ماذا فعل القوميون العرب بنا
ماذا فعل القوميون العرب بنا
سامح سعيد عبود
تعود الجذور الفكرية للحركة القومية العربية إلى أواخر القرن التاسع عشر ، وقد تأثر روادها الأوائل بالفكر القومى الرومانسى الأوربى ، و امتداداته السياسية الممثلة فى الحركات الفاشية والتسلطية المختلفة ، وقد دبج مفكروها ودعائيوها ومحرضوها وما زالوا ،الألوف المؤلفة من المجلدات التى تشكل فى مضمونها جريمة ممتدة ، فى حق قراءها ، وارتكبت حكوماتهم وأحزابهم من الجرائم وما زالت وذلك بما يملأ الألوف المؤلفة من المجلدات أيضا، فى حق الشعوب العربية ، الذين نصبوا أنفسهم للتحدث باسمهما وتمثيلها ،والتى وصلت فى بعض الأحيان لمستوى جرائم الحرب ، والجرائم ضد الإنسانية ، و بما لم يكن يجرؤ أن يفعله أحيانا مستعمرى وحكام تلك الشعوب فى فترات سابقة ، و الأمر لا يمكن أن يكون و بأى حال مجرد مصادفات سيئة نابعة من سوء تصرف وسلوك وتفكير هؤلاء الساسة والبيروقراطين والمفكرين والعسكريين الذين تسلطوا على الشعوب العربية طوال نصف قرن ، أو ناتج عن مؤامرات الغرب الاستعمارى الخارجية أو الخيانة الداخلية كما يتوهم البعض أو يروجون كدفاع ساذج عن الجرائم البشعة التى ارتكبوها ، أو كتبرير سقيم لفشلهم الذريع فى تحقيق الحد الأدنى مما منوا به شعوبهم ، هذا إن شئنا تحليلا علميا للظاهرة ، وإنما هناك من الجذور الاجتماعية و الفكرية للحركة القومية بكل تنوعاتها مما أدى لتلك المأساة إلا أن هذا ليس موضوع هذا المقال تحديدا و إن كنت سأشير فى عجالة إليه
تلك القطاعات الاجتماعية المتعلمة تعليما حديثا ، تبنت الأيديولوجيات القومية المختلفة ، كغطاء أيديولوجى يبرر سعيهم لتأسيس دولة قومية شمولية يكونون هم عمادها الرئيسى ، فكلما قويت شوكة الدولة القومية قويت شوكتهم ، و صعدت مكانتهم الاجتماعية ، عبر توسيع جهاز إدراتها البيروقراطى المتضخم ، فهم المرشحون لأن يشغلوا مراكزه المختلفة بحكم تعليمهم الحديث ، والحقيقة أن التحديث والنهضة كانتا تعنى فى فترة زمنية معينة ضرورة اتساع جهاز الدولة وشموليته مما يدعم مصالح تلك الفئات ، و هو ما دعاهم لتبنى تلك الأيديولوجيات .
إلا أن تطورات تاريخية عالمية حدثت قد عصفت بهذا الاتجاه مما انتهى بهذه الأيديولوجيات للانهيار ، وهى أيديولوجيات ذات جذور فلسفية تميزها تؤسس فكريا للقهر والاستبداد والفساد ، ففكرة تمثيل الأمة أو الشعب وغيرها من المطلقات لابد وأن تؤدى للاستبداد
الحقيقة الواضحة كالشمس أن هذه المنطقة من العالم هى الأكثر تأخرا وتخلفا فى العالم باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء على كافة الأصعدة . بعد أن عاث فيها القوميون قهرا وفسادا وتضليلا وتدميرا فى النصف الثانى من القرن العشرين ، أما فى النصف الأول من القرن العشرين بل وطوال القرن التاسع عشر فقد كانت مصر وعلى سبيل المثال باعتبارها الأكثر تطورا فى المنطقة تحتل مكانة وسطى بين المراكز المتقدمة فى أوروبا وأمريكا الشمالية فى العديد من المستويات الاجتماعية ، وبين العالم المتخلف فى بقية العالم ، أما الآن فالوضع فيها لابد وأن يبعث على خجل من حكموها طوال النصف الثانى من القرن العشرين .حيث تجاوزتها العديد من البلاد فى آسيا و أمريكا اللاتينية بل و فى أوروبا نفسها .فمصر التى كانت من أوائل الدول التى عرفت الحياة البرلمانية والسياسية ومؤسسات المجتمع المدنى من نقابات و أحزاب وجمعيات و صحافة رأى منذ ستينيات القرن التاسع عشر ،انتهى بها الحال بعد خمسينات القرن العشرين لأن تفقد تماما كل هذا على مستوى المضمون ، وإن كانت محتفظة بذلك على مستوى الشكل فحسب ، فمصر فعليا تفتقد الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية ، برغم توافر وجودهم الشكلى بعد تأميم الدولة لكل مبادرة عمل جماعى ، وعلى المستوى الاقتصادى والثقافى والفكرى فقد بدء التراجع والانهيار منذ أواسط الستينات .
تنوعت مدارس الحركات القومية فى العالم العربى ، وتعددت فصائلها مابين الناصرية والبعثية كحركات عروبية ، والكتائبية والسورية كحركات قطرية ، وكلها تسعى للسلطة وتتصارع حولها ، كما تتصارع الوحوش على الفرائس ،كما روضت و هى فى الحكم الشعوب العربية ، بعصا الإرهاب والقمع والقهر ، و فتات الثروات التى ألقوها لها ، كتغطية لما نهبوه من زبدة الثروات، كما ضللتها بفيضانات الأغانى والأشعار والخطب والشعارات الحماسية الجوفاء ، وتلال الأساطير و الخرافات التى تمتلىء بها كتبهم ومقالاتهم و وسائل إعلامهم وتعليمهم.
تعلم القوميون العرب فى مدارس هتلر وموسولينى وفرانكو إلا أن التلاميذ بذوا الأساتذة وتفوقوا عليهم ، فقد ضربت القوات العراقية الأكراد العراقيين بالغازات السامة فى قرية حلابجة ،كما اقتحمت القوات السورية مدينة حماة السورية بالطائرات والدبابات لا لتخلصها من قوات للغزو الخارجى بل لتقمع تمردا شعبيا بقيادة الأخوان المسلمين ، فى حين تركت الجولان للإسرائيليين طوال أكثر من ثلاثة و ثلاثين عاما ، أليسوا أسود على شعوبهم ، وفى الحروب نعام كما وصفهم أحد الشعراء ، وقد قضى البعثيون فى كل من العراق وسوريا على كل أشكال المجتمع المدنى ، واستأصلوا شأفة المعارضة والحياة السياسية فى كلا البلدين ، حيث تحكم كلا البلدين مجرد عصابتين إجراميتين لا أكثر ، والتعبير هنا ليس من قبيل المجاز البلاغى ، فمن المعروف عن صدام حسين مثلا أنه يتصرف فى حكم العراق كما يتصرف زعماء عصابات المافيا سواء مع رجال عصابته الحاكمة أو مع الشعب العراقى ، حيث ينفذ أحكام الإعدام بنفسه فى رجاله الذين لا يشم فيهم رائحة الولاء التام ولا يستشعر فى سلوكهم الطاعة المطلقة بعد أن يحكم عليهم بنفسه على نحو فورى، حدث هذا مثلا فى أحد اجتماعات مجلس الوزراء العراقى مع أحد الوزراء لأنه أبدى مجرد اقتراح لم يرق لصدام ، واعتبره دليلا على عدم الولاء المطلق ، كما قذف بأحد الأشخاص من النافذة لأنه اختلف معه فى الرأى .كما أن الدستور السورى الشمولى قد تغير فى ربع ساعة ليتيح لبشار الأسد الحكم بعد وفاة أبيه ، فى سابقة جديدة لم تحدث من قبل ، فقد كان هؤلاء التقدميون يتفاخرون على الرجعيين بأنهم جمهوريون وليسوا بملكيين .
وصدام حسين بالتحديد فاق الجميع و بما لا يقاس ، فقد تسلم حكم العراق و هو الأغنى سواء بحكم الإمكانية أو الواقع ، فالعراق وللعلم بلد غنى ، حبته الطبيعة بالموارد البترولية والمعدنية والزراعية فضلا عن الكوادر البشرية المتعلمة و المثقفة والتراث الحضارى العريق ، و يكفى أنه كان يقال فى الستينات " أن المصريون يكتبون ، واللبنانيون ينشرون ، والعراقيون يقرأون " ، لنعرف مدى ما كان يذخر به العراق من طاقات بشرية وطبيعية هائلة لم تتوافر لأى بلد عربى آخر فى النصف الثانى للقرن العشرين . وبدلا من أن يوجه البعث العراقى هذه الموارد والثروات لينقل العراق لخانة العالم المتقدم بما توفر له من فرص تاريخية ، أو أن يحرر فلسطين المحتلة والجولان السورى ، دخل فى مغامرة عسكرية بالهجوم على إيران استغرقت ثمانى سنوات وانتهت بهزيمته ، ثم تلاها بغزو الكويت ثم حرب الخليج ، و توريط الشعب العراقى فى الحصار الدولى لما يزيد عن عشر سنوات ، و فى حين يعانى العراقيون البؤس و التأخر الذى نقلهم و بسرعة لمستوى الحياة فى القرون الوسطى ، أحتفل هو وطغمته الحاكمة بعيد ميلاده على نحو أسطورى فى حين يفتقد الأطفال فى العراق للخبز والدواء الضروريين للحياة ، وسيتحولون قريبا إذا ما استمر الحصار ، وبشكل كبير للأمية بعد أن كان العراقيون عموما من أكثر شعوب المنطقة ثقافة و تعلما .
والمشكلة ليست فحسب فى العروبيين ، فالقطريين لا يقلون سوءا ، فما فعله الكتائبيون من توريط اللبنانيين فى حرب أهلية استغرقت خمسة عشر عاما حتى أكلت الأخضر واليابس لا يقل إجراما عما فعله البعثيون ،كما أن القبليون فى الصومال ليسوا أقل إجراما ،و ها هم شيخى البحرين وقطر يتصارعان على جزر غير مأهولة .
و لاداعى بالطبع للحديث عن المعتقلات السياسية والتعذيب و المذابح التى أرتكبت و ترتكب فى حق المعارضين ، و شتى أشكال انتهاك حقوق الإنسان ، فقد سار الحديث عنها حديثا مملا عن البديهيات المعروفة عن كل أنظمة الحكم العربية الوطنية والقومية منذ أن حازت على استقلالها وحتى الآن ، وإن كان على مستويات مختلفة من القسوة والبشاعة بما يتناسب وظروف كل بلد . و لا داعى للحديث عن النهب و الإهدار للموارد والثروات والفرص فى ترف النخب ونزقها ومغامراتها ، و الاستهلاك العشوائى و المغامرات العسكرية ،و المشاريع الدعائية الفاشلة الباهظة التكاليف ، فقد تم حلب الثروة العربية واهدارها من قبل النخب الحاكمة الفاسدة ، و شركات السلاح و غيرها . وسيكتفى العرب بعد قليل بتراثهم من الأغانى والأشعار والخطب والشعارات بعد أن ينفذ البترول .
ولعل ما يحدث للشعب الفلسطينى ، من مأساة تشبة التراجيديات الأغريقية ما كان يمكن أن يصل إلى هذا المستوى إلا بما فعله القوميون من جرائم فى حق الفلسطينين لا يقل عن ما فعله الصهاينة بهم . فمنذ اللحظة الأولى من الصراع دس القوميون أنفهم فيه ، رافعين شعاراتهم العنصرية والفاشية المنفرة ، وتدخلوا بجيوشهم النظامية الفاسدة فى حرب 1948، والتى أسموها النكبة ،بعد رفضهم قرار التقسيم ، حيث هزموا من عصابات المستوطنين الصهاينة ، فخسروا من الأرض أكثر مما أعطاه قرار التقسيم للصهاينة ، وهزمت أنظمتهم الفاسدة والشمولية والتسلطية فى حرب فى عام 1967 فخسروا من الأرض أضعافا مضاعفة فى ست أيام بلا حرب حقيقية ، وتلك أسموها النكسة ، واعترفوا بالكيان الصهيونى و قبلوا بأقل كثيرا مما سبق وقد رفضوه بعدما عجزوا عن إزاحة الصهاينة وقذفهم فى البحر كما كانوا يعدون شعوبهم ،والتى قهروها طوال نصف قرن مقابل تحقيق هذا الوعد الذى أخلفوه . و الأسوء تماما هو ما فعلوه بمنظمة التحرير الفلسطينية ، والمنظمات الفلسطينية المختلفة ، فعلى مستوى ما ، أنشأوا المنظمة ككيان بيروقراطى تم إفساده تماما بواسطتهم ، مما أعجزه عن القيادة الفعالة للشعب الفلسطينى ، وصنع أو اشترى كل جهاز مخابرات عربى لنفسه منظمة فلسطينية أو أكثر ، ليتم من خلالها تصفية وتسوية الخلافات بين الأنظمة المختلفة ولتصبح منظمة التحرير التى تضم تلك المنظمات مجرد ساحة لتجسيد الصراعات والتحالفات بين الأنظمة العربية ، و لأن منظمة التحرير ليست منظمة ثورية و لا ديمقراطية ، فقد أيدت غزو العراق للكويت مراهنة على قوة العراق وثرائه ، وفيما يبدو لأنه كان يدفع أكثر لبيروقراطييها وقادتها ، و هزم العراق فى الحرب مجددا ، مما أدى لكارثة فلسطينية جديدة ، حيث فقد الفلسطينيون فى الضفة والقطاع مواردهم المالية القادمة من الخليج مما ربطهم أكثر بالاقتصاد الإسرائيلى ، و هى مصيبة لا تقل عن كارثة أيلول الأسود عام 1970حيث قتل النظام الأردنى 20000 فدائى فلسطينى وطرد بقايا قواتهم إلى لبنان ، و لا تقل عما ارتكبه النظام السورى فى مذبحة تل الزعتر بحق الفلسطينين ، والذى تم بعدها طرد المنظمة وقواتها لتونس عام 1982، وفوجئت البيروقراطية الفاسدة للمنظمة كما فوجئت الأنظمة العربية ، بالانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، فتم استدعاء قيادة المنظمة والاعتراف بها إسرائيليا وأمريكيا مقابل أن تقمع الانتفاضة وتحتويها ،و تم تشكيل سلطة سميت بالوطنية أعطيت وضعا رسميا على مساحات من الأرض لا تصلح لإقامة دولة إلا إذا كانت الدولة مجرد علم و نشيد قومى ، و تلك الإدارة البلدية التابعة لم تكن أقل قمعا من سلطة الاحتلال المباشرة و لا أقل استغلالا للشعب الفلسطينى ومتاجرة به ، فضلا عن فسادها الكامل ، وقد انزلقت فى طريق المفاوضات المضنية بدء من مدريد 1990 إلى أوسلو 1993، حتى فوجئت بالانتفاضة الثانية عام2000بعد فشل كامب ديفيد الثانية ، و ها هى تحاول أن تحتويها مجددا . فهل تنجح ؟
هذا عن ما فعلته الحركات القومية المختلفة على سبيل المثال وليس الحصر ، وبعد كل ما فعلوه ، مازالوا وبكل وقاحة يرددون خطابهم المهترىء ، فليس لديهم فضيلة الخجل . وبالطبع فالموقف اللاسلطوي ليس ضد أن يتحد العرب أو أن يتحدوا مع غيرهم من الشعوب وفق إرادتهم الحرة إن شاءوا ذلك ولكن على أسس طوعية وتحررية تؤسس على الحق الإنسانى فى تكوين الجماعات البشرية المختلفة ،وحق تلك الجماعات فى الاتحاد الحر مع الآخريين ، وحقها فى الانفصال عنهم ، وليس عبر الأنظمة التسلطية الفاسدة وليس عبر القهر والارغام والغزو والانقلابات ، وفى الحقيقة فأنه لا خلاص من المصير المظلم الذى ينجرف نحوه العرب وكل شعوب المنطقة إلا بتحرك شعبى يخلق مجتمع لاسلطوي ، عبر كل المنطقة ، تحرك ثورى ضد كل الحركات السياسية القائمة على عبادة الدولة وتأليه الحكام ، و المستندة على أيديولوجيات الهوية الجماعية دينية كانت أو قومية أو ثقافية ، أو عرقية .
تلك القطاعات الاجتماعية المتعلمة تعليما حديثا ، تبنت الأيديولوجيات القومية المختلفة ، كغطاء أيديولوجى يبرر سعيهم لتأسيس دولة قومية شمولية يكونون هم عمادها الرئيسى ، فكلما قويت شوكة الدولة القومية قويت شوكتهم ، و صعدت مكانتهم الاجتماعية ، عبر توسيع جهاز إدراتها البيروقراطى المتضخم ، فهم المرشحون لأن يشغلوا مراكزه المختلفة بحكم تعليمهم الحديث ، والحقيقة أن التحديث والنهضة كانتا تعنى فى فترة زمنية معينة ضرورة اتساع جهاز الدولة وشموليته مما يدعم مصالح تلك الفئات ، و هو ما دعاهم لتبنى تلك الأيديولوجيات .
إلا أن تطورات تاريخية عالمية حدثت قد عصفت بهذا الاتجاه مما انتهى بهذه الأيديولوجيات للانهيار ، وهى أيديولوجيات ذات جذور فلسفية تميزها تؤسس فكريا للقهر والاستبداد والفساد ، ففكرة تمثيل الأمة أو الشعب وغيرها من المطلقات لابد وأن تؤدى للاستبداد
الحقيقة الواضحة كالشمس أن هذه المنطقة من العالم هى الأكثر تأخرا وتخلفا فى العالم باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء على كافة الأصعدة . بعد أن عاث فيها القوميون قهرا وفسادا وتضليلا وتدميرا فى النصف الثانى من القرن العشرين ، أما فى النصف الأول من القرن العشرين بل وطوال القرن التاسع عشر فقد كانت مصر وعلى سبيل المثال باعتبارها الأكثر تطورا فى المنطقة تحتل مكانة وسطى بين المراكز المتقدمة فى أوروبا وأمريكا الشمالية فى العديد من المستويات الاجتماعية ، وبين العالم المتخلف فى بقية العالم ، أما الآن فالوضع فيها لابد وأن يبعث على خجل من حكموها طوال النصف الثانى من القرن العشرين .حيث تجاوزتها العديد من البلاد فى آسيا و أمريكا اللاتينية بل و فى أوروبا نفسها .فمصر التى كانت من أوائل الدول التى عرفت الحياة البرلمانية والسياسية ومؤسسات المجتمع المدنى من نقابات و أحزاب وجمعيات و صحافة رأى منذ ستينيات القرن التاسع عشر ،انتهى بها الحال بعد خمسينات القرن العشرين لأن تفقد تماما كل هذا على مستوى المضمون ، وإن كانت محتفظة بذلك على مستوى الشكل فحسب ، فمصر فعليا تفتقد الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية ، برغم توافر وجودهم الشكلى بعد تأميم الدولة لكل مبادرة عمل جماعى ، وعلى المستوى الاقتصادى والثقافى والفكرى فقد بدء التراجع والانهيار منذ أواسط الستينات .
تنوعت مدارس الحركات القومية فى العالم العربى ، وتعددت فصائلها مابين الناصرية والبعثية كحركات عروبية ، والكتائبية والسورية كحركات قطرية ، وكلها تسعى للسلطة وتتصارع حولها ، كما تتصارع الوحوش على الفرائس ،كما روضت و هى فى الحكم الشعوب العربية ، بعصا الإرهاب والقمع والقهر ، و فتات الثروات التى ألقوها لها ، كتغطية لما نهبوه من زبدة الثروات، كما ضللتها بفيضانات الأغانى والأشعار والخطب والشعارات الحماسية الجوفاء ، وتلال الأساطير و الخرافات التى تمتلىء بها كتبهم ومقالاتهم و وسائل إعلامهم وتعليمهم.
تعلم القوميون العرب فى مدارس هتلر وموسولينى وفرانكو إلا أن التلاميذ بذوا الأساتذة وتفوقوا عليهم ، فقد ضربت القوات العراقية الأكراد العراقيين بالغازات السامة فى قرية حلابجة ،كما اقتحمت القوات السورية مدينة حماة السورية بالطائرات والدبابات لا لتخلصها من قوات للغزو الخارجى بل لتقمع تمردا شعبيا بقيادة الأخوان المسلمين ، فى حين تركت الجولان للإسرائيليين طوال أكثر من ثلاثة و ثلاثين عاما ، أليسوا أسود على شعوبهم ، وفى الحروب نعام كما وصفهم أحد الشعراء ، وقد قضى البعثيون فى كل من العراق وسوريا على كل أشكال المجتمع المدنى ، واستأصلوا شأفة المعارضة والحياة السياسية فى كلا البلدين ، حيث تحكم كلا البلدين مجرد عصابتين إجراميتين لا أكثر ، والتعبير هنا ليس من قبيل المجاز البلاغى ، فمن المعروف عن صدام حسين مثلا أنه يتصرف فى حكم العراق كما يتصرف زعماء عصابات المافيا سواء مع رجال عصابته الحاكمة أو مع الشعب العراقى ، حيث ينفذ أحكام الإعدام بنفسه فى رجاله الذين لا يشم فيهم رائحة الولاء التام ولا يستشعر فى سلوكهم الطاعة المطلقة بعد أن يحكم عليهم بنفسه على نحو فورى، حدث هذا مثلا فى أحد اجتماعات مجلس الوزراء العراقى مع أحد الوزراء لأنه أبدى مجرد اقتراح لم يرق لصدام ، واعتبره دليلا على عدم الولاء المطلق ، كما قذف بأحد الأشخاص من النافذة لأنه اختلف معه فى الرأى .كما أن الدستور السورى الشمولى قد تغير فى ربع ساعة ليتيح لبشار الأسد الحكم بعد وفاة أبيه ، فى سابقة جديدة لم تحدث من قبل ، فقد كان هؤلاء التقدميون يتفاخرون على الرجعيين بأنهم جمهوريون وليسوا بملكيين .
وصدام حسين بالتحديد فاق الجميع و بما لا يقاس ، فقد تسلم حكم العراق و هو الأغنى سواء بحكم الإمكانية أو الواقع ، فالعراق وللعلم بلد غنى ، حبته الطبيعة بالموارد البترولية والمعدنية والزراعية فضلا عن الكوادر البشرية المتعلمة و المثقفة والتراث الحضارى العريق ، و يكفى أنه كان يقال فى الستينات " أن المصريون يكتبون ، واللبنانيون ينشرون ، والعراقيون يقرأون " ، لنعرف مدى ما كان يذخر به العراق من طاقات بشرية وطبيعية هائلة لم تتوافر لأى بلد عربى آخر فى النصف الثانى للقرن العشرين . وبدلا من أن يوجه البعث العراقى هذه الموارد والثروات لينقل العراق لخانة العالم المتقدم بما توفر له من فرص تاريخية ، أو أن يحرر فلسطين المحتلة والجولان السورى ، دخل فى مغامرة عسكرية بالهجوم على إيران استغرقت ثمانى سنوات وانتهت بهزيمته ، ثم تلاها بغزو الكويت ثم حرب الخليج ، و توريط الشعب العراقى فى الحصار الدولى لما يزيد عن عشر سنوات ، و فى حين يعانى العراقيون البؤس و التأخر الذى نقلهم و بسرعة لمستوى الحياة فى القرون الوسطى ، أحتفل هو وطغمته الحاكمة بعيد ميلاده على نحو أسطورى فى حين يفتقد الأطفال فى العراق للخبز والدواء الضروريين للحياة ، وسيتحولون قريبا إذا ما استمر الحصار ، وبشكل كبير للأمية بعد أن كان العراقيون عموما من أكثر شعوب المنطقة ثقافة و تعلما .
والمشكلة ليست فحسب فى العروبيين ، فالقطريين لا يقلون سوءا ، فما فعله الكتائبيون من توريط اللبنانيين فى حرب أهلية استغرقت خمسة عشر عاما حتى أكلت الأخضر واليابس لا يقل إجراما عما فعله البعثيون ،كما أن القبليون فى الصومال ليسوا أقل إجراما ،و ها هم شيخى البحرين وقطر يتصارعان على جزر غير مأهولة .
و لاداعى بالطبع للحديث عن المعتقلات السياسية والتعذيب و المذابح التى أرتكبت و ترتكب فى حق المعارضين ، و شتى أشكال انتهاك حقوق الإنسان ، فقد سار الحديث عنها حديثا مملا عن البديهيات المعروفة عن كل أنظمة الحكم العربية الوطنية والقومية منذ أن حازت على استقلالها وحتى الآن ، وإن كان على مستويات مختلفة من القسوة والبشاعة بما يتناسب وظروف كل بلد . و لا داعى للحديث عن النهب و الإهدار للموارد والثروات والفرص فى ترف النخب ونزقها ومغامراتها ، و الاستهلاك العشوائى و المغامرات العسكرية ،و المشاريع الدعائية الفاشلة الباهظة التكاليف ، فقد تم حلب الثروة العربية واهدارها من قبل النخب الحاكمة الفاسدة ، و شركات السلاح و غيرها . وسيكتفى العرب بعد قليل بتراثهم من الأغانى والأشعار والخطب والشعارات بعد أن ينفذ البترول .
ولعل ما يحدث للشعب الفلسطينى ، من مأساة تشبة التراجيديات الأغريقية ما كان يمكن أن يصل إلى هذا المستوى إلا بما فعله القوميون من جرائم فى حق الفلسطينين لا يقل عن ما فعله الصهاينة بهم . فمنذ اللحظة الأولى من الصراع دس القوميون أنفهم فيه ، رافعين شعاراتهم العنصرية والفاشية المنفرة ، وتدخلوا بجيوشهم النظامية الفاسدة فى حرب 1948، والتى أسموها النكبة ،بعد رفضهم قرار التقسيم ، حيث هزموا من عصابات المستوطنين الصهاينة ، فخسروا من الأرض أكثر مما أعطاه قرار التقسيم للصهاينة ، وهزمت أنظمتهم الفاسدة والشمولية والتسلطية فى حرب فى عام 1967 فخسروا من الأرض أضعافا مضاعفة فى ست أيام بلا حرب حقيقية ، وتلك أسموها النكسة ، واعترفوا بالكيان الصهيونى و قبلوا بأقل كثيرا مما سبق وقد رفضوه بعدما عجزوا عن إزاحة الصهاينة وقذفهم فى البحر كما كانوا يعدون شعوبهم ،والتى قهروها طوال نصف قرن مقابل تحقيق هذا الوعد الذى أخلفوه . و الأسوء تماما هو ما فعلوه بمنظمة التحرير الفلسطينية ، والمنظمات الفلسطينية المختلفة ، فعلى مستوى ما ، أنشأوا المنظمة ككيان بيروقراطى تم إفساده تماما بواسطتهم ، مما أعجزه عن القيادة الفعالة للشعب الفلسطينى ، وصنع أو اشترى كل جهاز مخابرات عربى لنفسه منظمة فلسطينية أو أكثر ، ليتم من خلالها تصفية وتسوية الخلافات بين الأنظمة المختلفة ولتصبح منظمة التحرير التى تضم تلك المنظمات مجرد ساحة لتجسيد الصراعات والتحالفات بين الأنظمة العربية ، و لأن منظمة التحرير ليست منظمة ثورية و لا ديمقراطية ، فقد أيدت غزو العراق للكويت مراهنة على قوة العراق وثرائه ، وفيما يبدو لأنه كان يدفع أكثر لبيروقراطييها وقادتها ، و هزم العراق فى الحرب مجددا ، مما أدى لكارثة فلسطينية جديدة ، حيث فقد الفلسطينيون فى الضفة والقطاع مواردهم المالية القادمة من الخليج مما ربطهم أكثر بالاقتصاد الإسرائيلى ، و هى مصيبة لا تقل عن كارثة أيلول الأسود عام 1970حيث قتل النظام الأردنى 20000 فدائى فلسطينى وطرد بقايا قواتهم إلى لبنان ، و لا تقل عما ارتكبه النظام السورى فى مذبحة تل الزعتر بحق الفلسطينين ، والذى تم بعدها طرد المنظمة وقواتها لتونس عام 1982، وفوجئت البيروقراطية الفاسدة للمنظمة كما فوجئت الأنظمة العربية ، بالانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، فتم استدعاء قيادة المنظمة والاعتراف بها إسرائيليا وأمريكيا مقابل أن تقمع الانتفاضة وتحتويها ،و تم تشكيل سلطة سميت بالوطنية أعطيت وضعا رسميا على مساحات من الأرض لا تصلح لإقامة دولة إلا إذا كانت الدولة مجرد علم و نشيد قومى ، و تلك الإدارة البلدية التابعة لم تكن أقل قمعا من سلطة الاحتلال المباشرة و لا أقل استغلالا للشعب الفلسطينى ومتاجرة به ، فضلا عن فسادها الكامل ، وقد انزلقت فى طريق المفاوضات المضنية بدء من مدريد 1990 إلى أوسلو 1993، حتى فوجئت بالانتفاضة الثانية عام2000بعد فشل كامب ديفيد الثانية ، و ها هى تحاول أن تحتويها مجددا . فهل تنجح ؟
هذا عن ما فعلته الحركات القومية المختلفة على سبيل المثال وليس الحصر ، وبعد كل ما فعلوه ، مازالوا وبكل وقاحة يرددون خطابهم المهترىء ، فليس لديهم فضيلة الخجل . وبالطبع فالموقف اللاسلطوي ليس ضد أن يتحد العرب أو أن يتحدوا مع غيرهم من الشعوب وفق إرادتهم الحرة إن شاءوا ذلك ولكن على أسس طوعية وتحررية تؤسس على الحق الإنسانى فى تكوين الجماعات البشرية المختلفة ،وحق تلك الجماعات فى الاتحاد الحر مع الآخريين ، وحقها فى الانفصال عنهم ، وليس عبر الأنظمة التسلطية الفاسدة وليس عبر القهر والارغام والغزو والانقلابات ، وفى الحقيقة فأنه لا خلاص من المصير المظلم الذى ينجرف نحوه العرب وكل شعوب المنطقة إلا بتحرك شعبى يخلق مجتمع لاسلطوي ، عبر كل المنطقة ، تحرك ثورى ضد كل الحركات السياسية القائمة على عبادة الدولة وتأليه الحكام ، و المستندة على أيديولوجيات الهوية الجماعية دينية كانت أو قومية أو ثقافية ، أو عرقية .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية