الثلاثاء، 1 أبريل 2008

الرأسمالية الكوكبية

الرأسمالية الكوكبية
سامح سعيد عبود
مر نمط الإنتاج الرأسمالى بثلاث مراحل أساسية ، كان الرأسمال في كل مرحلة منها يتخذ شكلا جديدا سائدا ومسيطرا على ما سبقه من أشكال ، وكان هذا يتم مع كل ثورة تكنولوجية جديدة ، فمع المرحلة البخارية من المحركات فى الصناعة ووسائل النقل ، كانت الرأسمالية التنافسية ،حيث يتنافس العشرات والمئات من المنتجين والتجار داخل الأسواق المحلية والقومية وداخل السوق العالمى على إنتاج و توزيع نفس النوع من السلع ، وفى مرحلة المحركات البترولية و الكهربية فى الصناعة ووسائل النقل كانت الرأسمالية الاحتكارية التى بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر ،حيث تم تقسيم أنصبة السوق بين عدد أقل من المتنافسين العمالقة ، وفى مرحلة ما عرف بثورة الاتصالات والمعلومات عرفنا الرأسمالية الكوكبية لتسود وتسيطر على الأنواع السابقة التى تضمحل لصالحها ، وهو ما سنسلط عليه الضوء فيما يلى:ـ
الرأسمالية الكوكبية تعنى سيادة هذا النوع من نمط الإنتاج الرأسمالى الذى يتميز بتفكيك مراحل الإنتاج عبر الحدود الوطنية فى ظل استمرار نفس البنية التنظيمية للشركات والمؤسسات الفردية ، وهو يتيح للرأسمال أدوات جديدة للإستغلال ، و انتزاع فائض القيمة عبر العالم ، وذلك عبر تنويعة جديدة لتقسيم العمل الدولى تختلف نوعيا عن ما سبق أن عرفه ذلك النظام من تقسيم بين بلدان مركزية صناعية و بلدان محيطية منتجة للمواد الخام الزراعية والتعدينية ، و هذا التقسيم الجديد أخذ ينمو فى نفس الوقت على نطاق العالم بمعدلات أسرع وأعمق من التقسيم القديم .
فالرأسمالية الكوكبية هى تنويعة رأسمالية جديدة ذات مجموعة من المظاهر تميز الاقتصاد العالمى فى عصرنا الراهن ، و ذلك عن ما كان يميزه فى المرحلتين التى تم تجاوزهما، المرحلة التنافسية التى أعقبتها المرحلة الاحتكارية ، فحتى عهد قريب جدا كانت عمليات الإنتاج منظمة أساسا داخل الاقتصاديات القومية أو حتى داخل نطاق جزئى داخل هذه الاقتصاديات ،فقد ظلت التجارة الدولية تتطور بشكل أولى كتبادل للمواد الخام والمواد الغذائية والمواد التعدينية من بلدان المحيط مع المنتجات المصنعة والمنتهية من بلدان المركز ، وذلك ما بين اقتصاديات قومية منفردة ، فالمصنع والشركة والصناعة كانت ظواهر قومية على نحو أساسى ، الأمر الذى اختلف فى عهد الرأسمالية الكوكبية لتتحول لمظاهر كوكبية ، فعرفنا الشركات والمصانع والصناعات متعدية الجنسية والعابرة للقومية والدولة ، هذا التحول فى البناء الاقتصادى والقوة السياسية يمكن أن نلاحظه فى كل مكان، وباختصار يمكن أن نحدد معالمه فيما يلى :
أ ـ الهبوط فى القوة الشرائية لأجور الطبقة العاملة ، مما يعنى انخفاض الدخل الحقيقى للعمال المأجوريين إلى المستويات التى تم الوصول إليها منذ عشر أو خمسين عام أو أكثر ، وهو عكس ما عرفته المرحلة الاحتكارية . من ارتفاع الدخول الحقيقية للعمال ، وفى هذا الملمح الهام عودة متسارعة لأحوال الطبقة العاملة كما عرفتها المرحلة التنافسية
ب ـ الهبوط الثابت فى معدلات توحيد وتنظيم قوة العمل ، التى عرفت درجة عالية من التوحد والتنظيم سواء عبر النقابات أو الأحزاب فى المرحلة الاحتكارية الأمر الذى نلاحظ عكسه الآن من ذبول النقابات والأحزاب العمالية ، و زيادة درجة التفكك وعدم التجانس فى أوساط الطبقة العاملة محليا وعالميا .
ج ـ على مستوى الدولة ، تسود اللغة السياسية التى تخدم و توافق مصالح رجال الأعمال سواء أكان من فى الحكم ليبراليون أم محافظون أم إصلاحيون ، فتقاوم النخب السياسية المختلفة الاستجابة لمطالب الطبقة العاملة السياسية و الاقتصادية ، وذلك بسلسلة من الإدعاءات مفادها أن تلبية تلك المطالب ، يعنى سوء مناخ الاستثمار ، وهو مما سيخيف رجال الأعمال و يدفعهم للهرب ، وهذا فى النهاية سيقلل من الوظائف المتاحة للطبقة العاملة محليا وقوميا ، مما يستدعى المزيد من تدليل رأسالمال على حساب العمل .
د ـ على المستوى القومى تهيمن أفكار الموافقة على تعديل الانفاق العام نحو مصالح المستثمرين ،وتقليل الأجر الاجتماعى ،فيتم التقليل من تنظيم الشروط الصحية ،ووسائل الآمان الإلزامية ،والتقليل من نفاقات الدخل ودعم الخدمة الاجتماعية ،ومن ناحية أخرى تخفيض الضرائب من أجل راحة حائزى المساكن الفاخرة والمشروعات الترفيهية .
ه ـ لقد سهلت سلسلة من الثورات التكنولوجية ظهور الرأسمالية الكوكبية من بينها تلك التغيرات التى ظهرت ما بعد الحرب العالمية الثانية ،فى الناقلات عبر المحيط "الحاويات" ،والمحركات الأكثر كفاءة ، والملاحة الجوية ، فقد خفضت تكنولوجيا النقل تكاليف الشحن ، كما جعلت تكنولوجيا المعلومات فيما يتعلق بالاتصالات الإلكترونية ومعالجة المعلومات الأسواق المالية العالمية حقيقة واقعة ، حيث تقود و تسيطر على نطاق العالم وعلى نحو أسرع و أسهل بما لا يقاس بأى وقت مضى ، فعبر هذا السوق تتحرك مقادير ضخمة من رأسالمال بسرعة الضوء مستخدمة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة ، ، وكان من نتيجة هذه الثورة التكنولوجية ، أن أصبح الفصل المكانى بين المراحل المختلفة فى عملية الإنتاج لنفس السلعة أقل تكلفة ، مما ساعد فى النهاية على إعادة انتشار الصناعة عبر العالم ، وانتاج السلعة الواحدة فيما بين دول العالم المختلفة ،فهذه التكنولوجيات الحديثة ، استطاعت بل وأجبرت الرأسمال المدفوع بضرورة تعظيم الأرباح على حساب عائد العمل ، على أن يتجسد متوزعا فى عدة أقاليم عبر العالم ، فتتوزع المؤسسة الرأسمالية عبر العالم لعدة فروع ، وعلى سبيل المثال ،البحوث والتصنيع والآلية الماهرة والتجميع غير الماهر والإدارة والخدمات ..الخ ، فالمؤسسة الرأسمالية يمكن أن توظف العمال المرتبطين موضوعيا فى عملية إنتاج واحدة ،لكن تلك الروابط التنظيمية والسياسية عبر الأقاليم تكون فى حـدها الأدنى .
و ـ كل هذه التغيرات البنيوية شكلت توازن جديد للقوى لم تعرفه المرحلة الاحتكارية السابقة ، فكلما تعمقت التنويعة الجديدة للرأسمالية ، وسادت على نطاق عالمى ، توحشت وسائل الرأسمال فى صراعه مع العمل من أجل انتزاع مزيد من فائض الإنتاج ، ومن أجل المزيد من السيطرة علي العمل وترويضه لصالح رأسالمال ، ففى العصر التنافسى ،كان وجود الجيش الاحتياطى للعمل يتيح الوسيلة التى احتاجها الرأسمال لترويض العمل .أما فى ظل الرأسمالية الاحتكارية ، فقد كانت الوسيلة الأساسية للاستغلال تكمن فى تقسيم الطبقة العاملة إلى جزئين متميزين بشكل نسبى : القطاعين الاحتكارى والتنافسى على التعاقب ، وهكذا سعت المؤسسات الاحتكارية المهيمنة لتحقيق هدفين أوليين من أجل تعظيم معدلات تراكم رأسالمال : التبادل غير المتكافىء مع مؤسسات القطاع التنافسى والتسعير الاحتكارى . فقد تضمن النظام الاجتماعى لرأسالمال الاحتكارى توحيد العمل فى صناعات أساسية . قوة التسعير الاحتكارى ، تكنولوجيا ثابتة معينة ، رأسماليين سمحوا بقبول نقابات قوية، ومن أجل ملائمة أجور العمال مع أرباحهم ، أصبح على المستهلكين تحمل تكاليف هذه الأجور ، ذلك العهد الجديد الرأسمالى أوجد عمال الدخل المتوسط ، التى أتاحت لهم أجورهم شراء منتجات صناعة الإنتاج الضخم من السيارات والأجهزة المعمرة . هذا استلزم من العمال الخضوع لنظام التراكم المكثف للربح أو ما يعرف بالفورديزم مقابل ما حصلوا عليه من مميزات .
المكاسب النسبية للعمل بشكل خاص فى مؤسسات القطاع الاحتكارى المنظم جيدا ، سمحت لتعويضات العمل أن تسبق الإنتاجية فى آواخر الستينات ، مما خفض المعدلات المتوسطة للربح فى الصناعة ، وكان هذا واضحا على نحو خاص فى بعض القطاعات مثل الصلب وصناعة السيارات ، وكانت النتيجة ما تمت فى السبعينات من السعى وراء إعادة توزيع مواقع الإنتاج ، سعيا وراء تقليل تكاليف العمل بحثا عن عمالة رخيصة غير منظمة أو السعى وراء منافع السياسات المحلية التى تشجع على توليد معدلات أعلى من الربح للرأسمال من إعفاءات ضريبية و جمركية ، فانتقلت صناعات السيارات والصلب إلى البرازيل وكوريا الجنوبية على سبيل المثال .
ز ـ بالمقارنة مع العصر التنافسى للرأسمالية ، فأن الرأسمالية الاحتكارية تميزت بظهور الشركات العملاقة ، ونهاية سعر المنافسة فى العديد من قطاعات الصناعة وثبات أنصبة السوق . حتى عمليات الإنتاج للشركات و بشكل خاص لسلع محددة كانت مركزة على نحو نسبى على نطاق الاقتصاديات القومية .
فى ظل الرأسمالية الكوكبية ، الشركات العملاقة للأقاليم القومية المختلفة تتنافس على نحو عدوانى على الفوز بأنصبتها من السوق العالمى حيث يشمل العديد من الأسواق القومية المختلفة .سعر المنافسة يعود مرة أخرى وتتآكل قوة التسعير الاحتكارية للمؤسسات المهيمنة .أنصبة السوق للشركات أصبحت أكثر عرضة للتغير فلا ثبات فى عالم ينتقل فيه رأسمال بسرعة الضوء .بعض الشركات فشلت فى البقاء ، ومن ثم فالاندماجات فيما بينها اصبحت متواترة . ووسائل جديدة لتراكم رأسالمال والربح تم تصميمها و انجازها .
الشركة الكوكبية ، لا تكل من فحص الكوكب بأسره بحثا عن امكانيات الاستثمار الأفضل و لا يثنيها فى ذلك قيود فمعظم النخب الحاكمة تدللها للقدوم ، وعلى العموم فهذه الحركة الحرة عبر العالم تعطيها امكانية أفضل للتخصيص العقلانى للموارد ،والسعى بلا رحمة لاستخراج امتيازات من السياسات المحلية ، شروط عمل أفضل بالنسبة لها و أسوء بالطبع بالنسبة للعمال ، تسهيلات فى انتقال السلع ورأسالمال ، تخفيضات فى الضرائب وهلم جرا
فالرأسمال الكوكبى متكيف على النحو الأقصى لشروط الصراع الطبقى فى حين أن القيود على انتقال الطبقة العاملة عبر الحدود القومية ومن ثم ضعف امكانية تنظيمها على نطاق عالمى يجعلها أقل تكيفا مع شروط نفس الصراع ، ومن ثم يميل ميزان القوى لصالح رأسالمال ، فالشركة الكوكبية ، تتفادى صعوبات توحد العمل ضدها طالما كانت تملك فروعا وخطوطا للإنتاج مبعثرة عبر العالم وأقاليمه ،كما أن العمال يحرموا من الانتظام فى قطاع صناعى محدد حتى لا يتعرض ربح رأسالمال القادم للخطر ، و لا شك أن حماية رأسالمال من قوة تنظيم العمل يزيد من القدرة التفاوضية لرأسالمال .
خلال العهد الاحتكارى مدت الدولة حكمها كمنظمة لشروط تراكم رأسالمال ، أما فى ظل الرأسمالية الكوكبية فأننا نشهد الهبوط النسبى للهيمنة النسبية للدولة على رأسالمال ، وعلى نحو خاص أجزائه الكونية ، ففى هذا العهد وجد أن تدخل الدولة وترتيبها المخطط للعناصر الاقتصادية لم يعد مقبولا ولم يعد مفيدا و من ثم سقطت كل أشكال تدخل الدولة المباشر فى الاقتصاد ، ونفاقات الدولة المصممة للحفاظ على السلام الاجتماعى أصبحت أقل ضرورة مع تفكك وضعف الطبقة العاملة ، و مع القدرة المتزايدة لرأسالمال على نقل الإنتاج إلى أقاليم أخرى تكون سياسة الدولة فيها أكثر ملائمة لرأسالمال .
إلا أن ظهور الرأسمالية الكونية أعاد بناء علاقات الهيمنة النسبية ، والتى ميزت الرأسمالية الاحتكارية ، حيث أن لهذه الهيمنة مصادرها المادية والأيديولوجية ،فأحد هذه المصادر هو احتياج الرأسماليين لتجاوز خلافاتهم إلى الحد الكافى لمواجهة جهود العمال السياسية والنقابية لانتزاع مطالبهم ، وتوجيه نشاط الدولة نحو نتائج يمكن قبولها من الطرفين فى إطار توازنات القوة الجديدة المائلة لصالح الرأسماليين.
المصدر الآخر للاستقلالية النسبية السياسية للدولة فى ظل الرأسمالية الاحتكارية كانت قدرة قوة العمل والمستهلكين والقوى الديمقراطية على كسب مكتسبات قانونية ومواقع متقدمة فى التأثير على الجهاز البيروقراطى للدولة والنخب السياسية ، الأمر الذى افتقدته فى ظل الرأسمالية الكوكبية ،حيث ازدادت القوة التفاوضية لرأسمال فى مواجهة العمال والمستهلكين ،فأى تقدم يحرزه هؤلاء لصالحهم ،يعتبر مؤشرا على سوء مناخ الاستثمار.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية