الجمعة، 28 مارس 2008

ردين للفعل على الاستعمار

ردين للفعل على الاستعمار
سامح سعيد عبود
أتى الغزو الاستعمارى كنتيجة منطقية للتوسع الرأسمالى الذى انطلق من غرب أوربا ليكتسح العالم مكونا حضارة رأسمالية عالمية واحدة ، وفى سياق الغزو و كأثر من آثاره تكون نوعين من رد الفعل ، لا يخفى جذرهم العنصرى فى الحالتين .
رد الفعل الأول الناتج عن الصدمة الحضارية هو الاحساس بالنقص والشعور بالدونية فى عقول قطاعات من شعوب العالم الثالث المتخلف والتابع الذليل للرأسمالية العالمية ، وذلك هو الوجه الآخر من الاحساس بالتفوق والشعور بالاستعلاء فى وعى قطاعات من شعوب العالم المتقدم والمسيطر ، فلكى تستمر حالة التبعية والتخلف لابد وأن يتم إيهام تلك الشعوب بأنها أقل ذكاءا أو نشاطا أو أخلاقا وهذا سر تخلفها ومن ثم تبعيتها ، وبالتالى عليها أن تظل تابعة للأكثر ذكاءا ونشاطا وأخلاقا فهذا هو قدرها المحتوم الذى عليها أن تقبله صاغرة ..أما الحديث عن النهب الاستعمارى المنظم لثروات الشعوب وإعاقة تقدمها ،وبذر بذور تخلفها ،ورعايتها والعناية بها حتى وصلت هذه الشعوب لذاك المستوى من التخلف ،باعتبار أن هذا هو العامل الأساسى وراء كل هذه المظاهر ،و تناسي أن الكثير من هذه الشعوب ومنها الشعب المصرى ،كانت ذات تاريخ حضارى عريق ، فهو ما يتم طمسه و لايتم الكشف عنه وتوضيحه إلا أحيانا . وهكذا يتم الاستخفاف بالثقافة المحلية ، ومحاولة محو كل ما هو خلاق بها ، وإبراز كل ما هو جامد وسقيم ومتخلف ، كدليل على انحطاط الشعوب المتخلفة ، وابهارها بالجانب المظلم فى الثقافة الرأسمالية الحديثة ، ليستمر العبيد فى عبوديتهم للسادة الاستعماريين.
أما رد الفعل الثانى ، فهو على النقيض من رد الفعل الأول ، إذ يحاول متبنوه التمسك بالطرف الآخر من التمايز والخصوصية التى يتمسك بطرفها الأول متبنوا رد الفعل الأول ،مقدمين ما يتمسكوا به كمبرر للتحرر الوطنى والقومى فيما لا حاجة لمبرر له ..فأنت لكى تصبح حرا لاتحتاج لأى مبرر لرغبتك فى الحرية ، وهى الحق الذى لا نزاع فيه لكل الشعوب والأفراد ، وقدس الأقداس الذى لا يجوز تدنيسه بأى قيود إلا حريات الآخرين.
فهؤلاء تحت حجج التمايز الحضارى والثقافى ، و أيديولوجيات الهوية والخصوصية الجماعية دينية كانت أو قومية ، لا يرون سوى الجانب المظلم فى الحضارة والثقافة الحديثتين باعتبارهما نتاج العالم المتقدم الذى لا يرون فيه سوى الجانب الاستعمارى العنصرى البغيض ،ويتعامون عن أن بجانب هذا الجانب وكناتج عن الصراع الطبقى والاجتماعى الذى يموج به العالم المتقدم ، يوجد جانب مستنير و إنسانى وتقدمى . وهم غافلون على أن مواجهة العنصرية بعنصرية مضادة لابد و أن يخسر فيها الطرف الأضعف والمتخلف ،فالعنصرية البغيضة لا تواجة إلا بما هو مستنير و إنسانى وتقدمى .
و هؤلاء فى نفس الوقت الذى يستوردون فيه التكنولوجيا الحديثة والسلع الاستهلاكية الحديثة ، يرفضون العلوم الاجتماعية الحديثة والفكر الحديث بحجة أنه وارد العالم المتقدم ،والحقيقة أنه ماوجدت حضارة فى العالم إلا وتأثرت بفكر أجنبى أو استوردت تكنولوجيا أجنبية ،فالعلوم والأفكار والثقافات حق مشاع لكل البشر لهم أن ينهلوا منها كيفما شاءوا ، فهى نتاج العقل البشرى الواحد ، والذى لايصح أن نضعها فى موضع واحد مع السلع التى تصدر وتستورد ، فحتى هذه السلع فقدت طابعها المحلى والقومى مؤخرا . فى الوقت الذى فيه تتزايد معدلات التوحد البشرى فى ثقافة عالمية واحدة ، ويتحول البشر من العيش فى جزر اجتماعية منعزلة إلى الحياة فى قرية صغيرة واحدة بفضل ثورة الاتصالات الحديثة ، قرية هى وطننا جميعا نحن سكان الأرض ، والذين نشترك فى العديد من المشكلات المشتركة التى تتطلب منا حلولا عاجلة على مستوى العالم ،وتتطلب تضافر جهود البشرية بأسرها بعيدا عن كل ما يفرقها من قوميات وأديان وثقافات ولغات وألوان ، ولكن الغريب أنه مع كل ذلك فالنزعات القائمة على الهوية الجماعية دينية كانت أو قومية تزداد انتشارا وقوة بوجهها العنصرى البغيض ، سواء فى العالم المتقدم أو المتخلف على السواء . بل وللأسف ومن واقع تجربتى فقد لاحظت انتشارها بقوة فى أوساط غالبية المثقفين العرب .
أن محاولة التقوقع حول ما هو محلى و قومى تفترض أن الثقافة المحلية تكفينا شر البحث العقلانى عن الأفضل و الأكثر كمالا ورقيا وتطورا ، ومن ثم البناء على هذا الأساس ،تطورا حضاريا جديدا ،كما فعل الأغريق بتراث المصريين القدماء ،والأوروبين بتراث العرب والمسلمين ،والعرب بتراث الأغريق والفرس والهنود والرومان .
فانصار الهوية الجماعية المتهافتة وتحت مسمى التمايز والخصوصية ،يرفعون شعارات الرسالة القومية الخالدة ،أو الرسالة الدينية المنقذة للبشرية من سقوطها ، وهم فى كل الأحوال و تحت شتى الدعاوى استبداديون مهما أدعوا الديمقراطية ، و رجعيون مهما زعموا من تقدمية ، وهم يغذون ويتغذون على التعصب القومى أو الدينى الأعمى ، ويتنفسون التفاهات والسطحيات مهما غلفوها بالسفسطة الغامضة التى توحى بالعمق ، وقد يصل الحال ببعضهم أحيانا إلى حافة الهوس والجنون والحمق ، فنجد كتاباتهم على العموم لا مكان لها إلا بين أطباء النفس والعقل حيث تمتلأ بكل أعراض الهوس والبارانويا والهستريا واللاعقلانية فى المنطق والأسلوب ..و إلا ماذا نسمى ما لديهم من اعتقادات خاطئة ثابتة بالتفوق الجوهرى على كل الآخرين ، وانهم بسبب هذا التفوق يتعرضون لمؤامرات الآخرين واضطهادهم و كراهيتهم، ذلك أن هؤلاء الآخرين يخشون تفوقهم الفطرى المكبوت عن الانفجار بسبب ذلك التآمر، وهم دائمى الشكوى من الاضطهاد والكراهية من الآخرين، هؤلاء الذين يعرفون سواء معترفين أو منكرين بتفوقهم سواء بما يملكوه من ثقافة محلية ، أو دين أو سمات قومية معينة ،أو تراث حضارى قديم .
العالم المتقدم لم يبنى حضارته الرأسمالية التى سادت العالم على رمال التآمر على العالم المتخلف واضطهاده فحسب ، فقد كانت كل أعمال النهب والتآمر والقهر والاستغلال مجرد أجزاء ثانوية فى عملية البناء العظيمة لتلك الحضارة وكنتيجة لها وليست سببا بأى حال من الأحوال ، فالرأسمالية كنمط إنتاج وحضارة وثقافة حققت انتصاراتها لأنها الأكثر تطورا وتقدما وكفاءة بما يكمن فى جوهرها نفسه من إمكانيات هائلة للتقدم والتطور بما يفوق وبما لاقياس معه أى أنماط إنتاج سابقة ، فالحقيقة أن مركز الحضارة الرأسمالية العالمية ، وفى حين أن عدد سكانه لا يتجاوز خمس سكان الأرض ينتج 90% من الإنتاج العالمى المادى فضلا عن السواد الأعظم من الإنتاج الفكرى فى الفن والأدب والعلم والفلسفة والثقافة التى مازال المحيط المتخلف يقتات عليه .
أنصار الهوية الجماعية فى بلادنا العربية يصدعون رؤوسنا بالحديث عن الغرب المادى والشرق الروحانى ،وما يندرج تحت هذا من تفصيلات وتنويعات هى من الخرافات التى لاتليق إلا بالأطفال ، حيث لا تؤسس على دراسة موضوعية لتاريخ البشرية وتراثها العالمى ، وانما هى تهويمات أقرب للغة الشعر والخطابة تذكرنا بأنماط الشعر القديم من هجاء ومديح ،فالغالبية الساحقة من من يكتبون لدينا لا يفهمون من وظيفة للكتابة إلا ما كان يفهمه الشاعر أو الخطيب الجاهلى من الانتصار لقبيلته والهجوم على غيرها من القبائل .
و أنصار الهوية الجماعية تحفل كتاباتهم بالإدعاءات الكاذبة النابعة من التعصب الأعمى ،حيث يعظمون بلا عقل و لا تفكير التراث المحلى والثقافة القومية بكل ما فيهم من مبتذل ونفيس ، بل يرفضون الاعتراف بكون المبتذل مبتذلا أو ينكروه ،ويتحول لديهم كل ما هو محلى إلى شىء مثالى مطلق ، فالجماعات الإسلامية مثلا لا تبرز و لا تعترف إلا بكل ما هو عظيم فى الحضارة الإسلامية ، فى حين ينكرون الهزائم التى عرفتها تلك الحضارة ، كما يرفضون الاعتراف بالظلم الاجتماعى والاستبداد السياسى والاستغلال الاقتصادى طوال تاريخ تلك الحضارة ، ومن ثم يغضون الطرف متجاهلين الثورات الشعبية ضد الطبقات السائدة التى أزاقت الظلم والاستبداد والاستغلال لطبقات المقهورين باسم الإسلام والدين والشريعة ،ولم يكن هذا ليمنع أن تقدم الحضارة الإسلامية ما قدمته للعالم من تراث حضارى غنى ، فقضية التقدم والتخلف شىْ مختلف عن ما نتحدث عنه من مظالم عرفت ما هو أكثر منها الحضارة الرأسمالية نفسها الأكثر تقدما . فلا يمكن أن لا نحارب الرأسمالية لأنها قدمت للعالم كل هذا التراث الحضارى الأكثر تقدما ورقيا وتطورا بما لا يقاس به أى تراث آخر بلاشك . غافلين عن ما ارتكبته من جرائم ومخازى .
فالإسلاميون والقوميون العرب عموما لا يعترفون بمخازى ومفاسد الطبقات العليا فى المجتمعات الإسلامية ،من خلفاء و أمراء وصفوة رجال الدولة والعسكر بل والكثير من رجال الدين وعلمائه ،ولحسن الحظ ،وبرغم قلة ما وصلنا من كتب التاريخ والأدب ،ومع كثرة ما عراها من تزييف وتشوية لصالح الطبقات السائدة والفاسدة ،إلا أننا استطعنا أن نعرف الكثير مما كان يحدث فى قصور الأغنياء و أكواخ الفقراء ،أما هم فلا يقرأون فى التاريخ الإسلامى إلا ما يرغبون فى قراءاته من جوانب مشرقة ، وينكرون ما دون ذلك باعتباره أكاذيب وإفتراءات ، ذلك لأنهم لا يعترفون إلا بما يرضى ذواتهم المتعصبة ،أما الحقيقة فلتذهب للجحيم . فهم يقيمون لحظات الانتصار العظيمة فى التاريخ كدليل على سمو الشعب أو الثقافة المحلية وانحطاط الشعوب الأخرى والثقافات الأخرى وخصوصا الثقافة العالمية الحديثة و بالأخص وهذا هو بيت القصيد فى اتجاهاتها التقدمية .
هذا هما ردى الفعل على ظاهرة الاستعمار الحديثة ، وهما ردى فعل لن ينجزا لا قضية التقدم و لا قضية التحرر لجماهير المقهورين فى العالم .إن لم يكن التمسك بهما معرقلا لكل من التقدم والتحرر

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية