الحرية لا تعنى سوى الحرية الفردية
الحرية لا تعنى سوى الحرية الفردية
سامح سعيد عبود
حالت العديد من الظروف فى الفترة الأخيرة دون أن اشتبك فى وقتها مع العديد من القضايا الهامة التى أثيرت فى مجموعة التقدم الحوارية خلال الشهرين الماضيين، ومنها قضية البهائين ،ومشروع اتحاد اليسار، وتداعيات المناقشات حوله فيما يتعلق بقضية التحرر الوطنى، و اليسار الليبرالى واليسار القومى/الإسلامى، وقد رأيت أن تحديد معنى الحرية نظريا ربما يكون هو نوع من المشاركة التى تأخرت منى فى كل تلك الحوارات.
أعتقد أن لا معنى لليسارية دون الانحياز للحرية الفردية التى تعنى حصريا المعنى الوحيد الصحيح للحرية كما سيجرى البرهنه عليه فى هذا المقال، و هذا الانحياز للحرية الفردية هو ما يميز بين اليسار الحقيقى المتمسك بهذا الانحياز وبين اليسار الزائف غير الملتزم بهذ الانحياز، و جدير بالذكر أن الفهم اليسارى للحرية الفردية يختلف عن الفهم البرجوازى المحدود و الشكلى للحرية الفردية. كما أنه من نافل القول أنه لا توجد حرية مطلقة لأن الحرية تنتهى دائما عندما تبدأ حريات الآخرين.
الحرية شأنها شأن الكثير من الكلمات الملتبسة التى تختلف معانيها عند الناس، إلا أن الحرية فى النهاية ومهما اختلفت معانيها و استخدامتها ، فإنها مرتبطة ارتباطا وثيقا أولا بالقدرة على اتخاذ قرارا بعينه من بين قرارت متعددة ، و ثانيا القدرة على إتيان فعل ما أو الامتناع عنه ، و لأن اتخاذ قرارا ما بممارسة فعل أو الامتناع عنه، يعنى التمتع بدرجة ما من الوعى الذى يسمح بذلك الاختيار، و بدرجة من القدرة على الفعل بناء على هذا الاختيار، فإن الحرية هى صفة محصورة تحديدا فى الكائنات التى تمتلك كل من الوعى والقدرة على الفعل.
وهذه الكائنات التى يمكن فعليا أن تتصف بالحرية من عدمها، والتى يمكن أن تتمتع بالحرية أو تحرم منها، تنقسم إلى الأفراد، و إلى المؤسسات المختلفة المكونة فى النهاية من بعض هؤلاء الأفراد، و المؤسسات تشمل الدول و الجمعيات و النقابات والأحزاب والشركات و المنظمات والهيئات وغيرها من المؤسسات المختلفة ، وتلك المؤسسات مثلها مثل الأفراد، كائنات واقعية ملموسة يمكن أن ندركها لأنه يمكن لها اتخاذ قرارت ما تؤثر فى الواقع الاجتماعى ، و أن تمارس أفعال معينة أو أن تمتنع عن أفعال محددة، تنعكس عليها وعلى غيرها من الشخصيات الأخرى فردية كانت أو مؤسساتية. ويمكن لها أن تتمتع بدرجة من الحرية، و أن تقيد حريتها فى الفعل و اتخاذ القرار.
والأفراد والمؤسسات التى يمكن أن تتمتع فعليا بالحرية أو يمكن أن تحرم منها و يمكن أن تقيد حريتها تختلف عن نوع آخر من الكائنات الخيالية التى لا توجد إلا فى عقول البشر كمجرد أفكار مثالية مجردة لا يمكن لنا أن ندركها ، فهى محض تصورات مفترضة كالجن والعفاريت لا أثر لها فى الواقع الاجتماعى، و من ثم فهى لا يمكن أن تتمتع بالحرية أو أن تحرم من تلك الحرية إلا فى أذهان مبدعيها من البشر شأنها شأن كل الأوهام والأساطير والخرافات، ذلك لأنها كائنات لا تتمتع لا بالإرادة ولا بالوعى الضروريان للتمتع بالحرية ، و من بين تلك الكائنات المثالية و أشهرها فى الاستخدام يمكن أن نذكر الوطن والجماهير والشعب و الأمة والطائفة وغيرها، فالحديث عنها باعتبارها كائنات واقعية يمكن أن تتمتع بالحرية أو أن تحرم من تلك الحرية، هو مجرد سقط حديث حتى ولو كان مثل هذا الحديث هو جوهر كتابات فيلسوف بارز مثل فختة صاحب كتاب "رسائل إلى الأمة الألمانية"، و هو مجرد لغو فارغ برغم أنه شائع الاستخدام للغاية و إلى حد الملل فى الخطابات السياسية الإيديولوجية، والكتابات الأكاديمية والتعليمية، و المواد الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية، و الأعمال الفنية و الأدبية وعلى ألسنة العامة من الناس ، وهى أفكار برغم من لاعقلانيتها وتهافتها فهى الأشد تأثيرا فى الناس و وعيهم و أفعالهم. إلا أنه و برغم تأثيرها الطاغى فهى محض أساطير يصنعها الطامعين فى التسلط على الناس لتبرير تسلطهم لا غير، و ينخدع بها من ينخدع من هؤلاء الناس لتفسير خضوعهم لذلك التسلط، ويرددها البعض دون أن يعوا حقيقة ما يقولون، إلا أن كل هذا الشيوع الساحق لتلك الأفكار فى أذهان الناس و على ألسنتهم وفى كتاباتهم، ومما بلغت أقدارهم ومكاناتهم و حذلقتهم لا يعطي تلك الكائنات أى قدر من الحقيقة الواقعية، و ذلك ببساطة لأن الأوطان والشعوب والجماهير والقوميات والأمم والطوائف و غيرها من تلك الكائنات الهلامية لا يمكن لها أن تختار قرارا بعينه من بين العديد من القرارت التى يمكن أن تطرح عليها، ولا يمكن لها أن تمارس فعل محدد أو تمتنع عنه، بالانفصال عن إرادة و وعى الأشخاص المجبرين على الانتماء إليها غالبا، ولا الأشخاص الذين يدعون تمثيلها، و سواء كان هؤلاء أفراد، أو مؤسسات فأن لكل منهم كل على حدى إرادة و وعى ومصالح مختلفة عن غيرهم من الأفراد والمؤسسات، و قد يتوحد هؤلاء الأشخاص وفق مصالحهم المشتركة أو يتصارعون وفق مصالحهم المتعارضة، كأفراد ومؤسسات، وهذا هو ما يشكل الواقع الاجتماعى الحى الملموس القائم على أساس صراعات و تحالفات اجتماعية قائمة على أساس المصالح المتعارضة والمشتركة، كما هو قائم على توازنات القوى، وفق ما يملكه كل فرد أو مؤسسة من عناصر السلطة المادية فى صراعاته وتحالفاته المختلفة مع الأفراد، والمؤسسات الأخرى.
تلك الكائنات الخرافية التى تفترضها و تستخدمها النخب المتسلطة لتبرر هيمنتها على المهيمن عليهم ، لا يمكن أن تتحرر أو تحرم من الحرية، لأنها لا تملك ببساطة جهاز قادر على التفكير و الاختيار، والذى مازال محصورا فى جمجمة الفرد، فالمخ البشرى هو ذلك الجهاز الوحيد حتى الآن الذى يمكن له أن يفكر و أن يختار و أن يقرر، و كما أن هذه الكائنات الافتراضية لا تملك قوة مادية تمكنها من الفعل و من التأثير فيمن حولها من الأفراد، والمؤسسات، فالقوة المادية لابد و أن تتجسد فى النهاية فى أفعال أفراد قادرين على العمل.
الاستنتاج الجوهرى لكل ما سبق أننا يمكن أن نتحدث عن حرية وعبودية وتبعية واستقلالية المؤسسات المختلفة مثل الدول والجمعيات والشركات والنقابات والأحزاب والمنظمات، كما يمكن أن نتحدث عن حرية و عبودية وتبعية واستقلالية الأفراد، إلا أن الحديث عن حرية وعبودية وتبعية واستقلالية الأوطان والشعوب و الجماهير والقوميات و الأمم والطوائف وغيرها فلن يتجاوز حدود الصور الشعرية المجازية، التى ينحصر تأثيرها فى عقول مبدعيها و المخاطبين بها والمصدقين لها.
وفى الحقيقة فإن الحرية تنحصر عمليا فى الأفراد لا فى المؤسسات التى لا تتمتع إلا بحرية اعتبارية وشخصية اعتبارية، ذلك لأن اتخاذ القرارات و ممارسة الأفعال فى المؤسسات كالدول والشركات والجمعيات و النقابات والأحزاب و المنظمات لا يمكن أن يتم إلا عبر عقول وأجساد أفراد فى النهاية، هؤلاء الأفراد الذين يملكون سلطة اتخاذ القرارت الخاصة بتلك المؤسسات فى صراعاتها وتحالفتها مع الأفراد و المؤسسات الأخرى، و هؤلاء الأفراد الذين يعملون وفق تلك القرارت، و يمكنهم بالتالى استخدام ما تملكه تلك المؤسسات من قوة مادية فى الفعل، ومن ثم التأثير فى الأفراد الآخرين سواء أكانوا منتمين لتلك المؤسسات أو لا ينتمون إليها.
تتفاوت المؤسسات فيما بينها، وفق من له سلطة اتخاذ القرار فيها، الأولى السلطوية التى يتخذ فيها القرارات أفراد أو نخب من المنتمين لتلك المؤسسة و الذين يحتكرون تمثيلها والتعبير عن إرادتها. مثل الرؤساء والقادة والزعماء ومجالس الوزراء وأعضاء مجالس الإدارة واللجان المركزية وغيرها من هيئات اتخاذ القرارات فى تلك المؤسسات بصرف النظر عن إرادة ورغبة باقى الأفراد المنتمين للمؤسسة و المحرومين من سلطة اتخاذ القرار، و الثانية اللاسلطوية التى يتخذ فيها القرارات جميع الأفراد الذين ينتمون للمؤسسة أو غالبيتهم الفعلية.
فمن يملك سلطة اتخاذ القرار هو الذى يتمتع بحرية هذه المؤسسة فعليا، وهو الذى يمكن أن تقيد حريته الفردية عندما تقيد حرية تلك المؤسسة فعليا، أما الأفراد المحرومين من سلطة اتخاذ القرار فى تلك المؤسسة، فإن حريتهم الفردية مقيدة بسلطات من يتخذون القرارات بشأنهم وبشأن تلك المؤسسة. فإذا قرر من يتخذون القرارات فى مؤسسة الدولة شن الحرب على دولة أخرى أو عقد الصلح معها أو التحالف معها، فإن مواطنى تلك الدولة مجبرون على المشاركة فى الحرب و الإلتزام بالسلام و التحالف مع الدولة الأخرى بصرف النظر عن رغباتهم الشخصية و إرادتهم الفردية، فالدولة التى يتمتعون بجنسيتها تقيد حريتهم فى اتخاذ القرارات فيما ينبغى و ما لا ينبغى أن يفعلوه، و تحرمهم من التمتع بحريتهم الفردية، و تؤثر بقرارتها التى لم يتخذوها و لم يشاركوا فى اتخاذها فى ظروف حياتهم و مصيرهم وحاضرهم ومستقبلهم دون أن تسألهم عن ما يريدوه وما لا يريدوه. وهو عين ما يفعله السيد بعبيده والنبيل بتابعيه والرأسمالى بالعاملين لديه.
فالحرية إذن أن يحدد الفرد باعتباره فرد ظروف حياته ومصيره وحاضره ومستقبله، وذلك بأن يتخذ بملىء إرادته ما يفعله وما لا يفعله وأن يتحمل مسئولية قراراته، و بانتماء الفرد لأحد المؤسسات، فإن حريته الفردية لا بد و أن تعنى مشاركته فى اتخاذ كل القرارات التى تخص هذه المؤسسة.و خضوع الفرد لإرادة المؤسسة وسلطتها لا يكتسب أى شرعية دون مشاركة الفرد فى اتخاذ القرارات المتعلقة بالمؤسسة، أما دون هذه المشاركة فلا شرعية لسلطة المؤسسة، و لا أحقية لها لفرض إرادتها على الفرد الذى يحق له التمرد عليها ور فضها طالما حرمته من حريته الفردية.
فى العلاقات الدولية من المفترض أن تنتهى حرية الدولة عندما تبدأ حرية الدول الأخرى وحقوقها كما ينبغى أن تنتهى حرية الأفراد عندما تبدأ حريات الأفراد الآخرين، و هذا مشروط بالطبع بعلاقات مساواة فعلية بين الدول فى المجتمع الدولى، ومن نافل القول أنه أمر غير متحقق فى عالمنا اليوم، لأن القاعدة الحاكمة فى العلاقات الدولية هى أن مقدار ما تتمتع به الدول من حرية فى علاقتها الدولية يتوقف على مقدار ما تملكه من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية وغيرها، وهو ما يجعلها تستطيع أن تفرض إرادتها على الدول الأخرى الأقل تمتعا منها بعناصر القوة التى تملكها، وهو ما يجعلها تضطر للخضوع لإرادة الدول الأخرى الأكثر تمتعا منها بعناصر القوة، ولكى تزداد مساحة حرية الدولة فى علاقتها بالدول الأخرى، فأنها لابد و أن تزيد ما تملكه من عناصر القوة التى تسمح لها بفرض إرادتها على الآخرين. فالدولة المصرية تتمتع بدرجة من الحرية المقيدة، تتناسب مع ما تملكه من عناصر القوة على الساحة الدولية و لكى تزيد مساحة ما تتمتع به من الحرية فعليها أن تحوز على المزيد من عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية وغيرها.
المشكلة هى أن الغالبية فى معسكر اليسار من اليسار القومى / الإسلامى مازالت تضع مسألة حرية الدولة واستقلالها و قوتها فى العلاقات الدولية محورا لنضالها واهتمامها،عازفة عن الاهتمام بالنضال من أجل حرية الأفراد واستقلالهم داخل الدولة وفى مواجهتها وهو ما تحاوله القلة فى معسكر اليسار من اليسار الليبرالى، وهو ما لا يسمح فى اعتقادى بإمكانية عمل مشترك فعال أو حوار مجدى بين الجانبين لاختلاف الرؤى والممارسة فيما بينهما جذريا، وأرجوا أن تثبت لى تجربة اتحاد اليسار عن خطأ هذا الاعتقاد و أتمنى أن تبرهن على سوء ظنى.
حالت العديد من الظروف فى الفترة الأخيرة دون أن اشتبك فى وقتها مع العديد من القضايا الهامة التى أثيرت فى مجموعة التقدم الحوارية خلال الشهرين الماضيين، ومنها قضية البهائين ،ومشروع اتحاد اليسار، وتداعيات المناقشات حوله فيما يتعلق بقضية التحرر الوطنى، و اليسار الليبرالى واليسار القومى/الإسلامى، وقد رأيت أن تحديد معنى الحرية نظريا ربما يكون هو نوع من المشاركة التى تأخرت منى فى كل تلك الحوارات.
أعتقد أن لا معنى لليسارية دون الانحياز للحرية الفردية التى تعنى حصريا المعنى الوحيد الصحيح للحرية كما سيجرى البرهنه عليه فى هذا المقال، و هذا الانحياز للحرية الفردية هو ما يميز بين اليسار الحقيقى المتمسك بهذا الانحياز وبين اليسار الزائف غير الملتزم بهذ الانحياز، و جدير بالذكر أن الفهم اليسارى للحرية الفردية يختلف عن الفهم البرجوازى المحدود و الشكلى للحرية الفردية. كما أنه من نافل القول أنه لا توجد حرية مطلقة لأن الحرية تنتهى دائما عندما تبدأ حريات الآخرين.
الحرية شأنها شأن الكثير من الكلمات الملتبسة التى تختلف معانيها عند الناس، إلا أن الحرية فى النهاية ومهما اختلفت معانيها و استخدامتها ، فإنها مرتبطة ارتباطا وثيقا أولا بالقدرة على اتخاذ قرارا بعينه من بين قرارت متعددة ، و ثانيا القدرة على إتيان فعل ما أو الامتناع عنه ، و لأن اتخاذ قرارا ما بممارسة فعل أو الامتناع عنه، يعنى التمتع بدرجة ما من الوعى الذى يسمح بذلك الاختيار، و بدرجة من القدرة على الفعل بناء على هذا الاختيار، فإن الحرية هى صفة محصورة تحديدا فى الكائنات التى تمتلك كل من الوعى والقدرة على الفعل.
وهذه الكائنات التى يمكن فعليا أن تتصف بالحرية من عدمها، والتى يمكن أن تتمتع بالحرية أو تحرم منها، تنقسم إلى الأفراد، و إلى المؤسسات المختلفة المكونة فى النهاية من بعض هؤلاء الأفراد، و المؤسسات تشمل الدول و الجمعيات و النقابات والأحزاب والشركات و المنظمات والهيئات وغيرها من المؤسسات المختلفة ، وتلك المؤسسات مثلها مثل الأفراد، كائنات واقعية ملموسة يمكن أن ندركها لأنه يمكن لها اتخاذ قرارت ما تؤثر فى الواقع الاجتماعى ، و أن تمارس أفعال معينة أو أن تمتنع عن أفعال محددة، تنعكس عليها وعلى غيرها من الشخصيات الأخرى فردية كانت أو مؤسساتية. ويمكن لها أن تتمتع بدرجة من الحرية، و أن تقيد حريتها فى الفعل و اتخاذ القرار.
والأفراد والمؤسسات التى يمكن أن تتمتع فعليا بالحرية أو يمكن أن تحرم منها و يمكن أن تقيد حريتها تختلف عن نوع آخر من الكائنات الخيالية التى لا توجد إلا فى عقول البشر كمجرد أفكار مثالية مجردة لا يمكن لنا أن ندركها ، فهى محض تصورات مفترضة كالجن والعفاريت لا أثر لها فى الواقع الاجتماعى، و من ثم فهى لا يمكن أن تتمتع بالحرية أو أن تحرم من تلك الحرية إلا فى أذهان مبدعيها من البشر شأنها شأن كل الأوهام والأساطير والخرافات، ذلك لأنها كائنات لا تتمتع لا بالإرادة ولا بالوعى الضروريان للتمتع بالحرية ، و من بين تلك الكائنات المثالية و أشهرها فى الاستخدام يمكن أن نذكر الوطن والجماهير والشعب و الأمة والطائفة وغيرها، فالحديث عنها باعتبارها كائنات واقعية يمكن أن تتمتع بالحرية أو أن تحرم من تلك الحرية، هو مجرد سقط حديث حتى ولو كان مثل هذا الحديث هو جوهر كتابات فيلسوف بارز مثل فختة صاحب كتاب "رسائل إلى الأمة الألمانية"، و هو مجرد لغو فارغ برغم أنه شائع الاستخدام للغاية و إلى حد الملل فى الخطابات السياسية الإيديولوجية، والكتابات الأكاديمية والتعليمية، و المواد الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية، و الأعمال الفنية و الأدبية وعلى ألسنة العامة من الناس ، وهى أفكار برغم من لاعقلانيتها وتهافتها فهى الأشد تأثيرا فى الناس و وعيهم و أفعالهم. إلا أنه و برغم تأثيرها الطاغى فهى محض أساطير يصنعها الطامعين فى التسلط على الناس لتبرير تسلطهم لا غير، و ينخدع بها من ينخدع من هؤلاء الناس لتفسير خضوعهم لذلك التسلط، ويرددها البعض دون أن يعوا حقيقة ما يقولون، إلا أن كل هذا الشيوع الساحق لتلك الأفكار فى أذهان الناس و على ألسنتهم وفى كتاباتهم، ومما بلغت أقدارهم ومكاناتهم و حذلقتهم لا يعطي تلك الكائنات أى قدر من الحقيقة الواقعية، و ذلك ببساطة لأن الأوطان والشعوب والجماهير والقوميات والأمم والطوائف و غيرها من تلك الكائنات الهلامية لا يمكن لها أن تختار قرارا بعينه من بين العديد من القرارت التى يمكن أن تطرح عليها، ولا يمكن لها أن تمارس فعل محدد أو تمتنع عنه، بالانفصال عن إرادة و وعى الأشخاص المجبرين على الانتماء إليها غالبا، ولا الأشخاص الذين يدعون تمثيلها، و سواء كان هؤلاء أفراد، أو مؤسسات فأن لكل منهم كل على حدى إرادة و وعى ومصالح مختلفة عن غيرهم من الأفراد والمؤسسات، و قد يتوحد هؤلاء الأشخاص وفق مصالحهم المشتركة أو يتصارعون وفق مصالحهم المتعارضة، كأفراد ومؤسسات، وهذا هو ما يشكل الواقع الاجتماعى الحى الملموس القائم على أساس صراعات و تحالفات اجتماعية قائمة على أساس المصالح المتعارضة والمشتركة، كما هو قائم على توازنات القوى، وفق ما يملكه كل فرد أو مؤسسة من عناصر السلطة المادية فى صراعاته وتحالفاته المختلفة مع الأفراد، والمؤسسات الأخرى.
تلك الكائنات الخرافية التى تفترضها و تستخدمها النخب المتسلطة لتبرر هيمنتها على المهيمن عليهم ، لا يمكن أن تتحرر أو تحرم من الحرية، لأنها لا تملك ببساطة جهاز قادر على التفكير و الاختيار، والذى مازال محصورا فى جمجمة الفرد، فالمخ البشرى هو ذلك الجهاز الوحيد حتى الآن الذى يمكن له أن يفكر و أن يختار و أن يقرر، و كما أن هذه الكائنات الافتراضية لا تملك قوة مادية تمكنها من الفعل و من التأثير فيمن حولها من الأفراد، والمؤسسات، فالقوة المادية لابد و أن تتجسد فى النهاية فى أفعال أفراد قادرين على العمل.
الاستنتاج الجوهرى لكل ما سبق أننا يمكن أن نتحدث عن حرية وعبودية وتبعية واستقلالية المؤسسات المختلفة مثل الدول والجمعيات والشركات والنقابات والأحزاب والمنظمات، كما يمكن أن نتحدث عن حرية و عبودية وتبعية واستقلالية الأفراد، إلا أن الحديث عن حرية وعبودية وتبعية واستقلالية الأوطان والشعوب و الجماهير والقوميات و الأمم والطوائف وغيرها فلن يتجاوز حدود الصور الشعرية المجازية، التى ينحصر تأثيرها فى عقول مبدعيها و المخاطبين بها والمصدقين لها.
وفى الحقيقة فإن الحرية تنحصر عمليا فى الأفراد لا فى المؤسسات التى لا تتمتع إلا بحرية اعتبارية وشخصية اعتبارية، ذلك لأن اتخاذ القرارات و ممارسة الأفعال فى المؤسسات كالدول والشركات والجمعيات و النقابات والأحزاب و المنظمات لا يمكن أن يتم إلا عبر عقول وأجساد أفراد فى النهاية، هؤلاء الأفراد الذين يملكون سلطة اتخاذ القرارت الخاصة بتلك المؤسسات فى صراعاتها وتحالفتها مع الأفراد و المؤسسات الأخرى، و هؤلاء الأفراد الذين يعملون وفق تلك القرارت، و يمكنهم بالتالى استخدام ما تملكه تلك المؤسسات من قوة مادية فى الفعل، ومن ثم التأثير فى الأفراد الآخرين سواء أكانوا منتمين لتلك المؤسسات أو لا ينتمون إليها.
تتفاوت المؤسسات فيما بينها، وفق من له سلطة اتخاذ القرار فيها، الأولى السلطوية التى يتخذ فيها القرارات أفراد أو نخب من المنتمين لتلك المؤسسة و الذين يحتكرون تمثيلها والتعبير عن إرادتها. مثل الرؤساء والقادة والزعماء ومجالس الوزراء وأعضاء مجالس الإدارة واللجان المركزية وغيرها من هيئات اتخاذ القرارات فى تلك المؤسسات بصرف النظر عن إرادة ورغبة باقى الأفراد المنتمين للمؤسسة و المحرومين من سلطة اتخاذ القرار، و الثانية اللاسلطوية التى يتخذ فيها القرارات جميع الأفراد الذين ينتمون للمؤسسة أو غالبيتهم الفعلية.
فمن يملك سلطة اتخاذ القرار هو الذى يتمتع بحرية هذه المؤسسة فعليا، وهو الذى يمكن أن تقيد حريته الفردية عندما تقيد حرية تلك المؤسسة فعليا، أما الأفراد المحرومين من سلطة اتخاذ القرار فى تلك المؤسسة، فإن حريتهم الفردية مقيدة بسلطات من يتخذون القرارات بشأنهم وبشأن تلك المؤسسة. فإذا قرر من يتخذون القرارات فى مؤسسة الدولة شن الحرب على دولة أخرى أو عقد الصلح معها أو التحالف معها، فإن مواطنى تلك الدولة مجبرون على المشاركة فى الحرب و الإلتزام بالسلام و التحالف مع الدولة الأخرى بصرف النظر عن رغباتهم الشخصية و إرادتهم الفردية، فالدولة التى يتمتعون بجنسيتها تقيد حريتهم فى اتخاذ القرارات فيما ينبغى و ما لا ينبغى أن يفعلوه، و تحرمهم من التمتع بحريتهم الفردية، و تؤثر بقرارتها التى لم يتخذوها و لم يشاركوا فى اتخاذها فى ظروف حياتهم و مصيرهم وحاضرهم ومستقبلهم دون أن تسألهم عن ما يريدوه وما لا يريدوه. وهو عين ما يفعله السيد بعبيده والنبيل بتابعيه والرأسمالى بالعاملين لديه.
فالحرية إذن أن يحدد الفرد باعتباره فرد ظروف حياته ومصيره وحاضره ومستقبله، وذلك بأن يتخذ بملىء إرادته ما يفعله وما لا يفعله وأن يتحمل مسئولية قراراته، و بانتماء الفرد لأحد المؤسسات، فإن حريته الفردية لا بد و أن تعنى مشاركته فى اتخاذ كل القرارات التى تخص هذه المؤسسة.و خضوع الفرد لإرادة المؤسسة وسلطتها لا يكتسب أى شرعية دون مشاركة الفرد فى اتخاذ القرارات المتعلقة بالمؤسسة، أما دون هذه المشاركة فلا شرعية لسلطة المؤسسة، و لا أحقية لها لفرض إرادتها على الفرد الذى يحق له التمرد عليها ور فضها طالما حرمته من حريته الفردية.
فى العلاقات الدولية من المفترض أن تنتهى حرية الدولة عندما تبدأ حرية الدول الأخرى وحقوقها كما ينبغى أن تنتهى حرية الأفراد عندما تبدأ حريات الأفراد الآخرين، و هذا مشروط بالطبع بعلاقات مساواة فعلية بين الدول فى المجتمع الدولى، ومن نافل القول أنه أمر غير متحقق فى عالمنا اليوم، لأن القاعدة الحاكمة فى العلاقات الدولية هى أن مقدار ما تتمتع به الدول من حرية فى علاقتها الدولية يتوقف على مقدار ما تملكه من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية وغيرها، وهو ما يجعلها تستطيع أن تفرض إرادتها على الدول الأخرى الأقل تمتعا منها بعناصر القوة التى تملكها، وهو ما يجعلها تضطر للخضوع لإرادة الدول الأخرى الأكثر تمتعا منها بعناصر القوة، ولكى تزداد مساحة حرية الدولة فى علاقتها بالدول الأخرى، فأنها لابد و أن تزيد ما تملكه من عناصر القوة التى تسمح لها بفرض إرادتها على الآخرين. فالدولة المصرية تتمتع بدرجة من الحرية المقيدة، تتناسب مع ما تملكه من عناصر القوة على الساحة الدولية و لكى تزيد مساحة ما تتمتع به من الحرية فعليها أن تحوز على المزيد من عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية وغيرها.
المشكلة هى أن الغالبية فى معسكر اليسار من اليسار القومى / الإسلامى مازالت تضع مسألة حرية الدولة واستقلالها و قوتها فى العلاقات الدولية محورا لنضالها واهتمامها،عازفة عن الاهتمام بالنضال من أجل حرية الأفراد واستقلالهم داخل الدولة وفى مواجهتها وهو ما تحاوله القلة فى معسكر اليسار من اليسار الليبرالى، وهو ما لا يسمح فى اعتقادى بإمكانية عمل مشترك فعال أو حوار مجدى بين الجانبين لاختلاف الرؤى والممارسة فيما بينهما جذريا، وأرجوا أن تثبت لى تجربة اتحاد اليسار عن خطأ هذا الاعتقاد و أتمنى أن تبرهن على سوء ظنى.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية