الشيوعية التحررية
الشيوعية التحررية
سامح سعيد عبود
من بين المتحدثين بالعربية ينحصر اللاسلطويون ( الشيوعيون اللاسلطويون) فى مجموعات لا سلطوية نقابية فى كل من المغرب و الجزائر ، ومجموعة لاسلطوية باسم البديل التحررى فى لبنان تنتسب للتيار المنبرى اللاسلطوى ،كما يتواجد أفراد متزايدون و إن كانوا غير منظمين ينتمون لهذا التيار أو يتعاطفون معه بدرجة ما ، فى مصر وفلسطين المحتلة والأردن وسوريا والعراق ، كما توجد مجموعة لا سلطوية باسم التجمع اللاسلطوى لشرق المتوسط بين المتحدثين بالعبرية فى فلسطين المحتلة و ذلك فى حدود معلوماتى .
الشيوعية التحررية ليست فكرة جديدة ،إنها مصطلح يعود استخدامه للعقود الأولى للقرن التاسع عشر و هى تشكل حركة مختلفة تماما عن الحركة الشيوعية الماركسية اللينينية بفروعها المختلفة ، التى لم تشرع فى بناء الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى أو الصين أو شرق أوروبا ، ولكنها خلقت نمط إنتاج بيروقراطى هناك بديلا عن الشيوعية ، فى هذا النمط تكون البيروقراطية هى الطبقة التى تسيطر على الملكية و الإنتاج ، و من ثم تحوز بحكم موقعها على الفائض الاجتماعى لصالحها ، وفى مثل هذا النمط لم يتحرر العمال ولم يتحولوا لمنتجين أحرار كما تعنى بذلك الشيوعية التحررية فى أصولها ، ومن ثم أبقت التطبيقات المختلفة الخارجة من العباءة اللينينية على عبودية العمل المأجور لبيروقراطية قطاع الدولة فى حين أن الشيوعية التحررية تعنى التحرر من تلك العبودية كما تعنى التحرر من أى عبودية أخرى ، بل وهبطت الشيوعية التسلطية فعليا بوضع العمال من العبودية المأجورة فى نمط الإنتاج الرأسمالى التقليدى لوضع العبودية المعممة للدولة ، حيث فقد العمال المأجورين إمكانية التعاقد مع الرأسماليين لتحديد شروط عملهم ، بما فيها ما يحصلون عليه من أجور ، ليقعوا فى حالة إذعان تام للبيروقراطية التى تحدد هذه الشروط بمفردها بما فيها الأجر الذى يحصلون عليه الذى تحول فى مثل هذا النظام لنوع من الجراية التى يحصل عليها عمال السخرة .
الشيوعيون التحرريون يطلق عليهم اللاسلطويون أيضا ، و اللاسلطويون يعارضون كل من الرأسمالية و الدولة ، وهم يعتقدون أن الطبقة العاملة يجب أن تنتظم ذاتيا لتمحو كل من الرأسمالية والدولة لتحل محلها نظام يكفل الحرية والمساواة لكل أفراده ، ويكفل المبادرة الفردية مع العدالة الاجتماعية ، حيث تكون فيه حرية استقلالية وذاتية كل فرد متحققة على نحو كامل ،و حيث يكون ازدهار تلك الذاتية متاح للجميع على قدم المساواة ، وحيث يكون المجتمع الإنسانى قائم فى كل العلاقات الاجتماعية التى تكونه على أساس التضامن والتعاون الطوعى فيما بين أفراده وجماعاته المختلفة .
هناك ثلاث حركات ماركسية متشابهة متواءمة مع اللاسلطوية التقليدية هى
شيوعية المجالس
و الأسماء ذات الصلة فى هذا الاتجاه هى
أنطونيو جرامشى حيث دعم حركة مجالس العمال التى كانت قوية فى إيطاليا فى 1919_1920.
أنطون بانيكوك الشخصية القيادية فى الأممية الثانية للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ، كان أحد الممثلين البارزين لفكرة شيوعية المجالس ، وطبقا لروبرت باركسى "الثورة الاجتماعية التى توقعها بانيكوك سوف تنخرط فى محو أنظمة الإنتاج القائمة سواء فى المجتمعات البلشفية أو الرأسمالية القائمة على السواء ،ومن ثم سيحصل العمال على سلطتهم كاملة على مجمل ظروف ونتاج عملهم و سيملكون التحكم فى مصيرهم ، ففى مجتمع شيوعية المجالس سوف تكون كل وحدة إنتاج أو خدمات مدارة من خلال لجنة منتخبة من كل العاملين بتلك الوحدة الإنتاجية أو الخدمية . و سوف يكون للناس تقرير شروط عملهم وحياتهم جماعيا من خلال مجالسهم المحلية المنتخبة .
روزا لوكسمبرج كمفكرة ومناضلة ماركسية بارزة هى معارضة بارزة للينينية و أحد المعبرين بقوة عن شيوعية المجالس.
ومن هنا تطرح شيوعية المجالس نوع من المجتمع الاشتراكى اللامركزى ،مع وجود تخطيط موضوع ديمقراطيا بواسطة المجالس المحلية التى تنسق بين الجماعات المختلفة فى نطاقاتها المحلية ، هذا النظام على وجه التحديد لم يكن مطبقا فى الاتحاد السوفيتى أو الصين أو أى دولة اشتراكية أخرى ،برغم أن يوجوسلافيا قد حاولت أن تطبق نوعا ما من الإدارة الذاتية و اللامركزية الإدارية إلى حد ما.
الاستقلالية (الماركسية الاستقلالية)
هؤلاء الذين يتميزون فى التاريخ الماركسى بالتعاطف مع النشاط الذاتى للطبقة العاملة . و مصطلح "الاستقلالي" هنا مستخدم فى عدة معانى :1ـ استقلالية الطبقة العاملة فى مواجهة رأسالمال و الدولة 2ـ استقلالية الطبقة العاملة فى مواجهة منظماتها الرسمية النقابات و الأحزاب ..الخ 3ـ استقلالية الأجزاء المختلفة للطبقة العاملة عن بعضها البعض.
أن تلك العناصر التى تنتمى لهذا التقليد المتعاطف مع مفهوم استقلالية الطبقة العاملة أصبحت تنتظم على نحو متميز عن الآخرين . فى حين أنه فى السابق فأن فهم وتقدير الاستقلالية كان غالبا موجود فى أفراد ومجموعات فقط داخل بعض أجزاء من الحركات الماركسية العديدة .على سبيل المثال شيوعيو المجالس يتعاطفون مع استقلالية الطبقة العاملة فى مواجهة رأسالمال والدولة والأحزاب والنقابات فى كتاباتهم السياسية لكنهم غالبا ما يتناسون هذه الفكرة حينما يتجاهلون نظرية الأزمات الرأسمالية ،القائمة على أساس الطبيعة المأزومة للرأسمالية التى ستؤدى إن لم تنجح الرأسمالية فى تجاوزها ، أن تتحرك الطبقة العاملة تلقائيا لإنهاء الرأسمالية مؤسسة نظامها الاجتماعى ، كما أدت أزمة المجتمع الإقطاعى لكى تأخذ البورجوازية بنفسها المبادرة لدحر الإقطاع.
بشكل مشابه فهناك من الماركسيين من يفهمون جيدا قدرة الطبقة العاملة لممارسة الصراع ذاتيا ضد رأسالمال ، آخذة فى ذلك وضع الهجوم أكثر من كون تحركها مجرد رد فعل أو كمجرد تابعة لحزب أو نقابة ، لكن لا أحد منهم يتعاطف مع مفهوم استقلالية الصراعات و أشكالها داخل الطبقة عن الأحزاب و النقابات .
المواقفية الأممية
هو اتجاه لا يختلف فى طرحه السياسى كثيرا عن شيوعية المجالس أو الاستقلاليين و لكن ما يميزه هى كتابات ممثليه عالية المستوى النظرى التى تركز على تأثيرات الميديا الحديثة على الوعى و الممارسة الاجتماعية، والمدى العميق الذى وصل إليه الاغتراب فى المجتمع البورجوازى الناتج عن سيطرة الميديا الحديثة ، وكما تركز دراسات المواقفيين على الانفصال بين ما تقدمه تلك الوسائل الإعلامية والثقافية من صور مشوهه للواقع عن حقيقة الواقع نفسه ، ومدى تأثير ذلك التراكم من الصور المنفصلة عن الواقع على المتلقى المكتفي بالفرجة والتأثر ، و الذى يشكل لديه هذا التراكم من الصور عالم بديل يعزله عن الواقع الفعلى ، هو عالم الاستعراض ، ومن هنا يتم نقد مبدأ التمثيل عموما للهوية الجماعية أيما كانت، باعتبار أن كافة أشكال التمثيل المختلفة هى صور منفصلة عن واقعها ، وبالطبع فالمواقفيون ضد التمثيل السياسى أو النقابى للطبقة العاملة باعتباره تكريس للانفصال بين الصور أى الحزب أو النقابة و الواقع أى الطبقة العاملة ، تلك الخاصية المميزة للمجتمع البورجوازى باعتباره مجتمع للاستعراض ، وباعتبار تمثيل الطبقة العاملة استمرار لاغترابها .
كما تضم الشيوعية التحررية اتجاها آخر هو
اللاسلطوية النقابية
وتهدف لتوحيد كل العمال فى منظمات اقتصادية نضالية ، كى يناضلوا لتحرير أنفسهم من النير المزدوج للرأسمالية و الدولة ،وهدفها إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس الشيوعية التحررية عبر الفعل الثورى للطبقة العاملة، على اعتبار أن المنظمات الاقتصادية للبروليتاريا هى الوحيدة القادرة على تحقيق ذلك الهدف .و من ثم فهم يختلفون عن اللاسلطويون المنبريون فى أنهم يعملون من خلال النقابات العمالية ، و ينتظمون على أساسها فى اتحادات ثورية تعمل من داخلها ، وتنتظم على أساسها ، لأداء مهام الدعاية للأفكار اللاسلطوية وتعليم وتدريب الطبقة العاملة ، ومن ثم فالنقابات واتحاداتها ليست فحسب المؤسسات التى ستقود الثورة الاجتماعية وفق اللاسلطوية النقابية ، بل ستكون الهيكل التنظيمى الذى سيدير مجمل وسائل الإنتاج والخدمات فى المجتمع اللاسلطوى .
أن كل هذه الحركات تدافع عن التحرر الذاتى للطبقة العاملة ، وتعارض استخدام العملية الانتخابية لكسب السلطة السياسية ، وتعتبر أن دورها ينحصر فى كونها منابر لنشر الأفكار اللاسلطوية عبر المجتمع ، و كونها هيئات تعليم الطبقة العاملة كيفية الاستغناء عن كل من الدولة و رأسالمال ، وتدريبها على أن تدير أنشطتها الذاتية المختلفة وفق القواعد اللاسلطوية و كيفية تخلصها من تأثيرات الساسة السلطويين ، لتتأهل عمليا لهذا الاستغناء عندما يحين وقت ثورتها الاجتماعية ضد كل من الدولة و رأسالمال .
و من ثم تناضل هذه التيارات من أجل تطوير مثل هذه الأنشطة الذاتية بدراسة و نقل الخبرات ونشرها فى أوساط العمال . من أجل استقلال هذه الأنشطة و الممارسات الذاتية للطبقة العاملة فعليا عن كل من الدولة و رأسالمال و الساسة السلطويين والبيروقراطيون ، وتهدف الحركة إلى أن تتوسع هذه الأنشطة الذاتية لتشمل كل ما هو ممكن من الأنشطة البشرية و فق شروط و ظروف كل مجتمع على حدة كخطوة نحو التحرر الذاتى .
لذلك فاللاسلطويون يقاومون كل أشكال احتواء أنشطة الطبقة العاملة الذاتية من قبل الساسة السلطويين و البيروقراطيين و الرأسماليين.
إلا أنه يلاحظ بروز بعض الحركات الجديدة مثل الحزب التحررى فى الولايات المتحدة و اتجاه ما يسمى ب اللاسلطوية الرأسمالية والذى يمثل الأجنحة اليمينية ، و التى تأمل فى الاستيلاء على الكلمات والأفكار الأساسية للاسلطويين ،لتجعلها فى خدمة استمرار الرأسمالية و ودعم حكومات الساسة و الشركات الرأسمالية ، فهؤلاء يدعون للسوق الحر و المستقل بالكامل عن الدولة ، برغم أن هذا ببساطة يعنى تحكم المؤسسات الرأسمالية فى كل مجالات الحياة ، وهو ما يؤدى لإضعاف الحركة العمالية ،ويؤدى للتدمير البيئى لكل الكوكب طالما تركنا كل مجالات الحياة تخضع لقيم ومنطق السوق والتنافس .
لماذا يختلف الشيوعيون اللاسلطويون عن الشيوعيون السلطويون ؟
أن لينين و تروتسكى قد عبرا عن دعم سلطة المجالس العمالية والإدارة العمالية ، وذلك فقط حين أصبح للبلاشفة الأغلبية فيها ، ولكن فى النهاية وحينما دعا الشيوعيين اليساريين المعارضين للبلشفية لإعطاء المجالس العمالية كل السلطة فى الاتحاد السوفيتى عارض كل من لينين وتروتسكى الدعوة ، و أدان لينين ممثلى هذا التيار كيساريين متطرفين فى كتابه الشهير (الشيوعية اليسارية لعب أطفال ) و ذلك بعد ضمان استقرار البلاشفة فى السلطة ، كما هاجما دعوة المعارضة العمالية لسيطرة العمال على المنشئات الإنتاجية و الخدمية من خلال نقابتهم أو من خلال لجان العمال و من خلال مؤتمرات المنتجين ، داعمين السيطرة البيروقراطية والحزبية على وحدات الإنتاج والخدمات من خلال التخطيط المركزى للدولة بواسطة المجلس الاقتصادى ، و أعتبر لينين أن دعاوى مثل تحرير الإدارة العمالية و سلطة المجالس العمالية المنتخبة من سيطرة الحزب ، هى بمثابة انحراف لاسلطوى فى الحزب ، وذلك كما ورد فى مقررات المؤتمر العاشر للحزب البلشفى.
و تلك حقائق تاريخية يتجاهلها كل التروتسكيين فى كل كتاباتهم النقدية للدول الاشتراكية السابقة ، محملين كل التراجعات والانحرافات على كاهل ستالين فحسب ، مبرئين كل من لينين و تروتسكى وحلفائهم من كل الخطايا والآثام ، متناسين أنهم هم الذين قد قمعوا وكبتوا و أخضعوا السوفيتات أو "مجالس العمال والفلاحين والجنود" بعد الثورة البلشفية لسلطة الحزب قبل ان يخضع ستالين الجميع تحت سلطته ، و أقاموا السلطة الديكتاتورية لحزب البلاشفة على حساب السلطة السوفيتية التى حولها ستالين لسلطة سكرتير عام الحزب .
ومن هذه اللحظة أصبحت شيوعية المجالس منبر معارض للبلشفية يعبر عن الشيوعيين غير اللينينين فى حين تحولت التروتسكية لطائفة شبه دينية مكرسة لعبادة تروتسكى و لينين ، وتقديس ما ينتقوه هم من نصوصهم على حساب الحقائق التاريخية ، وبما يخدم إدعاءهم عن الردة الستالينية التى بدأت فى عام 1928 متناسين الردة البلشفية التى بدأت فى 1921، فلا يذكرون لتروتسكى مثلا كتاب الإرهاب الشيوعى الذى يدافع فيه عن الإرهاب و ديكتاتورية الحزب و مركزية التخطيط و الإدارة وتأميم النقابات ، و لا يذكرون دوره البارز فى هزيمة انتفاضتى عمال كرونشتاد و فلاحى أوكرانيا ، فالمبادرات العمالية خارج سيطرة الحزب ممنوعة لطبيعتها البورجوازية الصغيرة وفق المنطق البلشفى ، وهى غالبا متهمة بشتى الاتهامات طالما لم ترضى عنها قيادات الحزب .
ذلك أن انتقادات تروتسكى الديمقراطية واليسارية اللاحقة لستالين ، وترديده اللاحق لانتقادات المعارضة العمالية و اليسارية ، لم تتم إلا بعد أن هزم فى الصراع مع ستالين وفقد مركزه فى السلطة ، وطرد من الاتحاد السوفيتى ، يذكرنا هذا بتصدى بيروقراطيو العهد الناصرى بعد هزيمتهم فى مايو 1970و قدامى الفاشيين المصريين لقيادة حركة حقوق الإنسان المصرية .
فاللينينيون عموما يستندون على تقديس و مرجعية نصوصهم المختارة ، و الإيمان بالمرجعية سواء أكانت نصوصا أم أشخاصا لابد إن يفضي إلى الشمولية . مثلما تؤدى المشاريع الخيالية الكبرى و أساليب الهندسة الاجتماعية للاستبداد مهما وعدت بتحرير البشر وتقدمهم .
ومن ثم شكل التروتسكيون معارضة غير متسقة للديكتاتورية الدموية للستالينيين و الماويين ، متغاضين عن الجذور الاستبدادية المشتركة سواء فى الفكر أو الممارسة فى كل من الستالينية والتروتسكية واللينينية والماوية والجيفارية .الكامنة فى عبادة الدولة و المركزية و التراتبية و الحزب القائد والطليعة و إدارة الاقتصاد من أعلى ، والتخطيط المركزى بنظام الأوامر .
لم يخدع اللاسلطويون الأكثر تنبها فى الكثير من الشعارات والمواقف اللاسلطوية للبلاشفة فى غضون السنوات الثورية ،ففى أوج المرحلة اللاسلطوية للينين ،كانوا يطالبون العمال بالحذر الشديد : ففى صحيفتهم صوت العمل يمكن قراءة التحذيرات التى كتبها فولين منذ الأشهر الأولى للعام 1917 وبداية العام 1918 :" ما إن تصبح سلطتهم متينة وشرعية سوف يبدأ البلشفيون الذين هم اشتراكيون وسياسيون محترفون ودولانيون أى مركزيون وتسلطيون بتنظيم حياة البلاد والشعب بوسائل حكومية وديكتاتورية يفرضها المركز ، وستغدو مجالسكم العمالية شيئا فشيئا مجرد أجهزة تنفيذية لإدارة الحكومة المركزية ، سوف نشهد قيام جهاز تسلطى ودولانى يقرر من فوق ويسحق كل شىْ بيد من حديد ، وويل لمن لن يكون موافقا مع السلطة المركزية سوف يصبح شعار كل السلطة للمجالس العمالية فعليا سلطة زعماء الحزب.
أما النظام البديل للنظام الشمولي فأنه يجب أن يشجع كل قوى الابتكار والمبادرة والإبداع مما يتنافى والمركزية و الاستبداد والنخبوية . في المقابل يقوم هذا النظام أيضا بتوفير كل الضمانات والحصانة التامة لهذه القوى، ويضع أيضا تحت تصرفها كل الوسائل المتاحة للتعبير عن نفسها.
أما المركزية الديمقراطية فهى تعنى مفهوما تسلّطيا يتم باسم ديكتاتورية الأكثر معرفة أو وعيا أو إخلاصا . ينسجم مع ثنائية (المركز/الأطراف) التي بدورها تكرس مبدءا آخر هو المرجعية (التسلّطية). إذ إن من يحتلون المركز يتمتعون بمرجعية فكرية أو سياسية تضفيها عليهم صفة المركزية. وهو مفهوم يرسخ التسلطية والهرمية في البنية التنظيمية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مفهوم الأطراف في الثنائية (المركز/الأطراف) يزرع روح الخمول والطاعة وعدم القدرة على الإبداع والمبادرة لدى أعضاء (الأطراف) الذين يشكلون الأغلبية في التنظيم بطبيعة الحال فيرتبط نشاط التنظيم ووجوده وفنائه بإرادة المركز ، فقد قرر بضعة أشخاص مصير الحركة الشيوعية المصرية فى الستينات بقرار الحل بعيدا عن إرادة الأعضاء الذين لم يجدوا بديلا عن الاستسلام لقرار الحل ، فقد أفقدتهم المركزية وما تربوا عليه من طاعة حديدية للقيادة المركزية قدرتهم على المبادرة.
ويستند السلطويون فى دعواهم على واقعية مغلوطة وعقلانية زائفة هى أن الناس ينقسمون بطبيعتهم لأقلية مثقفة ذكية واعية ، و غالبية أخرى لم تنل من التعليم والثقافة والذكاء والوعى ما يؤهلها لإدارة شئونها ، و لاتخاذ قراراتها المصيرية بنفسها و معرفة مصالحها ، مما يستدعى الوصاية عليها والإنابة عنها من قبل النخب المثقفة والذكية والواعية ، و المغالطة هنا هى أن الذكاء والثقافة والتعليم والوعى ليست كميات من المهارات و المعارف يتميز بها بعضنا عن البعض الآخر بما يحوزه كل منا من كمياتها فضلا عن كونها ليست نهائية أو مطلقة أو مقدسة ، و لكنها نوعيات من المعارف النسبية بطبيعتها و التخصصات المتعددة و المهارات المختلفة فى نفس الوقت ، يحوز كل منا على حدة على كميات متفاوتة من المعارف والمهارات والتخصصات .
فعالم الفيزياء يعرف كل قوانين الميكانيكا التى تقوم على أساسها السيارة ، إلا أنه قد لا يعرف كيف يصلح سيارته فى حين يمكن للميكانيكى ذلك و الذى قد لا يعرف شىء عن هذه القوانين . وبعضنا قد يمتلك قدرات خارقة على الحفظ واستدعاء المعلومات إلا أنه لا يجيد التحليل والربط بين هذه المعلومات ، وتبنى الماركسية كمعرفة والنضال من أجل التحرر العمالى ، لا يعطيان أحد الحق فى التحدث باسم الطبقة العاملة والوصاية عليها ، وإدعاء التعبير عن مصالحها كما لو كانت كتل فاقدة الأهلية لا تدرك تلك المصالح .
وما نحن بصدد الدفاع عنه ليس الدعوة لتدخل غير المختصين فى عمل المختصين حتى تتم المحاجة بتفاوت الوعى والثقافة والذكاء بين البشر ، فلن يسمح لمهندس أن يعالج الناس من أمراضهم ، كما لن يسمح لطبيب بتصميم الماكينات باسم الحرية ، ومن ثم فالمنتجين فى الوحدة الإنتاجية حتى ولو كانوا أميين فأنه يمكنهم اتخاذ القرارات التى تخص وحداتهم الإنتاجية فى القضايا التى لا تحتاج لتخصص، مثلما يفعل الرأسماليون الذين قد يكونوا أكثر جهلا وغباء من جميع عمالهم حين يديرون المؤسسات المملوكة لهم ، فنجدهم يتركون القضايا الفنية للمختصين من مهندسين ومحاسبين ومحاميين أما مادون ذلك فيتخذون بشأنه قراراتهم ، فيكسبون أو يربحون وفى كل الأحوال يتحملون مسئولية تلك القرارات التى اتخذوها .
فالإدارة العمالية الديمقراطية المباشرة لوحدات الإنتاج والخدمات ، لن تعنى السماح لمن لا يعرفون فى الهندسة الإفتاء فى الأمور الهندسية على سبيل المثال ، و من ثم فظروف التخلف والأمية والجهل التى عليها العمال ليست مبررا للإدارة البيروقراطية للدولة لوسائل الإنتاج ، و للسيطرة الحزبية على العمال ، تلك الظروف التى استند عليها البلاشفة فى منع الإدارة العمالية للمصانع باسم العقلانية و الواقعية وضرورة التخطيط المركزى ، كما ان الانضمام للحزب لا يعطى صاحبة ميزة عقلية ما فى مجال العمل تمنحه أى أحقية فى اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالإنتاج .
وينطبق كل ما سبق الإشارة إليه بالضرورة على المجالس ، باعتباره الشكل التلقائى الذى يبتدعه العمال عبر تاريخهم النضالى عبر العالم ، دون أدنى تدخل من من يدعون المعرفة والوعى و يتمتعون بعضوية الحزب ، فهذه المجالس مع احتفاظها بالسلطة يمكنها أن تفوض من تراهم من مختصين فى القضايا التى تحتاج إلى مختصين دون وصاية من الحزب .فليس المطلوب لكى يدرك كل العمال مصلحتهم فى الشيوعية التحررية أن يتبنوا المادية الجدلية و التاريخية و أن يستوعبوا الاقتصاد السياسى الماركسى ، المطلوب فحسب إنهاء التأثير البورجوازى على الوعى السياسى للعمال بوعى سياسى بديل .
إن الممارسة السياسية العقلانية تضعف رغبة الناس في العمل السياسي والعمل العام عموما ، فهم مستبعدون باسم العقلانية التى تحولهم لمجرد متفرجين على من يدعون امتلاك الوعى والمعرفة والحق فى الوصاية والقيامة عليهم ، مجرد متلقين للخطابات الفكرية و السياسية ، مجرد عناصر سلبية غير محملة بالمسئولية باسم قصورها الطبيعى . فأنصار الممارسة السياسة العقلانية يزعمون إن الناس العاديين لا يمتلكون المؤهلات الكافية التي تستوجبها إدارة منظومة عقلانية ضرورية لاستمرار لإنتاج والخدمات والأمن فضلا عن مباشرة الثورة التى هى عمل فنى بحاجة لمختصين فى علم الثورة ، هم بالضرورة أعضاء الحزب و قيادته .
ويخدم أنصار هذا الزعم مصالحهم بالإبقاء على سياسة النخبة ، هذه الممارسة العقلانية المزعومة هى التى ذهبت بالنخبة الشيوعية السوفيتية إلى أن تملك أسلحة نووية قادرة على تدمير العالم 48 مرة و أن تغزو الفضاء فى حين كان العاديون الذين أنتجوا كل هذه الصروح الهائلة التى أكلها الصدأ ، مستبعدون من تحديد مصائرهم ، محرومون من الكثير من احتياجاتهم الطبيعية فى سبيل مجد الدولة والحزب ،وسرعان ما استسلموا لنفس النخب عندما حولت دفة التاريخ .
الشيوعية التحررية ليست فكرة جديدة ،إنها مصطلح يعود استخدامه للعقود الأولى للقرن التاسع عشر و هى تشكل حركة مختلفة تماما عن الحركة الشيوعية الماركسية اللينينية بفروعها المختلفة ، التى لم تشرع فى بناء الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى أو الصين أو شرق أوروبا ، ولكنها خلقت نمط إنتاج بيروقراطى هناك بديلا عن الشيوعية ، فى هذا النمط تكون البيروقراطية هى الطبقة التى تسيطر على الملكية و الإنتاج ، و من ثم تحوز بحكم موقعها على الفائض الاجتماعى لصالحها ، وفى مثل هذا النمط لم يتحرر العمال ولم يتحولوا لمنتجين أحرار كما تعنى بذلك الشيوعية التحررية فى أصولها ، ومن ثم أبقت التطبيقات المختلفة الخارجة من العباءة اللينينية على عبودية العمل المأجور لبيروقراطية قطاع الدولة فى حين أن الشيوعية التحررية تعنى التحرر من تلك العبودية كما تعنى التحرر من أى عبودية أخرى ، بل وهبطت الشيوعية التسلطية فعليا بوضع العمال من العبودية المأجورة فى نمط الإنتاج الرأسمالى التقليدى لوضع العبودية المعممة للدولة ، حيث فقد العمال المأجورين إمكانية التعاقد مع الرأسماليين لتحديد شروط عملهم ، بما فيها ما يحصلون عليه من أجور ، ليقعوا فى حالة إذعان تام للبيروقراطية التى تحدد هذه الشروط بمفردها بما فيها الأجر الذى يحصلون عليه الذى تحول فى مثل هذا النظام لنوع من الجراية التى يحصل عليها عمال السخرة .
الشيوعيون التحرريون يطلق عليهم اللاسلطويون أيضا ، و اللاسلطويون يعارضون كل من الرأسمالية و الدولة ، وهم يعتقدون أن الطبقة العاملة يجب أن تنتظم ذاتيا لتمحو كل من الرأسمالية والدولة لتحل محلها نظام يكفل الحرية والمساواة لكل أفراده ، ويكفل المبادرة الفردية مع العدالة الاجتماعية ، حيث تكون فيه حرية استقلالية وذاتية كل فرد متحققة على نحو كامل ،و حيث يكون ازدهار تلك الذاتية متاح للجميع على قدم المساواة ، وحيث يكون المجتمع الإنسانى قائم فى كل العلاقات الاجتماعية التى تكونه على أساس التضامن والتعاون الطوعى فيما بين أفراده وجماعاته المختلفة .
هناك ثلاث حركات ماركسية متشابهة متواءمة مع اللاسلطوية التقليدية هى
شيوعية المجالس
و الأسماء ذات الصلة فى هذا الاتجاه هى
أنطونيو جرامشى حيث دعم حركة مجالس العمال التى كانت قوية فى إيطاليا فى 1919_1920.
أنطون بانيكوك الشخصية القيادية فى الأممية الثانية للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ، كان أحد الممثلين البارزين لفكرة شيوعية المجالس ، وطبقا لروبرت باركسى "الثورة الاجتماعية التى توقعها بانيكوك سوف تنخرط فى محو أنظمة الإنتاج القائمة سواء فى المجتمعات البلشفية أو الرأسمالية القائمة على السواء ،ومن ثم سيحصل العمال على سلطتهم كاملة على مجمل ظروف ونتاج عملهم و سيملكون التحكم فى مصيرهم ، ففى مجتمع شيوعية المجالس سوف تكون كل وحدة إنتاج أو خدمات مدارة من خلال لجنة منتخبة من كل العاملين بتلك الوحدة الإنتاجية أو الخدمية . و سوف يكون للناس تقرير شروط عملهم وحياتهم جماعيا من خلال مجالسهم المحلية المنتخبة .
روزا لوكسمبرج كمفكرة ومناضلة ماركسية بارزة هى معارضة بارزة للينينية و أحد المعبرين بقوة عن شيوعية المجالس.
ومن هنا تطرح شيوعية المجالس نوع من المجتمع الاشتراكى اللامركزى ،مع وجود تخطيط موضوع ديمقراطيا بواسطة المجالس المحلية التى تنسق بين الجماعات المختلفة فى نطاقاتها المحلية ، هذا النظام على وجه التحديد لم يكن مطبقا فى الاتحاد السوفيتى أو الصين أو أى دولة اشتراكية أخرى ،برغم أن يوجوسلافيا قد حاولت أن تطبق نوعا ما من الإدارة الذاتية و اللامركزية الإدارية إلى حد ما.
الاستقلالية (الماركسية الاستقلالية)
هؤلاء الذين يتميزون فى التاريخ الماركسى بالتعاطف مع النشاط الذاتى للطبقة العاملة . و مصطلح "الاستقلالي" هنا مستخدم فى عدة معانى :1ـ استقلالية الطبقة العاملة فى مواجهة رأسالمال و الدولة 2ـ استقلالية الطبقة العاملة فى مواجهة منظماتها الرسمية النقابات و الأحزاب ..الخ 3ـ استقلالية الأجزاء المختلفة للطبقة العاملة عن بعضها البعض.
أن تلك العناصر التى تنتمى لهذا التقليد المتعاطف مع مفهوم استقلالية الطبقة العاملة أصبحت تنتظم على نحو متميز عن الآخرين . فى حين أنه فى السابق فأن فهم وتقدير الاستقلالية كان غالبا موجود فى أفراد ومجموعات فقط داخل بعض أجزاء من الحركات الماركسية العديدة .على سبيل المثال شيوعيو المجالس يتعاطفون مع استقلالية الطبقة العاملة فى مواجهة رأسالمال والدولة والأحزاب والنقابات فى كتاباتهم السياسية لكنهم غالبا ما يتناسون هذه الفكرة حينما يتجاهلون نظرية الأزمات الرأسمالية ،القائمة على أساس الطبيعة المأزومة للرأسمالية التى ستؤدى إن لم تنجح الرأسمالية فى تجاوزها ، أن تتحرك الطبقة العاملة تلقائيا لإنهاء الرأسمالية مؤسسة نظامها الاجتماعى ، كما أدت أزمة المجتمع الإقطاعى لكى تأخذ البورجوازية بنفسها المبادرة لدحر الإقطاع.
بشكل مشابه فهناك من الماركسيين من يفهمون جيدا قدرة الطبقة العاملة لممارسة الصراع ذاتيا ضد رأسالمال ، آخذة فى ذلك وضع الهجوم أكثر من كون تحركها مجرد رد فعل أو كمجرد تابعة لحزب أو نقابة ، لكن لا أحد منهم يتعاطف مع مفهوم استقلالية الصراعات و أشكالها داخل الطبقة عن الأحزاب و النقابات .
المواقفية الأممية
هو اتجاه لا يختلف فى طرحه السياسى كثيرا عن شيوعية المجالس أو الاستقلاليين و لكن ما يميزه هى كتابات ممثليه عالية المستوى النظرى التى تركز على تأثيرات الميديا الحديثة على الوعى و الممارسة الاجتماعية، والمدى العميق الذى وصل إليه الاغتراب فى المجتمع البورجوازى الناتج عن سيطرة الميديا الحديثة ، وكما تركز دراسات المواقفيين على الانفصال بين ما تقدمه تلك الوسائل الإعلامية والثقافية من صور مشوهه للواقع عن حقيقة الواقع نفسه ، ومدى تأثير ذلك التراكم من الصور المنفصلة عن الواقع على المتلقى المكتفي بالفرجة والتأثر ، و الذى يشكل لديه هذا التراكم من الصور عالم بديل يعزله عن الواقع الفعلى ، هو عالم الاستعراض ، ومن هنا يتم نقد مبدأ التمثيل عموما للهوية الجماعية أيما كانت، باعتبار أن كافة أشكال التمثيل المختلفة هى صور منفصلة عن واقعها ، وبالطبع فالمواقفيون ضد التمثيل السياسى أو النقابى للطبقة العاملة باعتباره تكريس للانفصال بين الصور أى الحزب أو النقابة و الواقع أى الطبقة العاملة ، تلك الخاصية المميزة للمجتمع البورجوازى باعتباره مجتمع للاستعراض ، وباعتبار تمثيل الطبقة العاملة استمرار لاغترابها .
كما تضم الشيوعية التحررية اتجاها آخر هو
اللاسلطوية النقابية
وتهدف لتوحيد كل العمال فى منظمات اقتصادية نضالية ، كى يناضلوا لتحرير أنفسهم من النير المزدوج للرأسمالية و الدولة ،وهدفها إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس الشيوعية التحررية عبر الفعل الثورى للطبقة العاملة، على اعتبار أن المنظمات الاقتصادية للبروليتاريا هى الوحيدة القادرة على تحقيق ذلك الهدف .و من ثم فهم يختلفون عن اللاسلطويون المنبريون فى أنهم يعملون من خلال النقابات العمالية ، و ينتظمون على أساسها فى اتحادات ثورية تعمل من داخلها ، وتنتظم على أساسها ، لأداء مهام الدعاية للأفكار اللاسلطوية وتعليم وتدريب الطبقة العاملة ، ومن ثم فالنقابات واتحاداتها ليست فحسب المؤسسات التى ستقود الثورة الاجتماعية وفق اللاسلطوية النقابية ، بل ستكون الهيكل التنظيمى الذى سيدير مجمل وسائل الإنتاج والخدمات فى المجتمع اللاسلطوى .
أن كل هذه الحركات تدافع عن التحرر الذاتى للطبقة العاملة ، وتعارض استخدام العملية الانتخابية لكسب السلطة السياسية ، وتعتبر أن دورها ينحصر فى كونها منابر لنشر الأفكار اللاسلطوية عبر المجتمع ، و كونها هيئات تعليم الطبقة العاملة كيفية الاستغناء عن كل من الدولة و رأسالمال ، وتدريبها على أن تدير أنشطتها الذاتية المختلفة وفق القواعد اللاسلطوية و كيفية تخلصها من تأثيرات الساسة السلطويين ، لتتأهل عمليا لهذا الاستغناء عندما يحين وقت ثورتها الاجتماعية ضد كل من الدولة و رأسالمال .
و من ثم تناضل هذه التيارات من أجل تطوير مثل هذه الأنشطة الذاتية بدراسة و نقل الخبرات ونشرها فى أوساط العمال . من أجل استقلال هذه الأنشطة و الممارسات الذاتية للطبقة العاملة فعليا عن كل من الدولة و رأسالمال و الساسة السلطويين والبيروقراطيون ، وتهدف الحركة إلى أن تتوسع هذه الأنشطة الذاتية لتشمل كل ما هو ممكن من الأنشطة البشرية و فق شروط و ظروف كل مجتمع على حدة كخطوة نحو التحرر الذاتى .
لذلك فاللاسلطويون يقاومون كل أشكال احتواء أنشطة الطبقة العاملة الذاتية من قبل الساسة السلطويين و البيروقراطيين و الرأسماليين.
إلا أنه يلاحظ بروز بعض الحركات الجديدة مثل الحزب التحررى فى الولايات المتحدة و اتجاه ما يسمى ب اللاسلطوية الرأسمالية والذى يمثل الأجنحة اليمينية ، و التى تأمل فى الاستيلاء على الكلمات والأفكار الأساسية للاسلطويين ،لتجعلها فى خدمة استمرار الرأسمالية و ودعم حكومات الساسة و الشركات الرأسمالية ، فهؤلاء يدعون للسوق الحر و المستقل بالكامل عن الدولة ، برغم أن هذا ببساطة يعنى تحكم المؤسسات الرأسمالية فى كل مجالات الحياة ، وهو ما يؤدى لإضعاف الحركة العمالية ،ويؤدى للتدمير البيئى لكل الكوكب طالما تركنا كل مجالات الحياة تخضع لقيم ومنطق السوق والتنافس .
لماذا يختلف الشيوعيون اللاسلطويون عن الشيوعيون السلطويون ؟
أن لينين و تروتسكى قد عبرا عن دعم سلطة المجالس العمالية والإدارة العمالية ، وذلك فقط حين أصبح للبلاشفة الأغلبية فيها ، ولكن فى النهاية وحينما دعا الشيوعيين اليساريين المعارضين للبلشفية لإعطاء المجالس العمالية كل السلطة فى الاتحاد السوفيتى عارض كل من لينين وتروتسكى الدعوة ، و أدان لينين ممثلى هذا التيار كيساريين متطرفين فى كتابه الشهير (الشيوعية اليسارية لعب أطفال ) و ذلك بعد ضمان استقرار البلاشفة فى السلطة ، كما هاجما دعوة المعارضة العمالية لسيطرة العمال على المنشئات الإنتاجية و الخدمية من خلال نقابتهم أو من خلال لجان العمال و من خلال مؤتمرات المنتجين ، داعمين السيطرة البيروقراطية والحزبية على وحدات الإنتاج والخدمات من خلال التخطيط المركزى للدولة بواسطة المجلس الاقتصادى ، و أعتبر لينين أن دعاوى مثل تحرير الإدارة العمالية و سلطة المجالس العمالية المنتخبة من سيطرة الحزب ، هى بمثابة انحراف لاسلطوى فى الحزب ، وذلك كما ورد فى مقررات المؤتمر العاشر للحزب البلشفى.
و تلك حقائق تاريخية يتجاهلها كل التروتسكيين فى كل كتاباتهم النقدية للدول الاشتراكية السابقة ، محملين كل التراجعات والانحرافات على كاهل ستالين فحسب ، مبرئين كل من لينين و تروتسكى وحلفائهم من كل الخطايا والآثام ، متناسين أنهم هم الذين قد قمعوا وكبتوا و أخضعوا السوفيتات أو "مجالس العمال والفلاحين والجنود" بعد الثورة البلشفية لسلطة الحزب قبل ان يخضع ستالين الجميع تحت سلطته ، و أقاموا السلطة الديكتاتورية لحزب البلاشفة على حساب السلطة السوفيتية التى حولها ستالين لسلطة سكرتير عام الحزب .
ومن هذه اللحظة أصبحت شيوعية المجالس منبر معارض للبلشفية يعبر عن الشيوعيين غير اللينينين فى حين تحولت التروتسكية لطائفة شبه دينية مكرسة لعبادة تروتسكى و لينين ، وتقديس ما ينتقوه هم من نصوصهم على حساب الحقائق التاريخية ، وبما يخدم إدعاءهم عن الردة الستالينية التى بدأت فى عام 1928 متناسين الردة البلشفية التى بدأت فى 1921، فلا يذكرون لتروتسكى مثلا كتاب الإرهاب الشيوعى الذى يدافع فيه عن الإرهاب و ديكتاتورية الحزب و مركزية التخطيط و الإدارة وتأميم النقابات ، و لا يذكرون دوره البارز فى هزيمة انتفاضتى عمال كرونشتاد و فلاحى أوكرانيا ، فالمبادرات العمالية خارج سيطرة الحزب ممنوعة لطبيعتها البورجوازية الصغيرة وفق المنطق البلشفى ، وهى غالبا متهمة بشتى الاتهامات طالما لم ترضى عنها قيادات الحزب .
ذلك أن انتقادات تروتسكى الديمقراطية واليسارية اللاحقة لستالين ، وترديده اللاحق لانتقادات المعارضة العمالية و اليسارية ، لم تتم إلا بعد أن هزم فى الصراع مع ستالين وفقد مركزه فى السلطة ، وطرد من الاتحاد السوفيتى ، يذكرنا هذا بتصدى بيروقراطيو العهد الناصرى بعد هزيمتهم فى مايو 1970و قدامى الفاشيين المصريين لقيادة حركة حقوق الإنسان المصرية .
فاللينينيون عموما يستندون على تقديس و مرجعية نصوصهم المختارة ، و الإيمان بالمرجعية سواء أكانت نصوصا أم أشخاصا لابد إن يفضي إلى الشمولية . مثلما تؤدى المشاريع الخيالية الكبرى و أساليب الهندسة الاجتماعية للاستبداد مهما وعدت بتحرير البشر وتقدمهم .
ومن ثم شكل التروتسكيون معارضة غير متسقة للديكتاتورية الدموية للستالينيين و الماويين ، متغاضين عن الجذور الاستبدادية المشتركة سواء فى الفكر أو الممارسة فى كل من الستالينية والتروتسكية واللينينية والماوية والجيفارية .الكامنة فى عبادة الدولة و المركزية و التراتبية و الحزب القائد والطليعة و إدارة الاقتصاد من أعلى ، والتخطيط المركزى بنظام الأوامر .
لم يخدع اللاسلطويون الأكثر تنبها فى الكثير من الشعارات والمواقف اللاسلطوية للبلاشفة فى غضون السنوات الثورية ،ففى أوج المرحلة اللاسلطوية للينين ،كانوا يطالبون العمال بالحذر الشديد : ففى صحيفتهم صوت العمل يمكن قراءة التحذيرات التى كتبها فولين منذ الأشهر الأولى للعام 1917 وبداية العام 1918 :" ما إن تصبح سلطتهم متينة وشرعية سوف يبدأ البلشفيون الذين هم اشتراكيون وسياسيون محترفون ودولانيون أى مركزيون وتسلطيون بتنظيم حياة البلاد والشعب بوسائل حكومية وديكتاتورية يفرضها المركز ، وستغدو مجالسكم العمالية شيئا فشيئا مجرد أجهزة تنفيذية لإدارة الحكومة المركزية ، سوف نشهد قيام جهاز تسلطى ودولانى يقرر من فوق ويسحق كل شىْ بيد من حديد ، وويل لمن لن يكون موافقا مع السلطة المركزية سوف يصبح شعار كل السلطة للمجالس العمالية فعليا سلطة زعماء الحزب.
أما النظام البديل للنظام الشمولي فأنه يجب أن يشجع كل قوى الابتكار والمبادرة والإبداع مما يتنافى والمركزية و الاستبداد والنخبوية . في المقابل يقوم هذا النظام أيضا بتوفير كل الضمانات والحصانة التامة لهذه القوى، ويضع أيضا تحت تصرفها كل الوسائل المتاحة للتعبير عن نفسها.
أما المركزية الديمقراطية فهى تعنى مفهوما تسلّطيا يتم باسم ديكتاتورية الأكثر معرفة أو وعيا أو إخلاصا . ينسجم مع ثنائية (المركز/الأطراف) التي بدورها تكرس مبدءا آخر هو المرجعية (التسلّطية). إذ إن من يحتلون المركز يتمتعون بمرجعية فكرية أو سياسية تضفيها عليهم صفة المركزية. وهو مفهوم يرسخ التسلطية والهرمية في البنية التنظيمية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مفهوم الأطراف في الثنائية (المركز/الأطراف) يزرع روح الخمول والطاعة وعدم القدرة على الإبداع والمبادرة لدى أعضاء (الأطراف) الذين يشكلون الأغلبية في التنظيم بطبيعة الحال فيرتبط نشاط التنظيم ووجوده وفنائه بإرادة المركز ، فقد قرر بضعة أشخاص مصير الحركة الشيوعية المصرية فى الستينات بقرار الحل بعيدا عن إرادة الأعضاء الذين لم يجدوا بديلا عن الاستسلام لقرار الحل ، فقد أفقدتهم المركزية وما تربوا عليه من طاعة حديدية للقيادة المركزية قدرتهم على المبادرة.
ويستند السلطويون فى دعواهم على واقعية مغلوطة وعقلانية زائفة هى أن الناس ينقسمون بطبيعتهم لأقلية مثقفة ذكية واعية ، و غالبية أخرى لم تنل من التعليم والثقافة والذكاء والوعى ما يؤهلها لإدارة شئونها ، و لاتخاذ قراراتها المصيرية بنفسها و معرفة مصالحها ، مما يستدعى الوصاية عليها والإنابة عنها من قبل النخب المثقفة والذكية والواعية ، و المغالطة هنا هى أن الذكاء والثقافة والتعليم والوعى ليست كميات من المهارات و المعارف يتميز بها بعضنا عن البعض الآخر بما يحوزه كل منا من كمياتها فضلا عن كونها ليست نهائية أو مطلقة أو مقدسة ، و لكنها نوعيات من المعارف النسبية بطبيعتها و التخصصات المتعددة و المهارات المختلفة فى نفس الوقت ، يحوز كل منا على حدة على كميات متفاوتة من المعارف والمهارات والتخصصات .
فعالم الفيزياء يعرف كل قوانين الميكانيكا التى تقوم على أساسها السيارة ، إلا أنه قد لا يعرف كيف يصلح سيارته فى حين يمكن للميكانيكى ذلك و الذى قد لا يعرف شىء عن هذه القوانين . وبعضنا قد يمتلك قدرات خارقة على الحفظ واستدعاء المعلومات إلا أنه لا يجيد التحليل والربط بين هذه المعلومات ، وتبنى الماركسية كمعرفة والنضال من أجل التحرر العمالى ، لا يعطيان أحد الحق فى التحدث باسم الطبقة العاملة والوصاية عليها ، وإدعاء التعبير عن مصالحها كما لو كانت كتل فاقدة الأهلية لا تدرك تلك المصالح .
وما نحن بصدد الدفاع عنه ليس الدعوة لتدخل غير المختصين فى عمل المختصين حتى تتم المحاجة بتفاوت الوعى والثقافة والذكاء بين البشر ، فلن يسمح لمهندس أن يعالج الناس من أمراضهم ، كما لن يسمح لطبيب بتصميم الماكينات باسم الحرية ، ومن ثم فالمنتجين فى الوحدة الإنتاجية حتى ولو كانوا أميين فأنه يمكنهم اتخاذ القرارات التى تخص وحداتهم الإنتاجية فى القضايا التى لا تحتاج لتخصص، مثلما يفعل الرأسماليون الذين قد يكونوا أكثر جهلا وغباء من جميع عمالهم حين يديرون المؤسسات المملوكة لهم ، فنجدهم يتركون القضايا الفنية للمختصين من مهندسين ومحاسبين ومحاميين أما مادون ذلك فيتخذون بشأنه قراراتهم ، فيكسبون أو يربحون وفى كل الأحوال يتحملون مسئولية تلك القرارات التى اتخذوها .
فالإدارة العمالية الديمقراطية المباشرة لوحدات الإنتاج والخدمات ، لن تعنى السماح لمن لا يعرفون فى الهندسة الإفتاء فى الأمور الهندسية على سبيل المثال ، و من ثم فظروف التخلف والأمية والجهل التى عليها العمال ليست مبررا للإدارة البيروقراطية للدولة لوسائل الإنتاج ، و للسيطرة الحزبية على العمال ، تلك الظروف التى استند عليها البلاشفة فى منع الإدارة العمالية للمصانع باسم العقلانية و الواقعية وضرورة التخطيط المركزى ، كما ان الانضمام للحزب لا يعطى صاحبة ميزة عقلية ما فى مجال العمل تمنحه أى أحقية فى اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالإنتاج .
وينطبق كل ما سبق الإشارة إليه بالضرورة على المجالس ، باعتباره الشكل التلقائى الذى يبتدعه العمال عبر تاريخهم النضالى عبر العالم ، دون أدنى تدخل من من يدعون المعرفة والوعى و يتمتعون بعضوية الحزب ، فهذه المجالس مع احتفاظها بالسلطة يمكنها أن تفوض من تراهم من مختصين فى القضايا التى تحتاج إلى مختصين دون وصاية من الحزب .فليس المطلوب لكى يدرك كل العمال مصلحتهم فى الشيوعية التحررية أن يتبنوا المادية الجدلية و التاريخية و أن يستوعبوا الاقتصاد السياسى الماركسى ، المطلوب فحسب إنهاء التأثير البورجوازى على الوعى السياسى للعمال بوعى سياسى بديل .
إن الممارسة السياسية العقلانية تضعف رغبة الناس في العمل السياسي والعمل العام عموما ، فهم مستبعدون باسم العقلانية التى تحولهم لمجرد متفرجين على من يدعون امتلاك الوعى والمعرفة والحق فى الوصاية والقيامة عليهم ، مجرد متلقين للخطابات الفكرية و السياسية ، مجرد عناصر سلبية غير محملة بالمسئولية باسم قصورها الطبيعى . فأنصار الممارسة السياسة العقلانية يزعمون إن الناس العاديين لا يمتلكون المؤهلات الكافية التي تستوجبها إدارة منظومة عقلانية ضرورية لاستمرار لإنتاج والخدمات والأمن فضلا عن مباشرة الثورة التى هى عمل فنى بحاجة لمختصين فى علم الثورة ، هم بالضرورة أعضاء الحزب و قيادته .
ويخدم أنصار هذا الزعم مصالحهم بالإبقاء على سياسة النخبة ، هذه الممارسة العقلانية المزعومة هى التى ذهبت بالنخبة الشيوعية السوفيتية إلى أن تملك أسلحة نووية قادرة على تدمير العالم 48 مرة و أن تغزو الفضاء فى حين كان العاديون الذين أنتجوا كل هذه الصروح الهائلة التى أكلها الصدأ ، مستبعدون من تحديد مصائرهم ، محرومون من الكثير من احتياجاتهم الطبيعية فى سبيل مجد الدولة والحزب ،وسرعان ما استسلموا لنفس النخب عندما حولت دفة التاريخ .
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية