التقدمية والمحافظة
كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
سامح سعيد عبود
التقدمية والمحافظة
تستند العقلية المحافظة - وهى أساس الحركة الإسلامية - على ما يعرف بالعقلية النقلية التى تضفى صفات القداسة، ومن ثم الثبات، على مجموعات محددة من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية الموروثة، وكذلك - وهو الأهم - فإن ما تراه لإصلاح المجتمع (أى مجتمع) هو الانطلاق من سلطويتها، من خلال العودة لمدونة قوانين محددة تم تجاوزها، أو فرض مجموعة أخرى من القوانين تحافظ على ما تراه صحيحا من العادات والتقاليد والأعراف والقيم.. ولذلك فإنه ليس من الصحيح وصف بعض أو كل تيارات الحركة الإسلامية بالثورية.. فالثورية مفهوم إيجابي يعنى السعى لتغيير جذرى للمجتمع، نحو درجة أعلى من التقدم الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى والعلمى والفكرى، وهى تعنى ضمنيا تحدى الشرعية التى تستند عليها القوانين وبنية المجتمع كلها، وهى تعنى محاولة تغيير القوانين المعيقة للتقدم، وترسيخ قوانين أخرى أكثر تقدما.. بمعنى كفالتها لدرجة أعلى من الحرية والديمقراطية والكفاءة الاقتصادية والعقلانية والعدالة الاجتماعية والمساواة.. وهو الأمر الذى لا يتوافر فى أى من جماعات الإسلام السياسى.
فالمحافظة هى امتداد للنظرة المثالية السابق مناقشتها، والتى ترى تغيرات المجتمع، كانعكاس لتغيرات القوانين وأشكال الوعى الاجتماعى عموما، وليس العكس كما ترى النظرة المادية، والتى ترى أن التغيرات التى تحدث فى الواقع الاجتماعى تفرض انعكاسا لها فى صورة قوانين وأخلاق وغيرها تعبر عن مصالح معينة ومحددة وعن علاقات اجتماعية بين البشر الذين يكونون بتفاعلهم المجتمع المعنى.
فالعقلية المحافظة تضفى قوة سحرية على القوانين، حيث تزعم أن هذه القوانين فى حد ذاتها قادرة على القضاء على ما يعانيه المجتمع من متاعب، بل ووضعه على طريق الازدهار ؛ ولذا أتعجب من الذين يطالبون الإسلاميين بوضع برنامج سياسى، مع أن برنامجهم الوحيد واضح ومحدد، "فالإسلام هو الحل" يعنى التطبيق الحرفى لمبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية وفق الفقه السنى السائد، ومد هذه المبادئ لتشمل كل مجالات الحياة فى المجتمع الإسلامى بكل ما يترتب على ذلك من آثار.. ولا شان لهم بالمسائل الأخرى، حيث لن يختلفوا عما هو سائد ويتوافق مع متطلبات الحياة المعاصرة.
طابع التغيير الإسلامى :
إن الطابع اللا ثورى يتضح فى كل حركات الإسلام السياسى - حتى أكثرها جذرية وتطرفا - من معرفة ما تبغى هذه الحركات تغييره فى المجتمع، فهى لن تمس علاقات الإنتاج السائدة من قريب أو بعيد، فستظل علاقة الإنتاج الأساسية التى تميز المجتمع الرأسمالى هى انتزاع فائض القيمة من العمال المأجورين الذين لا يملكون سوى قوة عملهم لصالح الرأسماليين ملاك وسائل الإنتاج.. فلا توجد حركة إسلامية تهدف لتغيير هذه العلاقة من جذورها، حتى ولو كانت تسعى بكل الوسائل - بما فيها العنف - لقلب السلطة والنظام، وإرساء سلطتها الاستبدادية الطابع.والغريب أن البعض يقرن بين العنف والثورية مقارنة تلازم، وهى رؤية قاصرة لدور العنف فى التاريخ ،وإلا اعتبرنا أى عنف هو عمل ثورى، حتى ولو كان من أجل المحافظة على الأوضاع القائمة أو العودة لأوضاع متخلفة.هذا بصرف النظر عن الجوانب السلبية لممارسة العنف على العملية الثورية نفسها،وهو ما لا يتسع المجال لمناقشته الآن.
يكتب صلاح أبو إسماعيل"بالنسبة للحدود لا مجال لها فى تشريعنا .وبالنسبة للتعزيز،فقانون العقوبات يصلح أن يكون قانونا للتعزيز إذا أضيفت إليه الحدود ،وبالنسبة للمعاملات المالية إذا ما حذفنا الربويات وإذا عدلنا بعض أحكام التأمين فأننا قد نقترب من الشريعة الإسلامية..وبالنسبة للمرافعات .إذا اشترطنا الأهلية الشرعية فى القاضى ،وكذلك فى الشهود.وإذا استحدثنا نيابة أمن الدين أو نظام الحسبة فوكلناها إلى جهاز خاص.فأن مرافعتنا تكون إسلامية’"(1). وهكذا يتضح جوهر البرنامج الإسلامى الذى لا يعنى تغييرا جذريا فى البنية الاجتماعية كما يتصور البعض الذين يضفون الثورية على الجماعات الإسلامية لموقفها المعارض للدولة ،وإنما هو برنامج تشريعى محدود لن يمس جوهر البنية الاجتماعية.
ما يهم الجماعات الإسلامية من تغييرات فى المجتمع يتم على مستوى سلوكيات الأفراد الأخلاقية، فهكذا يبشر الإسلاميون الإيرانيون بطبيعة المجتمع الذى يسعون إليه، بعد انتصار ثورتهم "فعلى جميع الإيرانيين اليوم أن يخضعوا للقوانين التى تحرم الخمر والمخدرات، وبيع منتجات منع الحمل، والشذوذ الجنسى، وأن يأخذوا بعين الاعتبار النداءات الرسمية التى تطلب من النساء الموظفات أن يرتدين الثياب طبقا للتقاليد الاجتماعية" (2). فهم لا يسعون للمساس بالطبقات السائدة ولا تحرير الطبقات المسودة، وإنما يقتصرون فحسب على إزاحة النخب الحاكمة، وما تحوز عليه من امتيازات، ليحلوا هم محلهم "فالنظام الاقتصادى الذى يصبون إليه لا يرتكز على قوانين السوق والمزاحمة، ولا إلى التخطيط ورقابة الأنشطة الاقتصادية من قبل الدولة - وإنما إلى الأخلاق : أخلاقية فى الدوافع وأخلاقية فى المبادلات" (3). ولما كانوا هم فقط سدنة الأخلاق، وذلك من وجهة نظرهم، فإنهم يطرحون أنفسهم كبديل لكل الأنظمة والنخب الحاكمة، ليس فى البلاد الإسلامية فحسب، بل وفى العالم أجمع.. وكأن العالم لا يعانى فحسب إلا من تلك المظاهر السلوكية التى تؤذى مشاعرهم الدينية، والتى لا تتأذى من المجاعات والحروب وتلوث البيئة وازدياد معدلات الاستغلال والبطالة وإهدار الموارد وتقييد الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان.. كل تلك المظاهر التى تجد جذورها فى الطبيعة الاستغلالية لعلاقات الإنتاج فى طبيعة المجتمع الرأسمالى نفسه.
ولا ينبغى أن يخدعنا هذا الحديث عن أخلاقية الدولة - التى تسعى لإقامتها الجماعات الإسلامية المختلفة - فما هذا سوى تأسيس شرعى للدولة - يخفى حقيقة المصالح التى تعبر هذه الجماعات عنها، فالفرق التى أنقسم إليها المسلمون بدأت أصلا على شكل أحزاب سياسية تتصارع على السلطة والحكم، فالمذاهب الأساسية الثلاثة لم تنقسم حول العقيدة وأنما انقسمت حول من الجدير بحكم المسلمين فنشأت الشيعة والسنة والخوارج، وفى العصر الحديث أصبح الدين هو الأداة الأكثر يسرا التى استغلتها القوى السياسية المختلفة لتبرير شرعيتها ولابتزاز الجماهير.
إن جوهر التغيير الذى تسعى إليه الجماعات الإسلامية هو إرساء سلطة وصاية دائمة على البشر باسم الحاكمية، والتى تعنى - ببساطة - حرمان البشر من تحديد الطرق التى يعيشون بها.. ومؤدى ذلك - ببساطة - بالنسبة للفرد "تجريده من كل قيمه الذاتية عدا ما يكسبه من انتمائه لمجتمع مسلم قائم،أو ينتظر قيامه، بجهد فعال يبذله، أى : تخصيص ذاته بالكامل لعقيدة الحاكمية، وبمعنى آخر : فإن الإنسان بوصفه كذلك - ومن حيث هو صاحب إرادة مستقلة - هو عند سيد قطب" حيوان يجب ترويضه" (4). ومن هنا يتضح لنا الطابع السلطوى الاستبدادى لكل حركات الإسلام السياسى، حتى ولو ادعت الديمقراطية والشورى، فحقوق الفرد فى المجتمع المسلم مرهونة بقبوله الحاكمية، فمصدر السلطة فى المجتمع الإسلامى ليس الجماهير أو الشعب، وإنما هو النص المقدس، والقائمون على تفسيره وتطبيقه.
ويكتب د. محى الدين عبد الحليم"بينما فى الإسلام لا يكون رأى الأغلبية ملزما إلا إذا كان مستندا إلى كتاب الله وسنة رسوله،ويرى الحاكم أو أولى الأمر أنه يتفق مع المصلحة العامة أما إذا كان رأى الأغلبية يتعارض مع الكتاب والسنة أو يتعارض مع المصلحة العامة فأن هذا الرأى ليس ملزما لرئيس الدولة ولا لغيره"(5) وهم بالرغم من ذلك يتحدثون عن الحريات وحقوق الإنسان فى النظام الإسلامى المنسوب للإسلام ،ورأى الأغلبية لا قيمة له إذا تعارض مع القرآن والسنة،فمن هو الذى يحدد إذن إن كان يختلف أم لا،الحكام والفقهاء بالطبع ،فإن اختلفوا فى التفسير لاختلاف الرؤى والمصالح فيما بينهم والأمر كما نرى أمر دين لا دنيا ، فأنهم سيشرعون أسلحة التكفير والعنف فى مواجهة بعضهم ،ويتصارعون مستخدمين حرب النصوص والنصوص المضادة،والتفسيرات المتضاربة،ألم تكن الفرق السياسية عبر التاريخ الإسلامى تضع من الأحاديث النبوية ما يؤكد وجه نظرها وذلك فى حرب دعايتها لاكتساب الجماهير المخدوعة والمغلوبة على أمرها إلى صفها.
ومن هنا فإن د. محمد مورو يكتب "لقد حرص الاستعمار ومدرسته على تغيير الأنماط التشريعية المتعامل بها فى البلاد المستعمرة.. وهكذا فقد حدد الاستعمار هدفه فى ضرورة إقصاء الشريعة الإسلامية واستبدال قوانينه بها" (6). وكأن الأمة أو الشعب هنا مخيرة بين سلطتين، : أما سلطة الاستعمار وتابعية. أو سلطة النص والقائمين عليه. أما الشعب - نفسه بكل طبقاته - ففاقد الأهلية، ولا تحق له السلطة، ولا يحق له تشريع القوانين التى تنظم شئونه وتحمى مصالحه.. حيث يسلم تلك الحقوق للنخبة التى تتولى تفسير وتطبيق النص.
الحركة الإسلامية والاقتصاد:
تنطلق الحركة الإسلامية وأى أصولية دينية فى علاقاتها بالمجتمع من وجهة نظر أخلاقية لا ترى فى المجتمع (أى مجتمع) إلا مجموعة من الأفراد - بعضهم خير وبعضهم شرير، والبعض بين بين - وهى بالتالى تتعامى عما ينقسم إليه أى مجتمع قائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى طبقات متصارعة بحكم اختلاف مصالحها، وبحكم موقفها من الملكية، وهى تفترض وحدة هذه الطبقات ووحدة مصالحها، التى يفهمها الإسلاميون وحدهم.. وهذا الافتراض لا يعنى جهلا بحقيقة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الطبقى، وإنما يعنى انحيازا سافرا أو خفيا لصالح الطبقات السائدة والقاهرة بسبب تملكها أو سيطرتها على وسائل الإنتاج.
ففى المجتمع الرأسمالى ينقسم المجتمع - حسب الملكية - إلى رأسماليين من مصلحتهم تخفيض الأجور وزيادة ساعات العمل ورفع أسعار السلع المنتجة ؛ لزيادة أرباحهم الناتجة عن استغلال العمال، الذين من مصلحتهم رفع الأجور وتخفيض ساعات العمل وتخفيض أسعار السلع المبيعة لهم ؛ وذلك لزيادة نصيبهم فى القيمة المنتجة. ومن هنا يتم صراع بين الاثنين على أساس اختلاف المصالح، ويسعى العمال إما لتحسين شروط الاستغلال داخل نفس المجتمع الرأسمالى بزيادة نصيبهم فى الثروة المنتجة، أو من أجل قلب علاقة الإنتاج الرأسمالية، لإقامة علاقة أخرى تعنى تحررهم من عبودية العمل المأجور.
والجماعات الإسلامية لا تستهدف استبدال علاقات الإنتاجية الرأسمالية بأية علاقات أخرى، وإنما تعمل فى أفضل الأحوال على تحسين نسبى لشروط الاستغلال الرأسمالى، مع استمرار هذا الاستغلال.. وهكذا يقول أحدهم : "وجدير بالذكر أن نشير إلى أن علاج الفقر فى الإسلام لا ينصرف فقط إلى الزكاة، بل يرجع أساسا إلى العمل، ونفقات الموسرين من الأقارب والصدقات المستحبة وغيرها" (7) ، فهذه الدعوى المعسولة بوحدة المصالح. والتعامى عن التناقضات الواقعية، لا تهدف سوى إلى الإبقاء على النظام الاجتماعي القائم، لصالح أصحاب المصلحة فى تخليده، على حساب من فى مصلحتهم قلبه رأسا على عقب.
واستمرارا للتعامى عما يعتمل فى قلب المجتمع من صراعات، يستمر المؤلف قائلا "... فإن الشريعة الإسلامية تأمر بممارسة النشاطات النافعة وتصفها بأنها "حلال" وتنهى عن تلك التى توصف بأنها "حرام" فإن الفكر الاقتصادى الإسلامى ينظم النشاطات الإنسانية فى مجالات الإنتاج والتنمية والتوزيع مسترشدا بقاعدة الحلال والحرام" (8). ومادامت القاعدة الفقهية لا تحرم العمل المأجور فإن تمرد العمال على عبوديتهم المأجورة يكون مخالفا لقواعد الشريعة، يستوجب التكفير والقمع ومادام فائض القيمة حلالا شرعا، فإن رفضه هو تحريم لما أحل الله.
وبهذه الطريقة القانونية المحافظة تتجمد التناقضات الداخلية فى المجتمع الإسلامى، ومن ثم يتوقف عن التطور الذى لا يمكن أن يتم إلا بحسم هذه التناقضات من جذورها.
وإذا كان يتم التعامى عن الصراعات الطبقية داخل الأمة الإسلامية.. فإنه يتم وصف الصراع بين الشعوب الضعيفة والمتخلفة ومنها شعوبنا - وبين القوى الإمبريالية على إنه صراع بين الخير الإسلامى والشر الكافر، وبذلك "شاع استخدام عبارات مثل "الاستكبار" فكما تفهم الصهيونية على أنها مؤامرة يهودية عالمية ضد الإسلام وليست حركة استعمارية استيطانية تلبى مصالح قطاعات من الرأسمالية العالمية، ويفهم الاستعمار الحديث على أنه مؤامرة صليبية موجهة ضد المسلمين، وليس على أنه نابع من نزوع الرأسمال الدائم للتوسع خارج حدوده القومية، من أجل الأسواق للمنتجات، ومصادر المواد الخاموالأيدي العاملة الرخيصة، وفرص الاستثمار الأفضل، من أجل الغاية الوحيدة لأي رأسمال أيا كان دينه وأيا كانت قوميته، ألا وهو: الربح، ولا شئ غير الربح.
وبدلا من هذا الفهم العلمى فإنهم يفهمون الاستعمار على أنه نزوع قوى الشر والكفر الخارجين فى حملتهم الصليبية للسيطرة علينا باعتبارنا نمثل قوى الخير والإيمان.. ويعجز هذا الفهم الصبيانى عن تفسير الحروب بين الدول الاستعمارية العالمية، وعن تفسير محاولة ألمانيا المسيحية السيطرة على أوروبا المسيحية، ولا محاولة اليابان البوذية السيطرة على شرق آسيا البوذى، و هى المحاولات التى أدت للحرب العالمية الثانية.
الحركة الإسلامية وقوانين الإصلاح وقوانين الإفساد :
تنطلق الحركة الإسلامية فى حملتها الدعائية من أن ما أصابنا من تدهور عام هو نتيجة التخلى عن الشريعة الإسلامية، وأن حل أزمة التدهور هو الرجوع لأحكام الشريعة الغراء.. وهى تتلخص فيما يتعلق بالقانون العام فى إقامة سلطة الخلافة الإسلامية التى تتركز فى يدها كل السلطات، والمشروطة بالشورى غير الملزمة من أهل الحل والعقد، ثم تطبيق الحدود العقابية الواردة فى القرآن والسنة وهى "حدود الزنا والسرقة والحرابة والقذف والردة والقصاص وشرب الخمر" وأما مادون ذلك من جرائم فللحاكم التعزير، الذى هو إعطاء الحرية للحاكم فى توقيع ما يرى من عقوبات.. وفيما يتعلق بالقانون الخاص فإنه لن تحدث تغيرات ضخمة، إذ سوف تلغى الفوائد على القروض والديون.. وسوف توجه سياسة الحكم بما يتفق والقواعد السلوكية الإسلامية المرتبطة أساسا بالاحتشام ومنع الخمور والمخدرات والاختلاط بين الجنسين.
إن منهج الجماعات الإسلامية يفترض أن تمسك الناس بالأخلاق القويمة سيخلق مجتمعا سعيدا، بدون تغيير جذرى لظروفهم الواقعية، وهذا هو المحال نفسه، ولو حتى افترضنا حدوثه على سبيل الجدل، فأى أخلاق هى التى نريد للناس أن يتمسكوا بها.. هل هى الأخلاق التى تسمح لبعض الناس أن يتمتعوا بالحياة على حساب غيرهم، والذين لا يكدحون سوى لكى يستمتع هؤلاء ؟! هل نستطيع أن ندعى أن كلا الطرفين يتمسكان بنفس الأخلاق والقيم ؟! وهل نستطيع الادعاء بأن مثل هذا المجتمع قائم على أخلاق راقية ؟! فأى أخلاق نريد : أخلاق الطمع والجشع والبخل والسرقة وخيانة الأمانة التى تفرزها الملكية الخاصة، أم أخلاق الجبن والنفاق والخنوع والسلبية والكذب التى يفرزها القهر ؟!
لابد أن نتساءل : هل أزمة مجتمعنا هى أزمة أخلاق كى نواجهها بالقوانين والوعظ الأخلاقى والتربية الدينية، أم أن ما نلاحظه جميعا من مظاهر عفنة هى أخلاق مجتمع مأزوم، هى مظاهر طبيعية لبنية اجتماعية مختلة، وهى لا تظهر فحسب عند النخبة الحاكمة، بل إنها مستفحلة إلى حد مخيف بين شتى النخب، وشتى التيارات، وشتى شرائح المجتمع، رغم الضجيج الذى لا ينقطع للوعظ والإرشاد، ورغم السيل الجارف للدعوة الإسلامية وغير الإسلامية، والتى لا تؤثر فى العمليات الواقعية التى تجرى داخل المجتمع المريض، بل إنها تطول من يتولون هذا الوعظ وتلك الدعوة، ليس لشر فيهم أو نفاق، وإنما لأنهم أعجز من أن يتحرروا من الواقع الذى هم فيه يعيشون ؟!
ومن هنا يتضح لنا منهجان أساسيان :
الأول : يفترض أن الناس أطفال فطروا على الشر، يجب أن نعظهم، فإن لم يستجيبوا للوعظ، فيبقى علينا أن نردعهم بالقوانين الإلهية وغير الإلهية الصارمة، والجاهزة سلفا. وهو منهج يفترض أيضا أن البشر مجرد أفراد مستقلين تماما عن وجودهم الاجتماعى، عن علاقاتهم الاجتماعية الواقعية، وبالتالى فهم أحرار فى قبول الوعظ أو رفضه، وفى طاعة القوانين أو عصيانها، وهو يفترض - أخيرا - أن القوانين أيضا لها استقلالها عن الوجود الاجتماعى والعمليات التى تشكل جوهره، وأنها أيضا تسبق هذا الوجود وتخلقه، وتنظم علاقاته، فى حين أن القانون هو تحويل وتقنين العلاقات الواقعية إلى نصوص تشريعية منظمة.. هذا هو منطق الحركة الإسلامية.
والثانى : يفترض أن البشر ليسوا بأطفال فطروا على خير أو شر، وإنما هم أبناء ظروفهم الاجتماعية، فهى التى تربيهم وتردعهم وتعظهم، وتخلقهم صالحين للتكيف معها، ومن لا يستطيع التكيف فإن مصيره هو الانقراض والانسحاق والكبت، تحت عجلة الواقع الذى لا يرحم.. حتى مضمون الوعظ ونصوص القانون تخلقها الظروف الاجتماعية، فهما ثمرتان لها، وليستا بأى حال جذورا لها.
فالقانون لا يعنى شيئا إذا كان للبعض القدرة على النفاذ من ثغراته، والاستفادة من إمكانياته، بما لهم من نفوذ ينبع من قدراتهم الاقتصادية والاجتماعية.. فالقانون يمنح كل المواطنين الحق فى التقاضى، إلا أن من يملك المال هو وحده القادر على شراء أكفأ المحامين ليمثلوه أمام القضاء، والقانون يمنح الجميع حق الترشيح للمناصب العامة، إلا أن هذا الحق لا يمارسه إلا من يستطيع تمويل حملته الانتخابية... وهكذا.
والقانون لا يعنى شيئا مادام لا يستند إلى لقواعد العدالة، فحينئذ لن يستحق الاحترام الواجب، مثل قانون يمنح البعض الحق فى الدعوة لآرائهم ومعتقداتهم، ويجرم بل ويعاقب أصحاب الآراء والمعتقدات المخالفة، ومثل أى قوانين تميز بين البشر بسبب معتقداتهم وآرائهم، فمثل هذه القوانين لا تستحق الاحترام، لفقدانها شرط العدالة الحقيقية.
ومهما قست القوانين وتميزت الجهات التى تراقب احترامها بالصرامة والدقة مع وجود أبالسة الواقع الحقيقيين (الملكية الخاصة والقهر) فلن يرتدع البشر، وستظل دائما لديهم القدرة على التمرد والتحايل والتملص : فقد كانت كل الشرائع القديمة ما قبل العصر الحديث تتميز بعقوبات غاية فى القسوة - مثل : الصلب، السحل، الخوذقة، التوسيط، قطع الطراف، الجلد، الحرق- وبالرغم من ذلك لم تختف الجريمة، طالما ظلت البنية الاجتماعية تهيئ الظروف للجريمة.
ومن يظنون أن تطبيق الشريعة الإسلامية كفيل بوجود مجتمع بلا جريمة، وبلا شرور، لا شك حالمون، فقد استمر تطبيق الشريعة الإسلامية فى الشقين الجنائى والمدنى حتى أواسط القرن الماضى فى مصر، ولكن كتب التاريخ تكشف أنه ما اختفت يوما ما الجريمة والشر والخطايا فى المجتمع المصرى فى أى عصر من العصور.
وبالرغم من تطبيق الشريعة الإسلامية، لم تخفت ثورات العبيد والفلاحين وفقراء المدن المطالبة بالعدل الاجتماعى، بالرغم من جباية الزكاة وتوزيعها على الفقراء، وبرغم فك الرقبة الذى تحض عليهم الشريعة، إلا أن أسواق النخاسة لم تغلق إلا فى النصف الثانى من القرن الماضى بفضل التحديث الرأسمالى الآتى من الغرب.
وفى السعودية نفسها - النموذج المحتذى من قبل الحركة الإسلامية - تطبق الشريعة الإسلامية، وبالرغم من الحجاب الشديد، إلا أنه تحدث بها أشد درجات الانحلال والشذوذ، مما لا يوجد فى العواصم الغربية الكبرى نفسها.
إلا أنها تتم فى السعودية سرا وبعيدا عن العيون، ولم يردع رجم الزناة ولا جلدهم أحدا فبرغم الشريعة يذكر المصريون بكل الأسى قصة الطبيب المصرى الذى عوقب بالجلد كحد لجريمة القذف عندما تصدى بالشكوى من ناظر المدرسة السعودى، الذى اعتدى جنسيا على ابنه الذى لم يتجاوز السابعة من عمره، وهكذا لم يأت تطبيق الشريعة بالعدل للطبيب وابنه، وإن كان أضاف إلى الظلم الذى وقع عليهما ظلما آخر ؛ ذلك لأن من طبق الشريعة هو إنسان نسبى له أهواؤه وفهمه المحدود، وهو أمر ممكن أن يحدث من أى قاض أيا كان القانون الذى يطبقه، ومن ثم لا أهمية للقانون فى حد ذاته، وإنما البنية الاجتماعية نفسها التى يجد فيها الإنسان نفسه.
يرى البعض أنهم بقانون ما يستطيعون خلق مجتمع أخلاقى، وهذا وهم كبير إذ أنهم يضعون العربة أمام الحصان ؛ فالمجتمع أو بالأدق"البنية الاجتماعية الاقتصادية" هى التى تحدد القانون الذى يحكم المجتمع، ومن ثم فالقانون متغير طالما أن هذه البنية متغيرة هى أيضا والقانون شئ مختلف عن الأخلاق، والتى هى أيضا تتميز بالتغير وقد يقنن القانون أوضاعا تتنافى مع الأخلاق والضمير الإنسانى الراقى.
والقانون فى النهاية - مهما كان عادلا وحازما ودقيقا - محكوم بالنظام الاجتماعى الاقتصادى الذى يفرزه، ليعبر عن مصلحة الطبقة السائدة، تلك الطبقة المالكة والحاكمة تستطيع وهى تطبقه أن تطوعه لمصالحها، إذا تعارض مع هذه المصالح، وقصص الخليفة هارون الرشيد وقاضى القضاة فى عصره أبى يوسف مما تتندر بها كتب التاريخ مثال صارخ على ذلك، من هذه القصص - على سبيل المثال - أن هارون رغب فى معاشرة جارية كانت لأبيه الذى سبق أن دخل بها، وهو الأمر المحرم دينيا حتى لو آلت إليه بالميراث، إلا أن القاضى أبا يوسف تلميذ الإمام أبى حنيفة أفتى له بجواز الدخول عليها مستخرجا هذا من نصوص من القرآن والسنة(9)، فالطبقات الأقوى اجتماعيا تستطيع ان تستخدم أى قانون وسيلة لتحقيق مآربها وبالتالى سيصبح قانونا فضفاضا ضعيفا ظالما.
والقانون لا يمكن أن يكون عادلا إلا من وجهة نظر الطبقة التى يحمى مصالحها، فقانون يقر بالعبودية هو عادل من وجهة نظر ملاك العبيد، وظالم من وجهة نظر العبيد، ولن يوجد هذا القانون الذى يرضى كلا من السادة والعبيد، إلا إذا انتزعنا من العبيد حاجاتهم الإنسانية للحرية والكرامة.
ومن هنا فإننا لا يمكن أن نتحدث عن قوانين مجردة ومطلقة، فوق الطبقات، وفوق ما تمارسه من علاقات اجتماعية، كما لا يمكننا الحديث عن أخلاق مجردة ومطلقة، مستقلة عن الوجود الاجتماعى الذى يفرزها.
مفارقة :
تقوم المجتمعات الإقطاعية بشكل عام سواء فى شكلها الأوروبي أو الأسيوي - على انقسام المجتمع إلى طبقة حاكمة وسائدة من النبلاء، الذين لا تعرف لهم من مهنة سوى الحرب، فهى سبب وجودهم ومبرره، والمتحالفين مع رجال الدين، الذين يبررون خضوع المحكومين لهم، وتصبح أحد أهم مهامهم ضمان هذا الخضوع، وكلتا الطبقتين تعلوان طبقات المنتجين من فلاحين وحرفيين ورعاة، هم صانعو الثروة المادية لهذا المجتمع، إلا أنهم خاضعين بالرغم من ذلك لأوضاع العبودية الكاملة أو شبه العبودية أو التبعية التامة للطبقة الحاكمة، والمنفصلة تماما عمن تحكمهم.
وتتلخص علاقة الإنتاج فى هذه المجتمعات فى انتزاع الطبقة الحاكمة للفائض الاجتماعى من المنتجين فى شكل ريع عينى ونقدى، أو خراج، أو جزية، وفى شكل واجبات وخدمات يؤديها المنتجون للسادة فى شكل السخرة.. وكل هذا فى مقابل أن توفر لهم الطبقة الحاكمة "فرديا أو جماعيا" بما تملكه من قوة عسكرية الحماية من النبلاء الآخرين.. تلك الحماية المفروضة بالغزو والحرب، بين أقسام الطبقة أو منافسيها الأجانب على السلطة، تلك الحروب بكل ما تعنيه من قتل ونهب وخراب واغتصاب واسترقاق للمهزوم.. هى مصدر سلطة هؤلاء ومبرر تميزهم.. والطريف أن هؤلاء (البلطجية) النبلاء - على تنويعاتهم - شكلوا كل الأرستقراطيات والسلالات الحاكمة، المقدسة وغير المقدسة، طوال التاريخ البشرى المكتوب ما قبل انتصار الرأسمالية النهائى فى العصر الحديث، والذين ظلوا يتيهون فخرا واستعلاء بهذا الوضع المشروع قانونا، والمقبول أخلاقيا، لمجرد أن هذا الوضع فرضته الضرورة الاجتماعية فى تلك العصور.. حتى انقلبت أوضاعهم بفقدانهم ضرورتهم الاجتماعية، فنزعت شرعيتهم قوانين أخرى، وأصبحوا فى موضع الازدراء الاجتماعى.
وبمقارنة هؤلاء مع "البلطجية" من غير النبلاء، والخارجين عن القانون، والذين يمارسون نفس الفعل المادى، أى فرض الحماية على منتجى الثروة، بما يملكونه من أسلحة وقوة جسمانية، مقابل إتاوات وخدمات.. فإننا لن نجد فرقا واقعيا، برغم الفرق الشاسع فى الوضع الاجتماعى بين النبلاء وغير النبلاء من "البلطجية"، من حيث إن الآخرين مؤثمون قانونا، ومستهجنون أخلاقيا، حيث أن وضعهم غير مقبول من السلطة الاجتماعية، التى يشكل هؤلاء تهديدا لمبرر وجودها ذاته.
وهكذا نجد أن القانون يضع قسما من نفس النوعية من المجرمين حسنى الحظ لكونهم المنتصرين فحسب فى حرب الصراع على السلطة، فى أعلى السلم الاجتماعى، فى حين يضع القسم الثانى من نفس النوعية سيئة الحظ فى أسفل السلم الاجتماعى واضعا على رقابهم سيف القسم الأول، الذى يستمتع وحده بأسمى آيات التقدير والتمجيد، فى حين تلحق بالآخر لعنات التحقير والتنكيل.
وهكذا نعرف أن كلا من القانون والأخلاق فى الواقع الاجتماعى لا يخضعان ولا يعبران عن المثل العليا الإنسانية المجردة، التى لم يعرفها التاريخ البشرى المكتوب، إلا على صفحات الكتب، وفى عقول الحالمين بعالم الحق والخير والجمال، وإنما يعبران ويخضعان للضرورة الاجتماعية.
الليبرالية المحافظة
بدء التطور الرأسمالى فى مصر مبكرا بالنسبة للكثير من شعوب العالم الثالث،كما بدء التحول من نظام الاستبداد الشرقى إلى نظام أكثر حداثة يقترب من الديمقراطية البورجوازية فى أوربا،وذلك على نحو مبكرا جدا بالنسبة للعديد من الشعوب الأوربية نفسها،إلا أن الديمقراطية فى مصر كانت لا تعبر عن نمو رأسمالى طبيعى ولا عن بورجوازية قوية قادرة على قيادة التحولات الاجتماعية ،مما أعطى ليبراليتها طابعالمحافظة ،فالقوى الليبرالية فى مصر وعبر التاريخ الحديث هى من الضعف بحيث افتقدت تعبيرها السياسى الكامل والمستقل عن الحركات السياسية الأخرى ذات الطابع القومى.فها هو حزب الأحرار الدستوريين سليل حزب الأمة الليبرالى يرى فى الديمقراطية المطلوبة ديمقراطية نخب كبار الملاك والأعيان
"ومن بين القضايا الرئيسية التى أثارها الأحرار الدستوريين فى تلك الانتخابات عام 1924أن تحكم البلاد بقادتها لا بغوغائها"(10).
"أما أحمد لطفى السيد فيلسوف حزب الأمة وداعية الليبرالية الأكبر فقد قبل الاشتراك فى وزارة محمد محمود باشا عام 1928 التى عطلت الدستور لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد وظل حزب الأحرار الدستوريين يشارك فى جميع الانقلابات الدستورية فى مصر حتى قيام ثورة يوليو 1952"(11).حتى حزب الوفد الذى ولد فى أتون ثورة شعبية وبرغم ليبراليته لم يسلم من المحافظة حيث "حاول بعض النواب الوفديين إلغاء القوانين المقيدة لحرية تنظيم الاجتماعات ورفع القيود على حرية الاجتماع ولكن سعد زغلول وقف ضد هذا الاتجاه لما قرره فيه من تطرف لا تسمح به الموازين السياسية القائمة"(12).
المصادر
(1) الشيخ صلاح أبو إسماعيل-الشهادة-مصدر سابق-ص98.
(2) يرفند إبراهيمان وآخرون: "إيران 1900 - 1980" مصدر سابق، صـ50.
(3)المصدر نفسه، صـ 225.
(4)شريف يونس : "سيد قطب"مصدر سابق صـ507.
(5)د.محى الدين عبدا لحليم- الرأى العام فى الإسلام-مكتبة الخانجى-القاهرة-ط1982-ص.
(6)د.محمد مورو-طارق البشرى-مصدر سابق-ص20.
(7) د. عبد الهادى النجار "الإسلام والاقتصاد" مصدر سابق صـ183.
(8) المصدر نفسه، صـ68.
(9)د.إمام عبد الفتاح إمام-الطاغية-سلسلة عالم المعرفة-الكويت-مارس1994-العدد183-ص 222و ما بعدها.
(10) ماريوس كامل ديب-السياسة الحزبية فى مصر-الوفد وخصومه1919-1939-الطبعة العربية الأولى1987-مؤسسة الأبحاث العربية-بيروت لبنان-دار البيان للنشر والتوزيع-القاهرة –مصر-ص131.
(11) محمد السعيد إدريس-حزب الوفد والطبقة العاملة-مصدر سابق-ص99.
(12) المصدر نفسه-ص102.
تستند العقلية المحافظة - وهى أساس الحركة الإسلامية - على ما يعرف بالعقلية النقلية التى تضفى صفات القداسة، ومن ثم الثبات، على مجموعات محددة من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية الموروثة، وكذلك - وهو الأهم - فإن ما تراه لإصلاح المجتمع (أى مجتمع) هو الانطلاق من سلطويتها، من خلال العودة لمدونة قوانين محددة تم تجاوزها، أو فرض مجموعة أخرى من القوانين تحافظ على ما تراه صحيحا من العادات والتقاليد والأعراف والقيم.. ولذلك فإنه ليس من الصحيح وصف بعض أو كل تيارات الحركة الإسلامية بالثورية.. فالثورية مفهوم إيجابي يعنى السعى لتغيير جذرى للمجتمع، نحو درجة أعلى من التقدم الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى والعلمى والفكرى، وهى تعنى ضمنيا تحدى الشرعية التى تستند عليها القوانين وبنية المجتمع كلها، وهى تعنى محاولة تغيير القوانين المعيقة للتقدم، وترسيخ قوانين أخرى أكثر تقدما.. بمعنى كفالتها لدرجة أعلى من الحرية والديمقراطية والكفاءة الاقتصادية والعقلانية والعدالة الاجتماعية والمساواة.. وهو الأمر الذى لا يتوافر فى أى من جماعات الإسلام السياسى.
فالمحافظة هى امتداد للنظرة المثالية السابق مناقشتها، والتى ترى تغيرات المجتمع، كانعكاس لتغيرات القوانين وأشكال الوعى الاجتماعى عموما، وليس العكس كما ترى النظرة المادية، والتى ترى أن التغيرات التى تحدث فى الواقع الاجتماعى تفرض انعكاسا لها فى صورة قوانين وأخلاق وغيرها تعبر عن مصالح معينة ومحددة وعن علاقات اجتماعية بين البشر الذين يكونون بتفاعلهم المجتمع المعنى.
فالعقلية المحافظة تضفى قوة سحرية على القوانين، حيث تزعم أن هذه القوانين فى حد ذاتها قادرة على القضاء على ما يعانيه المجتمع من متاعب، بل ووضعه على طريق الازدهار ؛ ولذا أتعجب من الذين يطالبون الإسلاميين بوضع برنامج سياسى، مع أن برنامجهم الوحيد واضح ومحدد، "فالإسلام هو الحل" يعنى التطبيق الحرفى لمبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية وفق الفقه السنى السائد، ومد هذه المبادئ لتشمل كل مجالات الحياة فى المجتمع الإسلامى بكل ما يترتب على ذلك من آثار.. ولا شان لهم بالمسائل الأخرى، حيث لن يختلفوا عما هو سائد ويتوافق مع متطلبات الحياة المعاصرة.
طابع التغيير الإسلامى :
إن الطابع اللا ثورى يتضح فى كل حركات الإسلام السياسى - حتى أكثرها جذرية وتطرفا - من معرفة ما تبغى هذه الحركات تغييره فى المجتمع، فهى لن تمس علاقات الإنتاج السائدة من قريب أو بعيد، فستظل علاقة الإنتاج الأساسية التى تميز المجتمع الرأسمالى هى انتزاع فائض القيمة من العمال المأجورين الذين لا يملكون سوى قوة عملهم لصالح الرأسماليين ملاك وسائل الإنتاج.. فلا توجد حركة إسلامية تهدف لتغيير هذه العلاقة من جذورها، حتى ولو كانت تسعى بكل الوسائل - بما فيها العنف - لقلب السلطة والنظام، وإرساء سلطتها الاستبدادية الطابع.والغريب أن البعض يقرن بين العنف والثورية مقارنة تلازم، وهى رؤية قاصرة لدور العنف فى التاريخ ،وإلا اعتبرنا أى عنف هو عمل ثورى، حتى ولو كان من أجل المحافظة على الأوضاع القائمة أو العودة لأوضاع متخلفة.هذا بصرف النظر عن الجوانب السلبية لممارسة العنف على العملية الثورية نفسها،وهو ما لا يتسع المجال لمناقشته الآن.
يكتب صلاح أبو إسماعيل"بالنسبة للحدود لا مجال لها فى تشريعنا .وبالنسبة للتعزيز،فقانون العقوبات يصلح أن يكون قانونا للتعزيز إذا أضيفت إليه الحدود ،وبالنسبة للمعاملات المالية إذا ما حذفنا الربويات وإذا عدلنا بعض أحكام التأمين فأننا قد نقترب من الشريعة الإسلامية..وبالنسبة للمرافعات .إذا اشترطنا الأهلية الشرعية فى القاضى ،وكذلك فى الشهود.وإذا استحدثنا نيابة أمن الدين أو نظام الحسبة فوكلناها إلى جهاز خاص.فأن مرافعتنا تكون إسلامية’"(1). وهكذا يتضح جوهر البرنامج الإسلامى الذى لا يعنى تغييرا جذريا فى البنية الاجتماعية كما يتصور البعض الذين يضفون الثورية على الجماعات الإسلامية لموقفها المعارض للدولة ،وإنما هو برنامج تشريعى محدود لن يمس جوهر البنية الاجتماعية.
ما يهم الجماعات الإسلامية من تغييرات فى المجتمع يتم على مستوى سلوكيات الأفراد الأخلاقية، فهكذا يبشر الإسلاميون الإيرانيون بطبيعة المجتمع الذى يسعون إليه، بعد انتصار ثورتهم "فعلى جميع الإيرانيين اليوم أن يخضعوا للقوانين التى تحرم الخمر والمخدرات، وبيع منتجات منع الحمل، والشذوذ الجنسى، وأن يأخذوا بعين الاعتبار النداءات الرسمية التى تطلب من النساء الموظفات أن يرتدين الثياب طبقا للتقاليد الاجتماعية" (2). فهم لا يسعون للمساس بالطبقات السائدة ولا تحرير الطبقات المسودة، وإنما يقتصرون فحسب على إزاحة النخب الحاكمة، وما تحوز عليه من امتيازات، ليحلوا هم محلهم "فالنظام الاقتصادى الذى يصبون إليه لا يرتكز على قوانين السوق والمزاحمة، ولا إلى التخطيط ورقابة الأنشطة الاقتصادية من قبل الدولة - وإنما إلى الأخلاق : أخلاقية فى الدوافع وأخلاقية فى المبادلات" (3). ولما كانوا هم فقط سدنة الأخلاق، وذلك من وجهة نظرهم، فإنهم يطرحون أنفسهم كبديل لكل الأنظمة والنخب الحاكمة، ليس فى البلاد الإسلامية فحسب، بل وفى العالم أجمع.. وكأن العالم لا يعانى فحسب إلا من تلك المظاهر السلوكية التى تؤذى مشاعرهم الدينية، والتى لا تتأذى من المجاعات والحروب وتلوث البيئة وازدياد معدلات الاستغلال والبطالة وإهدار الموارد وتقييد الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان.. كل تلك المظاهر التى تجد جذورها فى الطبيعة الاستغلالية لعلاقات الإنتاج فى طبيعة المجتمع الرأسمالى نفسه.
ولا ينبغى أن يخدعنا هذا الحديث عن أخلاقية الدولة - التى تسعى لإقامتها الجماعات الإسلامية المختلفة - فما هذا سوى تأسيس شرعى للدولة - يخفى حقيقة المصالح التى تعبر هذه الجماعات عنها، فالفرق التى أنقسم إليها المسلمون بدأت أصلا على شكل أحزاب سياسية تتصارع على السلطة والحكم، فالمذاهب الأساسية الثلاثة لم تنقسم حول العقيدة وأنما انقسمت حول من الجدير بحكم المسلمين فنشأت الشيعة والسنة والخوارج، وفى العصر الحديث أصبح الدين هو الأداة الأكثر يسرا التى استغلتها القوى السياسية المختلفة لتبرير شرعيتها ولابتزاز الجماهير.
إن جوهر التغيير الذى تسعى إليه الجماعات الإسلامية هو إرساء سلطة وصاية دائمة على البشر باسم الحاكمية، والتى تعنى - ببساطة - حرمان البشر من تحديد الطرق التى يعيشون بها.. ومؤدى ذلك - ببساطة - بالنسبة للفرد "تجريده من كل قيمه الذاتية عدا ما يكسبه من انتمائه لمجتمع مسلم قائم،أو ينتظر قيامه، بجهد فعال يبذله، أى : تخصيص ذاته بالكامل لعقيدة الحاكمية، وبمعنى آخر : فإن الإنسان بوصفه كذلك - ومن حيث هو صاحب إرادة مستقلة - هو عند سيد قطب" حيوان يجب ترويضه" (4). ومن هنا يتضح لنا الطابع السلطوى الاستبدادى لكل حركات الإسلام السياسى، حتى ولو ادعت الديمقراطية والشورى، فحقوق الفرد فى المجتمع المسلم مرهونة بقبوله الحاكمية، فمصدر السلطة فى المجتمع الإسلامى ليس الجماهير أو الشعب، وإنما هو النص المقدس، والقائمون على تفسيره وتطبيقه.
ويكتب د. محى الدين عبد الحليم"بينما فى الإسلام لا يكون رأى الأغلبية ملزما إلا إذا كان مستندا إلى كتاب الله وسنة رسوله،ويرى الحاكم أو أولى الأمر أنه يتفق مع المصلحة العامة أما إذا كان رأى الأغلبية يتعارض مع الكتاب والسنة أو يتعارض مع المصلحة العامة فأن هذا الرأى ليس ملزما لرئيس الدولة ولا لغيره"(5) وهم بالرغم من ذلك يتحدثون عن الحريات وحقوق الإنسان فى النظام الإسلامى المنسوب للإسلام ،ورأى الأغلبية لا قيمة له إذا تعارض مع القرآن والسنة،فمن هو الذى يحدد إذن إن كان يختلف أم لا،الحكام والفقهاء بالطبع ،فإن اختلفوا فى التفسير لاختلاف الرؤى والمصالح فيما بينهم والأمر كما نرى أمر دين لا دنيا ، فأنهم سيشرعون أسلحة التكفير والعنف فى مواجهة بعضهم ،ويتصارعون مستخدمين حرب النصوص والنصوص المضادة،والتفسيرات المتضاربة،ألم تكن الفرق السياسية عبر التاريخ الإسلامى تضع من الأحاديث النبوية ما يؤكد وجه نظرها وذلك فى حرب دعايتها لاكتساب الجماهير المخدوعة والمغلوبة على أمرها إلى صفها.
ومن هنا فإن د. محمد مورو يكتب "لقد حرص الاستعمار ومدرسته على تغيير الأنماط التشريعية المتعامل بها فى البلاد المستعمرة.. وهكذا فقد حدد الاستعمار هدفه فى ضرورة إقصاء الشريعة الإسلامية واستبدال قوانينه بها" (6). وكأن الأمة أو الشعب هنا مخيرة بين سلطتين، : أما سلطة الاستعمار وتابعية. أو سلطة النص والقائمين عليه. أما الشعب - نفسه بكل طبقاته - ففاقد الأهلية، ولا تحق له السلطة، ولا يحق له تشريع القوانين التى تنظم شئونه وتحمى مصالحه.. حيث يسلم تلك الحقوق للنخبة التى تتولى تفسير وتطبيق النص.
الحركة الإسلامية والاقتصاد:
تنطلق الحركة الإسلامية وأى أصولية دينية فى علاقاتها بالمجتمع من وجهة نظر أخلاقية لا ترى فى المجتمع (أى مجتمع) إلا مجموعة من الأفراد - بعضهم خير وبعضهم شرير، والبعض بين بين - وهى بالتالى تتعامى عما ينقسم إليه أى مجتمع قائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى طبقات متصارعة بحكم اختلاف مصالحها، وبحكم موقفها من الملكية، وهى تفترض وحدة هذه الطبقات ووحدة مصالحها، التى يفهمها الإسلاميون وحدهم.. وهذا الافتراض لا يعنى جهلا بحقيقة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الطبقى، وإنما يعنى انحيازا سافرا أو خفيا لصالح الطبقات السائدة والقاهرة بسبب تملكها أو سيطرتها على وسائل الإنتاج.
ففى المجتمع الرأسمالى ينقسم المجتمع - حسب الملكية - إلى رأسماليين من مصلحتهم تخفيض الأجور وزيادة ساعات العمل ورفع أسعار السلع المنتجة ؛ لزيادة أرباحهم الناتجة عن استغلال العمال، الذين من مصلحتهم رفع الأجور وتخفيض ساعات العمل وتخفيض أسعار السلع المبيعة لهم ؛ وذلك لزيادة نصيبهم فى القيمة المنتجة. ومن هنا يتم صراع بين الاثنين على أساس اختلاف المصالح، ويسعى العمال إما لتحسين شروط الاستغلال داخل نفس المجتمع الرأسمالى بزيادة نصيبهم فى الثروة المنتجة، أو من أجل قلب علاقة الإنتاج الرأسمالية، لإقامة علاقة أخرى تعنى تحررهم من عبودية العمل المأجور.
والجماعات الإسلامية لا تستهدف استبدال علاقات الإنتاجية الرأسمالية بأية علاقات أخرى، وإنما تعمل فى أفضل الأحوال على تحسين نسبى لشروط الاستغلال الرأسمالى، مع استمرار هذا الاستغلال.. وهكذا يقول أحدهم : "وجدير بالذكر أن نشير إلى أن علاج الفقر فى الإسلام لا ينصرف فقط إلى الزكاة، بل يرجع أساسا إلى العمل، ونفقات الموسرين من الأقارب والصدقات المستحبة وغيرها" (7) ، فهذه الدعوى المعسولة بوحدة المصالح. والتعامى عن التناقضات الواقعية، لا تهدف سوى إلى الإبقاء على النظام الاجتماعي القائم، لصالح أصحاب المصلحة فى تخليده، على حساب من فى مصلحتهم قلبه رأسا على عقب.
واستمرارا للتعامى عما يعتمل فى قلب المجتمع من صراعات، يستمر المؤلف قائلا "... فإن الشريعة الإسلامية تأمر بممارسة النشاطات النافعة وتصفها بأنها "حلال" وتنهى عن تلك التى توصف بأنها "حرام" فإن الفكر الاقتصادى الإسلامى ينظم النشاطات الإنسانية فى مجالات الإنتاج والتنمية والتوزيع مسترشدا بقاعدة الحلال والحرام" (8). ومادامت القاعدة الفقهية لا تحرم العمل المأجور فإن تمرد العمال على عبوديتهم المأجورة يكون مخالفا لقواعد الشريعة، يستوجب التكفير والقمع ومادام فائض القيمة حلالا شرعا، فإن رفضه هو تحريم لما أحل الله.
وبهذه الطريقة القانونية المحافظة تتجمد التناقضات الداخلية فى المجتمع الإسلامى، ومن ثم يتوقف عن التطور الذى لا يمكن أن يتم إلا بحسم هذه التناقضات من جذورها.
وإذا كان يتم التعامى عن الصراعات الطبقية داخل الأمة الإسلامية.. فإنه يتم وصف الصراع بين الشعوب الضعيفة والمتخلفة ومنها شعوبنا - وبين القوى الإمبريالية على إنه صراع بين الخير الإسلامى والشر الكافر، وبذلك "شاع استخدام عبارات مثل "الاستكبار" فكما تفهم الصهيونية على أنها مؤامرة يهودية عالمية ضد الإسلام وليست حركة استعمارية استيطانية تلبى مصالح قطاعات من الرأسمالية العالمية، ويفهم الاستعمار الحديث على أنه مؤامرة صليبية موجهة ضد المسلمين، وليس على أنه نابع من نزوع الرأسمال الدائم للتوسع خارج حدوده القومية، من أجل الأسواق للمنتجات، ومصادر المواد الخاموالأيدي العاملة الرخيصة، وفرص الاستثمار الأفضل، من أجل الغاية الوحيدة لأي رأسمال أيا كان دينه وأيا كانت قوميته، ألا وهو: الربح، ولا شئ غير الربح.
وبدلا من هذا الفهم العلمى فإنهم يفهمون الاستعمار على أنه نزوع قوى الشر والكفر الخارجين فى حملتهم الصليبية للسيطرة علينا باعتبارنا نمثل قوى الخير والإيمان.. ويعجز هذا الفهم الصبيانى عن تفسير الحروب بين الدول الاستعمارية العالمية، وعن تفسير محاولة ألمانيا المسيحية السيطرة على أوروبا المسيحية، ولا محاولة اليابان البوذية السيطرة على شرق آسيا البوذى، و هى المحاولات التى أدت للحرب العالمية الثانية.
الحركة الإسلامية وقوانين الإصلاح وقوانين الإفساد :
تنطلق الحركة الإسلامية فى حملتها الدعائية من أن ما أصابنا من تدهور عام هو نتيجة التخلى عن الشريعة الإسلامية، وأن حل أزمة التدهور هو الرجوع لأحكام الشريعة الغراء.. وهى تتلخص فيما يتعلق بالقانون العام فى إقامة سلطة الخلافة الإسلامية التى تتركز فى يدها كل السلطات، والمشروطة بالشورى غير الملزمة من أهل الحل والعقد، ثم تطبيق الحدود العقابية الواردة فى القرآن والسنة وهى "حدود الزنا والسرقة والحرابة والقذف والردة والقصاص وشرب الخمر" وأما مادون ذلك من جرائم فللحاكم التعزير، الذى هو إعطاء الحرية للحاكم فى توقيع ما يرى من عقوبات.. وفيما يتعلق بالقانون الخاص فإنه لن تحدث تغيرات ضخمة، إذ سوف تلغى الفوائد على القروض والديون.. وسوف توجه سياسة الحكم بما يتفق والقواعد السلوكية الإسلامية المرتبطة أساسا بالاحتشام ومنع الخمور والمخدرات والاختلاط بين الجنسين.
إن منهج الجماعات الإسلامية يفترض أن تمسك الناس بالأخلاق القويمة سيخلق مجتمعا سعيدا، بدون تغيير جذرى لظروفهم الواقعية، وهذا هو المحال نفسه، ولو حتى افترضنا حدوثه على سبيل الجدل، فأى أخلاق هى التى نريد للناس أن يتمسكوا بها.. هل هى الأخلاق التى تسمح لبعض الناس أن يتمتعوا بالحياة على حساب غيرهم، والذين لا يكدحون سوى لكى يستمتع هؤلاء ؟! هل نستطيع أن ندعى أن كلا الطرفين يتمسكان بنفس الأخلاق والقيم ؟! وهل نستطيع الادعاء بأن مثل هذا المجتمع قائم على أخلاق راقية ؟! فأى أخلاق نريد : أخلاق الطمع والجشع والبخل والسرقة وخيانة الأمانة التى تفرزها الملكية الخاصة، أم أخلاق الجبن والنفاق والخنوع والسلبية والكذب التى يفرزها القهر ؟!
لابد أن نتساءل : هل أزمة مجتمعنا هى أزمة أخلاق كى نواجهها بالقوانين والوعظ الأخلاقى والتربية الدينية، أم أن ما نلاحظه جميعا من مظاهر عفنة هى أخلاق مجتمع مأزوم، هى مظاهر طبيعية لبنية اجتماعية مختلة، وهى لا تظهر فحسب عند النخبة الحاكمة، بل إنها مستفحلة إلى حد مخيف بين شتى النخب، وشتى التيارات، وشتى شرائح المجتمع، رغم الضجيج الذى لا ينقطع للوعظ والإرشاد، ورغم السيل الجارف للدعوة الإسلامية وغير الإسلامية، والتى لا تؤثر فى العمليات الواقعية التى تجرى داخل المجتمع المريض، بل إنها تطول من يتولون هذا الوعظ وتلك الدعوة، ليس لشر فيهم أو نفاق، وإنما لأنهم أعجز من أن يتحرروا من الواقع الذى هم فيه يعيشون ؟!
ومن هنا يتضح لنا منهجان أساسيان :
الأول : يفترض أن الناس أطفال فطروا على الشر، يجب أن نعظهم، فإن لم يستجيبوا للوعظ، فيبقى علينا أن نردعهم بالقوانين الإلهية وغير الإلهية الصارمة، والجاهزة سلفا. وهو منهج يفترض أيضا أن البشر مجرد أفراد مستقلين تماما عن وجودهم الاجتماعى، عن علاقاتهم الاجتماعية الواقعية، وبالتالى فهم أحرار فى قبول الوعظ أو رفضه، وفى طاعة القوانين أو عصيانها، وهو يفترض - أخيرا - أن القوانين أيضا لها استقلالها عن الوجود الاجتماعى والعمليات التى تشكل جوهره، وأنها أيضا تسبق هذا الوجود وتخلقه، وتنظم علاقاته، فى حين أن القانون هو تحويل وتقنين العلاقات الواقعية إلى نصوص تشريعية منظمة.. هذا هو منطق الحركة الإسلامية.
والثانى : يفترض أن البشر ليسوا بأطفال فطروا على خير أو شر، وإنما هم أبناء ظروفهم الاجتماعية، فهى التى تربيهم وتردعهم وتعظهم، وتخلقهم صالحين للتكيف معها، ومن لا يستطيع التكيف فإن مصيره هو الانقراض والانسحاق والكبت، تحت عجلة الواقع الذى لا يرحم.. حتى مضمون الوعظ ونصوص القانون تخلقها الظروف الاجتماعية، فهما ثمرتان لها، وليستا بأى حال جذورا لها.
فالقانون لا يعنى شيئا إذا كان للبعض القدرة على النفاذ من ثغراته، والاستفادة من إمكانياته، بما لهم من نفوذ ينبع من قدراتهم الاقتصادية والاجتماعية.. فالقانون يمنح كل المواطنين الحق فى التقاضى، إلا أن من يملك المال هو وحده القادر على شراء أكفأ المحامين ليمثلوه أمام القضاء، والقانون يمنح الجميع حق الترشيح للمناصب العامة، إلا أن هذا الحق لا يمارسه إلا من يستطيع تمويل حملته الانتخابية... وهكذا.
والقانون لا يعنى شيئا مادام لا يستند إلى لقواعد العدالة، فحينئذ لن يستحق الاحترام الواجب، مثل قانون يمنح البعض الحق فى الدعوة لآرائهم ومعتقداتهم، ويجرم بل ويعاقب أصحاب الآراء والمعتقدات المخالفة، ومثل أى قوانين تميز بين البشر بسبب معتقداتهم وآرائهم، فمثل هذه القوانين لا تستحق الاحترام، لفقدانها شرط العدالة الحقيقية.
ومهما قست القوانين وتميزت الجهات التى تراقب احترامها بالصرامة والدقة مع وجود أبالسة الواقع الحقيقيين (الملكية الخاصة والقهر) فلن يرتدع البشر، وستظل دائما لديهم القدرة على التمرد والتحايل والتملص : فقد كانت كل الشرائع القديمة ما قبل العصر الحديث تتميز بعقوبات غاية فى القسوة - مثل : الصلب، السحل، الخوذقة، التوسيط، قطع الطراف، الجلد، الحرق- وبالرغم من ذلك لم تختف الجريمة، طالما ظلت البنية الاجتماعية تهيئ الظروف للجريمة.
ومن يظنون أن تطبيق الشريعة الإسلامية كفيل بوجود مجتمع بلا جريمة، وبلا شرور، لا شك حالمون، فقد استمر تطبيق الشريعة الإسلامية فى الشقين الجنائى والمدنى حتى أواسط القرن الماضى فى مصر، ولكن كتب التاريخ تكشف أنه ما اختفت يوما ما الجريمة والشر والخطايا فى المجتمع المصرى فى أى عصر من العصور.
وبالرغم من تطبيق الشريعة الإسلامية، لم تخفت ثورات العبيد والفلاحين وفقراء المدن المطالبة بالعدل الاجتماعى، بالرغم من جباية الزكاة وتوزيعها على الفقراء، وبرغم فك الرقبة الذى تحض عليهم الشريعة، إلا أن أسواق النخاسة لم تغلق إلا فى النصف الثانى من القرن الماضى بفضل التحديث الرأسمالى الآتى من الغرب.
وفى السعودية نفسها - النموذج المحتذى من قبل الحركة الإسلامية - تطبق الشريعة الإسلامية، وبالرغم من الحجاب الشديد، إلا أنه تحدث بها أشد درجات الانحلال والشذوذ، مما لا يوجد فى العواصم الغربية الكبرى نفسها.
إلا أنها تتم فى السعودية سرا وبعيدا عن العيون، ولم يردع رجم الزناة ولا جلدهم أحدا فبرغم الشريعة يذكر المصريون بكل الأسى قصة الطبيب المصرى الذى عوقب بالجلد كحد لجريمة القذف عندما تصدى بالشكوى من ناظر المدرسة السعودى، الذى اعتدى جنسيا على ابنه الذى لم يتجاوز السابعة من عمره، وهكذا لم يأت تطبيق الشريعة بالعدل للطبيب وابنه، وإن كان أضاف إلى الظلم الذى وقع عليهما ظلما آخر ؛ ذلك لأن من طبق الشريعة هو إنسان نسبى له أهواؤه وفهمه المحدود، وهو أمر ممكن أن يحدث من أى قاض أيا كان القانون الذى يطبقه، ومن ثم لا أهمية للقانون فى حد ذاته، وإنما البنية الاجتماعية نفسها التى يجد فيها الإنسان نفسه.
يرى البعض أنهم بقانون ما يستطيعون خلق مجتمع أخلاقى، وهذا وهم كبير إذ أنهم يضعون العربة أمام الحصان ؛ فالمجتمع أو بالأدق"البنية الاجتماعية الاقتصادية" هى التى تحدد القانون الذى يحكم المجتمع، ومن ثم فالقانون متغير طالما أن هذه البنية متغيرة هى أيضا والقانون شئ مختلف عن الأخلاق، والتى هى أيضا تتميز بالتغير وقد يقنن القانون أوضاعا تتنافى مع الأخلاق والضمير الإنسانى الراقى.
والقانون فى النهاية - مهما كان عادلا وحازما ودقيقا - محكوم بالنظام الاجتماعى الاقتصادى الذى يفرزه، ليعبر عن مصلحة الطبقة السائدة، تلك الطبقة المالكة والحاكمة تستطيع وهى تطبقه أن تطوعه لمصالحها، إذا تعارض مع هذه المصالح، وقصص الخليفة هارون الرشيد وقاضى القضاة فى عصره أبى يوسف مما تتندر بها كتب التاريخ مثال صارخ على ذلك، من هذه القصص - على سبيل المثال - أن هارون رغب فى معاشرة جارية كانت لأبيه الذى سبق أن دخل بها، وهو الأمر المحرم دينيا حتى لو آلت إليه بالميراث، إلا أن القاضى أبا يوسف تلميذ الإمام أبى حنيفة أفتى له بجواز الدخول عليها مستخرجا هذا من نصوص من القرآن والسنة(9)، فالطبقات الأقوى اجتماعيا تستطيع ان تستخدم أى قانون وسيلة لتحقيق مآربها وبالتالى سيصبح قانونا فضفاضا ضعيفا ظالما.
والقانون لا يمكن أن يكون عادلا إلا من وجهة نظر الطبقة التى يحمى مصالحها، فقانون يقر بالعبودية هو عادل من وجهة نظر ملاك العبيد، وظالم من وجهة نظر العبيد، ولن يوجد هذا القانون الذى يرضى كلا من السادة والعبيد، إلا إذا انتزعنا من العبيد حاجاتهم الإنسانية للحرية والكرامة.
ومن هنا فإننا لا يمكن أن نتحدث عن قوانين مجردة ومطلقة، فوق الطبقات، وفوق ما تمارسه من علاقات اجتماعية، كما لا يمكننا الحديث عن أخلاق مجردة ومطلقة، مستقلة عن الوجود الاجتماعى الذى يفرزها.
مفارقة :
تقوم المجتمعات الإقطاعية بشكل عام سواء فى شكلها الأوروبي أو الأسيوي - على انقسام المجتمع إلى طبقة حاكمة وسائدة من النبلاء، الذين لا تعرف لهم من مهنة سوى الحرب، فهى سبب وجودهم ومبرره، والمتحالفين مع رجال الدين، الذين يبررون خضوع المحكومين لهم، وتصبح أحد أهم مهامهم ضمان هذا الخضوع، وكلتا الطبقتين تعلوان طبقات المنتجين من فلاحين وحرفيين ورعاة، هم صانعو الثروة المادية لهذا المجتمع، إلا أنهم خاضعين بالرغم من ذلك لأوضاع العبودية الكاملة أو شبه العبودية أو التبعية التامة للطبقة الحاكمة، والمنفصلة تماما عمن تحكمهم.
وتتلخص علاقة الإنتاج فى هذه المجتمعات فى انتزاع الطبقة الحاكمة للفائض الاجتماعى من المنتجين فى شكل ريع عينى ونقدى، أو خراج، أو جزية، وفى شكل واجبات وخدمات يؤديها المنتجون للسادة فى شكل السخرة.. وكل هذا فى مقابل أن توفر لهم الطبقة الحاكمة "فرديا أو جماعيا" بما تملكه من قوة عسكرية الحماية من النبلاء الآخرين.. تلك الحماية المفروضة بالغزو والحرب، بين أقسام الطبقة أو منافسيها الأجانب على السلطة، تلك الحروب بكل ما تعنيه من قتل ونهب وخراب واغتصاب واسترقاق للمهزوم.. هى مصدر سلطة هؤلاء ومبرر تميزهم.. والطريف أن هؤلاء (البلطجية) النبلاء - على تنويعاتهم - شكلوا كل الأرستقراطيات والسلالات الحاكمة، المقدسة وغير المقدسة، طوال التاريخ البشرى المكتوب ما قبل انتصار الرأسمالية النهائى فى العصر الحديث، والذين ظلوا يتيهون فخرا واستعلاء بهذا الوضع المشروع قانونا، والمقبول أخلاقيا، لمجرد أن هذا الوضع فرضته الضرورة الاجتماعية فى تلك العصور.. حتى انقلبت أوضاعهم بفقدانهم ضرورتهم الاجتماعية، فنزعت شرعيتهم قوانين أخرى، وأصبحوا فى موضع الازدراء الاجتماعى.
وبمقارنة هؤلاء مع "البلطجية" من غير النبلاء، والخارجين عن القانون، والذين يمارسون نفس الفعل المادى، أى فرض الحماية على منتجى الثروة، بما يملكونه من أسلحة وقوة جسمانية، مقابل إتاوات وخدمات.. فإننا لن نجد فرقا واقعيا، برغم الفرق الشاسع فى الوضع الاجتماعى بين النبلاء وغير النبلاء من "البلطجية"، من حيث إن الآخرين مؤثمون قانونا، ومستهجنون أخلاقيا، حيث أن وضعهم غير مقبول من السلطة الاجتماعية، التى يشكل هؤلاء تهديدا لمبرر وجودها ذاته.
وهكذا نجد أن القانون يضع قسما من نفس النوعية من المجرمين حسنى الحظ لكونهم المنتصرين فحسب فى حرب الصراع على السلطة، فى أعلى السلم الاجتماعى، فى حين يضع القسم الثانى من نفس النوعية سيئة الحظ فى أسفل السلم الاجتماعى واضعا على رقابهم سيف القسم الأول، الذى يستمتع وحده بأسمى آيات التقدير والتمجيد، فى حين تلحق بالآخر لعنات التحقير والتنكيل.
وهكذا نعرف أن كلا من القانون والأخلاق فى الواقع الاجتماعى لا يخضعان ولا يعبران عن المثل العليا الإنسانية المجردة، التى لم يعرفها التاريخ البشرى المكتوب، إلا على صفحات الكتب، وفى عقول الحالمين بعالم الحق والخير والجمال، وإنما يعبران ويخضعان للضرورة الاجتماعية.
الليبرالية المحافظة
بدء التطور الرأسمالى فى مصر مبكرا بالنسبة للكثير من شعوب العالم الثالث،كما بدء التحول من نظام الاستبداد الشرقى إلى نظام أكثر حداثة يقترب من الديمقراطية البورجوازية فى أوربا،وذلك على نحو مبكرا جدا بالنسبة للعديد من الشعوب الأوربية نفسها،إلا أن الديمقراطية فى مصر كانت لا تعبر عن نمو رأسمالى طبيعى ولا عن بورجوازية قوية قادرة على قيادة التحولات الاجتماعية ،مما أعطى ليبراليتها طابعالمحافظة ،فالقوى الليبرالية فى مصر وعبر التاريخ الحديث هى من الضعف بحيث افتقدت تعبيرها السياسى الكامل والمستقل عن الحركات السياسية الأخرى ذات الطابع القومى.فها هو حزب الأحرار الدستوريين سليل حزب الأمة الليبرالى يرى فى الديمقراطية المطلوبة ديمقراطية نخب كبار الملاك والأعيان
"ومن بين القضايا الرئيسية التى أثارها الأحرار الدستوريين فى تلك الانتخابات عام 1924أن تحكم البلاد بقادتها لا بغوغائها"(10).
"أما أحمد لطفى السيد فيلسوف حزب الأمة وداعية الليبرالية الأكبر فقد قبل الاشتراك فى وزارة محمد محمود باشا عام 1928 التى عطلت الدستور لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد وظل حزب الأحرار الدستوريين يشارك فى جميع الانقلابات الدستورية فى مصر حتى قيام ثورة يوليو 1952"(11).حتى حزب الوفد الذى ولد فى أتون ثورة شعبية وبرغم ليبراليته لم يسلم من المحافظة حيث "حاول بعض النواب الوفديين إلغاء القوانين المقيدة لحرية تنظيم الاجتماعات ورفع القيود على حرية الاجتماع ولكن سعد زغلول وقف ضد هذا الاتجاه لما قرره فيه من تطرف لا تسمح به الموازين السياسية القائمة"(12).
المصادر
(1) الشيخ صلاح أبو إسماعيل-الشهادة-مصدر سابق-ص98.
(2) يرفند إبراهيمان وآخرون: "إيران 1900 - 1980" مصدر سابق، صـ50.
(3)المصدر نفسه، صـ 225.
(4)شريف يونس : "سيد قطب"مصدر سابق صـ507.
(5)د.محى الدين عبدا لحليم- الرأى العام فى الإسلام-مكتبة الخانجى-القاهرة-ط1982-ص.
(6)د.محمد مورو-طارق البشرى-مصدر سابق-ص20.
(7) د. عبد الهادى النجار "الإسلام والاقتصاد" مصدر سابق صـ183.
(8) المصدر نفسه، صـ68.
(9)د.إمام عبد الفتاح إمام-الطاغية-سلسلة عالم المعرفة-الكويت-مارس1994-العدد183-ص 222و ما بعدها.
(10) ماريوس كامل ديب-السياسة الحزبية فى مصر-الوفد وخصومه1919-1939-الطبعة العربية الأولى1987-مؤسسة الأبحاث العربية-بيروت لبنان-دار البيان للنشر والتوزيع-القاهرة –مصر-ص131.
(11) محمد السعيد إدريس-حزب الوفد والطبقة العاملة-مصدر سابق-ص99.
(12) المصدر نفسه-ص102.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية