الاثنين، 19 مايو 2008

4ـ وحش البيروقراطية الفاسد والمدمر

العمال ورأسالمال والدولة
سامح سعيد عبود
4ـ وحش البيروقراطية الفاسد والمدمر
عرف البشر الإدارة البيروقراطية فى الإنتاج والخدمات عبر التاريخ البشرى المكتوب فقد كان هناك دائما أفراد وجماعات قد لا يملكون وسائل الإنتاج والثروة، ولكنهم يملكون من المعارف والمهارات التى لا تستغنى عنها الطبقات المالكة لممارسة استغلالها وتسلطها وهيمنتها، فاستخدمتهم تلك الطبقات سواء ملاك العبيد والعقارات أو السادة الحكام أو الرأسماليين مقابل أجور ومنافع و امتيازات مختلفة لمساعدتهم فى إدارة شئون الدولة المختلفة، و إدارة وسائل الإنتاج والخدمات التى يملكونها، و جعلتهم يتقاسمون معها الفائض من الإنتاج الذى تستولى عليه تلك الطبقات، و من ثم فالأجور المرتفعة العينية والنقدية التى يحصل عليها البيروقراطيون شكلت دائما نسبة عالية جدا من مجمل الأجور.
***
كانت الفترة الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين، هى فترة توسع القطاع العام و تضخم تدخل جهاز الدولة فى الإنتاج والخدمات والائتمان والتجارة، بدءا من المجتمعات البيروقراطية الحديثة التى عرفها الناس باسم الاشتراكية، و التى خلت تماما من علاقة الإنتاج الرأسمالية،و حتى المجتمعات الرأسمالية سواء المتقدمة أو المتخلفة، ففى تلك الفترة تضخم القطاع العام سواء أكان هذا لحد كبير أو لحد متوسط، إذ لم تخلو كل المجتمعات المحلية طوال تلك الفترة من هذا القطاع حتى ولو على نطاق محدود، وقد تجاورت في البلاد الرأسمالية كلتا العلاقتين الإنتاجيتين الرأسمالية و البيروقراطية، مع تفاوت فى درجة السيطرة من أحداهما على الأخرى فى كل بلد على حدة، كما شهدت تلك الفترة أيضا ظاهرة أن المؤسسات الرأسمالية الكبرى نفسها أتاحت للبيروقراطيين العاملين فيها التحكم فى تلك المؤسسات، وسمحت بتوسيع مدى مشاركتهم فى نهب فائض الإنتاج، منذ أن عرفت تلك المؤسسات الانفصال بين الملكية و الإدارة.
***
سياسة تدخل الدولة المباشر فى الإنتاج والخدمات تلبى مصلحة البيروقراطية الحكومية التى تزداد قوتها الاجتماعية و نفوذها الاجتماعى، و يزداد ما تحصل عليه من فائض الإنتاج فى شكل أجور مرتفعة و امتيازات نقدية وعينية، كلما توسع القطاع العام سواء بالتأميم أو الاستثمار الحكومى، كما أن فصل الملكية عن الإدارة فى المؤسسات الرأسمالية تحول الرأسماليين لمجرد ملاك أسهم وسندات يحصلون فقط على أرباحها وفوائدها، ويحضرون اجتماعات الجمعيات العمومية لهذه المؤسسات فقط لمناقشة الميزانية و انتخاب مجالس إدارتها و التصويت على القرارات بناء على مقدار ما يملكوه من أسهم، فى حين يتعاظم دور ونفوذ ومكاسب البيروقراطيين فى تلك المؤسسات حتى يتحول بعضهم لملاك أسهم، فضلا عن الأجور التى يتلقوها بناء على مناصبهم البيروقراطية داخل تلك المؤسسات.
***
ينبع الاستغلال فى علاقة الإنتاج البيروقراطية من أن كل صاحب سلطة إدارية، كلما كان قادرا على إصدار قرارات أو تعطيل تنفيذها كلما كان قادرا على تحقيق مصالحه الشخصية، على حساب الآخرين المحكومين بسلطته، ومن موقعة فى السلطة الإدارية قادر على إجبار من هم دونه فى السلطة على فعل ما يريد. و التحديد السابق يكتسب أهميته فى التفريق بين العلاقات الإنتاجية المختلفة التى عرفتها البشرية، فقد كان أساس الاستغلال والقهر الاجتماعى فى بعضها كامن فى سيطرة البيروقراطيين إما على وسائل العنف أو على وسائل المعرفة، وليس ناتجا بالضرورة من تملكهم لوسائل الإنتاج على نحو فردى خاص.
***
إذا لم تمارس البيروقراطية استغلالا لعمل غيرها، و تميز أفرادها كأشخاص بالنزاهة والزهد والتواضع، فأن البيروقراطية ستظل تحتفظ بوضع هيمنة اجتماعية بحكم سيطرتها على القرارات الاقتصادية الهامة المتعلقة بالإنتاج والتصرف فى الفائض الاقتصادى يجعل منها فئة أو طبقة متميزة عن بقية الطبقات الاجتماعية، والبيروقراطيون فى هذه الحالة غير الواقعية و الخالية من الفساد واستغلال النفوذ والهيمنة، يعملون لصالح الطبقة ككل، فيتخذون من القرارات ما يدعم نفوذ هذه الطبقة على حساب المنتجين، و رغم نزاهتهم فإن أفرادها كل وفق موقعه فى الهرم البيروقراطى يشاركون الطبقة ككل فى نهب الفائض الاقتصادى من المنتجين حتى ولو لم يستولوا بشكل شخصى على بعضه لأنفسهم[1].
***
البيروقراطية تضفى أهمية حيوية على دورها الاجتماعى، وعلى ما تملكه من معارف وما تتخذه من قرارات، و ما تسنه من قوانين ولوائح وما تضعه من خطط وما تتخذه من تدابير، حيث ترى فى نفسها، ويراها البعض ضرورة اجتماعية، فالحياة فى مجتمع معقد كالمجتمع الحديث تحتاج لمن يملكون الخبرة فى التنظيم والإدارة والتخطيط، وهى علوم لها أهلها، ومن ثم لابد و أن نبعدها عن خيارات البشر العاديين و أهواءهم وجهلهم، وتحت هذه الحجة التى تبدو منطقية و واقعية، تسلب البيروقراطية حريات الخاضعين لها، و تمارس وصايتها العبثية عليهم، وتقتل فيهم القدرة على الإبداع والمبادرة، وفى ظل انتشارها الأخطبوطى الممتد على كل نشاط بشرى تترهل وتضعف، ومن هنا يتم إهدار الطاقات والقدرات والموارد الطبيعية الاجتماعية والبشرية، و تتم عرقلة تطوير قوى الإنتاج، والأمر لا يحتاج لمزيد من البرهنة، فنظرة سريعة على انجازات البيروقراطية فى القرن الماضى فى شتى أرجاء العالم سواء فى المجتمعات البيروقراطية ككوريا الشمالية وفيتنام وكوبا، أو تلك التى مازال للبيروقراطية فيها اليد العليا كمصر و سوريا، وبمقارنتها بالمجتمعات التى لم تعرف سيطرتها المطلقة، سندرك الأوهام التى سيقت لنا حول ضرورتها و أهميتها.
***
التنظيم البيروقراطي الحديث لا يتسم بالكفاءة والعقلانية، فهو يكثر من القوانين واللوائح والقرارات والخطط التى تتناقض مع الضرورات العملية التى يفرضها الواقع، ومن ثم تتحول لمجرد كلام لا يمكن تنفيذه، أو قد يؤدى تطبيقها لكوارث اقتصادية واجتماعية. فهناك الصعوبة التي يجدها الرؤساء البيروقراطيون في تنفيذ أهدافهم وفرض قيمهم على المستويات الأدنى، ولا سيما في الحالات التي تكون فيها تلك المستويات متمثلة بالفنيين المتخصصين. و البيروقراطية كجماعة غير قادرة على تحقيق مصلحة الجماعة، وذلك بسبب العقلية الفردية للإداريين الأفراد الذين يسعون إلى تحسين مركزهم وثروتهم وسلطتهم الفردية إزاء أقرانهم مما يفتح الباب على مصراعيه بينهم للمنافسات القذرة التى تعبر عن نفسها بالمؤامرات و الشللية والمحسوبية والإهمال و التسيب مما يضر بالصالح العام الذى تدعى البيروقراطية رعايته، و ذلك ليس بين أفراد البيروقراطية فقط ولكن بين الهيئات البيروقراطية نفسها، فالوكالات الحكومية الأمريكية تهتم بتضخيم ميزانيتها إلى أبعد مدى على حساب خزانة الدولة... كما استرعى كتّاب آخرون الانتباه الى ميل البيروقراطيين في العهد القريب للانخراط المتزايد في إدارة الاقتصادات الوطنية، والابتعاد جرّاء ذلك عن دورهم التنفيذي المحض[2].
***
فالبيروقراطية هى القفص الحديدي الذي يكبر مع تطور المجتمع الحديث لدرجة تعيق تطور المجتمع ،عندما تكون إمكانيات تطور المجتمع أكبر من قدرة القفص على استيعاب هذا التطور، وقد يصل الأمر لدرجة لا يتحملها الإنسان. وذلك عندما يصبح المرء ضحية "لروتين" الماكينة البيروقراطية. وبما أن المجتمع العصري لا يستطيع التحرك دون بيروقراطية، فإن الأشخاص المسيطرين على "المكاتب" يحصلون على سلطات واسعة قد يستخدمونها لمصالحهم الشخصية أو لتعطيل أو تأخير مصالح الناس"[3].
***
البيروقراطية الحديثة الذى عرفها الناس فى القرن العشرين باسم الاشتراكية، تحولت فيها البيروقراطية نفسها من كونها مجرد فئة اجتماعية خادمة للرأسماليين والسادة الإقطاعيين، لطبقة سائدة ، و قد مارست أشكالا مروعة من القهر والاستغلال والتضليل لكل من العمال والفلاحيين الذين حولتهم جميعا لمجرد أقنان يعملون بالسخرة لديها، مقابل أجور كفلت لهم فقط الحد الأدنى الممكن من الحياة ، وقد أهدرت تلك البيروقراطية من الموارد والطاقات بأكثر مما أهدر الرأسماليون، وهو ما تناولته دراسات وكتابات كثيرة لا داعى لتكرارها.
***
تتميز البيروقراطية بالفساد، إذ يرتكز هذا الفساد على وجود امتيازات للموظفين مقابل دورهم فى تنفيذ سياسة النظام . ومع استمرارهم فى الفساد تنمو ثرواتهم الخاصة، وتنمو لديهم المصالح الخاصة فى استثمار تلك الثروات رأسماليا، وينتصر فى النهاية الميل إلى تفكيك علاقة الإنتاج البيروقراطية التى أتاحت لهم الفرص فى تراكم الثروة الشخصية، و من هذه اللحظة يبدأ أصحاب الثروات الخاصة من البيروقراطيين فى التحول إلى رأسماليين أو الجمع بين المركز البيروقراطى و الملكية الرأسمالية، وعبر التاريخ البشرى كان تولى المركز البيروقراطى فى جهاز الدولة أو فى خدمة ملاك الثروة هو الطريق لتملك العبيد والأرض ورأسالمال ، وهو ما يفسر كيف تكونت رأسمالية عملاقة من قلب المجتمعات البيروقراطية التى عرفها الناس بالاشتراكية فى سنوات عقد التسعينات فى أوروبا الشرقية والصين. و كيف تحول فيها ساسة و بيروقراطيو الدولة والقطاع العام إلى رأسماليين مع عمليات الخصخصة، مع ملاحظة أن التحول من العلاقات البيروقراطية إلى العلاقات الرأسمالية فى كل تلك البلاد ارتبط جوهريا بالجريمة المنظمة سواء فى تراكم الأموال فى أيدى البيروقراطيين الفاسدين، أو فى الاستيلاء على المال العام، ومن هنا ندرك لماذا تتفكك سيطرة البيروقراطية سريعا فى مواجهة العلاقات الرأسمالية الأكثر تقدما وتطورا.
***
الفساد الإداري المتمثل فى عدم الكفاءة والترهل، عادة ما يعقبه الفساد المالي أى أن الاستغلال يعتمد على الثغرات القائمة فى التشريعات، والفجوات الواسعة ما بين التشريع والواقع، والتضارب الكامن داخل كل عناصر تلك الشبكة الهائلة من القوانين واللوائح والقرارات، و هذا الفساد الإدارى يشكل فى نفس الوقت غطاء للفساد المالي الذى يسمح للفاسدين بالهروب من المساءلة. فالبيروقراطية التي تدعي أحياناً الالتزام بحذافير النظام القائم فى خدمة مصالح الشعب هي التى تضع التعقيدات أمام أفراد الشعب لتحقيق مصالحها.. وفي ظل جهل المواطنين بدور الأجهزة الرقابية الإدارية والمالية، وفي ظل غياب دور للمواطنين لإبداء رأيهم تجاه الخدمات المقدمة لهم يرضخ المواطن للفساد الإداري والمالي ويقبله مقتنعاً بأنه لا جدوى للاعتراض والرفض لأنه سيكون في النهاية هو الخاسر[4].
***
كان الإقطاع قديما يقتصر على الإقطاع الزراعي، غير انه مع ظهور النظم الشمولية والبيروقراطية، واتجاهها إلى تأميم الصناعة والصحافة والإعلام والثقافة، وتغّول البيروقراطية بناء على هذا، أن نشأ ما يمكن أن يسمى تجاوزا بالإقطاع الصناعى والخدمى والائتمانى. وفي هذا الإقطاع تؤمم المؤسسات ليّدعي الحاكم أنها أصبحت مملوكة للشعب، في حين أنها تكون بحكم الواقع العملى مملوكة للحاكم نفسه أو للنظام السياسي أو للحزب الواحد؛ ثم يُعهد بها إلى مديرين محترفين. و يقال في ذلك إن التأميم هو عودة الثروة إلى الشعب مالكها الأصلي، لكن ذلك ملاعبة بالألفاظ ومداعبة للمشاعر، لان الشعب لم يملك هذه المؤسسات أصلا حتى يكون التأميم إعادتها إليه، هذا فضلا عن انه من حق المالك قانونا وشرعا أن يحصل على عوائد ملكيته، و أن يدير هذه الملكية أو يكلف من يشاء لإدارتها، لكن ذلك لم يحدث قط، وإنما تُرك الأمر لرئيس كل مؤسسة يتصرف في أموالها، وفي إدارتها، تصرف المالك في ملكه، فلا يرعى في ذلك شعبا أو فردا، ما دام انه يؤكد الولاء للنظام ورئيسه، يبرر ويسوّغ، ويطبّل ويزمّر، وكان ذلك تطبيقا للقول الذي يسود في النظم الشمولية من أن الأوْلى هم أهل الثقة لا أهل الكفاية[5].
***
لو كان العمال السوفيت يشعرون أن القطاع العام ملكهم حقا، ما تركوه يذهب أدراج الرياح من بين أيديهم، و ما سمحوا بتلك السهولة أن تضيع كل جهودهم البطولية وتضحياتهم الأسطورية ، طوال خمسة وسبعين عاما، و التى بنت هذا الصرح الاقتصادي الهائل على خرائب الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الأهلية، فضلا عن التخلف المريع الذى كانت عليه روسيا القيصرية قبل الثورة، ذلك لأن هؤلاء العمال برغم كل هذه الجهود التى كانوا يبذلونها كانوا يعيشون على الكفاف، وهو ما يفسر سلبيتهم إزاء رؤيتهم كل ما شيدوه يذهب لأيدى قلة من اللصوص بناء على قرارات كبار البيروقراطيين الذين سئموا الوضع القديم الذى أعاق رغبتهم فى استثمار ما حصلوه عليه من أموال ناتجة من جهود هؤلاء العمال وآبائهم طوال خمسة وسبعون عاما، و القطاع العام المصرى يباع الآن بأرخص الأسعار للصوص مشابهين بناء على قرارات البيروقراطية المصرية التى لم تستند أبدا على رأى العمال الذين زعموا لهم ان هذا القطاع ملكا لهم، أما ما تبقى من هذا القطاع المسمى بقطاع الأعمال العام، فيحصل رؤساء مجالس إدارة شركاته الذين تعينهم الدولة على 5% من صافى أرباح الشركات التى يديرونها وفقا للقانون بالإضافة لرواتبهم وبدلاتهم وما يمكن أن ينهبوه منه بالفساد.
***
إذا كان الاستغلال البيروقراطى يقع فقط على العمال والبرجوازيون الصغار فى المجتمعات البيروقراطية الحديثة المسماة بالاشتراكية، إلا أننا نلاحظ أنه فى ظل هيمنة البيروقراطية الحكومية على الإنتاج والخدمات والائتمان مع وجود علاقات رأسمالية غير مهيمنة و ضعيفة، فإن ممارسة الاستغلال البيروقراطى تتم بشتى وسائل الفساد من الرشاوى إلى جمع الإتاوات والتبرعات الجبرية من الرأسماليين والبرجوازيون الصغار مقابل خدمتهم وحمايتهم فيما يشبه علاقات القنانة الاقطاعية، بدءا من مديرى البنوك الحكومية الذين يوفرون القروض للرأسماليين ويتساهلون فى تحصيلها، إلى الإتاوات والتبرعات الجبرية التى تدفع إلى كبار رجال الأمن الذين يوفرون لهم الحماية، وغيرها من الأمثلة، إلا أنه فى حالة هيمنة العلاقات الرأسمالية على العلاقات البيروقراطية فإن الرأسماليون هم الذين يستغلون القطاع الحكومى التى تديره البيروقراطية الحكومية لصالحهم، فى نوع من تبادل المنفعة بين الرأسماليين والبيروقراطيين، فيحصل الرأسماليون على أموال البنوك العامة بلا ضمانات كافية، ويستخدموا أجهزة الأمن فى صراعهم مع العاملين لديهم.
***
بخلق ما يسمى بالقطاع العام، سواء بتأميم القطاع الخاص، أو بالاستثمار الحكومى فى الإنتاج والخدمات، حولت البيروقراطية طوال القرن العشرين، نسبة ضخمة من العمال فى المجتمعات الرأسمالية أو كلها كما فى المجتمعات البيروقراطية التى عرفها الناس باسم الاشتراكية، إلى طبقة أخرى تقع لو أردنا الدقة ما بين العمال و الأقنان، وهذا التحويل هو بمثابة تدهور حقيقى فى وضع العمال الاجتماعى، برغم ما قد يتميز به أشباه الأقنان هؤلاء على العمال الآخرين من استقرار وظيفى، وضمان اجتماعى، و مستوى معيشى أفضل، وأجور أعلى، و خدمات اجتماعية أوفر وأرخص، إلا أن هذا لا يمنع فى نفس الوقت أنهم أقل حرية و إنتاجية و أكثر عبودية من العمال غير الحكوميين.
***
يتميز العمل، فى ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية، بفروق جوهرية عن كافة أشكال العمل الأخرى(مثل عمل العبيد و الأقنان والمنتجين الأفراد)،وتتمثل هذه الفروق فى إزالة كافة القيود القانونية على حرية العامل فى تأجير قوة عمله، والتى تعد أحد الشروط الأولية لنشوء العمل المأجور، وهى جوهر علاقة الإنتاج الرأسمالية. فالعامل ينتمى إلى طبقة مجردة من الملكية، الأمر الذى يحد من حريته فى الاختيار لينحصر اختياره فى تأجير قوة عمله مقابل أجر. ويقدم هذا التمييز بين العمل المأجور، وسائر أنواع العمل الأخرى، الأساس للتعريف المجرد للطبقة العاملة، التى تضم المنتجين المباشرين، الذين لا يملكون إلا قوة عملهم، ويضطرون لبيعها فى سوق العمل، ويتعرضون لمختلف أشكال الاستغلال الطبقى[6].
***
يجب أن نميز للتدقيق بين ثلاث فئات اجتماعية يجمعهم جميعا أنهم من المجردين من الملكية و من العاملين بأجر فى نفس الوقت إلا أن مقدار ما يملكوه من سلطة و ما يتمتعوا به من حرية يفرق بينهم طبقيا واجتماعيا، البيروقراطى الذى يملك سلطة اتخاذ القرار، و العامل لدى الدولة الذى لا يملك سلطة اتخاذ القرار، والعامل لدى الرأسمالى. وهناك بالطبع تشابهات واختلافات بين تلك الفئات مما لا يجعلهم متطابقين طبقيا، و قد شرحنا وضع البيروقرطى طبقيا، و يبقى أن نشرح الفرق بين وضع العامل و وضع العامل لدى الدولة، فالعلاقة التقليدية بين العامل لدى الرأسمالى كبائع حر لقوة عمله و الرأسمالى كمشترى حر لتلك القوة، تتيح إمكانية المساومة الجماعية بين الطرفين على شروط وظروف العمل، مما يرسخ تقاليد التضامن الجماعى للعمال فى مواجهة أصحاب العمل كسبيل وحيد من أجل تحسين شروط وظروف العمل، و الذى لا يتحقق إلا فى ظل حرية النضال النقابى و الاقتصادى للعمال، أما وضع العامل لدى الدولة فى مواجهة الدولة كصاحب عمل فهو وضع الإذعان من القن لشروط سيده، و التى تقوم على القبول بكل شروط وظروف العمل التى تفرضها الدولة عليه، وبرغم الإمكانية النظرية للتمرد على هذا الوضع، بحرية الهجرة أو حرية ترك الوظيفة الحكومية، إلا أن مميزات الوظيفة الحكومية المضمونة والمستقرة تربطه بها وتخضعه لشروطها قسريا.
***
أجر العامل لدى الدولة لا علاقة فعليا بينه و بين ما ينتجه من سلع أو يقدمه من خدمة، فهذا الأجر هو أقرب للجراية التى يحصل عليها الجندى فى الجيش، هو ثمن لخضوعه للدولة ولشروط العمل التى تحددها له، والذى ما عليه إلا أن يخضع لها ليحصل عليه، أما أجر العامل لدى الرأسمالى فهو جزء من القيمة التى ينتجها، بالرغم من أن كلا العاملين بأجر سواء العامل لدى الدولة أو العامل لدى الرأسمالى يعانيان من عبودية العمل المأجور ومن الاستغلال والقهر، و ينتميان عموما للطبقة العاملة، إلا أن وضع العامل لدى الرأسمالى أفضل نسبيا من و ضع العامل لدى الدولة اجتماعيا، حيث أنه قادر فى ظل ظروف معينة على المساومة مع صاحب العمل على شروط عمله وأجره، فى حين أن العامل لدى الدولة مجبر على الرضوخ لصاحب العمل ..و جدير بالذكر أن ضعف فرص المساومة الجماعية لدى الموظفين فى مواجهة الدولة، يرسخ أساليب الحل الفردى بين هؤلاء العاملين لتحسين شروط حياتهم وعملهم، ويضعف من تقاليد التضامن العمالى فيما بينهم.
***
تزدهر بين العاملين لدى الدولة العديد من صور الفساد والانحطاط، يمكنا أن نرصد منها، تملق و إرضاء من هم أسفل لمن هم أعلى فى هرم السلطة الإدارية للحصول على امتيازات مادية ومعنوية على حساب الزملاء، أو خوفا من ضياع الوظيفة الحكومية المضمونة والمستقرة بالمقارنة بالعمل غير المضمون والمستقر فى علاقة الإنتاج الرأسمالية، والتنافس مع زملاء العمل على إرضاء المستويات الأعلى فى الإدارة، وبدلا من النضال الجماعى من أجل تحسين شروط وظروف العمل، فإن الموظف قد يلجأ أحيانا لتحسين دخله الفردى بالرشاوى والاختلاسات والعمولات وغيرها من وسائل الكسب غير القانونى إذا اتيحت الفرصة، أو بالتكالب على الحوافز و المكافئات والترقيات، كما قد يلجأ لتحسين دخله بالعمل فى أكثر من جهة فى نفس الوقت، و ممارسة أعمال التجارة والسمسرة، والانخراط فى شتى أشكال الاقتصاد السرى، كما يتاح للمهنيين والحرفيين منهم الجمع بين الوظيفة الحكومية و ممارسة الحرفة أو المهنة على نحو حر، سواء أكان ذلك فى غير أوقات العمل الرسمية أو أثناءها، وهى فرص لا تتوافر إلا للعمال لدى الدولة بناء على عوامل شتى تساعد على ذلك منها البطالة المقنعة التى تخلقها البيروقراطية الحكومية كنوع من الرشوة والإفساد للطبقة العاملة، والتى لا تطلب أحيانا من عامليها إلا اثبات حضورهم لمحل العمل وانصرافهم منه، كما تخلق وظائف لا ضرورة لها تسكن عليها عاملين لا يمارسون أى نشاط فعلى أو ضرورى فى إنتاج السلع أو تقديم الخدمة، أو تعيين عدد من العاملين ليؤدوا عمل يمكن أن يؤديه عامل واحد، و وتضخم عدد هؤلاء بالنسبة لعدد من يمارسون النشاط الإنتاجى والخدمى فعلا ، يساعد العامل على عدم العمل سواء طوال ساعات العمل الرسمية أو كل أيام العمل الرسمية.
***
ينخرط العاملين لدى الدولة أفرادا وجماعات، لتحسين شروط وظروف عملهم، فى النضال القانونى، بحثا عما تمنحه لهم تلال اللوائح والقوانين التى تنظم علاقتهم بالدولة كصاحب عمل من حقوق، و التى تشرعها الدولة بالانفصال عنهم، ويصبح من السهل على العاملين لدى الدولة بل والمرغوب فيه اللجوء لرفع القضايا أمام المحاكم، وتقديم الالتماسات لجهات الإدارة، ورفع التظلمات والطعون فى القرارات الإدارية المختلفة، كطريق للحصول على تلك الحقوق، ومن ثم يترسخ فى أوساطهم الاحترام الهائل للشرعية والقوانين و اللوائح، و الإجلال لكل مؤسسات العدالة من تشريع وقضاء وتنفيذ، و انتظار ما قد تمنحه لهم الأجهزة الحكومية وجهات الإدارة من زيادات فى الأجور والعلاوات والترقيات والبدلات والحوافز والمكافئات، و انتظار قرارات الإدارة العليا لتحسين ظروف العمل و شروطه، والمؤكد أن الاعتياد على كل من النضال القانونى، و الاعتياد على الانتظار السلبى لبر و إحسان كبار المسئولين الإداريين، أو المساومة الجماعية معهم داخل نفس إطار الشرعية الذى يضعه هؤلاء المسئولين فى شكل عقد إذعان، يضعف من نضالية العاملين لدى الدولة و يشوه وعيهم، ويضع سقفا لا يمكنهم تخطيه لتحقيق مطالبهم.
***
فرص العاملين لدى الدولة فى مواجهة الإدارة أضعف منها لدى العمال لدى الرأسماليين فى علاقة الإنتاج الرأسمالية. إلا أن هذه الوضعية لا تقضى على إمكانية التضامن الجماعى بين العاملين لدى الدولة، و لا تقضى على إمكانية النضال النقابى و الاقتصادى فى أوساطهم، وإن كانت تضعفها فحسب. فقد شهدت تلك القطاعات وعبر تاريخ الطبقة العاملة فى كل مكان، الكثير من النضالات الجماعية، إلا أن ما يضعف تلك النضالات هو سيف البيروقراطية الجبار القادر على اتخاذ شتى القرارات الإدارية لترويض العاملين لدى الدولة بالمنح والمنع، و الثواب و العقاب، والقادر دائما على نقل القيادات من مواقع المواجهة الساخنة لجهات عمل أخرى بعيدة عن مواقع اشتعال الصراع، بل و فصلها إن أمكن، فساحة المعركة دائما بين موظفى الحكومة و الإدارة محصورة فى حدود الشرعية القانونية و سلطة الدولة كلية الجبروت، التى لا يملك عامليها سوى الإذعان لها، ولا يمكن أن يتجاوزوها للمساومة الجماعية، تلك الممكنة فقط فى حدود حرية التعاقد بين العمل و رأسالمال.
***
يصل العمال فى علاقة الإنتاج الرأسمالية بسهولة لحقيقة الاستغلال الرأسمالى، ذلك لأن هؤلاء العمال يلمسون ما ينتجوه بأنفسهم من قيمة مضافة، و ما يحصلون عليه من أجور، بحسابهم للفرق بين قيمة رأسمال المستثمر بما فيه أجورهم، و قيمة السلع المنتجة التى تشكل القيمة المضافة، وكيف ينقسم هذا الفرق أو القيمة المضافة بينهم كأجر و بين صاحب العمل كربح، أما العاملين لدى الدولة، فيتعاملون مع صاحب عمل هو الدولة، بكل ما لها من موارد متشعبة المصادر، وطرق إنفاق متنوعة، كما أن الدولة وليس غيرها هى من تحدد ثمن السلع والخدمات التى تنتجها أو تقدمها بصرف النظر عن الطلب عليها أو المعروض منها، بعيدا عن قواعد السوق و بعيدا عن قواعد العرض والطلب، وبعيدا عن القواعد الرأسمالية الساعية لتحقيق أعلى معدل ربح، نظرا لوضع القطاع الحكومى الاحتكارى فى السوق القومى إن وجد هذا السوق ، فالدولة هى التى تحدد بنفسها ما يمكن أن تتحمله من خسائر فى قطاعات خدمية كالتعليم والعلاج والنقل و المواصلات مثلا، و ما تريد أن تحققه من مكاسب فى قطاعات إنتاجية كالصناعة والزراعة والطاقة على سبيل المثال هذا لو أفترضنا فيها التخطيط الرشيد ، و هى و ليس غيرها من يحدد هياكل ولوائح الأجور والدرجات الوظيفية التى تسكن عليها موظفيها و ترقيات هؤلاء الموظفين، من خلال الموازنة العامة للدولة، و من ثم فأنه يصبح من الصعب إدراك الموظفين لحجم ما يضيفوه من قيمة مضافة على الرأسمال المستثمر، و من الصعب إدراكهم للكيفية التى تنقسم بها القيمة المضافة.
[1] المصدر د.إبراهيم حسن العيسوى،نحو خريطة طبقية لمصر الإشكالات النظرية والاقتراب المنهجى من الواقع الطبقى المصرى،المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية،القاهرة،1989

[2] http://www.arabicwata.org/Arabic/The_WATA_Library/The_Term_for_the_Day/Terms_Archives/2004/february/29.html
[3] http://www.vob.org/arabic/lessons/lesson16.htm

[4] http://www.alwatan.com.sa/daily/2005-01-02/writers/writers06.htm

[5] http://www.metransparent.com/texts/Ashmawi_feodoral_press_in_egypt.htm
[6] ـ حسنين كشك،عمال الزراعة فى مصر(1953ـ 1995) الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعمال الزراعيين الأجراء،مركز المحروسة للبحوث والتدريب والنشر،الطبعة الأولى يناير 1996،القاهرة.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية