(وفى فيزياء العصر الحالى ، وعلى الرغم من أن لميكانيكا الكم بنية سببية . إلا أن معظم الفيزيائين وفلاسفة العلم . يرفضون وصفها بالحتمية ذلك لأنها كما يقولون . أضعف من بنية الفيزياء الكلاسيكية لاشتمالها على قوانين أساسية فى جوهرها احتمالية)16
( ويواصل ولحسن الحظ فإن مدى اللاحتمية فى نظرية الكم ضئيل للغاية ، وإذا كان أكبر من ذلك لكان من المحتمل أن تنفجر منضدة على حين غرة أو أن يتحرك الحجر تلقائيا عند سقوطه ، ويصعد أفقيا سابحا فى الفضاء)17
فمبدأ عدم اليقين إذن لا يعنى الطابع اللامسبب واللامحتم لعالمنا ، كما يبشر بعض الفلاسفة والعلماء ، فبرغم من أن العالم يموج بما لانهاية له من هذه الجسيمات التى تملئه بشكل كامل ، وينتظم الكثير منها فى ذرات تكون أشكال أرقى فى هذا الوجود وهى خاضعة فى ذلك لقوانين صارمة . برغم من أنها متعددة الجوانب والمظاهر ، وتتنوع احتمالات اتجاهاتها كل على حدة.. إلا أن هذا لا ينفى توصل العلم الحديث إلى الكثير مما يتعلق بهذه الجسيمات من حقائق وقوانين صارمة هى أيضا بدورها حتمية ، وأن من نتيجة معرفتنا المؤكدة بمعظم حقائق هذا العالم ، الاستفادة العملية فى شتى فروع العلوم الطبيعية والتكنولوجية .. ففى الإلكترونيات والآلات الحاسبة والمفكرة ، والليزر والميزر ، وفى مجالات العلاج والدواء والكيمياء الصناعية والزراعة والهندسة الوراثية ودراسة المخ والأعصاب ، والاتصالات والتحكم من بعد ومن قرب ، والجيولوجيا ، وشتى وسائل البحث العلمى .. الخ الخ، فما كان يمكن أن تنشا هذه العلوم ، أو أن تتطور تطبيقاتها العملية بدون المعرفة الدقيقة للجسيمات الأولية وخصائصها وقوانينها ، وما كان يمكننا استخدام هذه الجسيمات ، ما لم تكن مسببة الفعل والحركة تحكمها ضرورة لا فكاك منها ، وما كان يمكن لنا تفسير العدد الهائل من الظواهر المحيطة بنا ، والتى نلاحظها مباشرة بحواسنا المجردة ، كالألوان والضوء والمغناطيسية ، ما لم تكن هذه الجسيمات التى تسبب هذه الظواهر مسببة الفعل ، وبلا شك إن استمرار زيادة هذه المعرفة ، سيمكننا من معرفة الظواهر المحيطة بنا الأكثر غموضا.
ففى الحقيقة إذا كانت اللاسببية هى قاعدة هذا العالم لانهار عالمنا كله على الفور ، وفى أى لحظة ، بل و فى الحقيقة ما كان له أن يكون ، وكيف له أن يكون مادامت عناصر بناءه الأساسية ، تسير وفق هواها لا وفق الضرورة التى تحكمها ، ومادام الأمر كذلك ، فما كان للإلكترونات أن ترتبط بأنوية الذرات ، ومعنى هذا ببساطة عدم حتمية ارتباط ذرات العناصر لتكون الجزيئات ، ومعناه عدم حتمية أى تفاعل كيمائى .. تلك التفاعلات التى تتم بتواتر حتمى يعبر عنه بمعادلات معروفة، ولهذه التفاعلات أسبابها المعروفة ، والتى تفرضها الضرورة المفهومة.. فلو كانت المسألة كما يتصورون فلابد إننا سنلاحظ انهيارات مفاجئة غير مفهومة تحدث للأجسام من حولنا ، لأن الأشباح الموجودة داخل الذرات والكامنة وراء وجودها وتكونها ، قد أغوت الإلكترونات ، أن تنهى ارتباطاتها بالذرات الأخرى .. ولأن تنافر الشحنات المتماثلة وتجاذب الشحنات المختلفة ليس سببا تفرضه الضرورة ، فأن على الإلكترونات سالبة الشحنة أن تتجاذب بعدما طول خصام ، وأن تتخلص من ارتباطاتها بالنواة موجبة الشحنة بعدما طول تبعية ، وما إن يحدث هذا حتى تتفكك الذرات والجزيئات التى تكون عالمنا بأسره ... وبالطبع إن هذا وارد إذا كانت هذه الجسيمات لا تخضع للسببية، وإنها جسيمات عاقلة ، بالغة الرشد ، حرة التصرف ، غير ملتزمة بأسباب ولا محكومة بضرورة ، ولا يعنيها قانون، وبالتالى فأننا سنحتاج لوسائل أخرى للتحكم فيها لاسترضائها ، حتى يبقى الوجود ونحن منه، مثل الطلاسم السحرية أو ذبح القرابين أو غير ذلك من وسائل .. إلا إنه لسوء حظ السحرة والدجالين فأن هذه الجسيمات مسببة الفعل تحكمها الضرورة ، وتحترم كل القوانين بما فيها مبدأ عدم اليقين نفسه .. وإن كل اتجاهاتها المحتملة نستطيع معرفتها وإننا نتحكم فى هذه الجسيمات بوسائل علمية مادية غاية فى الدقة تستخدم تأثيرات مادية مسببة وحتمية.. نخلص من هذا إن الجسيمات الأولية خاضعة لسببية الفعل المعقدة ، إلا إنها تتجلى كحالة خاصة تفرضها الطبيعة الخاصة لهذه الجسيمات ، والتى سبق الإشارة إليها ، وإن عجزنا حتى الآن على صياغة نظرية عملية دقيقة مرضى عنها ،لا يعنى سوى أننا مازلنا نطرق أبوابها ، ونحاول فهمها بدقه أكثر إلا إنها موجودة تحكمها قوانينها الخاصة التى لا نعرف إلا بعضها، وتتحكم فيها الضرورة ، بصرف النظر عن معرفتنا بها ، ولاشك إننا لا نعلمها كاملة دقيقة ، بالرغم من إننا ما كنا بقادرين على الاستفادة منها فى الحياة العملية ، إلا إذا كنا قد توصلنا لقدر كاف منها ، وإلا إذا كانت خاضعة لسببية صارمة مفهومة لدينا شأنها شأن العالم الذى تكونه.
فهناك فرق دائما بين القدرة على التنبؤ الواضح عن سلوك موضوع ما، وبين مبدأ السببية والذى يعنى أن كل ما يحدث فى الطبيعة من عمليات وأحداث وظواهر ، وما يتواجد فيها من أشياء وكائنات ، له أسباب فى طبيعة المادة نفسها .. فى طبيعة الأشياء نفسها التى تحدث بينها عمليات متبادلة لتكون أشياء أخرى وهكذا .. فاكتساب الإلكترون لكم من الطاقة يعنى أن الإلكترون أصبح له كمية من الطاقة لا تتناسب مع مستوى الطاقة الموجود بها، مما يجعله يتحرك لمستوى طاقة آخر مناسب لكمية طاقته الجديدة ، أما إذا كان من الإلكترونات ذات مستوى الطاقة الأخير فى الذرة ، فإن اكتسابه لكم الطاقة يحوله لإلكترون حرا، فيشارك فى تفاعل ما مع إلكترونات ذرة أخرى أو أى شىء آخر.فمضمون مبدأ السببية هو أن السبب أساس كل ظاهرة ، وإنه كامن فى طبيعتها ، وأن هناك اعتماد متبادل بين السبب والنتيجة ، إلا أن علينا أن نفهم مبدأ السببية لا على أن هناك سبب أول أدى لمجموعة من الأسباب أدت بدورها لمجموعه أخرى أوسع من الأسباب وهكذا ، فهذا فهم شكلى للسببية ذو طابع تعسفى ، وهو مرتبط بمفهوم آخر شكلى هو مفهوم الجوهر الأول السابق ذكره ، أما الفهم الصحيح فهو أن المادة تتجلى دائما فيما لا نهاية له من كائنات مادية متنوعة تكمن فى طبيعتها ضرورات مختلفة وخصائص متنوعة ، وتؤثر فى بعضها البعض مسببة ما لانهاية له من نتائج تحكمها فى النهاية الضرورة الكامنة فى الأشياء ، وهى بذلك تؤثر فى غيرها وتتأثر بغيرها فتكون سببا ونتيجة فى نفس الوقت ، وهذا المفهوم يرتبط بالمفهوم الصحيح عن جوهر الأشياء ، باعتباره عملية مادية بين أشياء أخرى، ولا تؤثر فى سلوك الكائن المادى الأسباب الخارجية فقط ، وإنما تؤثر فيه بدرجة أكثر أهمية الأسباب الداخلية ، فطبيعة البروتون أوالنيوترون مثلاً تتحدد بعدد وأنواع الكواركات ، وكيفية ترتيبها داخل كل منهم ، كما أن طبيعة النواة من حيث كونها مستقرة أم مشعة تتحدد بالفرق بين عدد بروتوناتها ونيوتروناتها .. وما يجب أن نعرفه أيضا هو أن هناك أسبابا متعدده تشكل أساس نفس السبب فوراء كل سبب تأثيرات مشتركة لأسباب متعددة ، وأن النتيجة نفسها لن تحدث إلا بتأثير عدة أسباب متضافرة ،بعضها أساس وكافى وبعضها ثانوى ومكمل .. فطبيعة الجسيم الأولى الفيزيقية ، لا تتوقف فحسب على سبب واحد ، وإنما تتوقف على مجموعة خواص داخلية كاللف والكتلة والشحنة ، وأيضا تتوقف على علاقته بالجسيمات الأخرى ، فالجسيم الحر غير المرتبط ببنية أعقد كالذرة يختلف عن الجسيم المرتبط بتلك البنية .. وإذا كان الفوتون المكتسب سببا فى تحرك الإلكترون بعيداً ، فأن حركة الفوتون هذه فى اتجاه الإلكترون قد يكون لها عده أسباب مختلفة أو مشتركة .. فقد يكون قد أنطلق من إلكترون آخر ، أو من نشاط إشعاعى لنواة عنصر مشع ، وقد يكون ناتج من إشعاع حرارى أو ضوئى أو نووى ما وقد انطلق بلا هدف ، حتى أصطدم بالإلكترون الذى أمتصه فتحرك ، وهناك دائما أسبابا أساسية وأسبابا غير أساسية ، فحركه الإلكترون لا تعتمد فحسب على كم الفوتون المكتسب أو المفقود بل تعتمد كذلك على بعد مستوى طاقة الإلكترون الممتص لهذا الفوتون أو قربه من النواة .. وطاقة الترابط بين الإلكترونات والنواة ، وقدرتها على تقييد حركة الإلكترون بالذرة ، وكل هذه الأسباب غير أساسية فى حين أن السبب الأساسى هو اكتساب أو فقد الإلكترون للفوتون.
وإذا كان المغناطيس ينتج أساسا عن طريقة انتظام معين للإلكترونات داخل قطعة المغناطيس فى اتجاه واحد ، وهو السبب الداخلى والأساسى فعلاً لظاهرة المغنطة إلا أن هناك أسبابا خارجية وراء هذه الظاهرة كمرور التيار الكهربى حول قطعة الحديد غير الممغنطة .. فيسبب التيار الكهربى وما يحدثه من مجال كهربى فى عكس اتجاهه ، الانتظام المعين لإلكترونات ذرات قطعه الحديد الذى مر حولها التيار فى اتجاه واحد .. إلا أن هذا الانتظام ينتهى بمجرد انقطاع التيار وهذا هو ما يعرف بالمغناطيس الصناعى .. ونلاحظ أن نفس الشىء يحدث عندما نمغنط قطعة حديد بامرار مغناطيس عليها فى اتجاه واحد عدة مرات ، مما يعدل فى اتجاهات الإلكترونات ، وينظمها فى اتجاه واحد .. إلا أن قطعة الحديد الممغنطة تفقد مغنطتها عند طرقها عدة مرات .. وسبب النشاط الإشعاعى كامن فى طبيعة الجسيمات الأولية ، وتكويناتها المختلفة ، وما يحدث بها من عمليات إلا إنه باعتباره نتيجة يمكن أن يتحول لسبب يكون من نتيجة تأثيره ، نتائج أخرى ، فهذه الإشعاعات المنطلقة طبيعيا أو صناعيا بفعل الإنسان قد تؤثر تأثيرات ضارة أو نافعة على أجسام الحيوانات والنباتات ، فهى تسبب السرطان وتشفى من السرطان.
هذا عن السببية أما عن القدرة على التنبؤ بسلوك موضوع ما ، فهو نتيجة معرفتنا بارتباط السبب بالمسبب أو النتيجة فإذا كنا لا نعرف هذه الرابطة فأننا سنعجز عن التنبؤ الدقيق ، أما فى حالة المعرفة الدقيقة للسبب وعلاقاته بالمسبب فأننا سنستطيع التنبؤ الدقيق ، وذلك عندما نعرف بدقة حالة موضوع البحث ، وطبيعة علاقاته بعناصر الطبيعة من حوله، وما تحتويه من كائنات تتأثر وتؤثر فيه ، والأسباب المتعددة والمتنوعة من أساسية وثانوية ، وداخلية وخارجية، ومدى كفايتها ، وهل هى أسباب منشطة أم محبطة ، ضرورية أم غير ضرورية ، ثم أخيراً محصلة هذه الأسباب المراد معرفة نتيجة تأثيرها المشترك ، وكيف تتفاعل مع بعضها لتحدث النتيجة المتوقعة ، وذلك أيضا يتوقف على معرفة حصيلة كل سبب على حدة فى التأثير على الموضوع المراد بحثه ، ولما كانت ميكانيكا الكم نظرية غير مكتملة حتى الآن ، فأنها لا تستطيع إخبارنا بكل حقائق الجسيمات الأولية ، مما يجعلنا عاجزين أحيانا على التنبؤ الدقيق باحتمالات حركة كل جسيم على حدة إلا بصعوبة بالغة ، ولذلك فان السببية تعبر عن نفسها فى عالم الجسيمات الأولية فى شكل احتمال.
ما أقرب هذا لرميك قطعة النرد ذات الستة وجوه .. إن يدك قد حركتها فى فراغ قبضتك ، فمنحتها قوة دفع معينة ، تعتمد على حالتك العصبية والنفسية والصحية ، وجذبتها الأرض بأقوى مما جذبتها هى ، فسقطت عليها . سقوطها إذن حدث يقينى يمكنا التنبؤ به بكل ثقة ، ما لم تصادف عائق مفاجئ يحول بينها وبين الأرض ، إلا إنك لا يمكن أن تعرف على وجه اليقين على أى الوجوه ستسقط .. إلا إن احتمال سقوطها على أحد الوجوه ، واحد من ست احتمالات يقينية لا أكثر أو أقل .. وذلك بالرغم من أن هناك أسبابا مادية لسقوطها على الأرض ، وأن هناك أسبابا مادية أخرى لسقوطها على أحد وجوهها الستة منها وضعها أثناء القذف ، أى زاوية سقوطها ،وما اكتسبته من كمية حركة ، والمسافة بينهما وبين الأرض ، أو المسافة بين اليد و نقطة السقوط واتجاه الحركة .. صحيح إن سقوطها حتمى ومسبب كسقوطها على أحد الوجوه بالتحديد ، إلا أن حتميته ذات طابع احتمالى .. فأنت لا تستطيع التنبؤ الدقيق إلا فى حالة تقدير محصلة كل الأسباب الكامنة وراء كل الاحتمالات ، وهو ما سيصعب عليك جداً فى حالة رمى قطعة نرد، فما بالك بالجسيمات الأولية. وما بالنا أيضا بالتغيرات الاجتماعية والإنسانية التى تتداخل فى التأثير عليها العديد من الأسباب المتشابكة والمتفاعلة على نحو معقد يزيد من طابعها الاحتمالى.
(فحتمية لابلاس كانت منقوصة من وجهين فهى لم تبين لنا كيف ينبغى اختيار القوانين، ولم تحدد الشكل الابتدائى للكون ، ونحن نعرف الآن أن أمال لابلاس فى الحتمية لا يمكن تحقيقها على الأقل بالشروط التى كانت فى ذهنه .. فمبدأ عدم اليقين فى ميكانيكا الكم يدل على أن ثنائيات معينة من الكميات مثل موضوع وسرعة الجسيم لا يمكن التنبؤ بها معا بدقة كاملة ،ولتناقض الموجات مع أفكارنا المسبقة عن المواضع والسرعات وعدم التوافق الناجم هو سبب ما يظهر من عدم إمكان التنبؤ)19
إن مشكلة عدم اليقين نابعة من الفهم الشكلى لطبيعة الجسيمات الأولية التى يراد لها أن تقولب فى قوالب معينة اعتدنا عليها، وهو فهم يرفض طابعها المعقد والمتعدد الجوانب بعيداً عن الفهم الصحيح الذى لا يرى هذه الجسيمات إلا فى ترابطها وحركتها وجوانبها المتعددة ، ومن هنا يقبل الحتمية بجوار الاحتمالية، وجسمية الجسيمات بجانب موجاتها، وازدواجيتها الطاقية والكتلية وهكذا .
هذا يعنى وجود السببية فى الجسيمات الأولية ، ولكنها تفصح عن نفسها فى شكل يختلف عن شكلها فى عالم الحركة الميكانيكية بين الأجسام ، وعنها فى عمليات الحياة ، وعنها فى العلاقات الاجتماعية وعنها فى عملية المعرفة ، وهكذا فان فرض لابلاس الشهير عن العالم المسبب ذو السلوك الحتمى ، كأنه آله ميكانيكية ضخمة نعرف نتائج دوران عجلاتها وتروسها وسيورها مسبقا ، صحيح فى جوهر تعبيره عن عمومية السببية وما تسببه من حتمية ، إلا إنه قاصر فى تحديد شكل هذا الحتم فى شكله الميكانيكى الخالى من الاحتمالية والعشوائية ، والذى لا يأخذ فى اعتباره تعددية الأسباب ، وما تعمل فيه من ظروف منشطة أو محبطة ، تحيط بكل كائن مادى ، وما تؤدى إليه العلاقة بين الأسباب المختلفة والظروف المحيطة بتلك الأسباب من احتمالية ، وبالتالى فأن مبدأ عدم اليقين هو إعلان لفشل فرض لابلاس الميكانيكى وكل المنطق الشكلى فى التعبير عن الأشكال المختلفة للسببية فى أنواع الحركة غير الميكانيكية .. ففهم لابلاس للسببية والحتمية فهم رجعى ينفى دور الإرادة الإنسانية فى تغيير الواقع ، وإمكانية التأثير عليه، أى ينفى دور الإرادة الثورية فى إحداث التغيير الاجتماعى بعكس الفهم الصحيح للأمور الذى مع تسليمه بالضرورة، إلا أنه لا ينفى دور الإرادة بل يؤكدها هل من الممكن أن يكون عالم الجسيمات الأولية غير محكوم بالسببية ، وما تؤدى إليه من حتمية ، وهو المكون لباقى كائنات الوجود المادية من الجزئيات حتى الأجرام.. فلو لم تكن الوحدة البنائية لهذا العالم ، وهى الجسيمات الأولية مسببة الفعل ، فكيف كونت العالم المسبب ، والذى عرفنا بقيامه على السببية ، لا لأنها فكرة منطقية مسبقة فى عقولنا ، وإنما كنتيجة تراكم ما لانهاية له من خبرات عبر التاريخ البشرى كله وفى شتى الظروف ، حيث تتواتر الأسباب ، تتلوها النتائج ، ومن خلال العلم نعرف الضرورة ما بين السبب والنتيجة ، فلو لم تكن هناك علاقة ضرورية بين السبب والنتيجة لما كان هذا العالم إلا أحداث فوضوية لا نظام بينها ، وما كنا استطعنا الوصول لحقائقه ولا استنتاج علاقة السببية بين كائناته.
إن السببية دائما هى إجابة العلم الصحيحة على الأسئلة المحيرة للإنسان حول تفسير ما حوله من ظواهر ، وهو عبر كل تاريخ العلم كان يكتشف أن سبب ما حوله من ظواهر كامن فى طبيعة مادية الظواهر إلا إنه أمام الظواهر اللامتناهية أمامه، والتى يتسع إحساسه بها كلما خطى خطوات متقدمة نحو المعرفة ، نجده يعرف لبعضها تفسيراً ماديا مقبولاً أما بعضها فيظل مجهولاً بالنسبة له إلى أن يكشف العلم عن إجابة ، تفسر هذا البعض الغامض ، وما أن يحدث هذا حتى يتفتح العالم أمامنا لظواهر جديدة غامضة تنتظر التفسير ، وسيظل هذا حال الإنسان دائما فى محاولته معرفة ما حوله من كائنات مادية لا نهائية ، وهى فى حركتها وتحولاتها وارتباطاتها بغيرها من الكائنات المادية ، إلا أن هناك دائما عقليتين ، أحدهما تبحث عن السبب المادى الكامن فى طبيعة الظاهرة، فإذا علمته من خلال المنهج العلمى فى البحث كان لديها هو سبب الظاهرة ، و لاشىء سواه ، وإذا لم تستطع الإجابة والتفسير نظراً لقصور قدراتها فى البحث ، فأنها تمتنع عن الإجابة ، وتؤجل التفسير لاقتناعها بأن السبب المجهول كامن فى طبيعة جوهر الظاهرة ما لم يسفر عن حقيقته لنا ،... وهناك العقلية غير العملية التى حتى مع معرفتها بالأسباب الكامنة وراء الظواهر التى حولها ، إلا إنها ترجع كل هذه الأسباب لشىء خارج المادة والطبيعة والواقع ، فهى تتعسف وتفترض إن المادة عاجزة عن الحركة بمفردها ، ولذلك فلابد وأن هناك من يحركها من خارجها ، وتتعسف وتفترض أن هناك سبب أولى أقوى لكل الظواهر سبب هذه الأسباب ، وتتعسف وتفترض أن للطبيعة العمياء التى تحكمها الضرورة عقلا ما وراءها ، كل هذا حتى فى حالة معرفتها بالمحركات والأسباب والضرورات... أما لو لم تكن تعرف الأسباب المادية ، وما أكثر ما سيواجه الإنسان من مجهولات تحتاج لبحث علمى لمعرفتها ، فأنها و بشكل متعسف وفورى ترجع كل المجهولات والمدهشات للسبب الأول الخارج عن الطبيعة ، وبرغم كل التاريخ العلمى الطويل ، وبكل ما حفل به من صدمات هائلة لتلك العقلية ، منذ أن بدأ بحث الإنسان عن الحقيقة من خلال العلم ومنهجه ، فأبدع اكتشافاته واختراعاته ، ولا يمكن أن أستفيض فى ذكر كم الظواهر اللانهائية التى كانت غامضة ، والتى أرجعتها هذه العقلية لما وراء الطبيعة من أسباب ومحركات وضرورات ، ولا يمكن أن أحكى عن الكم الهائل بعمر التاريخ البشرى كله من التخيلات والأساطير والخرافات التى لا توجد إلا فى هذه العقلية ، وكيف كان حين يكشف العلم أسرارها تضطر هذه العقلية إما للتخلى عن هذه الأفكار أو الجمع بينها وبين الأسباب العلمية ، أو إرجاع الأسباب التى يكشف عنها العلم لتلك الأوهام ، وفى نفس الوقت ، تتكشف ظواهر جديدة مجهولة للإنسان فتعود هذه العقلية لسابق عهدها ، استسهالا وتعسفا لإرجاعها إلى ما وراء الطبيعة ، وهى عبر كل التجربة الإنسانية العريقة لم ترتدع ، ولم تتعلم.
وإننا إذا كنا نقر من خلال ملاحظتنا الموضوعية والمحايدة المبنية على أساس الممارسة العملية بوجود الحتمية فى سلوك الأشياء والظواهر والعمليات التى تشكل الوجود بأسره ، إلا أن الجانب الآخر من المسألة ومن خلال نفس المنهج ، الذى يجعلنا نستنتج بأن هذه الحتمية تتم من خلال العديد من المصادفات ، فالتقاء بلايين الذرات والجزيئات فى التفاعلات الكيمائية المختلفة يتم مصادفة، وبشكل عشوائى تماما ، إلا أن هذه الذرات والجزيئات التى التقت مصادفة تأخذ فى التفاعل فيما بينها بحكم الضرورة الكامنة فى طبيعتها ، فكلا من الضرورة و المصادفة يحدثان فى نفس العملية.
فهناك إذن علاقة وطيدة بين الضرورة والمصادفة ، وأن إحداهما لا تنفى الأخرى ، فالظن أن الضرورة المطلقة تحكم كل ما فى الطبيعة من مظاهر وعمليات يؤدى بنا إلى نفى أى مصادفة ، وبالتالى تتحول المصادفات إلى ضرورات حتمية ، وهذا الظن شأنه فى ذلك شأن القول بانتفاء الضرورة والحتمية ، وأن كل ما فى الوجود من أحداث محض مصادفات عبثية لا رابط بينها ولا ضرورة وراءها ، وبالتالى تتحول الضرورات إلى مصادفات فى حاجة إلى عقل ينظمها ، وقد يكون هذا العقل خارج الطبيعة أو داخلها ، أو عقول البشر أنفسهم أفرادهم أو جماعتهم.
وفى كلتا الحالتين يكون الموقف المنطقى الوحيد للإنسان هو الاستسلام التام للواقع ، أو الانغلاق على ذاته ، وبالتالى عدم النضال من أجل تغيير الواقع ، ولما كنا قد خبرنا قدرة الإنسان على تغيير الواقع سواء أكان هذا الواقع هو الطبيعة أو المجتمع ، حيث نستطيع من خلال الممارسة العملية أن نلاحظ وجود الضرورة فى شتى الأشياء والظواهر والعمليات التى نتعامل معها ، فنلاحظ مثلاً أكسدة الفلزات كالحديد والنحاس ، فإنها تتأكد فى كل مرة تتعرض بعض الفلزات لهواء رطب. فنلاحظ كلا من صدأ الحديد البنى اللون وصدأ النحاس الأزرق اللون ، ولذلك قد تعلمنا أن نطليها بمواد لا تتأكسد عرفناها بالتجربة حتى نحميها من التآكل .. فلولا قناعتنا بالضرورة ما فعلنا ذلك ، ولتركنا كل الأشياء بما فيها أنفسنا إما للأقدار الحتمية أو المصادفات السعيدة أو التعيسة ،إلا أننا أيضا لا يمكن أن نفسر كل الظواهر بالضرورة و فقط ، حيث أن هذا معناه السقوط فى الجبرية، وبالتالى ننفى الحرية الإنسانية، ومنها بالتالى مسئولية الإنسان على أفعاله.
إن الأخذ بالحتمية المطلقة والاعتقاد بالجبرية ، هما إعلان بالعجز أمام الواقع ، فى حين أن كل التاريخ البشرى ما هو
إلا تغيير لهذا الواقع ، سواء أكان الطبيعة للسيطرة عليها وتحويلها لمنتجات مادية ومن ثم فهمها من خلال هذا التغيير الذى لا يمكنه أن يتم بدوره أيضا إلا من خلال هذا الفهم ، أو المجتمع البشرى والذى وإن كان يتطور ويتغير وفق ضرورات معينه ، بالتالى يحكم هذا التطور قدر من الحتمية يعرف أيضا إلى جانبه الاحتمالية والمصادفات ، وهو فى نفس الوقت يتغير ويتطور من خلال أفعال البشر الواعيين الذين يعرفون ماذا يريدون وكيف يحققون ما يريدون. فالجبرية تعنى الاستسلام التام للظلم والعبودية والأقدار ، تعنى سلبية ولا مبالاة المقهورين والمحكومين والمستغلين وهذا هو منتهى مراد القاهرين والحاكمين والمستغلين ، وهو الشىء ذاته الذى تؤدى إليه العبثية وإنكار الضرورة والسببية ، فمادامت لا توجد ضرورات تفرض أسباب ، ومادام الوجود ما هو إلا سلسلة من المصادفات العشوائية ، فلا معنى لأى محاولة لتغيير الواقع والتأثير عليه ، حيث إنه من المستحيل فى هذه الحالة فهمه ومن ثم تغييره.
إن الإقرار بوجود المصادفات موضوعيا لا يعنى نكران السببية ، حيث توجد لكل المصادفات أسبابها ، فصدفة سقوط المطر عند خروجك للعمل فى الصباح مما أعاقك عن الوصول فى موعدك المحدد لها سبب ، حيث تسقط الأمطار لأسباب ضرورية، إلا أن هذه الضرورة أصبحت صدفة بالنسبة لك رغم انبعاثها من ضرورة ما ، فشروط عمل سبب معين يمكن أن تتوافر ويمكن إلا تتوافر ، فتحدث النتائج أو لا تحدث بناء على ذلك ، ولما كانت الأسباب ذاتها متباينة الفعالية ، فبعضها أساسى والآخر ثانوى ، بعضها ينشا عن جوهر الأشياء وبالتالى تبدو ضرورية ، وهناك أسباب لا علاقة لها بهذا الجوهر فتبدو تصادفية من الممكن حدوثها وقد لا يمكن لها ذلك ، فالمصادفة تتجلى عند تلاقى عدد من الظواهر المشروطة سببيا (ذرات ، درجة حرارة ، عوامل مساعدة للتفاعل ، عوامل معيقة أو محبطة للتفاعل ، .. الخ) وهى كلها عوامل أو ظواهر تكمن فيها ضرورات تؤدى إلى الحتمية ، إلا أن التقاء كل هذه الظواهر فى نقطة المصادفة لبعضها ليس أمراً جبريا ، فما حدث هو تجمع لعديد من الظروف ، وانعدام أحد هذه الظروف قد يمنع حدوث التفاعل . لا يوجد أى فصل بين الضرورات والمصادفات ، فالضرورات تتحول إلى مصادفات والعكس صحيح ، فعمليات التفاعل النووى ، وما تؤدى إليه من أشعه ، يؤدى تعرض إنسان بعينه إليها إلى تعرضه للسرطان ، كما تتحول المصادفات إلى ضرورات ،حيث يؤدى تعرض الناس لها مصادفة إلى ضرورة إصابتهم بالسرطان وهكذا وحيث أن المصادفات موجودة فإنها تؤثر فى الواقع بشتى المؤثرات .. فقد تؤدى إلى تغيرات عظيمة فى تطور الواقع ، وقد لا تؤدى إلى شىء ذو أهميه ، وقد تؤثر تأثيرات سيئه أو تأثيرات سعيدة بالنسبة للبشر ، وقد تكون سارة لبعضهم وغير سارة لبعضهم ، بعض المصادفات تسرع فى حدوث العمليات الضرورية، وبعضها يبطئ من سرعتها البعض يحفزها والبعض يحبطها وهكذا,
السببية هى أحد القوانين العامة التى تعكس العلاقات بين الظواهر فى أحد جوانبها ، وفى الحقيقة إن مهمة كافة العلوم عند دراستها للظواهر المختلفة هو كشف علاقة السببية بين الظواهر المختلفة ، فالمعرفة فى أوجز عبارة ممكنة هى معرفة السببية بجانبيها السبب والنتيجة ، وهى العلاقة التى توصل إليها الإنسان عبر فهمه للظواهر المختلفة كل على حدة ثم فى ارتباطاتها بهذه العلاقات وفى كل مرة بتواتر لانهائى تتابع الأسباب تتلوها النتائج ، فالسبب والنتيجة مرتبطان تماما حيث يستدعى السبب وجود النتيجة ، فالسببية تعبر عن علاقة ضرورية بين الظواهر المختلفة ، فزيادة عدد النيوترونات عن عدد البروتونات فى نواة الذرة سبب ضرورى لظاهرة النشاط الإشعاعى ،حيث أن هذه الزيادة تعنى وجود خلل فى التوازن فى نواة الذرة، وبالتالى فأنه فى كل مرة تزيد فيها النيوترونات عن البرتونات تحدث ظاهرة لنشاط الإشعاعى التى تتوقف عند تساوى كلا من البروتونات والنيوترونات أى حدوث التوازن.
وقد توصل الإنسان لمفهوم السببية من خلال نشاطه العملى الذى أدى لمعرفته للعالم من حوله ، وإن كان ل أيمكن أن يتم إلا من خلال توصل الإنسان لمفهوم السببية من خلال نشاطه العلمى الذى أدى لمعرفته للعالم من حوله ، والذى كان لا يمكن أن يتم إلا من خلال المجتمع ، فالإنسان لا يمكن أن يوجد معزولاً عن مجتمع بشرى ما ، هذا المجتمع الذى تتراكم لديه الخبرات عبر عشرات الأجيال فضلا عن تداوله الخبرات مع المجتمعات الأخرى ، فلم يتكون مفهوم السببية على أساس خبرة فرد ما ، وإنما هى خبرة البشر التاريخية ، والتى كشفت أهمية السببية التى تعكس أهم قوانين الواقع .. ومن كشف هذه القوانين نعرف أسباب الظواهر المختلفة ما نستطيع التأثير عليها سواء بتلاقى الأسباب غير المرغوب فيها ، واستدعاء الأسباب المرغوب فيها لتحدث النتائج المطلوبة .. فبقذف قذائف شعاعيه إلى نوى الذرات تتحول لنوى ذرات مشعة أو تتحول لذرات أخرى .. فقد حلم الكيمائيون القدامى بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب من خلال بحثهم عن أسطورة حجر الفلاسفة الذى يستطيع تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب .. إلا أن هذا الحلم لم يصبح واقعا إلا بعد معرفة الإنسان بالأسباب الحقيقية التى تعطى ذرات العناصر صفاتها ، فاستطاع فعليا تحويل العناصر إلى بعضها البعض ، وهذا لم يكن ممكنا إلا من خلال وصول المجتمع البشرى لدرجة من التطور .. هذا التطور الذى كان مستحيلاً بدوره دون تراكم معارف لا حصر لها عن أسباب نشوء ظواهر معينة وتحولها .. ومنها ظواهر العناصر المختلفة من حديد ونحاس وذهب وغيرهم ، وما كان للإنسان أن يستطيع أن يسيطر على الطبيعة ويحولها دون معرفة أسباب الظواهر الطبيعية ، فبدون هذه المعرفة أو الفهم كان سيظل المجتمع البشرى متخلفا يحلم أفراده بحجر الفلاسفة ، وغيره من أساطير ، عاجزاً أمام شتى الظواهر.
والسبب يأتى دائما قبل النتيجة ، ويكون سببا فيها ، إلا إن هذا لا يعنى أن كل ظاهرة تسبق ظاهرة أخرى هى سبب لها ، فربما يكون ما حدث من تتالى الظواهر ما هو إلا عرض ومصادفة .. ولذلك لا ينبغى لنا الخلط بين السببية والتوالى الزمنى للظواهر .. فهناك ظواهر تسبق ظواهر تسبق ظواهر أخرى ، فتوحى لنا أن السابقة سببا للاحقه إلا أنه فى الحقيقة لا توجد علاقة ضرورية بينها ، وإنما هى علاقة ظاهرية فحسب كما لو كانت ذريعة وليست سببا حقيقيا. إن السببية علاقة شاملة وعامة بين شتى الظواهر .. فكل الظواهر فى سكونها وتحركها .. تأتى وتبقى وتموت بتأثير أسباب حيث لا يمكن أن توجد أى ظواهر بدون أسباب ، فأسباب حركه الجسيمات هو تبادلها كمات الطاقات مما يكسبها أو يفقدها هذه الكمات فتتحرك لكى تحافظ على مستوى طاقتها ، إلا أن الإنسان لا يعرف من الأسباب إلا بعضها ويجهل بعضها ، وقد لا يفهم بعضها بدقه و يفهم البعض الآخر بدقة أكثر ، إلا إنه فى شتى الأحوال توجد أسباب مستقلة عن وعى الإنسان بها ، فهى كامنة فى طبيعة شتى الظواهر المعلومة و المجهولة على حد السواء.
فالسببية علاقة موضوعية تعبر عن علاقات ضرورية فى واقع الأشياء ، وما يجرى بينها من عمليات ، وهى تنعكس بشكل صحيح فى المخ البشرى فى صورة هذا المفهوم
فقانون السببية يعنى إن جميع ظواهر الوجود تشترط بعضها بعضا سببيا ، وهذا هو التفسير العلمى لشتى الظواهر والذى تصبح مهمة العلم إيضاحه فى كل مجال من مجالات الواقع التى يدرسها العلم .. فماذا يبرهن على صحة هذا التفسير من عدمه؟ إنها الممارسة العملية ، فممارسة الإنسان العملية فى إحداث التفاعلات النووية ، والتعامل معها واستخدامها هو شرط لفهمها فهما صحيحا ، وهى بالتالى الطريق الوحيد لمعرفة الأسباب الحقيقية لظاهرة النشاط الإشعاعى ، وتحولات الجسيمات والعناصر .. الخ فنحن كلما منحنا إلكترونات الذرة قدراً معينا من الطاقة كان هذا يعنى تحرك هذه الإلكترونات بعيداً عن نواة الذرة ، بقدر يتناسب مع هذا القدر من الطاقة الممنوحة له .. ومن هنا نتيقن أن ما يربط بين نواة الذرة والإلكترون هو هذا الكم من الطاقة ، وأن تأينها لا يمكن أن يحدث إلا باكتسابها هذا الكم .. إلا أن هذا الفهم الميكانيكى أو الشكلى للسببية يحرم الإنسان من فهم أكثر صحة لها .. فصحيح أن الواقع قائم على أسباب موضوعية ، إلا إنه أحيانا لا ينتج عن الأسباب المعروفة النتائج المتوقعة ، إلا أن هذا لا يدحض مفهوم السببية ، إذ قد يعترض الطريق ما بين السبب والنتيجة سبب آخر يعطل تأثيره ، وبالتالى لا تحدث النتيجة المتوقعة .. فجهد تأين الذرة المطلوب لفصل إلكترون عن الذرة لا يتوقف فحسب على مستوى طاقته بل على قطر الذرة وشحنه النواة والتشكيل الإلكترونى حولها ، وهى شروط قد تعرقل السبب أو تحفزه أو توقفه ـو تشترطه ، إننا قد نقع فى أخطاء حين نحاول استنتاج الأسباب من النتائج ، فقد لا تكون هناك علاقة حقيقية بين السبب والنتيجة ، إلا أن الممارسة العملية وحدها هى التى تمكنا من تصحيح هذه الأخطاء ، فمن خلال العديد من التجارب والاحتكاكات بالواقع ، نتوصل للأسباب الحقيقية ، وهو ما يجعلنا نتحقق من صحة استنتاجاتنا الفكرية الخاصة بالسببية.
إن الفهم الصحيح للسببية يتجاوز الفهم الشكلى أو الميكانيكى لها ، الذى يحدد السبب فحسب فى السبب الخارجى أو السبب الواحد بالنسبة للنتيجة الواحدة دون النظر فى الأسباب الداخلية أو المتعددة بالنسبة لنفس النتيجة ، فأشكال السببية تتعدد كلما صعدنا فى سلم التطور ، وأن الرابطة بين السبب والنتيجة ليست فى اتجاه واحد ، وإنما فى اتجاهين مزدوجين فكلا منهما يؤثر فى الآخر، وتتبادلان أماكنهما ، فتوجيه قذيفة مشعة إلى نواة العنصر المستقر غير المشع تحوله إلى عنصر مشع تقذف أنويته بدورها قذائف ، وأن استمرار عمليه قذفه هذه ستؤدى فى النهاية لاستقراره أو تحوله إلى عنصر آخر ، وكما تحدث الإشعاعات المتولدة من العناصر المشعة السرطان للحيوانات التى تتعرض لها ، فأنها فى أحوال أخرى وبجرعات مناسبة تشفى الحيوان من نفس السرطان ..إن التأثير المتبادل بين الظواهر يكون سببا داخليا لحركة ظواهر الواقع و تغيراته ، فالواقع هو مجموعة من الظواهر تتبادل التأثير فيما بينها وهو فى حركته المستمرة ، وتطوره اللانهائى لا يحتاج لأسباب من خارجه ، فهذا التأثير المتبادل بين شتى ظواهره هو السبب الحقيقى والنهائى لجميع تلك الظواهر ، هى السبب الأول لكل الوجود وما يحدث فيه.
والظواهر فى تبادلها للتأثير فيما بينها لا تكون فى نفس المستوى من الأهمية فهناك أسباب حاسمة ، وأسباب غير حاسمة ، أسبابا رئيسية وأسبابا ثانوية ، وعلى العلم أن يكشف لنا باستمرار عن ما هو حاسم وأساس فى الأسباب التى تحدث النتائج قيد البحث ، فهناك دائما ما يسمى بالشروط ،وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة حيث لا يحدث السبب نتيجته إلا بتوافر هذه الشروط ، وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة حيث لا يحدث السبب نتيجته إلا بتوافر هذه الشروط ، وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة ، فلا يحدث السبب النتيجة
إلا بتوافر هذه الشروط ، فتبادل الفعل بين الإلكترونات والبروتونات مشروط بدرجه حرارة معينة، فبعض الشروط تساعد على توليد النتائج ، وبعضها يعطل هذه النتائج ، فمعرفتنا بالأسباب والشروط تمكنا من التنبؤ بالنتائج ، وهو ما يمارسه الإنسان عمليا ، فلكل نتيجة إذن عدة أسباب مختلفة تسببها ، فانفصال إلكترون عن الذرة قد يتم بسبب ارتفاع درجة الحرارة أو قوة الفرق بين جهدين كهربين أو بسبب النشاط الإشعاعى ، وذلك وفقا للظروف المختلفة كما أن سببا واحد قد يؤدى إلى نتائج مختلفة ، وتتنوع أشكال السببية بين شتى الظواهر ، إلا إنها بالرغم من كل ذلك لا تعبر عن كل العلاقات المتبادلة بين شتى الظواهر فى تزامنه.
وأخيرا عذرا على الإطالة والإسهاب وما يغفر لى هو الأهمية المركزية لنفى السببية فى الكون فى إشاعة الخرافات ومساواتها من ثم بالعلم،فكلاهما مجرد حكايتين لدى البعض و لا مفاضلة بينهما إلا بمقدار الفائدة التى تعود علينا منهما ،ومن ثم كان لابد من توضيح السببية على هذا النحو المفصل.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية