النسبية والاطلاقية
كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
سامح سعيد عبود
النسبية والاطلاقية
عرفنا من القسم السابق المثالية والمادية، وعرفنا أن الأولى ترجع الأشياء الواقعية إلى صور مثالية، إما فى العقل البشرى أو خارج حدود الوجود نفسه، أما المادية فهى ترجع هذه الصور المثالية للأشياء الواقعية، والأشياء التى تكون الواقع تترابط فيما بينها، وتعتمد فى وجودها كل على حدة على وجود أشياء أخرى.. وهكذا بشكل مترابط ومتبادل، وبالتالى فنحن لا نعرفها إلا من خلال علاقاتها بالأشياء الأخرى، وفى ترابطها مع هذه الأشياء.
فلو أنك جالس على مقعدك فى سكون تام، بالنسبة للشخص الذى يلاحظك، فإن سكونك ما هو إلا سكون نسبى، أى بالنسبة لنفسك والشخص الذى يلاحظك على الأرض، حيث إنك فى الحقيقة تتحرك مع الأرض حول محورها بسرعة 0.5 كم / ث، وتتحرك أنت والأرض حول الشمس بسرعة 30 كم / ث، وتتحرك أنت والأرض والشمس حول مركز المجرة بسرعة 180 كم / ث، وتتحرك مع المجرة بكل ما فيها من نجوم وكواكب بما فيها الأرض بسرعة 600 كم/ث.
فأنت بالنسبة لنفسك ولمن يلاحظك فى حالة سكون نسبى، أما بالنسبة لمن يراقبك من خارج الكرة الأرضية فإنك تتحرك.. وهكذا، فالأشياء التى تكون الواقع تتسم بالنسبية.. وحسب نظرية النسبية لأينشتين، فإنه لا يوجد فى الوجود من شئ مطلق - أو بمعنى آخر : غير نسبى - إلا سرعة الضوء فقط.
فالمطلق عكس النسبى، حيث إنه ثابت بالنسبة للجميع، أما النسبى فهو يختلف من شخص لآخر، فما هو خير بالنسبة لك قد يكون شرا بالنسبة لغيرك، وما هو جميل فى عينك قد لا يصادف إعجابا من غيرك، وفى إطار الصراعات بين البشر فإن كل طرف فى الصراع يظن أن الحق كل الحق معه.. فالحق والخير والجمال المطلقين، ليسا إلا صورا مثالية فى عقول الناس، أما على أرض الواقع فمظاهر الأشياء تتميز بالنسبية.
يقوم الفكر المثالى عموما على اٌلإيمان بالمطلق، بالحقيقة المطلقة الشاملة، التى يمثلها الدين المعنى أو المطلق الفلسفى أو الفكرة المطلقة، ولو أن هذه الحقيقة شابتها النسبية لما كان هناك من داع للإيمان القطعى بها. فالفكرة الإسلامية الحاكمية، والأصولية عموما، حتى غير السياسية، تتميز بأنها تفرق تفرقة واضحة بين المطلق و النسبى، فالله مطلق والإنسان نسبى : الله قادر والإنسان عاجز، الله حاكم والإنسان عبد، فالنسبية هنا هى نسبية القصور والجهل الأبدي الذى يتميز بهما الإنسان والذى يظل فى حاجة دائمة للمطلق، الله مصدر الخير، كما يخاف من الشيطان مصدر الشر .
وعلى العكس.. فوجهة النظر العلمية تقول بمطلقات بشرية، بمعنى أوثق: معرفة بشرية حقيقية ومطلقة.. مثل أن الأرض تدور حول الشمس بسرعة تقريبا كذا، والكائنات الحية على الأرض تتكون من خلايا.. والفارق فى الحقيقية أن هذه التصورات العلمية المطلقة فى النظريات العلمية مبنية على الملاحظة الدقيقة والمنطق العلمى، و قابلة للدحض بالملاحظة الجديدة، ومن هنا تكون نسبية المعرفة. أما عند الدين، فالحقيقة كما جاءت فى كتابه المقدس يضمنها المطلق ذاته، ومن هنا يكون إطلاقها.ومن هنا يتم التعامل مع الحقيقة العلمية بمنطق المعرفة والجهل بها،أما فى المعتقدات الغيبية عموما فيتم التعامل بمنطق الإيمان والكفر.
والخلاصة أن ثمة ترابط فى النظرة العلمية بين النسبى والمطلق، أما فى الدين فثمة فصل كامل بينهما.. لدرجة أن الإنسان ممزق دائما بين التوجهات الربانية والوسوسات الشيطانية، أى أن نسبيته وعجزه يقومان على قوتين تعلوانه، مطلقتين بالنسبة له.
يزعم الخطاب المثالى عموما سواء استند لدين ما أو أيديولوجية علمانية مقولبة دينيا امتلاكه وحده للحقيقة المطلقة وتمثيله المنفرد لها، وهو لا يقبل الخلاف فى الرأى إلا ما كان فى الجزئيات والتفاصيل التى لا تمس جوهر عقيدته، الذى إذا ما تم الاقتراب من مناقشتها فإنه يلجأ للغة الحسم واليقين والقطع، أليس هو وحده الذى يملك الحقيقة المطلقة والتى على الآخرين أخذها عنه وحده ؟! وإذا كنا نعتبر أن تكفير الآخر ونفيه تطرفا وتعصبا، بل ويعتبره البعض مسلكا غير ديمقراطى ولا متحضر، فإن الخطاب الذى يستند إلى مطلق ما( الله أو الطبقة أو القومية.). يرى ان هذا السلوك من أسس إيمانه وواجبه الأخلاقى، وهو ما يختلف عن الطريقة الأخرى فى فهم العالم التى تأخذ بنسبية الحقيقة، ومن ثم فإن التطرف والتعصب ليسا من سماتها، أما العقلية الإطلاقية التى تعتمد على "إما شر محض" أو خير محض، فإن رؤيتها للعالم لا تخرج عن كونه صراعا بين الحق والخير والجمال المطلقين من وجهة نظرها ضد الباطل والشر والقبح المطلقين الذين يتبناهم الآخرون، وهو ما يتضح – مثلا – من تصورات سيد قطب عن أعداء مذهبه فى الحاكمية الإسلامية، فالصراع عنده "يدور مع ذوات شريرة فاسدة بطبيعتها، وطواغيت لا هم لهم بدورهم سوى السيطرة الشريرة - وإفساد العالم، ومنع نور الحاكمية. وهم لا يمتلكون حقيقة مختلفة، فهم يفهمون العالم على ذات فهم العصبة المؤمنة - أو سيد قطب - له، وإنما هم ببساطة اختاروا جانب الشهوة والظلام" (1). وترتبط هذه النظرة الإطلاقية للعالم بـ اليقين الذهنى والحسم الفكرى "القطعى".
ومن هذه النظرة يطرح الإسلام السياسى نفسه فى الساحة السياسية على أنه الحل الوحيد والمطلق الكمال لكل مشكلات الفكر والواقع، حيث "لا يوجد بديل عن الإسلام لتثبيت أساس الانتماء للجماعة السياسية المقاومة المستقلة" (2). وبهذا تختفى كل الانتماءات الأخرى القومية والإقليمية والطبقية والفئوية، فهذه كلها يرفضها الإسلام السياسى ويطمسها ليعلى من شأن انتماء واحد مطلق وهو: الدين ؛ ذلك لأنه لا يرى الذوات الجماعية إلا من خلال الدين، ومن ثم لا يرى إلا الصراع بين اتباع الأديان المختلفة، وبحيث يصبح المنتمون لدين واحد كتلة صماء متجانسة تخلو من التناقضات، ومن ثم الصراعات الداخلية.وكذلك الشأن مع القوميين أيا ما كانت القوميات التى يتحدثون باسمها.
الإسلام السياسى ما بين النسبى والمطلق :
تقع الأصولية الإسلامية والدينية عموما فى تناقض نتيجة جمعها ما بين المطلق الدينى، والسياسى النسبى بطبيعته، حيث تتناقض نسبية الواقع مع إطلاقية الدين، وبالتالى فإن محاولة حل هذا التناقض تسفر عن حركة إصلاح دينى تعود للأصول من وجهة نظر المصلحين، بحيث تقدم فهما جديدا لهذه الأصول، فى ضوء التغيرات الاجتماعية التى تدفع لهذا الإصلاح، فى حين يرفض التيار المحافظ العودة للأصول على أساس أنها واضحة بالفعل من خلال أعمال التفسير الموروثة أو المنقولة.
وقد ظهر مع بداية النهضة الحديثة فى مصر تيار الإسلام السلفى الإصلاحى، الذى أسسه الشيخ محمد عبده، إلا أنه انتهى على يد مريده وتلميذه رشيد رضا إلى اتباعية سلفية محافظة كانت أحد مصادر حركة الإخوان المسلمين السلفية.. وتلجأ كل القوى السياسية بما فيها العلمانية إلى - النصوص الدينية فى محاولة منها لاكتساب الشرعية والجماهيرية.
فقد كان تأسيس الأيديولوجية الناصرية بإعلان الميثاق الوطنى مشفوعا بالنصوص الدينية، كما سعت نفس السلطة إلى المؤسسة الدينية وغيرها من الجماعات على أثر هزيمة 67 من أجل التماسك الاجتماعى وضمان استمرار تأييد السلطة، تأسيسا فى نفس الوقت للدولة الدينية وتحطيما للعلمانية المحدودة التى سادت فى الفترة من دستور 23 إلى 1952، وعلى نفس المنهج لجأ السادات لتبرير انقلابه على الناصرية إلى النصوص الدينية جذبا للجماهير من خلال حسها الدينى بمهاجمة السوفيت الملحدين، حلفاء النظام الناصرى، وأخذ اليسار المتمركس يدافع عن نفسه بإثبات اشتراكية الإسلام وتقدميته، ففقد مبرر وجوده لدى الجماهير، فما دام الإسلام قد تحول من دين إلى نظام اجتماعى اقتصادى، ومادام صالحا لكل زمان ومكان حتى للاشتراكية !، فلماذا يتم استيراد الأفكار ؟ ولم لا يعلن هذا اليسار إسلاميته، ويكف عن التمسح بالغرب ؟
فى الحقيقة أن الإسلام كدين يعبر عن مطلق دينى منفصل عن الزمان والمكان النسبيين، وسيجد فيه كل طرف مع شئ من التأويل المتعسف لنصوص حمالة أوجه بطبيعتها ما يبرر به قضاياه النسبية بطبيعتها، لارتباطها بالواقع النسبى.ففى مجلة صوت الأزهر التى تصدرها الجماعة الإسلامية ورد"فإذا رست السفينة شرقا كانت الاشتراكية من الإسلام بل هى الإسلام . وإذا رست السفينة غربا كانت الديمقراطية من الإسلام ..والديمقراطية هى الشورى !!فبعدا وسحقا "إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان"(2). وهذا الموقف يحمل نفيا للتشابه والربط بين الإسلام، وأيا من الأنظمة المعاصرة ،وهو جدير بالاحترام لعدم وجود علاقة بين التراث الإسلامى والأنظمة المعاصرة حتى ولو وجد تشابه ظاهرى بينهما، لأن هذا التراث كان وليد ظروف اجتماعية وثقافية مختلفة تماما عما هو سائد الآن من ظروف ،،إلا أنه يدعى فى نفس الوقت نظريا بالطبع أن الإسلام يمكن أن يكون بديلا خالدا لأيا منها،وهو على المستوى العملى لن يستطيع الخروج عن ما تفرضه الضرورة المعاصرة من علاقات ومفاهيم وقيم فى عالم أصبح أكثر توحدا عن ذى قبل بل ويزداد توحدا باطراد.
وفى الحقيقة أن المؤمنين من دعاة العلمانية أكثر حرصا على الدين الإسلامى بإبقائه بعيدا عن السياسة من قوى الإسلام السياسى التى تسئ بعاطفية الدببة إلى الإسلام : فالأولون يفصلون بين المطلق الدينى والواقع المتغير، ليبقى بعيدا عن التشويه والاستخدام السياسى، والآخرون يمزجون بينهما مما يدفعهم إلى تشويهه عامدين بابتذاله فى عالم السياسة والصراعات الاجتماعية شأنهم فى ذلك شأن من يحاولون الربط بين الإسلام والعلم بأسلمة العلوم فيمزجون بين الإيمان الدينى المطلق بالمعرفة العلمية النسبية.
النخبوية والإطلاقية :
ينظر كل اتجاه سياسى يربط نفسه بمطلق ما مثل الدين على أنه يشكل عصبة مؤمنة تقف فى موقف الصراع مع عصب كافرة يوحدها هذا الكفر.. يكتب سيد قطب "الإسلام.. هو الانخلاع من المجتمع الجاهلى وتصوراته وقيمه، وقيادته وسلطانه وشرائعه، والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية والعصبة المؤمنة التى تريد أن تحقق الإسلام فى عالم الواقع" (4). ويصبح تكون هذه العصبة هو الشرط الأساسى لقيام المجتمع الإسلامى تلك العصبة التى تتميز بإخلاصها للعقيدة، وتحملها تكاليف الجهاد... هكذا وبصرف النظر عن الصراعات الواقعية التى يموج بها المجتمع، فهى العصبة المتعالية على أى صراع، إلا صراع الإيمان مع الكفر، وقد فقدت باسم هذا الصراع أى ارتباط بالمجتمع الجاهلى حيث انخلعت عنه، مستعلية عليه.
إن إعلان هذا التجرد من كل ما هو دنيوى ينفى فى طياته انحيازا حقيقيا، لأحد أطراف الصراع الدنيوى.. فعندما تسعى العصبة المؤمنة لمنع المرأة من العمل وإلزامها بالخضوع للذكور من أفراد أسرتها وزوجها منذ الميلاد وإلى الموت، فإنها تنحاز لطرف ضد طرف فى صراع دنيوى، وعندما تسعى العصبة المؤمنة لاستمرار نظام اجتماعى، قائم على استغلال الإنسان للإنسان، فإنها بلا شك تنحاز لأحدهما ضد الآخر فى صراع دنيوى، وعندما تسعى العصبة المؤمنة لإقامة حكم الخلافة الإسلامية ضد إرادة من تسعى لأن يكونوا محكومين بها، فإنها تنغرس فى صراع دنيوى.
ولأن الصراع بين الإيمان والكفر لا يمكن أن يهدأ، ولا يمكن لمعسكريه أن يتهادنا ويتحاورا فى رأى سيد قطب، كان العنف هو وسيلة العصبة المؤمنة لخوض هذا الصراع، سواء كان هذا العنف مسلحا بشكل صريح، أو بمجرد نفى حق الآخر فى الوجود..
ومن هنا فإنه لا فرق بين الاعتدال والتطرف، ما بين من يواجهون القوى الأخرى بأنهم الأيدي المتوضئة، ويهددون من يخالفهم بحدى الردة والحرابة لو وصلوا إلى السلطة، وبين من يحملون السلاح ضد السلطة، وضد مخالفيهم فى الرأى. وهم يضعون كل القوى السياسية فى مأزق دائم أسوأ من طلقات الرصاص : فإما أن تعلن هذه القوى مخالفتها لمرجعية الإسلام السياسى، فتفقد جماهيريتها ، ليكسبها الإسلام السياسى.. أو أن تلجأ للتبرير والتلفيق ما بين هذه المرجعية وبرامجها السياسية، لتفقد مبرر وجودها أمام الإسلام السياسى، ومن قبله الجماهير. ومن هذه الزاوية تحديدا تحقق قوى الإسلام السياسى قوتها بجناحيها المعتدل والمتطرف.
الإسلام السياسى والسلطوية :
يقوم الفكر السياسى الخرافى - قومى أم دينى أم طوباوى- على الاستناد إلى سلطة مطلق ما تصبح لها وحدها المرجعية، وتصبح أى مخالفة لها خروجا عن الدين والسلطة، مما يستوجب القمع.. وأيما كان هذا الفكر -معتدلا أم متطرفا، يميل يسارا أم يمينا - فإنه لا يخرج عن طابعه السلطوى والاستبدادى.. ويصبح الحديث عن حرية الرأى والعقيدة فى ظل أى سلطة دينية، و أى سلطة تستند إلى مرجعية دينية، دعوة للخروج عن الدين، ومن ثم السلطة مما، يستوجب سحقها.
ولتأسيس السلطة المطلقة أيما كانت مرجعيتها، يتم الترويج لأسطورة "الفرد بطبيعته أنانى حسود شهوانى فتاك" (5). ومن هنا يجب تربيته بالوعظ والقمع الموجهين من سلطة ما أكثر قدرة على فهم طبائع هذه الوحوش، ومن ثم تهذيبها، وبالتالى فهى خير من تروضهم. وبهذه الطريقة يتم عزل الفرد عن المجتمع، وما تفرزه ظروف المجتمع من قيم، وما تجبره عليه من سلوك.. وهى أسطورة ينفيها تاريخ المجتمعات نفسه، الذى شهد تغيرات فى القيم والأخلاق السائدة فعلا على أرض الواقع، أو حتى المعلنة فى الضمير العام للمجتمع..
إلا أن الحقيقة التى يجب أن يعلمها الجميع أن الهدف الأخلاقى للإسلام السياسى هو هدف دعائى لا غير، فالهدف والغاية هى السلطة ؛ "فالحاكمية لا تنبع من أفضلية حكم الله، ولا من مضمون الشريعة يكتب شريف يونس "فلا يكفى أن يتخذ البشر شرائع تشابه شريعة الله، أو حتى شريعة الله بنصها إذا نسبوها إلى أنفسهم، فالمهم هو السلطان الذى ترتكز عليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة" (6).
ولكن السلطة تستند من الناحية التأسيسية والقانونية إلى مرجعية مطلقة - سواء كانت الله أو الشعب أو الطبقة - فإن هذا الاستناد محض شكلى وتبريرى لأن السلطة تمارس بأفراد وأجهزة ومؤسسات، وكل هذا يقوم على أساس الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من تناقضات وصراعات ؛ ولذلك فلابد أن تنحاز السلطة إلى أحد طرفى الصراع أو التناقض : فالسلطة البرجوازية - مثلا - حتى ولو مورست فى ظل أشد الدساتير ليبرالية هى سلطة تلك البرجوازية، وحامية مصالحها فى صراعها مع الطبقة العاملة.
إن ادعاء السلطة تعاليها على الصراعات والتناقضات التى يموج بها الواقع الاجتماعى هو تبرير خرافى، إلا أننا لا يمكن فحسب أن نحاكمه بالمنطق العلمى بمعنى مدى اقترابه أو ابتعاده عن الواقع لنحكم عليه بالصحة أو الخطأ..
حيث أن هذا التبرير يشكل ضرورة موضوعية لتبرير شرعية السلطة (أى سلطة) رغم مخالفة هذا التبرير - سواء أكان الله أو الشعب أو المجتمع أو الأمة أو القومية أو الطبقة أو حتى العقل - لحقيقة المجتمعات البشرية، والتى لم تكن أبدا متجانسة فى يوم ما، باستثناء المجتمعات المشاعية البدائية.. وحيث لم تكن موحدة إلا بفضل السلطة التى توحدها.
فالسلطة (أى سلطة) هى بالتعريف : أداة للقهر الاجتماعى - والسلطة لابد أن تستند لمطلق ما أيا كان اسمه لتبرر ما تمارسه من قهر.. إلا أن الله باعتباره مطلق الحركة الإسلامية هو أكثر فعالية فى تبرير قهر من يتحدثون باسمه.
فالسلطة فضلا عن أنها تمارس فعليا عبر نخبة من البشر تدعى تمثيلها للمطلق أو تعبيرها عنه، إلا أنها تعبر دائما عن مصالح الطبقة الاجتماعية السائدة.. تلك السيادة النابعة من سيطرتها على قوى الإنتاج، __ومن موقعها المتميز والأقوى فى علاقات الإنتاج، ومن استحوا زها على الفائض الاجتماعى ؛ فهى - عمليا ونظريا - لا يمكن أن تعبر إلا عن الطرف الأقوى فى العلاقات الاجتماعية، ومن هنا فهى لا يمكن أن تكون حكما عادلا بين أطراف تلك العلاقات : فالنخب الحاكمة لا تتسلم السلطة الاجتماعية إلا لكى تعبر وبكل وضوح عن مصالح الطبقة الاجتماعية الأقوى، وفى حالة عدم وجود تلك الطبقة تتحول هى نفسها لطبقة متميزة وقوية وسائدة.
المصادر
1. 1. 1. 1. شريف يونس: "سيد قطب" مصدر سابق صـ231.
2. 2. 2. 2. د. محمد مورو: "طارق البشرى"مصدر سابق صـ13.
(3) مجلة صوت الأزهر-ص34
3. 3. 3. 3. سيد قطب: "فى ظلال القرآن"مصدر سابق مجلد 7، صـ3.
4. 4. 4. 4. عادل حسين: "الإسلام دين حضارة"مصدر سابق، صـ7.
عرفنا من القسم السابق المثالية والمادية، وعرفنا أن الأولى ترجع الأشياء الواقعية إلى صور مثالية، إما فى العقل البشرى أو خارج حدود الوجود نفسه، أما المادية فهى ترجع هذه الصور المثالية للأشياء الواقعية، والأشياء التى تكون الواقع تترابط فيما بينها، وتعتمد فى وجودها كل على حدة على وجود أشياء أخرى.. وهكذا بشكل مترابط ومتبادل، وبالتالى فنحن لا نعرفها إلا من خلال علاقاتها بالأشياء الأخرى، وفى ترابطها مع هذه الأشياء.
فلو أنك جالس على مقعدك فى سكون تام، بالنسبة للشخص الذى يلاحظك، فإن سكونك ما هو إلا سكون نسبى، أى بالنسبة لنفسك والشخص الذى يلاحظك على الأرض، حيث إنك فى الحقيقة تتحرك مع الأرض حول محورها بسرعة 0.5 كم / ث، وتتحرك أنت والأرض حول الشمس بسرعة 30 كم / ث، وتتحرك أنت والأرض والشمس حول مركز المجرة بسرعة 180 كم / ث، وتتحرك مع المجرة بكل ما فيها من نجوم وكواكب بما فيها الأرض بسرعة 600 كم/ث.
فأنت بالنسبة لنفسك ولمن يلاحظك فى حالة سكون نسبى، أما بالنسبة لمن يراقبك من خارج الكرة الأرضية فإنك تتحرك.. وهكذا، فالأشياء التى تكون الواقع تتسم بالنسبية.. وحسب نظرية النسبية لأينشتين، فإنه لا يوجد فى الوجود من شئ مطلق - أو بمعنى آخر : غير نسبى - إلا سرعة الضوء فقط.
فالمطلق عكس النسبى، حيث إنه ثابت بالنسبة للجميع، أما النسبى فهو يختلف من شخص لآخر، فما هو خير بالنسبة لك قد يكون شرا بالنسبة لغيرك، وما هو جميل فى عينك قد لا يصادف إعجابا من غيرك، وفى إطار الصراعات بين البشر فإن كل طرف فى الصراع يظن أن الحق كل الحق معه.. فالحق والخير والجمال المطلقين، ليسا إلا صورا مثالية فى عقول الناس، أما على أرض الواقع فمظاهر الأشياء تتميز بالنسبية.
يقوم الفكر المثالى عموما على اٌلإيمان بالمطلق، بالحقيقة المطلقة الشاملة، التى يمثلها الدين المعنى أو المطلق الفلسفى أو الفكرة المطلقة، ولو أن هذه الحقيقة شابتها النسبية لما كان هناك من داع للإيمان القطعى بها. فالفكرة الإسلامية الحاكمية، والأصولية عموما، حتى غير السياسية، تتميز بأنها تفرق تفرقة واضحة بين المطلق و النسبى، فالله مطلق والإنسان نسبى : الله قادر والإنسان عاجز، الله حاكم والإنسان عبد، فالنسبية هنا هى نسبية القصور والجهل الأبدي الذى يتميز بهما الإنسان والذى يظل فى حاجة دائمة للمطلق، الله مصدر الخير، كما يخاف من الشيطان مصدر الشر .
وعلى العكس.. فوجهة النظر العلمية تقول بمطلقات بشرية، بمعنى أوثق: معرفة بشرية حقيقية ومطلقة.. مثل أن الأرض تدور حول الشمس بسرعة تقريبا كذا، والكائنات الحية على الأرض تتكون من خلايا.. والفارق فى الحقيقية أن هذه التصورات العلمية المطلقة فى النظريات العلمية مبنية على الملاحظة الدقيقة والمنطق العلمى، و قابلة للدحض بالملاحظة الجديدة، ومن هنا تكون نسبية المعرفة. أما عند الدين، فالحقيقة كما جاءت فى كتابه المقدس يضمنها المطلق ذاته، ومن هنا يكون إطلاقها.ومن هنا يتم التعامل مع الحقيقة العلمية بمنطق المعرفة والجهل بها،أما فى المعتقدات الغيبية عموما فيتم التعامل بمنطق الإيمان والكفر.
والخلاصة أن ثمة ترابط فى النظرة العلمية بين النسبى والمطلق، أما فى الدين فثمة فصل كامل بينهما.. لدرجة أن الإنسان ممزق دائما بين التوجهات الربانية والوسوسات الشيطانية، أى أن نسبيته وعجزه يقومان على قوتين تعلوانه، مطلقتين بالنسبة له.
يزعم الخطاب المثالى عموما سواء استند لدين ما أو أيديولوجية علمانية مقولبة دينيا امتلاكه وحده للحقيقة المطلقة وتمثيله المنفرد لها، وهو لا يقبل الخلاف فى الرأى إلا ما كان فى الجزئيات والتفاصيل التى لا تمس جوهر عقيدته، الذى إذا ما تم الاقتراب من مناقشتها فإنه يلجأ للغة الحسم واليقين والقطع، أليس هو وحده الذى يملك الحقيقة المطلقة والتى على الآخرين أخذها عنه وحده ؟! وإذا كنا نعتبر أن تكفير الآخر ونفيه تطرفا وتعصبا، بل ويعتبره البعض مسلكا غير ديمقراطى ولا متحضر، فإن الخطاب الذى يستند إلى مطلق ما( الله أو الطبقة أو القومية.). يرى ان هذا السلوك من أسس إيمانه وواجبه الأخلاقى، وهو ما يختلف عن الطريقة الأخرى فى فهم العالم التى تأخذ بنسبية الحقيقة، ومن ثم فإن التطرف والتعصب ليسا من سماتها، أما العقلية الإطلاقية التى تعتمد على "إما شر محض" أو خير محض، فإن رؤيتها للعالم لا تخرج عن كونه صراعا بين الحق والخير والجمال المطلقين من وجهة نظرها ضد الباطل والشر والقبح المطلقين الذين يتبناهم الآخرون، وهو ما يتضح – مثلا – من تصورات سيد قطب عن أعداء مذهبه فى الحاكمية الإسلامية، فالصراع عنده "يدور مع ذوات شريرة فاسدة بطبيعتها، وطواغيت لا هم لهم بدورهم سوى السيطرة الشريرة - وإفساد العالم، ومنع نور الحاكمية. وهم لا يمتلكون حقيقة مختلفة، فهم يفهمون العالم على ذات فهم العصبة المؤمنة - أو سيد قطب - له، وإنما هم ببساطة اختاروا جانب الشهوة والظلام" (1). وترتبط هذه النظرة الإطلاقية للعالم بـ اليقين الذهنى والحسم الفكرى "القطعى".
ومن هذه النظرة يطرح الإسلام السياسى نفسه فى الساحة السياسية على أنه الحل الوحيد والمطلق الكمال لكل مشكلات الفكر والواقع، حيث "لا يوجد بديل عن الإسلام لتثبيت أساس الانتماء للجماعة السياسية المقاومة المستقلة" (2). وبهذا تختفى كل الانتماءات الأخرى القومية والإقليمية والطبقية والفئوية، فهذه كلها يرفضها الإسلام السياسى ويطمسها ليعلى من شأن انتماء واحد مطلق وهو: الدين ؛ ذلك لأنه لا يرى الذوات الجماعية إلا من خلال الدين، ومن ثم لا يرى إلا الصراع بين اتباع الأديان المختلفة، وبحيث يصبح المنتمون لدين واحد كتلة صماء متجانسة تخلو من التناقضات، ومن ثم الصراعات الداخلية.وكذلك الشأن مع القوميين أيا ما كانت القوميات التى يتحدثون باسمها.
الإسلام السياسى ما بين النسبى والمطلق :
تقع الأصولية الإسلامية والدينية عموما فى تناقض نتيجة جمعها ما بين المطلق الدينى، والسياسى النسبى بطبيعته، حيث تتناقض نسبية الواقع مع إطلاقية الدين، وبالتالى فإن محاولة حل هذا التناقض تسفر عن حركة إصلاح دينى تعود للأصول من وجهة نظر المصلحين، بحيث تقدم فهما جديدا لهذه الأصول، فى ضوء التغيرات الاجتماعية التى تدفع لهذا الإصلاح، فى حين يرفض التيار المحافظ العودة للأصول على أساس أنها واضحة بالفعل من خلال أعمال التفسير الموروثة أو المنقولة.
وقد ظهر مع بداية النهضة الحديثة فى مصر تيار الإسلام السلفى الإصلاحى، الذى أسسه الشيخ محمد عبده، إلا أنه انتهى على يد مريده وتلميذه رشيد رضا إلى اتباعية سلفية محافظة كانت أحد مصادر حركة الإخوان المسلمين السلفية.. وتلجأ كل القوى السياسية بما فيها العلمانية إلى - النصوص الدينية فى محاولة منها لاكتساب الشرعية والجماهيرية.
فقد كان تأسيس الأيديولوجية الناصرية بإعلان الميثاق الوطنى مشفوعا بالنصوص الدينية، كما سعت نفس السلطة إلى المؤسسة الدينية وغيرها من الجماعات على أثر هزيمة 67 من أجل التماسك الاجتماعى وضمان استمرار تأييد السلطة، تأسيسا فى نفس الوقت للدولة الدينية وتحطيما للعلمانية المحدودة التى سادت فى الفترة من دستور 23 إلى 1952، وعلى نفس المنهج لجأ السادات لتبرير انقلابه على الناصرية إلى النصوص الدينية جذبا للجماهير من خلال حسها الدينى بمهاجمة السوفيت الملحدين، حلفاء النظام الناصرى، وأخذ اليسار المتمركس يدافع عن نفسه بإثبات اشتراكية الإسلام وتقدميته، ففقد مبرر وجوده لدى الجماهير، فما دام الإسلام قد تحول من دين إلى نظام اجتماعى اقتصادى، ومادام صالحا لكل زمان ومكان حتى للاشتراكية !، فلماذا يتم استيراد الأفكار ؟ ولم لا يعلن هذا اليسار إسلاميته، ويكف عن التمسح بالغرب ؟
فى الحقيقة أن الإسلام كدين يعبر عن مطلق دينى منفصل عن الزمان والمكان النسبيين، وسيجد فيه كل طرف مع شئ من التأويل المتعسف لنصوص حمالة أوجه بطبيعتها ما يبرر به قضاياه النسبية بطبيعتها، لارتباطها بالواقع النسبى.ففى مجلة صوت الأزهر التى تصدرها الجماعة الإسلامية ورد"فإذا رست السفينة شرقا كانت الاشتراكية من الإسلام بل هى الإسلام . وإذا رست السفينة غربا كانت الديمقراطية من الإسلام ..والديمقراطية هى الشورى !!فبعدا وسحقا "إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان"(2). وهذا الموقف يحمل نفيا للتشابه والربط بين الإسلام، وأيا من الأنظمة المعاصرة ،وهو جدير بالاحترام لعدم وجود علاقة بين التراث الإسلامى والأنظمة المعاصرة حتى ولو وجد تشابه ظاهرى بينهما، لأن هذا التراث كان وليد ظروف اجتماعية وثقافية مختلفة تماما عما هو سائد الآن من ظروف ،،إلا أنه يدعى فى نفس الوقت نظريا بالطبع أن الإسلام يمكن أن يكون بديلا خالدا لأيا منها،وهو على المستوى العملى لن يستطيع الخروج عن ما تفرضه الضرورة المعاصرة من علاقات ومفاهيم وقيم فى عالم أصبح أكثر توحدا عن ذى قبل بل ويزداد توحدا باطراد.
وفى الحقيقة أن المؤمنين من دعاة العلمانية أكثر حرصا على الدين الإسلامى بإبقائه بعيدا عن السياسة من قوى الإسلام السياسى التى تسئ بعاطفية الدببة إلى الإسلام : فالأولون يفصلون بين المطلق الدينى والواقع المتغير، ليبقى بعيدا عن التشويه والاستخدام السياسى، والآخرون يمزجون بينهما مما يدفعهم إلى تشويهه عامدين بابتذاله فى عالم السياسة والصراعات الاجتماعية شأنهم فى ذلك شأن من يحاولون الربط بين الإسلام والعلم بأسلمة العلوم فيمزجون بين الإيمان الدينى المطلق بالمعرفة العلمية النسبية.
النخبوية والإطلاقية :
ينظر كل اتجاه سياسى يربط نفسه بمطلق ما مثل الدين على أنه يشكل عصبة مؤمنة تقف فى موقف الصراع مع عصب كافرة يوحدها هذا الكفر.. يكتب سيد قطب "الإسلام.. هو الانخلاع من المجتمع الجاهلى وتصوراته وقيمه، وقيادته وسلطانه وشرائعه، والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية والعصبة المؤمنة التى تريد أن تحقق الإسلام فى عالم الواقع" (4). ويصبح تكون هذه العصبة هو الشرط الأساسى لقيام المجتمع الإسلامى تلك العصبة التى تتميز بإخلاصها للعقيدة، وتحملها تكاليف الجهاد... هكذا وبصرف النظر عن الصراعات الواقعية التى يموج بها المجتمع، فهى العصبة المتعالية على أى صراع، إلا صراع الإيمان مع الكفر، وقد فقدت باسم هذا الصراع أى ارتباط بالمجتمع الجاهلى حيث انخلعت عنه، مستعلية عليه.
إن إعلان هذا التجرد من كل ما هو دنيوى ينفى فى طياته انحيازا حقيقيا، لأحد أطراف الصراع الدنيوى.. فعندما تسعى العصبة المؤمنة لمنع المرأة من العمل وإلزامها بالخضوع للذكور من أفراد أسرتها وزوجها منذ الميلاد وإلى الموت، فإنها تنحاز لطرف ضد طرف فى صراع دنيوى، وعندما تسعى العصبة المؤمنة لاستمرار نظام اجتماعى، قائم على استغلال الإنسان للإنسان، فإنها بلا شك تنحاز لأحدهما ضد الآخر فى صراع دنيوى، وعندما تسعى العصبة المؤمنة لإقامة حكم الخلافة الإسلامية ضد إرادة من تسعى لأن يكونوا محكومين بها، فإنها تنغرس فى صراع دنيوى.
ولأن الصراع بين الإيمان والكفر لا يمكن أن يهدأ، ولا يمكن لمعسكريه أن يتهادنا ويتحاورا فى رأى سيد قطب، كان العنف هو وسيلة العصبة المؤمنة لخوض هذا الصراع، سواء كان هذا العنف مسلحا بشكل صريح، أو بمجرد نفى حق الآخر فى الوجود..
ومن هنا فإنه لا فرق بين الاعتدال والتطرف، ما بين من يواجهون القوى الأخرى بأنهم الأيدي المتوضئة، ويهددون من يخالفهم بحدى الردة والحرابة لو وصلوا إلى السلطة، وبين من يحملون السلاح ضد السلطة، وضد مخالفيهم فى الرأى. وهم يضعون كل القوى السياسية فى مأزق دائم أسوأ من طلقات الرصاص : فإما أن تعلن هذه القوى مخالفتها لمرجعية الإسلام السياسى، فتفقد جماهيريتها ، ليكسبها الإسلام السياسى.. أو أن تلجأ للتبرير والتلفيق ما بين هذه المرجعية وبرامجها السياسية، لتفقد مبرر وجودها أمام الإسلام السياسى، ومن قبله الجماهير. ومن هذه الزاوية تحديدا تحقق قوى الإسلام السياسى قوتها بجناحيها المعتدل والمتطرف.
الإسلام السياسى والسلطوية :
يقوم الفكر السياسى الخرافى - قومى أم دينى أم طوباوى- على الاستناد إلى سلطة مطلق ما تصبح لها وحدها المرجعية، وتصبح أى مخالفة لها خروجا عن الدين والسلطة، مما يستوجب القمع.. وأيما كان هذا الفكر -معتدلا أم متطرفا، يميل يسارا أم يمينا - فإنه لا يخرج عن طابعه السلطوى والاستبدادى.. ويصبح الحديث عن حرية الرأى والعقيدة فى ظل أى سلطة دينية، و أى سلطة تستند إلى مرجعية دينية، دعوة للخروج عن الدين، ومن ثم السلطة مما، يستوجب سحقها.
ولتأسيس السلطة المطلقة أيما كانت مرجعيتها، يتم الترويج لأسطورة "الفرد بطبيعته أنانى حسود شهوانى فتاك" (5). ومن هنا يجب تربيته بالوعظ والقمع الموجهين من سلطة ما أكثر قدرة على فهم طبائع هذه الوحوش، ومن ثم تهذيبها، وبالتالى فهى خير من تروضهم. وبهذه الطريقة يتم عزل الفرد عن المجتمع، وما تفرزه ظروف المجتمع من قيم، وما تجبره عليه من سلوك.. وهى أسطورة ينفيها تاريخ المجتمعات نفسه، الذى شهد تغيرات فى القيم والأخلاق السائدة فعلا على أرض الواقع، أو حتى المعلنة فى الضمير العام للمجتمع..
إلا أن الحقيقة التى يجب أن يعلمها الجميع أن الهدف الأخلاقى للإسلام السياسى هو هدف دعائى لا غير، فالهدف والغاية هى السلطة ؛ "فالحاكمية لا تنبع من أفضلية حكم الله، ولا من مضمون الشريعة يكتب شريف يونس "فلا يكفى أن يتخذ البشر شرائع تشابه شريعة الله، أو حتى شريعة الله بنصها إذا نسبوها إلى أنفسهم، فالمهم هو السلطان الذى ترتكز عليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة" (6).
ولكن السلطة تستند من الناحية التأسيسية والقانونية إلى مرجعية مطلقة - سواء كانت الله أو الشعب أو الطبقة - فإن هذا الاستناد محض شكلى وتبريرى لأن السلطة تمارس بأفراد وأجهزة ومؤسسات، وكل هذا يقوم على أساس الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من تناقضات وصراعات ؛ ولذلك فلابد أن تنحاز السلطة إلى أحد طرفى الصراع أو التناقض : فالسلطة البرجوازية - مثلا - حتى ولو مورست فى ظل أشد الدساتير ليبرالية هى سلطة تلك البرجوازية، وحامية مصالحها فى صراعها مع الطبقة العاملة.
إن ادعاء السلطة تعاليها على الصراعات والتناقضات التى يموج بها الواقع الاجتماعى هو تبرير خرافى، إلا أننا لا يمكن فحسب أن نحاكمه بالمنطق العلمى بمعنى مدى اقترابه أو ابتعاده عن الواقع لنحكم عليه بالصحة أو الخطأ..
حيث أن هذا التبرير يشكل ضرورة موضوعية لتبرير شرعية السلطة (أى سلطة) رغم مخالفة هذا التبرير - سواء أكان الله أو الشعب أو المجتمع أو الأمة أو القومية أو الطبقة أو حتى العقل - لحقيقة المجتمعات البشرية، والتى لم تكن أبدا متجانسة فى يوم ما، باستثناء المجتمعات المشاعية البدائية.. وحيث لم تكن موحدة إلا بفضل السلطة التى توحدها.
فالسلطة (أى سلطة) هى بالتعريف : أداة للقهر الاجتماعى - والسلطة لابد أن تستند لمطلق ما أيا كان اسمه لتبرر ما تمارسه من قهر.. إلا أن الله باعتباره مطلق الحركة الإسلامية هو أكثر فعالية فى تبرير قهر من يتحدثون باسمه.
فالسلطة فضلا عن أنها تمارس فعليا عبر نخبة من البشر تدعى تمثيلها للمطلق أو تعبيرها عنه، إلا أنها تعبر دائما عن مصالح الطبقة الاجتماعية السائدة.. تلك السيادة النابعة من سيطرتها على قوى الإنتاج، __ومن موقعها المتميز والأقوى فى علاقات الإنتاج، ومن استحوا زها على الفائض الاجتماعى ؛ فهى - عمليا ونظريا - لا يمكن أن تعبر إلا عن الطرف الأقوى فى العلاقات الاجتماعية، ومن هنا فهى لا يمكن أن تكون حكما عادلا بين أطراف تلك العلاقات : فالنخب الحاكمة لا تتسلم السلطة الاجتماعية إلا لكى تعبر وبكل وضوح عن مصالح الطبقة الاجتماعية الأقوى، وفى حالة عدم وجود تلك الطبقة تتحول هى نفسها لطبقة متميزة وقوية وسائدة.
المصادر
1. 1. 1. 1. شريف يونس: "سيد قطب" مصدر سابق صـ231.
2. 2. 2. 2. د. محمد مورو: "طارق البشرى"مصدر سابق صـ13.
(3) مجلة صوت الأزهر-ص34
3. 3. 3. 3. سيد قطب: "فى ظلال القرآن"مصدر سابق مجلد 7، صـ3.
4. 4. 4. 4. عادل حسين: "الإسلام دين حضارة"مصدر سابق، صـ7.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية