أزمة اليسار الوطنى
أزمة اليسار الوطنى
سامح سعيد عبود
(( ردا على ما جاء فى كل من مقال " القوى التقدمية ومستقبل مصر" للأستاذ عبد الغفار شكر . ومقال " قضايا ملحة فى تطوير الفكر الاشتراكى العلمــى فى مصر للأستاذ حلمى شعراوى فى مجلة الطريق اللبنانية – العدد الرابع يولية / أغسطس 1995تحت العنوان الكبير " نحو تجديد الحركة التقدمية المصرية " ))
ظهرت الحركات الاشتراكية فى مصر ، الماركسية منها وغير الماركسية وجنود الاحتلال الإنجليزى يعربدون فى شوارع القاهرة والإسكندرية ، وشهدت صعودها الأخير وجنود إسرائيل يحتلون أرض سيناء . وقد انطبق منحنى هبوط وصعود تلك الحركات مع منحنى هبوط وصعود حركة التحرر الوطنى ، وتربت أجيال تلك الحركات على إعلاء الصراع القومى على حساب الصراع الطبقى ، وفى أحسن الأحوال المزج بينهما . صحيح أن الماركسيين منهم كانوا يصرحون بأمميتهم ، إلا أنهم فى الممارسة العملية ، وفى خطابهم السياسى ، و رؤيتهم النظرية ، لا تحركهم إلا الأهداف و المبادئ القومية المطعمة برؤية شعبوية ، وقد امتلكوا من الجسارة ما جعلهم يمزجون بين المنهج الماركسى ومناهج الهويات القومية والحضارية والثقافية . مما أورثهم أزمتهم المزمنة .
ولما أصبحت أزمة الاشتراكية واضحة للعيان غير منكرة من أحد ، و أصبح حديث البحث عن مخرج لها ، هو حديث كل المتمسكين بهدف العدالة الاجتماعية ، وأخذت دعوى تجديد كل من الفكر الاشتراكى والحركة الاشتراكية تجد قبولا واسعا ، إلا أننا نلاحظ فى كثير من الأحيان أن بعض دعاوى التجديد أخذت تدعو لنفس الأفكار القديمة . وتطرح الحلول القديمة نفسها لمشكلات واقع قديم تجاوزها التاريخ فعليا ..حيث أن خبرات الصبا والشباب تظل تلقى بظلها على أذهان الشيوخ رغم تغير ما يعيشونه من أحوال .
فالأستاذ حلمى شعراوى يكتب فى مقاله " إنه لا يعقل ألا يدرك الاشتراكيون المصريون معنى وجودهم فى مجتمع فلاحى لتغيب المسألة الفلاحية بهذا الشكل عن فكر وممارسة الفصائل المهيمنة على الحركة الاشتراكية فى مصر والعالم العربى " فعندما يتحدث خطاب اليسار الوطنى على الطابع الفلاحى للمجتمع المصرى ، فأنه يتعامى عن حقيقة أن المجتمع المصرى فقد طابعه الفلاحى بل والزراعى منذ فترة طويلة . حيث تبلغ قوة العمل فى مجال الزراعة 30% من أجمالى قوة العمل ، حوالى 4مليون عامل زراعى من أصل 13مليون عامل بأجر هم إجمالى قوة العمل المصرية حسب إحصاء 1986. ويبلغ مجموع الحيازات الزراعية حوالى 3 مليون حيازة من حيازات أشباه البروليتاريا الزراعية وحتى حيازات كبار الملاك الرأسماليين الزراعيين . وأن جملة سكان المدن يبلغون 64 %من إجمالى تعداد السكان فى أواخر الثمانينات فى حين كانوا 25% فى الخمسينات .ويعمل30 % من إجمالى قوة العمل فى الصناعة و 40 % من إجمالى قوة العمل فى التجارة والخدمات ( كل هذه البيانات مستمدة من إحصائيات تعداد السكان لسنة 1986) .
فقد تحول المجتمع المصرى الزراعى الذى كان يعيش على زراعة القطن وتجارته ، إلى مجتمع خدمى يعيش على دخل قناة السويس والبترول والسياحة و إيرادات المصريين العاملين بالخارج فى حين تأتى الزراعة والصناعة كمصادر للدخل فى آخر القائمة . وبرغم أن المجتمع المصرى أكثر المجتمعات تصنيعا فى المنطقة العربية فأن إجمالى ما يشارك به العالم العربى فى الإنتاج العالمى بما فى ذلك البترول يبلغ حوالى 2,5 %.
فهل بمثل تلك الأفكار القديمة المستندة على معلومات قديمة فقدت صلاحيتها منذ زمن طويل يمكن تحديد أطر حركة تقدمية جديدة ، قادرة على تجاوز أزمة الاشتراكية الراهنة . والتى كان السبب الرئيسى لها التمسك بنفس تلك الأفكار ؟.
يفسر خطاب اليسار الوطنى الأزمة المجتمعية الشاملة التى تعيشها مصر على إنها بسبب توجه الحكم نحو المزيد من الليبرالية الاقتصادية ، استجابة لتوجهات الدول الدائنة ، وتنفيذا لبرنامج التثبيت الهيكلى هكذا يبدأ الأستاذ عبد الغفار شكر مقاله ، وهذا التفسير يتغافل عن الأساس المادى الذى دفع ويدفع كل دول العالم بلا أدنى استثناء من دول المركز الرأسمالى المتقدم الدائنة ، إلى الدول البيروقراطية المسماة بالاشتراكية ، إلى أنظمة التحرر الوطنى ، سواء أكانوا ما يزالون يرفعون لافتاتهم أم تخلوا عنها ، إلى إتباع نفس السياسات الليبرالية ، ولماذا سقطت كل أشكال تدخل الدولة فى عملية الإنتاج ، بسقوط كل الاشتراكيات الستالينية والديمقراطية والقومية والدينية وعلى نحو متزامن ومطرد منذ عقد السبعينات ؟ هل هى الخيانات والمؤامرات وفقا للتفسير التآمرى للتاريخ ؟ أم الضرورة المادية الكامنة وراء تطور المجتمعات ألا وهى ضرورة تطوير قوى الإنتاج وفقا للتفسير المادى للتاريخ ؟ .تلك الضرورة التى أجبرت نفس الدول الدائنة على التخلى عن السياسات الكينزية بكل ما تعنيه من قيام الدولة بدورها الاجتماعى بتدخلها فى عمليات الإنتاج والتوزيع والتبادل . وهى فى هذا لا تختلف عن الحكومة المصرية أو أى حكومة أخرى إلا فى الدرجة . وبالتالى فالأمر لا يتعلق بخيانة ما من الحكومة المصرية لوطنها أو شعبها الذى تحكمه . فما يحدث هو جزء من اتجاه عالمى ، وبالتالى فإن نظريات الردة والخيانة والمؤامرة ، بل وحتى نظرية التبعية لا تصلح لتفسيره .
أما التفسير الصحيح فهو أن دور الدولة القومية المباشر فى عملية الإنتاج استنفذ قدراته فى تطوير قوى الإنتاج ، وحل أزمات ومشكلات النمو ، بل وأصبح معوقا أمام تطوير تلك القوى ، بعد ما كان الوسيلة المثلى لكل البورجوازيات الضعيفة والعاجزة والمأزومة لحل مشكلاتها مع هذا النمو فى الفترة من أواسط القرن الماضى وإلى السبعينات من القرن الحالى ، وذلك من خلال اشتراكيات الدولة ثم الاشتراكيات الستالينية ، ثم الاشتراكيات الديمقراطية والقومية والدينية عبر العالم بأسره .
والسر وراء هذا التحول من النقيض إلى النقيض هو التدويل الكامل للقسم الأعظم والأكثر أهمية من الإنتاج والتوزيع والتبادل من خلال الشركات المتعدية الجنسية العملاقة التى تسيطر على 70 % من الإنتاج العالمى ، وتداعيات هذا التدويل ونتائجه التى تشكل مرحلة جديدة من النمو الرأسمالى تجاوزت المرحلة الاحتكارية القديمة بكل خصائصها المعروفة . ومن هنا فإن الأزمة المصرية لا تخص مصر فحسب ، إلا أنها التجلى المحلى لأزمة عالمية تضرب وبعمق فى أسلوب الإنتاج الرأسمالى . ولا مخرج من هذه الأزمة إلا بإحداث تغيير شامل يتضمن أسس تنظيم الإنتاج والقاعدة الاجتماعية للسلطة والحكم والقيم السائدة ، إلا أن هذا لا يمكن أن يحدث فى مصر وحدها بمعزل عن العالم بأسره .
فإقامة الاشتراكية الحقيقية من حيث هى سيطرة المنتجين الأحرار على قوى الإنتاج على بنية تخلف هو حلم طوباوى يتنافى والتفسير المادى للتاريخ ، وبالتالى فهو مستحيل التحقق وإن كان التطور اللامتكافى ء سيظل أساسا فعالا لتمردات وانتفاضات عمالية أو شعبية قد تصل بالطبقات الشعبية إلى السلطة . إلا أنها سرعان ما سيصيبها التدهور البيروقراطى فى المجتمعات المتخلفة نتيجة تخلفها أولا وحصار البلدان الأكثر تقدما والتى تحوز على قوى الإنتاج الأكثر تقدما ثانيا . ولا يمنع هذا بالطبع أن يحدث التدهور البيروقراطى فى الدول المتقدمة إن حدثت بها ثورات اشتراكية نتيجة عوامل مختلفة أهمها الحصار من الدول المعادية . وهذا ما أثبتته تجربة الثمانين عاما الماضية ، وما أثبته التحليل العلمى . فالبيروقراطية والفساد والاستبداد هى أبرز سمات كل التجارب الاشتراكية والعلمية فى الشمال والجنوب من روسيا إلى تنزانيا ، ومن كوريا الشمالية إلى كوبا . وقد سبق لى تناول هذه الظاهرة العالمية على نحو أكثر تفصيلا أسبابها ونتائجها فى مقالين سابقين أحدهما بعنوان "نقد الحركات الاشتراكية العلمية "وعنوان "اشتراكية أم دولنه للإنتاج" .
وإذا كنا قد تعلمنا أنه لا يهم ماذا يقول الناس عن أنفسهم ، وإنما المهم ما يمكن أن تحتويه سلوكياتهم من مضامين حقيقية ، وما تخفيه أفكارهم الظاهرية من مضامين متناقضة فإننا لابد وأن نبحث عما وراء خطاب اليسار الوطنى الذى يمثله كل من الأستاذ عبد الغفار شكر والأستاذ حلمى شعراوى سنجد أنه يسعى إلى قيام دولة وطنية قوية متحررة من التبعية فى مصر أو عبر العالم العربى . تعيد تأسيس رأسمالية دولة جديدة أو نظم بيروقراطية جماعية حسب الأحوال ، تحت لافتات الوطنية أو الاشتراكية . أنهم بالجملة يصرون على بعث النماذج الناصرية و البعثية و الستالينية و الماوية ، سواء فى صورهم الأصلية أم فى صورهم المعدلة بالرتوش الديمقراطية ، وخلف رطانتهم الطبقية تقبع أيديولوجياتهم الأصلية الوطنية أو القومية الطابع ، أيديولوجيات الهويات الثقافية أو الحضارية أو القومية ، والتى من خلالها يقمعون الصراع الطبقى ، أو يحولونه لصالح أهدافهم الأيديولوجية ، وهو ما يختلف عن تصور آخر لثورة عالمية تتحرر فيها كل قوة العمل المأجورة من القهر والاستغلال والاغتراب وعبودية العمل المأجور ، وهو تصور لا يعنى الحريق الثورى الفجائى ذات ليلة ما عبر الكرة الأرضية بأسرها ، و إنما المقصود عملية اجتماعية عبر العالم تكون تيار من التحولات التى تأخذ أشكال مختلفة ، وفى فترات زمنية مختلفة ، وعبر عقود من الزمن ، وفى أماكن متنوعة من عالمنا بسيناريوهات متباينة ، ليس بالضرورة متطابق مع ما أشارت إليه النصوص الماركسية أو اللاسلطوية أو الاشتراكية المختلفة على وجه العموم تعتمد على أن الصراع الحقيقى ، وهو الصراع الطبقى الذى هو طريق التحول الاجتماعى ، والذى بحسمه عمليا ستزول كافة أشكال القهر بما فيها القهر القومى ، فالتغيرات الاجتماعية من هذا النوع لا تتم بين يوم وليلة أو فى إطار واحد . فقد أخذت الرأسمالية ومن قبلها الإقطاع عقود من الزمن حتى سادت المجتمعات ، لم يتوقف خلالها أو بعدها التطور .
الحقيقة أن إفلاس اليسار الوطنى العربي أمام القوى الليبرالية ، وقوى الإسلام السياسى ، يرجع إلى أن الأولى تتواءم مع متطلبات العصر الإنتاجية ، وأن الثانية تتجاوز حدود كل من القومية العربية أو الوطنية المصرية الضيقتين إلى نطاق جغرافى أوسع يحوى مليار نسمة يشكلون سدس سكان العالم ، فضلا عن رؤيتهم الأممية فى نشر الإسلام عبر العالم . فوق أنهم الأكثر قدرة على تحقيق الدولة القوية القادرة على إحداث التراكم من أجل النمو ، بما لدى أيديولوجياتهم الدينية من قدرة طاغية على حشد طاقات الجماهير الإنتاجية من أجل تحقيق التراكم الرأسمالى ومن ثم النمو . وذلك على عكس أصحاب الرطانة اليسارية الذين ثبت فشلهم التاريخى فى خلق الدولة القوية ، فضلا على أن أيديولوجياتهم الوطنية أصبحت أضعف تأثيرا فى حشد الجماهير . وهم برغم ما يدعونه من امتلاكهم المنهجية العلمية ، إلا أنهم يتغافلون عما يحدث فى الواقع من تغيرات أجبرت البيروقراطية السوفيتية التى ظلت تتحكم طوال 70 عاما فى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم على التخلى عن سلطتها وامتيازاتها ، رغم أن هذا الاقتصاد كان الأعظم من كل اقتصاديات العالم فى التمتع بالاستقلال عن السوق الرأسمالى العالمى ، فقد خنق هذا الاقتصاد المستقل بحصار القوى المعادية له خارجيا ، رغم تمتعه بالاستقلال عنها وبسبب هذا الاستقلال نفسه ، وانهار على اتساع سوقه القومى ، حيث فازت عليه فى المنافسة الرأسمالية الكوكبية المتقدمة التى جددت نفسها عبر استفادتها من كل إمكانيات السوق العالمى..تلك الرأسمالية التى أصبحت منذ السبعينات هى الأكثر كفاءة اقتصادية وديمقراطية وعقلانية من كل الأنظمة البيروقراطية والوطنية التى عرفها العالم فى القرن العشرين ، مما يعنى وبنفس المقاييس التى حددها الأستاذ عبد الغفار شكر فى نفس المقال للتقدم أنها الأكثر تقدمية من النماذج التى يدعونا اليسار الوطنى للنضال من أجل استعادتها مع بعض التعديلات الديمقراطية المناسبة . فهل يمكن لدولة متخلفة أن تحقق مقاييس التقدم من كفاءة اقتصادية وعقلانية وديمقراطية وعدالة اجتماعية دون استبداد بوليسى يحميها من العالم المعادى ، ويسمح لها بتحقيق التراكم من أجل النمو ، وهل يتلاءم التشديد فى عملية التراكم مع ديمقراطية حقيقية تمارسها الجماهير المحرومة ، بسبب انتزاع الفائض الاجتماعى منها من أجل التراكم ؟.
إن هذا لا يعنى أن الرأسمالية كأسلوب للإنتاج هى نهاية التاريخ ، أو أنها مازالت النظام الملائم للتقدم ، فالمرء لا يسعه إلا أن يتفق مع الأستاذ عبد الغفار شكر بالإقرار أنها نظام رجعى ، يهدد استمراره مستقبل البشرية بأسره ، ولذلك فأنه يجب النضال عالميا من أجل تدميره ، ومن أجل بناء نظام أكثر كفاءة اقتصادية وعدالة اجتماعية وعقلانية وديمقراطية ، إلا أن هذا مشروط علميا بقوى إنتاج أكثر تطورا من تلك التى تقوم عليها الرأسمالية أخذت بشائرها طريقها فعلا إلى الإنتاج . هذا إذا ما التزمنا بالتمسك بقوانين المادية التاريخية وعلى رأسها قانون ضرورة تطابق قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج .
إن النظام الذى يبشر به اليسار الوطنى ليس هو البديل المناسب الآن للرأسمالية . فمازال رغم كل التعديلات هو برنامج رأسمالية الدولة الوطنية التى تجاوزها التاريخ ، والقائمة على أساس من تدخل الدولة من أجل تطوير قوى الإنتاج ، وحل أزمات النمو . ولذلك فأن هذا اليسار يعتبر أن البورجوازية المنتجة هى جزء من حلفه الطبقى ، وبالتالى أحد مكونات مجتمعه المستقبلى ، وبصرف النظر عن صحة المفهوم من عدمه ، والذى لا يسع المقال مناقشته الآن ، فأن المشروع الثورى والتقدمى حقا ، هو النفى الكامل للرأسمالية كنظام اجتماعى اقتصادى ، مما يعنى نفى البورجوازية تماما سواء أكانت منتجة أم غير منتجة . و لا يقلل من عقلانيته أو إمكانيته أنه ليس مطروحا على المدى القريب.
والحقيقة أن البورجوازية المنتجة أى ملاك المصانع والمزارع الرأسمالية يستفيدون أكثر من أوضاع الترابط مع الرأسمالية العالمية ، وإن حرمانهم من إمكانيات السوق العالمى تعنى حرمانهم من وسائل الإنتاج الأكثر تطورا ومن ثم من الربحية الأعلى الناتجة عن الإنتاجية الأعلى ، التى يحققونها كشركاء للرأسمال العالمى ، وهو الأمر الواقع فعلا فى مصانع المدن الجديدة فى 6اكتوبر والعاشر من رمضان ،والمزارع الجديدة فى الأرض المستصلحة .
ولا يمل اليسار الوطنى ولا يكل من الحديث عن التجربة الناصرية ، باعتبارها تجربة تنمية مستقلة . وما أشبه هذا بأكذوبة ، صارت كالحقيقة من كثرة ترديدها .. فلو تأملنا قائمة شركات القطاع العام الوطنى والمستقل المزعومة التى تكونت فى مصر فى الستينات . سنجد أن العديد من هذه الشركات ما هى إلا مصانع تعبئة منتجات لشركات عالمية متعددة الجنسية كشركتى البيبسى كولا والكوكاكولا والكثير من شركات الأدوية مثل فرايزر ونستلة ، وشركة فيات التى تجمع سيارتها شركة النصر للسيارات تحت اسم سيارة نصر ، و شركة فيليبس التى تجمع منتجاتها مصانع الإلكترونيات ، وشركة الجرافيت وأقلام الرصاص التى تستورد الخشب والجرافيت والمطاط لتصنع قلم رصاص أغلى وأسوأ من نظيره المستورد ، وحتى شركات النسيج سنجدها تعمل على آلات مستوردة من شركات عالمية لإنتاج الآلات ..وهكذا..والحقيقة أنه لا يمكن لأى سلعة الآن أن تنتج ويتم تبادلها إلا على مستوى العالم حتى تحقق أكبر كفاءة ممكنة مستفيدة من المزايا النسبية ..حتى السلع التى تنتجها البورجوازية الصغيرة كالمحاصيل الزراعية والمنتجات الحرفية ، فأن تحقيق كفاءة أعلى وإنتاجية أفضل لتلك المنتجات يستوجب العالمية لإنتاجها . وليس المحلية .
ولأن مصطلحات الجبهة والتحالف وما إليهما هى التمائم السحرية لليسار الوطنى ، والتى كلما اتسع نطاقها زادت قوتها السحرية ، فأنه لا يمانع من إضافة قوى هلامية موزعة على كافة طبقات المجتمع ، واتجاهاته السياسية كالشباب والنساء إلى الحلف الثورى أيضا ، تنقسم بالضرورة ، وتتحدد مواقفها السياسية وفقا لموقعها الطبقى ، وليس وفقا لعمرها أو جنسها ،كما يمكن للمثقفين أن يتوزعوا على كافة طبقات المجتمع وفقا لميول كل منهم الفكرية ، والطريف أنهم يتشابهون مع الاتجاهات التروتسكية التى تضع المضطهدين بسبب ميولهم الجنسية فى الحلف الثورى جنبا إلى جنب مع الطبقة العاملة .
إن خطاب اليسار الوطنى وعلى سبيل المثال مقال الأستاذ عبد الغفار شكر يبوح بحالة من الفصام الحقيقى التى يعانيها فكر هذا اليسار فكتاب " الرأسمالية تجدد نفسها " للدكتور فؤاد مرسى أحد أقطاب هذا اليسار ، لابد أن يستنتج من يقرأه بضرورة الثورة الاشتراكية على نطاق عالمى ..حيث يؤكد الكتاب على عدم إمكانية بناء الاشتراكية فى بلد واحد أو التنمية المستقلة بعيدا عن السوق العالمى الموحد بالفعل ، فالأستاذ عبد الغفار شكر يؤكد على التغيرات التى حدثت بالعالم ، والتى لا تتفق حقائقها مع خطابه السياسى ، إلا أنه بالرغم من هذا الاعتراف الأمين بهذه التغيرات الواقعية ، مازال يتشبث برؤية تنتمى للواقع كما كان فى الماضى حيث أفرز هذا الماضى ..فالازدهار العظيم لحركات اليسار المرتبطة بمفهوم الدولة القومية القوية خلال المائة سنة السابقة على الثمانينات ، يمكن تفسيره بالاحتياج الموضوعى لدور الدولة المباشر فى عملية الإنتاج ، كما يمكن تفسير أزمة هذا اليسار الآن منذ الثمانينات وعبر العالم بأسره بالاحتياج الموضوعى أيضا لتدمير دور الدولة المباشر فى عملية الإنتاج على النحو الذى كان يطرحه اليسار عبر قرن من الزمان بألوانه المختلفة . مما يطرح على اليسار ضرورة التحرر من أسر فكرة الدولة القومية القوية والحرة والمستقلة إزاء شعبها والعالم ..إلا أنه وعلى ما يبدو فأن ما يحرك اليسار ليس التحليل العلمى للواقع ، وإنما أشياء أشبه بالحس الأخلاقى أو الرومانسى نحو الهوية القومية . وما يستتبعه من عبادة للدولة التى تجسد هذه الهوية .
إننا إذا وضعنا فى الاعتبار إن الاندماج فى الاقتصاد العالمى ، يعنى اقتصاد أكثر كفاءة ويعنى إنتاجية أفضل وتطوير أسرع لقوى الإنتاج ، والذى من خلاله يمكنا فقط أن نطرح الاشتراكية على جدول الأعمال الفعلى . وأن فك الارتباط بهذا الاقتصاد يعنى قوى إنتاج أقل تطورا ، وإنتاجية أسوء ، واقتصاد أقل كفاءة . وبالتالى الابتعاد عن النقطة التى تصبح فيها الاشتراكية ممكنة .يجعلنا نقول أن حركات التحرر الوطنى إذا حققت فعلا تحررها من التبعية ، بمعنى فك ارتباطها الكامل بالسوق العالمى ، تصبح حركات رجعية وليست تقدمية بأى حال .
فنظرية الإمبريالية القديمة التى وصفت حالة الرأسمالية الاحتكارية التى كانت تدفع حكوماتها القومية من أجل نهب المستعمرات وتحويلها لسوق لمنتجاتها ومصادر للمواد الخام التى تحتاجها من أجل تلك الصناعات قد تجاوزها التاريخ بتحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية كوكبية عابرة للقوميات ، تجاوزت الدولة القومية لتشكل بالفعل سلطة عالمية فوق الحكومات تعبر عن مصالح الشركات متعدية الجنسية ممثلة فى العديد من المؤسسات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين وقمة السبعة الصناعية الكبار ومنظمة التجارة العالمية ، والتى أصبح اتجاهها الحاكم بالفعل تفكيك وإعادة تركيب العالم متجاوزة القومية والإقليمية فى تقسيم العمل الدولى ، لينقسم العالم عبر كل مجتمع قومى وعبر العالم كله لقطاعات متقدمة منتجة ومرفهة ، وقطاعات متخلفة وعاطلة و مهمشة ومحرومة ، وذلك من خلال نقل الصناعات كثيفة العمالة من دول المركز المتقدمة إلى حيث دول المحيط المتخلفة كما حدث ويحدث فى الكثير من دول بلدان شرق آسيا وأمريكا اللاتينية .
فما هو الخيار الصحيح أذن إزاء هذه الحالة ، فنحن بالطبع لا نرضى الرضوخ للنظام الرأسمالى الكوكبى ، ومحاولتنا للتحرر من التبعية ، تعنى حرماننا من الكفاءة الاقتصادية ؟ فماذا يبقى لنا فعليا إلا أن نناضل من أجل إسقاطه عالميا ؟ وإذا كانت هذه الفقرة مستفزة للمشاعر الوطنية الجياشة لدى اليسار الوطنى ، فكل ما أستطيع قوله أن عليه التحرر من أوهام الهويات الثابتة ( القومية، الوطن ، الأمة ، الحضارة ، الثقافة ) ليرى ما يعتمل داخل هذه الهويات من تناقضات ، وما يحدث فيها من صراعات .ليعلم كم هى غير مصمتة ،وإنها ليست بثابتة أو خالدة أو مطلقة .
ينطلق الأستاذ حلمى شعراوى فى مقاله كما أنطلق الأستاذ عبد الغفار شكر من تلك الرؤية الوطنية والقومية وأن كان المقال الأول لم يطرح جديدا بالفعل ، وإنما طرح نفس الخط الفكرى لحزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى الذى هو ثمرة الزواج الكاثوليكى بين الناصرية والشيوعية المصرية الممثلة فى تراث " حدتو " والحزب الشيوعى المصرى الأخير فى السلسلة و كامتداد لها ، فأن المقال الثانى يطرح رؤية نقدية لروح المقال الأول وإن كان يتفق معه فى الخط القومى الكامن فى كل سطور مقاله.
ينطلق خطاب اليسار الوطنى كما يمثله شكر وشعراوى من تلك الرؤية الوطنية والقومية ، الطامسة فى حقيقتها الصراع الطبقى محليا وعالميا ، والرافعة من شأن الصراعات بين الهويات الثابتة للقوميات المختلفة ، تلك الأيديولوجية القومية التى حولت الاشتراكية من حركة للتحرر الطبقى والإنسانى عموما إلى أداة للتحرر القومى.
وهذا المزج ناتج عن التمسك بمنهجين متناقضين فى التحليل الاجتماعى ، المنهج الأول وهو المنهج المادى التاريخى المرتبط بالاشتراكية ، وهو يقسم البشر حسب موقعهم من علاقات الإنتاج ، وما يرتبط بهذه المواقع من مصالح اجتماعية ، وما تدفع إليه هذه المصالح من مواقف سياسية واجتماعية ، ووفقا لهذا المنهج فأن أى جماعة قومية تنقسم إلى طبقات وفقا لما يسودها من علاقات إنتاج . والمنهج الثانى المستند على الخصوصية الجماعية المرتبط بالفكر القومى الناتج عن الاحتياج الرأسمالى لتوحيد السوق القومى فى المراحل الأولى للنمو الرأسمالى ، والذى تجده عند هيجل نيتشة وشبنجلر وتوينبى ، وهو يقسم البشر حسب ثقافتهم وقومياتهم وأعراقهم وأديانهم ، وهو الأساس الفكرى لكل الحركات السياسية الفاشية وشبه الفاشية ، والتى باسم الخصوصية الجماعية تقمع شرائح المجتمع وطبقاته باسم ذات المجتمع الكلية لصالح إحدى طبقات هذا المجتمع ، وهذا المنهج يعنى بالصراع بين الهويات الحضارية والقومية والثقافية وآخر من عبر عن هذا الاتجاه الفكرى هتنجتون فى كتابه صراع الحضارات .
ووفقا للمنهج الأول فأن هذه الهويات تختفى من التحليل لتبرز الصراعات الطبقية التى تتجاوز الهويات الجماعية ، بتوحيدها الطبقات ذات المصالح المشتركة ..ووفقا للمنهج الثانى يتم طمس الصراعات الطبقية لتبرز فحسب صراعات الهويات الجماعية ..والمزج بين المنهجين يؤدى إلى تناقضات ، وإلى عدم فهم طبيعة الصراع الذى من الممكن أن يؤدى حسمه إلى تغيير العالم ، هل هو الصراع الذى يؤدى لتغيير علاقات الإنتاج ؟ أم الصراع الذى يؤدى لحماية ثقافة قومية من خطر التأثر بثقافة أخرى ، وحماية الهوية القومية أو الحضارية من الاندثار ؟ وكأن هذه الهويات كائنات سرمدية خالدة لا تتغير ولا تتأثر ولا تؤثر ونتيجة هذا المزج غير المشروع يكتب الأستاذ حلمى شعراوى : أن المسألة الوطنية وتنمية ثقافة التحرر الوطنى تظلان محور استقطاب للقوى الاشتراكية " .و أنه وفقا لهذا الخلط يصبح على القوى التى من المفترض أن تناضل من أجل تغيير علاقات الإنتاج بالانحياز إلى الطبقات المستغلة فى التكوين الاجتماعى للهوية الثقافية ضد الطبقات المستغلة داخل نفس الهوية ..أن تنجرف بعيدا من أجل الانخراط فى النضال الوطنى وتنمية الثقافة الوطنية ، التى توحد قطبى الصراع الطبقى داخل نفس الهوية .
وفى الحقيقة أن مقال الأستاذ حلمى شعراوى أكثر اتساقا مع فكر التحرر الوطنى من مقال الأستاذ عبد الغفار شكر من زاوية أن التحرر الفعلى من التبعية لا يمكن أن يتم إلا بفك ارتباط السوق المحلى بالسوق العالمى هذا يتضمن التخلى عن مفهوم اللحاق بالشمال المتقدم . أنه يعنى الاكتفاء بمستوى متدن من قوى الإنتاج وبالتالى من الإنتاجية ،حيث يجب الاستغناء عن التكنولوجيا التى يحتكرها الشمال ، وهذا لا يعنى إلا شىء واحد هو الانخفاض الحاد فى مستويات المعيشة ، الناتج عن انخفاض الإنتاجية المرتبطة بالتكنولوجيا الأقل تطورا . وإذا كان هناك فرق بين الإنتاجية وقوى الإنتاج بما تشمله من تكنولوجيا إلا أن العلاقة بينهما علاقة تناسب طردى فليس الجرار كالفأس ، ولا سائق الجرار كالفلاح الذى يحرث الأرض بالفأس .
ولكن هل يمكن للجماهير أن تقبل الحرمان من السلع المتطورة ، وأن تتخلص من انبهارها بسلع الشمال الأكثر جودة ، والأكثر إشباعا لاحتياجاتها ، إن هذا ممكن فى حالتين .الأولى أن تصبح هذه الجماهير محكومة بدولة بوليسية مستبدة ..تتنافى مع أى شكل من أشكال الديمقراطية كما كان يحدث فى ألبانيا فى ظل أنور خوجة ، وتعمل على عزل الجماهير عن أى مؤثرات خارجية ، وخصوصا تلك التى تأتيهم من الشمال المتقدم .و فى نفس الوقت تعتمد على قوة مسلحة قوية فى حين يتضور الشعب الذى يحكمون باسمه جوعا كما فى كوريا الشمالية .
ومن هنا فأننا لا نصدق إمكانية قيام دولة قومية متحررة من التبعية على أن تكون فى نفس الوقت ديمقراطية ..وأما عن مصير هذه الدولة البوليسية التى يكون من أهم مهامها أن تعين من نفسها وصية لحماية الجماهير من التأثر بالثقافة الإمبريالية . فهو التبقرط والفساد التى لا تستفيد منه إلا النخب الحاكمة ثم أخيرا الانهيار والاستسلام على يد نفس تلك النخب الفاسدة والمستبدة للإمبريالية أمام ضغط الجماهير التى ما أصبحت تطيق حرمانها من التقدم وثماره وبالتالى فأنها تتمرد على إرغامها على التقشف ، وبناء أيضا على مصلحة بعض النخب الحاكمة التى أصبحت تتوق لاستثمار ما حققته من تراكم نتيجة فسادها وفق آليات السوق الرأسمالى .
والحالة الثانية أن تخضع الجماهير لتأثير أيديولوجية ما ، قومية أو دينية..ولكن ما هو المدى الذى من الممكن أن تدفع تلك الجماهير إليه للتغلب على حرمانها من احتياجاتها المادية ، وأن ترضى صابرة على هذا الحرمان ؟ إننا إذا فكرنا على نحو مثالى ، فأننا سنعتقد أنه من الممكن لهذه الأيديولوجية أن تؤثر إلى الأبد ، شرط أن تعد هذه الأيديولوجية الجماهير المحرومة بجنة ما على الأرض أو فى السماء ، ولكننا نعرف أنه بمجرد شك الجماهير بإمكانية تحقق هذه الجنة ، فأنها سرعان ما تتخلى عن إيمانها الأيديولوجى .
وأما عن الأيديولوجية الأكثر قدرة على التأثير على الجماهير لمدى أعمق وأقوى فهى الإيديولوجية الدينية ، التى تربط الجماهير بالمطلق والغيبى الذى لا يرتبط بالمعرفة و إنما بالإيمان، ومن ثم يصعب هزيمته بالمعرفة بقدر ما يهزم بإيمان جديد ، وهو ما قدمته كنموذج الثورة الإيرانية الإسلامية ، وهو الدرس الذى استوعبته المجموعة الماركسية سابقا ، والإسلامية حاليا بقيادة المرحوم عادل حسين التى تحالفت مع الأخوان المسلمين للسيطرة على حزب العمل الاشتراكى سليل حزب مصر الفتاة الفاشى الذى أسسه أحمد حسين شقيق عادل حسين ، فيا للمصادفة ؟!. وقد تم ذلك التحول فى أعقاب الثورة الإيرانية فورا ، وهو ما يثبت فى كل الأحوال أن هدف هؤلاء ما هو سوى الدولة القوية والحرة المستقلة بصرف النظر عن المرجعية الفكرية التى ينتسبون إليها ماركسية كانت أو إسلامية أو قومية ، والتى لا تشكل سوى وسائل جذب للجماهير لامتطائها نحو كرسى الحكم ، والدولة الحرة هى دولة مستبدة تجاه مواطنيها فهى حرة إزاءهم تماما ، و باسمهم غالبا ! ومن يمارس السلطة فى تلك الدولة يصبح هو الوحيد المتمتع بالحرية الفعلية . أما الأيديولوجية القومية فأنها بلا شك أقل قدرة على التأثير على الجماهير ، فضلا عن أن جماهيريتها مرتبطة بوجود احتلال أجنبى لأرض الوطن القومى أو فى حالات الحروب القومية أو عدم تحقق الوحدة القومية ، أما ما دون ذلك من حالات فأن ما يشغل الجماهير فعليا هو إشباع احتياجاتها المادية والمعنوية ، أما قضايا الثقافة القومية والوعى القومى ، فأنها لا تشغل سوى أذهان المثقفين .
هل يوجد بديل حقيقى لليسار الوطنى؟
فى الحقيقة أن الحديث عن ضرورة التحول العالمى ضد الرأسمالية باعتبارها ظاهرة عالمية منذ البداية ، ليس حديثا خياليا و لا جديدا ، وأن كان كمشروع مازال حبيس عقول قلة نادرة من البشر ، إلا أن أساسه المادى ينمو بعمق داخل أحشاء الرأسمالية العالمية ، وهو الأساس الذى يعطيه إمكانية التحقق الفعلية برغم تعارضه مع الكثير من المصالح المادية المرتبطة بالدولة القومية ، وبرغم الوعى الاجتماعى السائد عبر العالم كله القائم على تقديس الهويات القومية والدينية والعنصرية والعرقية والثقافية ، ذلك أن الرأسمالية تنجرف بميلها الغريزى نحو الربح والمحافظة على معدل الربح من الهبوط إلى التوسع بلا كلل وهى تذيب كل ما يحول دون هذا التوسع من حدود بين الشعوب ، وقد تحولت لمرحلة جديدة من النمو يتم فيها توحيد عمليات الإنتاج عبر الكوكب بأسره ..إلا أن هذا الانجراف سيصطدم بالأفق المحدود للكوكب مما يعنى إيقاف التوسع ، ومن ثم الجمود والاصطدام بحائط الربح المتدهور . مما سيضع الرأسمالية كلها أمام نقطة النهاية . والتى تلوح بشائرها فى الركود التضخمى والبطالة الهيكلية التى ستبلغ نحو80% من سكان الأرض فى أوائل القرن الحادى والعشرين . وقد فشلت كل الحلول التقليدية لأزمات الرأسمالية التى عرفتها البشرية عبر تاريخها والتى تواجه السقوط والفشل مما أرغم الرأسمالية على العودة مرة أخرى لليبرالية المتوحشة ، التى لا تعبر عن انتصار الرأسمالية النهائى بقدر ما تعبر عن إفلاسها التاريخى ، حيث لم تستطع تلك العودة حل الأزمة فقد سقطت التاتشرية والريجانية كما سقطت الكينزية من قبل .
وماذا يبقى سوى أممية معادية للرأسمالية والقومية والديكتاتورية فى نفس الوقت تبدأ النضال من أجل إسقاط الرأسمالية وكل أشكال السلطوية و التراتبية والقهر . بالطبع فإن هذا الحلم مازال حبيس العقول وقد آن له أن يخرج لحيز الممارسة ..إلا أنه الحل الوحيد الذى يستحق أن نبذل جهودنا من أجل تطويره واستشراف إمكانياته . برغم كل الصعوبات التى لا يغفل عنها عاقل ، ولكن متى كانت الصعوبات مهما كانت جسامتها بعائقة عن المحاولة ، فلو كان البشر يفكرون على هذا النحو ما كان يمكن لهم تحقيق أى تقدم .
ظهرت الحركات الاشتراكية فى مصر ، الماركسية منها وغير الماركسية وجنود الاحتلال الإنجليزى يعربدون فى شوارع القاهرة والإسكندرية ، وشهدت صعودها الأخير وجنود إسرائيل يحتلون أرض سيناء . وقد انطبق منحنى هبوط وصعود تلك الحركات مع منحنى هبوط وصعود حركة التحرر الوطنى ، وتربت أجيال تلك الحركات على إعلاء الصراع القومى على حساب الصراع الطبقى ، وفى أحسن الأحوال المزج بينهما . صحيح أن الماركسيين منهم كانوا يصرحون بأمميتهم ، إلا أنهم فى الممارسة العملية ، وفى خطابهم السياسى ، و رؤيتهم النظرية ، لا تحركهم إلا الأهداف و المبادئ القومية المطعمة برؤية شعبوية ، وقد امتلكوا من الجسارة ما جعلهم يمزجون بين المنهج الماركسى ومناهج الهويات القومية والحضارية والثقافية . مما أورثهم أزمتهم المزمنة .
ولما أصبحت أزمة الاشتراكية واضحة للعيان غير منكرة من أحد ، و أصبح حديث البحث عن مخرج لها ، هو حديث كل المتمسكين بهدف العدالة الاجتماعية ، وأخذت دعوى تجديد كل من الفكر الاشتراكى والحركة الاشتراكية تجد قبولا واسعا ، إلا أننا نلاحظ فى كثير من الأحيان أن بعض دعاوى التجديد أخذت تدعو لنفس الأفكار القديمة . وتطرح الحلول القديمة نفسها لمشكلات واقع قديم تجاوزها التاريخ فعليا ..حيث أن خبرات الصبا والشباب تظل تلقى بظلها على أذهان الشيوخ رغم تغير ما يعيشونه من أحوال .
فالأستاذ حلمى شعراوى يكتب فى مقاله " إنه لا يعقل ألا يدرك الاشتراكيون المصريون معنى وجودهم فى مجتمع فلاحى لتغيب المسألة الفلاحية بهذا الشكل عن فكر وممارسة الفصائل المهيمنة على الحركة الاشتراكية فى مصر والعالم العربى " فعندما يتحدث خطاب اليسار الوطنى على الطابع الفلاحى للمجتمع المصرى ، فأنه يتعامى عن حقيقة أن المجتمع المصرى فقد طابعه الفلاحى بل والزراعى منذ فترة طويلة . حيث تبلغ قوة العمل فى مجال الزراعة 30% من أجمالى قوة العمل ، حوالى 4مليون عامل زراعى من أصل 13مليون عامل بأجر هم إجمالى قوة العمل المصرية حسب إحصاء 1986. ويبلغ مجموع الحيازات الزراعية حوالى 3 مليون حيازة من حيازات أشباه البروليتاريا الزراعية وحتى حيازات كبار الملاك الرأسماليين الزراعيين . وأن جملة سكان المدن يبلغون 64 %من إجمالى تعداد السكان فى أواخر الثمانينات فى حين كانوا 25% فى الخمسينات .ويعمل30 % من إجمالى قوة العمل فى الصناعة و 40 % من إجمالى قوة العمل فى التجارة والخدمات ( كل هذه البيانات مستمدة من إحصائيات تعداد السكان لسنة 1986) .
فقد تحول المجتمع المصرى الزراعى الذى كان يعيش على زراعة القطن وتجارته ، إلى مجتمع خدمى يعيش على دخل قناة السويس والبترول والسياحة و إيرادات المصريين العاملين بالخارج فى حين تأتى الزراعة والصناعة كمصادر للدخل فى آخر القائمة . وبرغم أن المجتمع المصرى أكثر المجتمعات تصنيعا فى المنطقة العربية فأن إجمالى ما يشارك به العالم العربى فى الإنتاج العالمى بما فى ذلك البترول يبلغ حوالى 2,5 %.
فهل بمثل تلك الأفكار القديمة المستندة على معلومات قديمة فقدت صلاحيتها منذ زمن طويل يمكن تحديد أطر حركة تقدمية جديدة ، قادرة على تجاوز أزمة الاشتراكية الراهنة . والتى كان السبب الرئيسى لها التمسك بنفس تلك الأفكار ؟.
يفسر خطاب اليسار الوطنى الأزمة المجتمعية الشاملة التى تعيشها مصر على إنها بسبب توجه الحكم نحو المزيد من الليبرالية الاقتصادية ، استجابة لتوجهات الدول الدائنة ، وتنفيذا لبرنامج التثبيت الهيكلى هكذا يبدأ الأستاذ عبد الغفار شكر مقاله ، وهذا التفسير يتغافل عن الأساس المادى الذى دفع ويدفع كل دول العالم بلا أدنى استثناء من دول المركز الرأسمالى المتقدم الدائنة ، إلى الدول البيروقراطية المسماة بالاشتراكية ، إلى أنظمة التحرر الوطنى ، سواء أكانوا ما يزالون يرفعون لافتاتهم أم تخلوا عنها ، إلى إتباع نفس السياسات الليبرالية ، ولماذا سقطت كل أشكال تدخل الدولة فى عملية الإنتاج ، بسقوط كل الاشتراكيات الستالينية والديمقراطية والقومية والدينية وعلى نحو متزامن ومطرد منذ عقد السبعينات ؟ هل هى الخيانات والمؤامرات وفقا للتفسير التآمرى للتاريخ ؟ أم الضرورة المادية الكامنة وراء تطور المجتمعات ألا وهى ضرورة تطوير قوى الإنتاج وفقا للتفسير المادى للتاريخ ؟ .تلك الضرورة التى أجبرت نفس الدول الدائنة على التخلى عن السياسات الكينزية بكل ما تعنيه من قيام الدولة بدورها الاجتماعى بتدخلها فى عمليات الإنتاج والتوزيع والتبادل . وهى فى هذا لا تختلف عن الحكومة المصرية أو أى حكومة أخرى إلا فى الدرجة . وبالتالى فالأمر لا يتعلق بخيانة ما من الحكومة المصرية لوطنها أو شعبها الذى تحكمه . فما يحدث هو جزء من اتجاه عالمى ، وبالتالى فإن نظريات الردة والخيانة والمؤامرة ، بل وحتى نظرية التبعية لا تصلح لتفسيره .
أما التفسير الصحيح فهو أن دور الدولة القومية المباشر فى عملية الإنتاج استنفذ قدراته فى تطوير قوى الإنتاج ، وحل أزمات ومشكلات النمو ، بل وأصبح معوقا أمام تطوير تلك القوى ، بعد ما كان الوسيلة المثلى لكل البورجوازيات الضعيفة والعاجزة والمأزومة لحل مشكلاتها مع هذا النمو فى الفترة من أواسط القرن الماضى وإلى السبعينات من القرن الحالى ، وذلك من خلال اشتراكيات الدولة ثم الاشتراكيات الستالينية ، ثم الاشتراكيات الديمقراطية والقومية والدينية عبر العالم بأسره .
والسر وراء هذا التحول من النقيض إلى النقيض هو التدويل الكامل للقسم الأعظم والأكثر أهمية من الإنتاج والتوزيع والتبادل من خلال الشركات المتعدية الجنسية العملاقة التى تسيطر على 70 % من الإنتاج العالمى ، وتداعيات هذا التدويل ونتائجه التى تشكل مرحلة جديدة من النمو الرأسمالى تجاوزت المرحلة الاحتكارية القديمة بكل خصائصها المعروفة . ومن هنا فإن الأزمة المصرية لا تخص مصر فحسب ، إلا أنها التجلى المحلى لأزمة عالمية تضرب وبعمق فى أسلوب الإنتاج الرأسمالى . ولا مخرج من هذه الأزمة إلا بإحداث تغيير شامل يتضمن أسس تنظيم الإنتاج والقاعدة الاجتماعية للسلطة والحكم والقيم السائدة ، إلا أن هذا لا يمكن أن يحدث فى مصر وحدها بمعزل عن العالم بأسره .
فإقامة الاشتراكية الحقيقية من حيث هى سيطرة المنتجين الأحرار على قوى الإنتاج على بنية تخلف هو حلم طوباوى يتنافى والتفسير المادى للتاريخ ، وبالتالى فهو مستحيل التحقق وإن كان التطور اللامتكافى ء سيظل أساسا فعالا لتمردات وانتفاضات عمالية أو شعبية قد تصل بالطبقات الشعبية إلى السلطة . إلا أنها سرعان ما سيصيبها التدهور البيروقراطى فى المجتمعات المتخلفة نتيجة تخلفها أولا وحصار البلدان الأكثر تقدما والتى تحوز على قوى الإنتاج الأكثر تقدما ثانيا . ولا يمنع هذا بالطبع أن يحدث التدهور البيروقراطى فى الدول المتقدمة إن حدثت بها ثورات اشتراكية نتيجة عوامل مختلفة أهمها الحصار من الدول المعادية . وهذا ما أثبتته تجربة الثمانين عاما الماضية ، وما أثبته التحليل العلمى . فالبيروقراطية والفساد والاستبداد هى أبرز سمات كل التجارب الاشتراكية والعلمية فى الشمال والجنوب من روسيا إلى تنزانيا ، ومن كوريا الشمالية إلى كوبا . وقد سبق لى تناول هذه الظاهرة العالمية على نحو أكثر تفصيلا أسبابها ونتائجها فى مقالين سابقين أحدهما بعنوان "نقد الحركات الاشتراكية العلمية "وعنوان "اشتراكية أم دولنه للإنتاج" .
وإذا كنا قد تعلمنا أنه لا يهم ماذا يقول الناس عن أنفسهم ، وإنما المهم ما يمكن أن تحتويه سلوكياتهم من مضامين حقيقية ، وما تخفيه أفكارهم الظاهرية من مضامين متناقضة فإننا لابد وأن نبحث عما وراء خطاب اليسار الوطنى الذى يمثله كل من الأستاذ عبد الغفار شكر والأستاذ حلمى شعراوى سنجد أنه يسعى إلى قيام دولة وطنية قوية متحررة من التبعية فى مصر أو عبر العالم العربى . تعيد تأسيس رأسمالية دولة جديدة أو نظم بيروقراطية جماعية حسب الأحوال ، تحت لافتات الوطنية أو الاشتراكية . أنهم بالجملة يصرون على بعث النماذج الناصرية و البعثية و الستالينية و الماوية ، سواء فى صورهم الأصلية أم فى صورهم المعدلة بالرتوش الديمقراطية ، وخلف رطانتهم الطبقية تقبع أيديولوجياتهم الأصلية الوطنية أو القومية الطابع ، أيديولوجيات الهويات الثقافية أو الحضارية أو القومية ، والتى من خلالها يقمعون الصراع الطبقى ، أو يحولونه لصالح أهدافهم الأيديولوجية ، وهو ما يختلف عن تصور آخر لثورة عالمية تتحرر فيها كل قوة العمل المأجورة من القهر والاستغلال والاغتراب وعبودية العمل المأجور ، وهو تصور لا يعنى الحريق الثورى الفجائى ذات ليلة ما عبر الكرة الأرضية بأسرها ، و إنما المقصود عملية اجتماعية عبر العالم تكون تيار من التحولات التى تأخذ أشكال مختلفة ، وفى فترات زمنية مختلفة ، وعبر عقود من الزمن ، وفى أماكن متنوعة من عالمنا بسيناريوهات متباينة ، ليس بالضرورة متطابق مع ما أشارت إليه النصوص الماركسية أو اللاسلطوية أو الاشتراكية المختلفة على وجه العموم تعتمد على أن الصراع الحقيقى ، وهو الصراع الطبقى الذى هو طريق التحول الاجتماعى ، والذى بحسمه عمليا ستزول كافة أشكال القهر بما فيها القهر القومى ، فالتغيرات الاجتماعية من هذا النوع لا تتم بين يوم وليلة أو فى إطار واحد . فقد أخذت الرأسمالية ومن قبلها الإقطاع عقود من الزمن حتى سادت المجتمعات ، لم يتوقف خلالها أو بعدها التطور .
الحقيقة أن إفلاس اليسار الوطنى العربي أمام القوى الليبرالية ، وقوى الإسلام السياسى ، يرجع إلى أن الأولى تتواءم مع متطلبات العصر الإنتاجية ، وأن الثانية تتجاوز حدود كل من القومية العربية أو الوطنية المصرية الضيقتين إلى نطاق جغرافى أوسع يحوى مليار نسمة يشكلون سدس سكان العالم ، فضلا عن رؤيتهم الأممية فى نشر الإسلام عبر العالم . فوق أنهم الأكثر قدرة على تحقيق الدولة القوية القادرة على إحداث التراكم من أجل النمو ، بما لدى أيديولوجياتهم الدينية من قدرة طاغية على حشد طاقات الجماهير الإنتاجية من أجل تحقيق التراكم الرأسمالى ومن ثم النمو . وذلك على عكس أصحاب الرطانة اليسارية الذين ثبت فشلهم التاريخى فى خلق الدولة القوية ، فضلا على أن أيديولوجياتهم الوطنية أصبحت أضعف تأثيرا فى حشد الجماهير . وهم برغم ما يدعونه من امتلاكهم المنهجية العلمية ، إلا أنهم يتغافلون عما يحدث فى الواقع من تغيرات أجبرت البيروقراطية السوفيتية التى ظلت تتحكم طوال 70 عاما فى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم على التخلى عن سلطتها وامتيازاتها ، رغم أن هذا الاقتصاد كان الأعظم من كل اقتصاديات العالم فى التمتع بالاستقلال عن السوق الرأسمالى العالمى ، فقد خنق هذا الاقتصاد المستقل بحصار القوى المعادية له خارجيا ، رغم تمتعه بالاستقلال عنها وبسبب هذا الاستقلال نفسه ، وانهار على اتساع سوقه القومى ، حيث فازت عليه فى المنافسة الرأسمالية الكوكبية المتقدمة التى جددت نفسها عبر استفادتها من كل إمكانيات السوق العالمى..تلك الرأسمالية التى أصبحت منذ السبعينات هى الأكثر كفاءة اقتصادية وديمقراطية وعقلانية من كل الأنظمة البيروقراطية والوطنية التى عرفها العالم فى القرن العشرين ، مما يعنى وبنفس المقاييس التى حددها الأستاذ عبد الغفار شكر فى نفس المقال للتقدم أنها الأكثر تقدمية من النماذج التى يدعونا اليسار الوطنى للنضال من أجل استعادتها مع بعض التعديلات الديمقراطية المناسبة . فهل يمكن لدولة متخلفة أن تحقق مقاييس التقدم من كفاءة اقتصادية وعقلانية وديمقراطية وعدالة اجتماعية دون استبداد بوليسى يحميها من العالم المعادى ، ويسمح لها بتحقيق التراكم من أجل النمو ، وهل يتلاءم التشديد فى عملية التراكم مع ديمقراطية حقيقية تمارسها الجماهير المحرومة ، بسبب انتزاع الفائض الاجتماعى منها من أجل التراكم ؟.
إن هذا لا يعنى أن الرأسمالية كأسلوب للإنتاج هى نهاية التاريخ ، أو أنها مازالت النظام الملائم للتقدم ، فالمرء لا يسعه إلا أن يتفق مع الأستاذ عبد الغفار شكر بالإقرار أنها نظام رجعى ، يهدد استمراره مستقبل البشرية بأسره ، ولذلك فأنه يجب النضال عالميا من أجل تدميره ، ومن أجل بناء نظام أكثر كفاءة اقتصادية وعدالة اجتماعية وعقلانية وديمقراطية ، إلا أن هذا مشروط علميا بقوى إنتاج أكثر تطورا من تلك التى تقوم عليها الرأسمالية أخذت بشائرها طريقها فعلا إلى الإنتاج . هذا إذا ما التزمنا بالتمسك بقوانين المادية التاريخية وعلى رأسها قانون ضرورة تطابق قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج .
إن النظام الذى يبشر به اليسار الوطنى ليس هو البديل المناسب الآن للرأسمالية . فمازال رغم كل التعديلات هو برنامج رأسمالية الدولة الوطنية التى تجاوزها التاريخ ، والقائمة على أساس من تدخل الدولة من أجل تطوير قوى الإنتاج ، وحل أزمات النمو . ولذلك فأن هذا اليسار يعتبر أن البورجوازية المنتجة هى جزء من حلفه الطبقى ، وبالتالى أحد مكونات مجتمعه المستقبلى ، وبصرف النظر عن صحة المفهوم من عدمه ، والذى لا يسع المقال مناقشته الآن ، فأن المشروع الثورى والتقدمى حقا ، هو النفى الكامل للرأسمالية كنظام اجتماعى اقتصادى ، مما يعنى نفى البورجوازية تماما سواء أكانت منتجة أم غير منتجة . و لا يقلل من عقلانيته أو إمكانيته أنه ليس مطروحا على المدى القريب.
والحقيقة أن البورجوازية المنتجة أى ملاك المصانع والمزارع الرأسمالية يستفيدون أكثر من أوضاع الترابط مع الرأسمالية العالمية ، وإن حرمانهم من إمكانيات السوق العالمى تعنى حرمانهم من وسائل الإنتاج الأكثر تطورا ومن ثم من الربحية الأعلى الناتجة عن الإنتاجية الأعلى ، التى يحققونها كشركاء للرأسمال العالمى ، وهو الأمر الواقع فعلا فى مصانع المدن الجديدة فى 6اكتوبر والعاشر من رمضان ،والمزارع الجديدة فى الأرض المستصلحة .
ولا يمل اليسار الوطنى ولا يكل من الحديث عن التجربة الناصرية ، باعتبارها تجربة تنمية مستقلة . وما أشبه هذا بأكذوبة ، صارت كالحقيقة من كثرة ترديدها .. فلو تأملنا قائمة شركات القطاع العام الوطنى والمستقل المزعومة التى تكونت فى مصر فى الستينات . سنجد أن العديد من هذه الشركات ما هى إلا مصانع تعبئة منتجات لشركات عالمية متعددة الجنسية كشركتى البيبسى كولا والكوكاكولا والكثير من شركات الأدوية مثل فرايزر ونستلة ، وشركة فيات التى تجمع سيارتها شركة النصر للسيارات تحت اسم سيارة نصر ، و شركة فيليبس التى تجمع منتجاتها مصانع الإلكترونيات ، وشركة الجرافيت وأقلام الرصاص التى تستورد الخشب والجرافيت والمطاط لتصنع قلم رصاص أغلى وأسوأ من نظيره المستورد ، وحتى شركات النسيج سنجدها تعمل على آلات مستوردة من شركات عالمية لإنتاج الآلات ..وهكذا..والحقيقة أنه لا يمكن لأى سلعة الآن أن تنتج ويتم تبادلها إلا على مستوى العالم حتى تحقق أكبر كفاءة ممكنة مستفيدة من المزايا النسبية ..حتى السلع التى تنتجها البورجوازية الصغيرة كالمحاصيل الزراعية والمنتجات الحرفية ، فأن تحقيق كفاءة أعلى وإنتاجية أفضل لتلك المنتجات يستوجب العالمية لإنتاجها . وليس المحلية .
ولأن مصطلحات الجبهة والتحالف وما إليهما هى التمائم السحرية لليسار الوطنى ، والتى كلما اتسع نطاقها زادت قوتها السحرية ، فأنه لا يمانع من إضافة قوى هلامية موزعة على كافة طبقات المجتمع ، واتجاهاته السياسية كالشباب والنساء إلى الحلف الثورى أيضا ، تنقسم بالضرورة ، وتتحدد مواقفها السياسية وفقا لموقعها الطبقى ، وليس وفقا لعمرها أو جنسها ،كما يمكن للمثقفين أن يتوزعوا على كافة طبقات المجتمع وفقا لميول كل منهم الفكرية ، والطريف أنهم يتشابهون مع الاتجاهات التروتسكية التى تضع المضطهدين بسبب ميولهم الجنسية فى الحلف الثورى جنبا إلى جنب مع الطبقة العاملة .
إن خطاب اليسار الوطنى وعلى سبيل المثال مقال الأستاذ عبد الغفار شكر يبوح بحالة من الفصام الحقيقى التى يعانيها فكر هذا اليسار فكتاب " الرأسمالية تجدد نفسها " للدكتور فؤاد مرسى أحد أقطاب هذا اليسار ، لابد أن يستنتج من يقرأه بضرورة الثورة الاشتراكية على نطاق عالمى ..حيث يؤكد الكتاب على عدم إمكانية بناء الاشتراكية فى بلد واحد أو التنمية المستقلة بعيدا عن السوق العالمى الموحد بالفعل ، فالأستاذ عبد الغفار شكر يؤكد على التغيرات التى حدثت بالعالم ، والتى لا تتفق حقائقها مع خطابه السياسى ، إلا أنه بالرغم من هذا الاعتراف الأمين بهذه التغيرات الواقعية ، مازال يتشبث برؤية تنتمى للواقع كما كان فى الماضى حيث أفرز هذا الماضى ..فالازدهار العظيم لحركات اليسار المرتبطة بمفهوم الدولة القومية القوية خلال المائة سنة السابقة على الثمانينات ، يمكن تفسيره بالاحتياج الموضوعى لدور الدولة المباشر فى عملية الإنتاج ، كما يمكن تفسير أزمة هذا اليسار الآن منذ الثمانينات وعبر العالم بأسره بالاحتياج الموضوعى أيضا لتدمير دور الدولة المباشر فى عملية الإنتاج على النحو الذى كان يطرحه اليسار عبر قرن من الزمان بألوانه المختلفة . مما يطرح على اليسار ضرورة التحرر من أسر فكرة الدولة القومية القوية والحرة والمستقلة إزاء شعبها والعالم ..إلا أنه وعلى ما يبدو فأن ما يحرك اليسار ليس التحليل العلمى للواقع ، وإنما أشياء أشبه بالحس الأخلاقى أو الرومانسى نحو الهوية القومية . وما يستتبعه من عبادة للدولة التى تجسد هذه الهوية .
إننا إذا وضعنا فى الاعتبار إن الاندماج فى الاقتصاد العالمى ، يعنى اقتصاد أكثر كفاءة ويعنى إنتاجية أفضل وتطوير أسرع لقوى الإنتاج ، والذى من خلاله يمكنا فقط أن نطرح الاشتراكية على جدول الأعمال الفعلى . وأن فك الارتباط بهذا الاقتصاد يعنى قوى إنتاج أقل تطورا ، وإنتاجية أسوء ، واقتصاد أقل كفاءة . وبالتالى الابتعاد عن النقطة التى تصبح فيها الاشتراكية ممكنة .يجعلنا نقول أن حركات التحرر الوطنى إذا حققت فعلا تحررها من التبعية ، بمعنى فك ارتباطها الكامل بالسوق العالمى ، تصبح حركات رجعية وليست تقدمية بأى حال .
فنظرية الإمبريالية القديمة التى وصفت حالة الرأسمالية الاحتكارية التى كانت تدفع حكوماتها القومية من أجل نهب المستعمرات وتحويلها لسوق لمنتجاتها ومصادر للمواد الخام التى تحتاجها من أجل تلك الصناعات قد تجاوزها التاريخ بتحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية كوكبية عابرة للقوميات ، تجاوزت الدولة القومية لتشكل بالفعل سلطة عالمية فوق الحكومات تعبر عن مصالح الشركات متعدية الجنسية ممثلة فى العديد من المؤسسات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين وقمة السبعة الصناعية الكبار ومنظمة التجارة العالمية ، والتى أصبح اتجاهها الحاكم بالفعل تفكيك وإعادة تركيب العالم متجاوزة القومية والإقليمية فى تقسيم العمل الدولى ، لينقسم العالم عبر كل مجتمع قومى وعبر العالم كله لقطاعات متقدمة منتجة ومرفهة ، وقطاعات متخلفة وعاطلة و مهمشة ومحرومة ، وذلك من خلال نقل الصناعات كثيفة العمالة من دول المركز المتقدمة إلى حيث دول المحيط المتخلفة كما حدث ويحدث فى الكثير من دول بلدان شرق آسيا وأمريكا اللاتينية .
فما هو الخيار الصحيح أذن إزاء هذه الحالة ، فنحن بالطبع لا نرضى الرضوخ للنظام الرأسمالى الكوكبى ، ومحاولتنا للتحرر من التبعية ، تعنى حرماننا من الكفاءة الاقتصادية ؟ فماذا يبقى لنا فعليا إلا أن نناضل من أجل إسقاطه عالميا ؟ وإذا كانت هذه الفقرة مستفزة للمشاعر الوطنية الجياشة لدى اليسار الوطنى ، فكل ما أستطيع قوله أن عليه التحرر من أوهام الهويات الثابتة ( القومية، الوطن ، الأمة ، الحضارة ، الثقافة ) ليرى ما يعتمل داخل هذه الهويات من تناقضات ، وما يحدث فيها من صراعات .ليعلم كم هى غير مصمتة ،وإنها ليست بثابتة أو خالدة أو مطلقة .
ينطلق الأستاذ حلمى شعراوى فى مقاله كما أنطلق الأستاذ عبد الغفار شكر من تلك الرؤية الوطنية والقومية وأن كان المقال الأول لم يطرح جديدا بالفعل ، وإنما طرح نفس الخط الفكرى لحزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى الذى هو ثمرة الزواج الكاثوليكى بين الناصرية والشيوعية المصرية الممثلة فى تراث " حدتو " والحزب الشيوعى المصرى الأخير فى السلسلة و كامتداد لها ، فأن المقال الثانى يطرح رؤية نقدية لروح المقال الأول وإن كان يتفق معه فى الخط القومى الكامن فى كل سطور مقاله.
ينطلق خطاب اليسار الوطنى كما يمثله شكر وشعراوى من تلك الرؤية الوطنية والقومية ، الطامسة فى حقيقتها الصراع الطبقى محليا وعالميا ، والرافعة من شأن الصراعات بين الهويات الثابتة للقوميات المختلفة ، تلك الأيديولوجية القومية التى حولت الاشتراكية من حركة للتحرر الطبقى والإنسانى عموما إلى أداة للتحرر القومى.
وهذا المزج ناتج عن التمسك بمنهجين متناقضين فى التحليل الاجتماعى ، المنهج الأول وهو المنهج المادى التاريخى المرتبط بالاشتراكية ، وهو يقسم البشر حسب موقعهم من علاقات الإنتاج ، وما يرتبط بهذه المواقع من مصالح اجتماعية ، وما تدفع إليه هذه المصالح من مواقف سياسية واجتماعية ، ووفقا لهذا المنهج فأن أى جماعة قومية تنقسم إلى طبقات وفقا لما يسودها من علاقات إنتاج . والمنهج الثانى المستند على الخصوصية الجماعية المرتبط بالفكر القومى الناتج عن الاحتياج الرأسمالى لتوحيد السوق القومى فى المراحل الأولى للنمو الرأسمالى ، والذى تجده عند هيجل نيتشة وشبنجلر وتوينبى ، وهو يقسم البشر حسب ثقافتهم وقومياتهم وأعراقهم وأديانهم ، وهو الأساس الفكرى لكل الحركات السياسية الفاشية وشبه الفاشية ، والتى باسم الخصوصية الجماعية تقمع شرائح المجتمع وطبقاته باسم ذات المجتمع الكلية لصالح إحدى طبقات هذا المجتمع ، وهذا المنهج يعنى بالصراع بين الهويات الحضارية والقومية والثقافية وآخر من عبر عن هذا الاتجاه الفكرى هتنجتون فى كتابه صراع الحضارات .
ووفقا للمنهج الأول فأن هذه الهويات تختفى من التحليل لتبرز الصراعات الطبقية التى تتجاوز الهويات الجماعية ، بتوحيدها الطبقات ذات المصالح المشتركة ..ووفقا للمنهج الثانى يتم طمس الصراعات الطبقية لتبرز فحسب صراعات الهويات الجماعية ..والمزج بين المنهجين يؤدى إلى تناقضات ، وإلى عدم فهم طبيعة الصراع الذى من الممكن أن يؤدى حسمه إلى تغيير العالم ، هل هو الصراع الذى يؤدى لتغيير علاقات الإنتاج ؟ أم الصراع الذى يؤدى لحماية ثقافة قومية من خطر التأثر بثقافة أخرى ، وحماية الهوية القومية أو الحضارية من الاندثار ؟ وكأن هذه الهويات كائنات سرمدية خالدة لا تتغير ولا تتأثر ولا تؤثر ونتيجة هذا المزج غير المشروع يكتب الأستاذ حلمى شعراوى : أن المسألة الوطنية وتنمية ثقافة التحرر الوطنى تظلان محور استقطاب للقوى الاشتراكية " .و أنه وفقا لهذا الخلط يصبح على القوى التى من المفترض أن تناضل من أجل تغيير علاقات الإنتاج بالانحياز إلى الطبقات المستغلة فى التكوين الاجتماعى للهوية الثقافية ضد الطبقات المستغلة داخل نفس الهوية ..أن تنجرف بعيدا من أجل الانخراط فى النضال الوطنى وتنمية الثقافة الوطنية ، التى توحد قطبى الصراع الطبقى داخل نفس الهوية .
وفى الحقيقة أن مقال الأستاذ حلمى شعراوى أكثر اتساقا مع فكر التحرر الوطنى من مقال الأستاذ عبد الغفار شكر من زاوية أن التحرر الفعلى من التبعية لا يمكن أن يتم إلا بفك ارتباط السوق المحلى بالسوق العالمى هذا يتضمن التخلى عن مفهوم اللحاق بالشمال المتقدم . أنه يعنى الاكتفاء بمستوى متدن من قوى الإنتاج وبالتالى من الإنتاجية ،حيث يجب الاستغناء عن التكنولوجيا التى يحتكرها الشمال ، وهذا لا يعنى إلا شىء واحد هو الانخفاض الحاد فى مستويات المعيشة ، الناتج عن انخفاض الإنتاجية المرتبطة بالتكنولوجيا الأقل تطورا . وإذا كان هناك فرق بين الإنتاجية وقوى الإنتاج بما تشمله من تكنولوجيا إلا أن العلاقة بينهما علاقة تناسب طردى فليس الجرار كالفأس ، ولا سائق الجرار كالفلاح الذى يحرث الأرض بالفأس .
ولكن هل يمكن للجماهير أن تقبل الحرمان من السلع المتطورة ، وأن تتخلص من انبهارها بسلع الشمال الأكثر جودة ، والأكثر إشباعا لاحتياجاتها ، إن هذا ممكن فى حالتين .الأولى أن تصبح هذه الجماهير محكومة بدولة بوليسية مستبدة ..تتنافى مع أى شكل من أشكال الديمقراطية كما كان يحدث فى ألبانيا فى ظل أنور خوجة ، وتعمل على عزل الجماهير عن أى مؤثرات خارجية ، وخصوصا تلك التى تأتيهم من الشمال المتقدم .و فى نفس الوقت تعتمد على قوة مسلحة قوية فى حين يتضور الشعب الذى يحكمون باسمه جوعا كما فى كوريا الشمالية .
ومن هنا فأننا لا نصدق إمكانية قيام دولة قومية متحررة من التبعية على أن تكون فى نفس الوقت ديمقراطية ..وأما عن مصير هذه الدولة البوليسية التى يكون من أهم مهامها أن تعين من نفسها وصية لحماية الجماهير من التأثر بالثقافة الإمبريالية . فهو التبقرط والفساد التى لا تستفيد منه إلا النخب الحاكمة ثم أخيرا الانهيار والاستسلام على يد نفس تلك النخب الفاسدة والمستبدة للإمبريالية أمام ضغط الجماهير التى ما أصبحت تطيق حرمانها من التقدم وثماره وبالتالى فأنها تتمرد على إرغامها على التقشف ، وبناء أيضا على مصلحة بعض النخب الحاكمة التى أصبحت تتوق لاستثمار ما حققته من تراكم نتيجة فسادها وفق آليات السوق الرأسمالى .
والحالة الثانية أن تخضع الجماهير لتأثير أيديولوجية ما ، قومية أو دينية..ولكن ما هو المدى الذى من الممكن أن تدفع تلك الجماهير إليه للتغلب على حرمانها من احتياجاتها المادية ، وأن ترضى صابرة على هذا الحرمان ؟ إننا إذا فكرنا على نحو مثالى ، فأننا سنعتقد أنه من الممكن لهذه الأيديولوجية أن تؤثر إلى الأبد ، شرط أن تعد هذه الأيديولوجية الجماهير المحرومة بجنة ما على الأرض أو فى السماء ، ولكننا نعرف أنه بمجرد شك الجماهير بإمكانية تحقق هذه الجنة ، فأنها سرعان ما تتخلى عن إيمانها الأيديولوجى .
وأما عن الأيديولوجية الأكثر قدرة على التأثير على الجماهير لمدى أعمق وأقوى فهى الإيديولوجية الدينية ، التى تربط الجماهير بالمطلق والغيبى الذى لا يرتبط بالمعرفة و إنما بالإيمان، ومن ثم يصعب هزيمته بالمعرفة بقدر ما يهزم بإيمان جديد ، وهو ما قدمته كنموذج الثورة الإيرانية الإسلامية ، وهو الدرس الذى استوعبته المجموعة الماركسية سابقا ، والإسلامية حاليا بقيادة المرحوم عادل حسين التى تحالفت مع الأخوان المسلمين للسيطرة على حزب العمل الاشتراكى سليل حزب مصر الفتاة الفاشى الذى أسسه أحمد حسين شقيق عادل حسين ، فيا للمصادفة ؟!. وقد تم ذلك التحول فى أعقاب الثورة الإيرانية فورا ، وهو ما يثبت فى كل الأحوال أن هدف هؤلاء ما هو سوى الدولة القوية والحرة المستقلة بصرف النظر عن المرجعية الفكرية التى ينتسبون إليها ماركسية كانت أو إسلامية أو قومية ، والتى لا تشكل سوى وسائل جذب للجماهير لامتطائها نحو كرسى الحكم ، والدولة الحرة هى دولة مستبدة تجاه مواطنيها فهى حرة إزاءهم تماما ، و باسمهم غالبا ! ومن يمارس السلطة فى تلك الدولة يصبح هو الوحيد المتمتع بالحرية الفعلية . أما الأيديولوجية القومية فأنها بلا شك أقل قدرة على التأثير على الجماهير ، فضلا عن أن جماهيريتها مرتبطة بوجود احتلال أجنبى لأرض الوطن القومى أو فى حالات الحروب القومية أو عدم تحقق الوحدة القومية ، أما ما دون ذلك من حالات فأن ما يشغل الجماهير فعليا هو إشباع احتياجاتها المادية والمعنوية ، أما قضايا الثقافة القومية والوعى القومى ، فأنها لا تشغل سوى أذهان المثقفين .
هل يوجد بديل حقيقى لليسار الوطنى؟
فى الحقيقة أن الحديث عن ضرورة التحول العالمى ضد الرأسمالية باعتبارها ظاهرة عالمية منذ البداية ، ليس حديثا خياليا و لا جديدا ، وأن كان كمشروع مازال حبيس عقول قلة نادرة من البشر ، إلا أن أساسه المادى ينمو بعمق داخل أحشاء الرأسمالية العالمية ، وهو الأساس الذى يعطيه إمكانية التحقق الفعلية برغم تعارضه مع الكثير من المصالح المادية المرتبطة بالدولة القومية ، وبرغم الوعى الاجتماعى السائد عبر العالم كله القائم على تقديس الهويات القومية والدينية والعنصرية والعرقية والثقافية ، ذلك أن الرأسمالية تنجرف بميلها الغريزى نحو الربح والمحافظة على معدل الربح من الهبوط إلى التوسع بلا كلل وهى تذيب كل ما يحول دون هذا التوسع من حدود بين الشعوب ، وقد تحولت لمرحلة جديدة من النمو يتم فيها توحيد عمليات الإنتاج عبر الكوكب بأسره ..إلا أن هذا الانجراف سيصطدم بالأفق المحدود للكوكب مما يعنى إيقاف التوسع ، ومن ثم الجمود والاصطدام بحائط الربح المتدهور . مما سيضع الرأسمالية كلها أمام نقطة النهاية . والتى تلوح بشائرها فى الركود التضخمى والبطالة الهيكلية التى ستبلغ نحو80% من سكان الأرض فى أوائل القرن الحادى والعشرين . وقد فشلت كل الحلول التقليدية لأزمات الرأسمالية التى عرفتها البشرية عبر تاريخها والتى تواجه السقوط والفشل مما أرغم الرأسمالية على العودة مرة أخرى لليبرالية المتوحشة ، التى لا تعبر عن انتصار الرأسمالية النهائى بقدر ما تعبر عن إفلاسها التاريخى ، حيث لم تستطع تلك العودة حل الأزمة فقد سقطت التاتشرية والريجانية كما سقطت الكينزية من قبل .
وماذا يبقى سوى أممية معادية للرأسمالية والقومية والديكتاتورية فى نفس الوقت تبدأ النضال من أجل إسقاط الرأسمالية وكل أشكال السلطوية و التراتبية والقهر . بالطبع فإن هذا الحلم مازال حبيس العقول وقد آن له أن يخرج لحيز الممارسة ..إلا أنه الحل الوحيد الذى يستحق أن نبذل جهودنا من أجل تطويره واستشراف إمكانياته . برغم كل الصعوبات التى لا يغفل عنها عاقل ، ولكن متى كانت الصعوبات مهما كانت جسامتها بعائقة عن المحاولة ، فلو كان البشر يفكرون على هذا النحو ما كان يمكن لهم تحقيق أى تقدم .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية